الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البحث التاسع: يتفضَّلُ السَّيِّدُ ويخبرُنا مَنِ الذي يقولُ مِنْ أهلِ البَيْتِ بطلاقِ زوجة هذا الحَالفِ
بصحَّةِ حدِيثِ البُخَارِيِّ، وينقلُ ألفاظَ أَهْلِ البيتِ ونصوصَهُمْ في ذلِكَ، فإنْ لَمْ يجِدْ نصَّاً، ولكِنِ ادَّعى عليهم أن زوجة هذا الحالف تَطْلُق، فليس تصديقُه مِنْ غيرِ دليلٍ أولى منْ تصديق هذا الَّذي ادَّعى الإجماعَ.
البحث العاشر: أنَّ الظَّاهِرَ إجماعُهم عليهم السلام على ذلِكَ
، وإجماعُ غيرهم، لأنَّ المعروفَ في كتب الفِقْهِ أنَّ مَنْ حلف بالطَّلاقِ على صِحَّة أَمْرٍ، وهو يظُنَّ صِحَّتهُ، ولم يَنْكشِفْ بُطلانُهْ، لم يَحْنثْ، لأنَّ الأصلَ بَقاءُ الزَّوجيَّة، ولا تَطْلُق الزَّوجَةُ بِمُجَرَّدِ الاحتمال المرجُوحِ، كما لو ظَنَّ في طائِرٍ أنَّه غُرابٌ، فحلف بالطَّلاق أنَّه غرابٌ، ثمَّ غابَ عَنْ بصرِهِ، ولم يتَمَكَّنْ مِنْ أخذِ اليقين في ذلِكَ، فإنَّ زوجته لا تَطْلُق، وكذا لو علَّق الطَّلاق بدُخول امرأتِهِ الدَّارَ، وجُوِّز أنَّها قد دخلت، وهُوَ يَظنُّ أنها لم تدخلْ، فإن زوجته لا تطلُق، بل لا يَبْعُدُ أن هذا إجماعُ في مَنْ حَلَف على ما لا يَظُنُّ صِحَّتَهُ، ولهذا تأوَّلَ النَّواوي (1) هذا الكلام بأنَّه لا يُستَحَبُّ الاحتياطُ لِمَنْ حَلَفَ بِطَلاقِ زوجَتِهِ أنَّ حديثَ كتابِ البخاريِّ صحيحٌ، ولا يحنَثُ ظاهراً ولا باطناً، لأن الأمَّةَ تَلَقتْهُ بالقبول، فَهُوَ معلومُ الصِّحَّة بطريقٍ نَظَرِيٍّ. انتهى كلام النواوي.
قلتُ: وكذلِكَ حديثُ غَيْرِ البخَارِيِّ، وغير هذِهِ الصِّحاحِ مِنْ أحاديثِ الثِّقات، فإنَّ الحالفَ عَلَى صِحَّتِه لا يحنَثُ، ولا يستَحبُّ أن يحتاطَ، لَأنَّ ظاهِرَهُ الصِّحَّةُ، وإنَّما يُسْتَحبُّ الاحتياطُ مَعَ الشَّكِّ المتساوي الطَّرَفَيْنِ أوِ الرُّجحانِ الضَّعيفِ الذي يَمْرَضُ مَعَهُ القلبُ، ألا تَرَى أنَّ
(1) في " شرح مسلم " 1/ 21.
الإِنسانَ لا يحتاط في غسْلِ ثَوْبِهِ إلَاّ مَعَ ذلِكَ؟ وكذلِكَ في إسلام زوجَتِهِ، وحِلِّ طَعَامِهِ، وما لا يأتي عَلَيْهِ العَدُّ.
البحث الحادي عشر: أنَّ بين دَفَّتي " البُخَارِيِّ " ما ليس مِنْ كَلَامِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قطْعَاً، وذلِكَ مثل (1) كلامِ العُلماءَ والأبوابِ والأسَانِيدِ، وحكايةِ أفعالِهِ عليه السلام بلفظِ الصَّحابِيِّ أو غيرهِ، فإنْ كانَ الحَالِفُ مُمَيِّزَاً، حُمِلَتْ يمينُه على العُرْفِ في ذلك، ولم تَطْلُقْ زوجته، وإنْ كان الحالف يُمَيِّزُ (2) وأراد ظاهِرَ كلامِه، ولم يُرِدْ ما فِيهِ الحديث، طَلُقَتْ زَوْجَتُهُ، والله أَعْلَمُ.
البحث الثاني عشر: ما (3) ذكره النَّواوي في " شرح مسلم "(4)، فإنَّه قال: إنَّ بعضَ الحُفَّاظِ قَدِ استدركوا علَى البُخَارِيِّ ومسلمٍ في مواضِعَ أخَلَاّ بشرطِهِمَا (5) فيها، ونزلَتْ عَنْ دَرَجَةِ ما الْتَزَمَاهُ.
وقد ألَّفَ الإِمامُ الحافِظُ أبو الحسن عليُّ بن عمر الدَّارقطني في بيان ذلِكَ كتابَهُ المسمَّى " بالاستدراكات والتَّتُّبع "(6)، وذلك في مائتي حديثٍ
(1) في (ب): ومثل ذلك.
(2)
في (ش): غير مميز.
(3)
في (ب): ممَّا.
(4)
1/ 27.
(5)
في (ب): بشرطيهما.
(6)
طبع الكتاب بتحقيق مقبل بن هادي الوادعي، بمطبعة المدني بمصر، وتوزعه دار الخلفاء للكتاب الإسلامي بالكويت. وجاء عدد الأحاديث المنتقدة 218 حديثاً، وقد أورد الحافظ ابن حجر في كتابه " هدي الساري " الأحاديث التي انتقدها الدارقطني حديثاًً حديثاًً، ثم ساق ما حضره من الجواب عن ذلك، وقد انتهى إلى أن تلك الانتقادات ليست كلها قادحة، بل أكثرها الجوابُ عنه ظاهر، والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تعسف.
مِمَّا في الكتابين، ولأبي مسعود الدِّمشقيِّ (1) أيضاًً عليهما استدراك، ولأبي علي الغسَّاني الجَيَّاني (2) في ذلِكَ كتابُه " تقييد المُهْمَلِ " في جُزْءِ العِلَلِ مِنْهُ استدراكٌ أكثَرُهُ على الرُّواة عَنْهُما، وفيه ما يلزَمُهُمَا.
قال النواوي: وقد أُجيبَ (3) عَنْ كل ذلكَ أو أكثَرِهِ، وستراهُ في موضعه إنْ شاء الله إلى قوله وما قدح فيه بعضُ الحُفَّاظِ، فَهُوَ مستثْنَى مِمَّا ذكرناه لِعَدَم الإجماعِ على تلَقِّيهِ بالقَبُولِ، وما ذلِك إلَاّ في مواضِعَ قليلةٍ سَنُنَبِّهُ (4) على ما وقع منها في هذا الكتابِ إن شاء الله تعالى (5).
وكلام النَّواوي هذا لازمٌ فيما في " الصَّحيحين " مِنَ الأحاديث التي لا يَقْبَلُ أهلُ البيتِ عليهم السلام رُوَاتِها متى تَبيَّنَ وتحقَّقَ ذلكَ، مَعْ أنَّا لا نُنْكِرُ بعضَ ذلِكَ، وكذلِكَ ما تعارض معارضَةً مَحْضَةً، ولم يُمْكِنْ تَأْوِيلُهُ، وكذلِكَ ما أخرجه البُخاريُّ تعليقاً بصيغَةِ التَّمريضِ، أو بصيغَةِ الجَزْمِ،
(1) هو الحافظ المجود البارع أبو مسعود إبراهيم بن محمد بن عبيد الدمشقي، مصنف كتاب " أطراف الصحيحين "، وأحد من برز في العلم، سافر الكثير، وروى قليلاً على سبيل المذاكرة، لأنَّه مات كهلاً في رجب سنة أربع مئة. قال الإمام الذهبي: وقفت على جزء فيه أحاديث معللة لأبي مسعود يقضي بإمامته. مترجم في " السير " 17/ 227 - 231.
(2)
هو الإمام الحافظ، الحجة الناقد، أبو علي الحسين بن محمد بن أحمد الغساني الأندلسي الجياني، شيخ الأندلس في وقته، وصاحب رحلتهم، وأضبط الناس لكتاب، وأتقنهم لرواية مع الحظ الوافر من الأدب، والنسب، ومعرفة الرجال، ولد سنة 427 هـ وتوفي سنة 498 هـ، مترجم في " السير " 19/ 148 - 151.
وكتابه " تقييد المهمل وتمييز المشكل " جيد في بابه، كثير الفائدة، يقع في عشرة أجزاء بمجلدين، لم يطبع بعد، وعندنا منه نسخة مصورة عن أصل جيد عليه سماع تاريخه سنة 548 هـ.
(3)
في (ج) و (ش): " أجبت "، والمثبت هو الموافق للمطبوع من " شرح مسلم " 1/ 26.
(4)
في (ج): سنبيِّنُه.
(5)
" شرح مسلم " 1/ 20.