الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فلا يمتنع كَتْمُ شيءٍ مِنَ الحقِّ الَّذي لا تَعَلَّقُ المصلحةُ بظهوره، ولا تَمَسُّ الحاجةُ إليه (1)، بل في قوله تعالى:{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُم ولا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102]، ما يدُلُّ على أنَّ جهل بعضِ العُلوم أولى، ويدلُّ على هذا مفهومُ قوله تعالى:{وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيه} [الزخرف: 63]، وقوله:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85]، ومنه منعُ الملائكة مِمّا عُلَّمَهُ آدمُ مِنْ علم الأسماءِ، ومنعُ موسى مِمّا عُلّمَهُ الخَضِرُ مِنْ علمِ التّأويل، وفي الصحيح " أنَّ الخَضِرَ قال لموسى: إِنَّك على عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ، فلا ينبغي لي أنْ أعْلَمَهُ، وإنِّي على علمٍ من عِلْمِ الله، لا ينبغي لَكَ أنْ تعلمَهُ " (2).
قال الشيخُ:
الموضعُ الثالث: تأويلُ العالِمِ مع نفسِه في سِرِّ قلبه
بينَه وبَيْنَ ربِّه، وذلك لا يخلو مِنْ ثلاثةِ أوجه:
إما أن يكونَ الذي انقدح في سِرَّه هو المرادُ به مقطوعاً به، أو مشكوكاً فيه، أو مظنوناً ظنّاً غالِباً، فالمقطوعُ به معدومٌ؛ لأن معرفته مِنْ
= قلت: ظاهره غير مراد، لأن الأدلة من الكتاب والسنة متضافرةٌ على أن طائفة من عصاة المؤمنين يعذبون، ثم يخرجون من النار بالشفاعة، فتأوله العلماء فيمن قرن ذلك بالأعمال الصالحة، أو قالها تائباً، ثم مات على ذلك، أو أن ذلك خرج مخرج الغالب، إذ الغالبُ أنَّ الموحد يعمل الطاعة، ويجتنب المعصية، أو أن المراد بتحريمه على النار تحريم خلوده فيها.
والقول بأن ذلك كان قبل نزول الفرائض فيه نظر، لأن مثل هذا الحديث وقع لأبي هريرة كما رواه مسلم في " صحيحه "(31)، وصحبته متأخرة عن نزول أكثر الفرائض، وكذا ورد نحوه من حديث أبي موسى عند أحمد بإسناد حسن، وكان قدومه في السنة التي قدم فيها أبو هريرة. وانظر " تحقيق كلمة الإخلاص " للحافظ ابن رجب، طبع المكتب الإسلامي.
(1)
" إليه " ساقطة من (ش).
(2)
أخرجه البخاري في " صحيحه "(4726) من طريق ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم، وعمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن أُبي بن كعب رفعه .. ولفظه:" إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلَمَه، وإن لك علماً لا ينبغي لي أن أعلمَه .. ".
قِبَل (1) الله تعالى، أو مِن رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك غيرُ موجودٍ، وإنْ كان مشكوكاً فيه، فَلْيَجْتَنِبْهُ، ولا يَحْكُمَنَّ على مرادِ الله تعالى، ومُرادِ رسوله صلى الله عليه وسلم باحتمالِ معارضة (2) مثلِه مِن غيرِ ترجيحٍ، بَلِ الواجبُ على الشَّاكِّ (3) التَّوقُّفُ.
وإنْ كان مظنوناً، فإنَّ الظنَّ إذا انقدح في النَّفس، فلا يَدْخُلُ تحتَ الاختيارِ دَفْعُهُ، فإنَّ للظَّنِّ أسباباً ضرورية لا يُمْكِنُ دفعُها، ولا تُكَلَّفُ النَّفسُ إلا وُسْعَهَا، لكن عليه وظيفتان:
أَحَدَهُما: أن لا يدَعَ نفسَه تطمئنُّ إليه، ولا ينبغي أن يَحْكُمَ مع نفسه بموجب ظَنِّه، لنهيِ الله تعالى عَنْ ذلك فيما هو دُونَ هذا، فكيف بهذا (4) الأمر العظيم بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنّ} [الحجرات: 12] الآية.
قلت: لو احتجَّ بالأحاديثِ المتضمِّنة للنَّهي عَنِ التَّفسير بالرَّأي، كان أصرح، وأسانيدُها تقوى بانضمامِ بعضها إلى بعضٍ، وخرج منها العملياتُ بإجماعِ الصَّحابة الظني السُّكوتيِّ التَّقريريِّ، حيث قرَّروا الصَّدِّيقَ رضي الله عنه على قوله في الكَلَالَة: أقول فيها برأيي (5)، بل يمكن
(1) في (ش): قبيل.
(2)
في النسخ: " تعارضه "، والمثبت من (ش).
(3)
عبارة " الواجب على الشاك " ساقطة من (ج).
(4)
في (ش): هذا.
(5)
أخرجه الطبري في " جامع البيان "(8745) و (8746) و (8747)، والبيهقي 6/ 223 - 224 من طرق عن عاصم الأحول، عن الشعبي قال: قال أبو بكر: إني رأيت في الكلالة رأياً -فإن كان صواباً، فمن الله وحده لا شريك له، وإنْ يكُ خطأ، فمني ومن الشيطان، والله منه بريء- أن الكلالة ما خلا الولد والوالد.
وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 2/ 756، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والدارمى، وابن المنذر.
أن لا يكونَ كلامُ الصِّدِّيق تفسيراً، ولذلك قال:" برأيي " حتى يكون بريئاً مِنَ الخبر عَنِ الله تعالى في مُراده، وإنَّما قَصَدوا العملَ لأجل الضرورة فيه، لا الخبر عن الله تعالى، لأن الخبر عنه بالرّأي بمنزلة النُّبُوَّةِ بالرّأي، والوحيِ بالرأي، فالعمل يتفرَّع على الظن، ويترتَّبُ عليه؛ لأنَّ في مخالفة الظَّنَ بالعمل مَضَرَّةً مظنونةً، وركوبُ مثل ذلك قبيحٌ بفطرةِ العقول (1)، وشواهدِ المنقول، وفي الصَّحيح أنَّه صلى الله عليه وسلم قال لهم:" أَرأيْتُمْ لَوْ أَنْذَرْتُكُمُ الجَيْشَ "(2) الحديثَ، فهم (3) عاملون بالظَّنِّ، غيرُ مخبرين عَنْ مُرادِ اللهِ، وذلك لا يتناقض، بل قد صحَّ إنّ ما سمَّاه أبو بكر رأياً هو معنى الكَلالةِ في اللُّغَةِ، وليس ذلك بِرأْيٍ على الحقيقة، لكِنَّهُ -لِشدَّةِ ورعه واحتياطه- سمَّاه رأياً، حيث تَمَسَّكَ بالظاهر مِنْ غير نصٍّ ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الشيخ: الثانية: أنَّه إنْ ذَكَرَه، لم يطلق القول بأنَّ المراد منه كذا وكذا، لأنَّه حكم بما لا يَعلم، وقد قال الله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم} [الإسراء: 36].
ولا يجوز التَّحدُّثُ به مع الخلق؛ لأنَّهُ قادرٌ على تركه، وهو في ذكره
(1) في (ش): العقل.
(2)
أخرجه البخاري (4770)، ومسلم (208) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت {وأنذِرْ عشيرتَكَ الأقربين} ، صَعِدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصفا، فجعل يُنادي:" يا بني فِهر، يا بني عدي " -لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجلُ إذا لم يستطع أن يخْرُج، أرسلَ رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريشٌ، فقال:" أرأيتكم لو أخبرتُكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغيرَ عليكم، أكنتم مُصَدِّقيِّ؟ قالوا: نعم، ما جرَّبْنا عليك إلا صِدْقاً، قال: " فإني نذيزٌ لكم بين يدي عذاب شديد "، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} .
(3)
في (ش): وهم.
متصرِّفٌ في ذات الله تعالى بالظنِّ، أو في مراده بكلامه، وفيه حظر، وإباحةُ ذلك لا تعرف إلَاّ بالنَّصِّ أو الإجماع، ولم يَرِدْ شيءٌ من ذلك، بل ورد قوله تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم} .
فإن قيل: يدلُّ على جواز الظَّنِّ ثلاثة أمورٍ:
الأوَّل: الدَّليل الذي دلَّ على إباحة الصِّدق، وهو صادق، فإنَّه لا يُخْبِرُ إلا عن ظَنِّهِ، وهو ظانٌّ.
الثّاني: أقاويل المفسِّرينَ في القرآن بالظَّنَ، إذ كلُّ ما قالوه غير مسموعٍ مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل مُستنبَطٌ بالاجتهاد ولذلك كَثُرتِ الأقاويلُ فيه، وتعارضت.
والثَّالث: إجماعُ التابعين على نقل الأخبارِ المتشابهةِ (1) الَّتي نقلها أجِلَاّء الصَّحابة، ولم تتواتر، وما اشتملت عليه الصِّحاحُ مِنَ الذي نقله العدلُ عَنِ العدلِ، فإنَّهم جوَّزوا روايتَه، ولا يَحْصُلُ بقولِ العدلِ إلا الظَّنُّ.
فالجوابُ (2) عن الأول: أن المُباحٍ صدق لا (3) يُخشى فيه ضررٌ، وبث هذه الظُنونِ لا يخلو عَنْ ضررٍ، لأنَّه يحكم (4) في صفاتِ اللهِ تعالى بغير علم، وهو خطر، فالنُّفوس نافِرَةٌ عَنْ أشكال الظَّواهر، فإذا وجدتَ مستروحاً مِنَ المعنى -ولو مظنوناً- أخْلَدْت إليه، ورُبَّما يكونُ غلطاً،
(1) في (ش): " عن المتشابه "، وهو خطأ.
(2)
في (ب): والجواب.
(3)
في (ش): ولا.
(4)
في (ب): تحكم.
فيكون قد اعتقد في صفاتِ الله ما هو باطل، أو حكمَ عليه في كلامه بِمَا لم يُرِدْهُ.
قلت: لو احتجَّ الشَّيخُ هنا بالنُّصوص الواردة في النَّهي عن تفسير القرآن بالرأي، لكان جيِّداً، لأنها تقتضي ظنَّ التحريم في هذا الموضع دون سائِرِ المواضع المظنُونَة، فإنْ كان الظَّنُّ حجة، كان التَّمسُّكُ بها أولى لخصوصها بهذا الموضع، ورفعها للعمومات الدالةِ على أنَّ الظن حُجَّةً، فلا مانعَ من ورود (1) السمع بمنع الظَّنِّ لمصلحةٍ، كما منع من الرجم، والحكمِ بالزنى بشهادة أقل مِنْ أربعة، مع حُصول الظَّنِّ بشهادة الواحد، وهذا الوجه جيِّدٌ في الجواب في المواضع الثَّلاثة الَّتي ذكرها الشَيخُ.
قال رحمه الله تعالى: وأما الجواب على الثاني -وهو أقاويلُ المفسرين- فإنَّا لا نسلِّمُ ذلك فيما هو مِن صفات الله تعالى.
قلت: أو في صفاته مِمَّنْ يستحِلُّ ذلك، ويقلُّ وجودُه في المتقدِّمين، وَيكثُرُ في المتأخِّرين، ومستحلُّ ذلك بعضُ الأُمَّة، ولا حُجةَ في قولِ البعضِ، ولا يَصِحُّ منه شيءٌ عَنِ الصَّحابة وكُبراء التَّابعين.
قال الشَّيخ: بل لعلَّ ذلك في الأحكام الفقهية، أو في حكايات أحوالِ الأنبياء عليهم السلام، والكفارِ، والمواعظِ، والأمثالِ، وما لا (2) يُعْلَم خَطَرُ الخطأ فيه.
وأمَّا الجوابُ عن إجماع التّابعين على نقل الأخبار المتشابهة الّتي نقلها أجلَاّءُ الصَّحابة رضي الله عنهم، فقد قال قائلون (3): لا يجوز أن يُعْتَمَدَ
(1) في (ش)، " ما ورد " مكان " من ورود ".
(2)
في (ش): لم.
(3)
ساقطة من (ش).
في هذا البابِ إلَاّ على ما ورد في القرآن، أو تواترَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمَّا أخبار (1) الآحاد، فلا يُشْتَغَلُ بتأويلها عند من يميلُ إلى التَّأويل، ولا روايتها عند من يعتمد على الرواية بالمظنون؛ لأنَّ ذلك حُكْم واعتمادٌ عليه، وما ذكره ليس ببعيد، لكنه مخالفٌ لظاهر ما دَرَجَ عليه السَّلَفُ رضي الله عنهم، فإنَّهم قَبِلُوا هذه الأخبار مِنَ العدول، ورَوَوْهَا وصحَّحُوها.
فالجواب (2): من وجهين:
أحدهما: أن التَّابعين قد عَرَفُوا مِنْ أدلَّة الشَّرع أنَّه لا يجوز اتِّهام العَدْلِ بالكذب، لا سيَّما في صفات الله تعالى.
قلت: وقد يمتنع حَمْلُ الرَّاوي على السهْوِ في ذلك بقرائنَ ضروريَّةٍ لا يُمْكِنُ التعبير عنها، لا سِيَّما عند تكرُّرِ ذلك منه، أو سؤاله عنه، وعدم تردُّدِه عندَ موجباتِ التَّردُّدِ مِنْ سماعه للخوض في ذلك، والاختلافِ الشديد بسبب روايته.
قال الشيخ: فإذا روى الصدِّيق رضي الله عنه خبراً، وقال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: كذا، فَرَدُّ ذلك تكذيبٌ له، ونسبة (3) له إلى الوضع أو السَّهو، فقَبِلُوه، وقالوا: قال أبو بكر: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وكذا التَّابعون. فالآن إذا ثَبَتَ عنهم بأدلَّة الشَّرع أنّه لا سبيلَ إلى اتِّهام العدلِ التَّقِيِّ مِنَ الصَّحابة، فَمنْ أينَ يَجِبُ أن لا تُتهم ظنونُ الآحادِ، وأن يُنزل الظَّنُّ منزلةَ نقلِ العدل عن العدل، مع أنَّ بعضَ الظن إثْمٌ؟ فإذا قال لهم الرسول: ما أخْبَرَكُمُ العدلُ، فصدِّقوه، وانقُلُوه، واظهِرُوه، ولم يقل:
(1) في (ش): الأخبار.
(2)
في (ش): والجواب.
(3)
في (ش): ونسبته.
ارْوُوا عَنْ ظُنونكم، وضمائِركم، ونفوسِكم ما قالَتْهُ، وليس هذا في معنى المنصوص (1)، فلهذا نقولُ: ما روي عن غيرِ العدل مِنْ هذا الجنسِ ينبغي أن نُعْرِضَ عنه، ولا يُروى، ونحتاط (2) فيه أكثر مِمَّا نحتاط في المواعظ والأمثالِ، وما يجري مجراها.
قلت: بل أكثر ممَّا يُحتاط في أحكام التَّحليل والتَّحريم.
والفرق بينَ خبرِ الواحد وسائرِ الظنون مجمعٌ عليه، فالأمَّةُ مُجْمِعَةٌ على أنَّ النص الذي يجبُ العملُ به، ولم يُعَلَّ (3) بما يَقْدَحُ فيه مانِعٌ مِنَ الظَّنِّ الناشىء عن الاجتهاد، ومقدَّمٌ عليه.
ومنْ ها هنا وجب اعتبارُ الشهاداتِ حيث لا تُعْتَبرُ الظنون، فيحكُم الحاكمُ في الحقوق بشهادةِ عدلين، ولا يحكم بقيامِ قرينتين ظنيَتين، وفي حدِّ الزنى بشهادة أربعةٍ عدول لا بظهور (4) أربع (5) قرائن ظَنية.
ومُنتهي الأمرِ أن الشَّرع منع بعض الظنون، وأباح بعضها، وذلك تفصيل لِمَا أشارَ إليه سبحانه وتعالى في قوله:{إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثمٌ} [الحجرات: 12].
ثمَّ قال الشيخُ: الجواب الثاني: أنَّ تلك الأخبارَ رواها الصَّحابة، لأنَّهم سمعوها مِنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقيناً، فما نَقَلُوا إلا ما تَيَقَّنُوه، وكذلك
(1) في (ش): النصوص.
(2)
في (ش): ولا تحتاط.
(3)
في (ش): يعمل.
(4)
من " بشهادة عدلين " إلى هنا ساقط من (ش).
(5)
في (ش): " أربعة "، وهو خطأ.
التابعون، فإنهم عَلِمُوا (1) أنَّ الصحابة رَوَوْا ذلك، فَرَوَوْهُ عنهم، وما قالوا: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بل قالوا: قال فلانٌ: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فكانوا صادقين، ولم يُهْمِلُوا روايتَه لاشتمالِ كُلِّ حديثٍ عَلَى فَوائِدَ لا نَقِفُ على حقيقتها.
قلتُ: ونطلب (2) التَّوابعَ والشَّواهد، لعلها تَوَاتَر، كما قد كان (3) ذلك، فأنَّى يُساوي هذا حكاية الظنون المنقدحة في الأنفس.
قلت: ولأنَّ العقول كما تحكم بالاحتياطِ في الخَبرِ عن ذات الله تعالى وصفاته ومرادِه في كتابه، وُيمنع (4) إطلاق ظنونِ الخلق (5) على كثرتها وتعارضِها لِمَا يَشْتَمِلُ ذلك عليه مِنَ المفسدة، فإنَّها -أيضاًً- تحكم بأنَّ ردَّ أخبارِ الثقات الذين لم تلحقْهُمُ التُّهمة بوجهٍ مِنَ الوُجوه أشدُّ مفسدة مِنْ ذلك، ولا سيَّما والقرآن شاهدٌ لأخبارهم في ذلك، إمَّا تفصيلاً، أو جملةً، فالتَّفصيلُ حيث تَوَارَدُ الأخبارُ والآياتُ على صِفَةٍ واحدة، والجملةُ حيث يَرِدُ الأثرُ بوصفٍ وردَ القرآن بنحوه، لا بمثلهِ، وأيضاً فمجموعُهَا يتواتر، ولو في المعنى الجُملِيِّ، كما قيل في شجاعة علي عليه السلام، وجودِ حاتم.
قال الشَّيخ: وهذا تمامُ الكَفِّ عن التَّأويل والخوض فيه.
(1) في (ش): عالمون.
(2)
في (ج): ونطبع.
(3)
في (ب): قد كان قدمنا.
(4)
في (ش): ويمتنع.
(5)
من قوله: " كما تحكم " إلى هنا ساقط من (ب).
التَّصرُّف الثالث: الذي (1) يجبُ الإِمساكُ عنه: التصريفُ، وشرحه: أنَّه إذا ورد قولُه تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ} [السجدة: 4]، فلا ينبغي أن يُقال: مستوٍ ويستوي، لأنَّ في تغيير التَصاريف ما يُؤثِّرُ في تغيير الدلالات والاحتمال (2)، فليجتنب التصرف كما يجتنب الزيادة، فإن تحتَ الزيادة نقصاناً وزيادة.
قلت: وعلى هذه القاعدة، فلا يُقال: إن الله تعالى مُرِيدٌ للقبائح، بل يُقتصر على أنَّه لو شاء ما عُصِيَ، وأنَّه (3) لو شاء، لهدى الخلق أجمعين من غير تأويلٍ لذلك، ونحوه ممَّا ورد به السَّمعُ المعلوم، فإن مخالفةَ عبارات السَّمع تحتمِلُ أمرين:
إما تغييرَ المعاني، وهو واضح ها هنا، فإنّ قولنا:" ما شاء اللهُ كان " مدحٌ عظيم لَا يَصْدُقُ إلا على ربِّ العِزة جلَّ وعَزَّ، ولا يُشارِكه فيه غيرُه البتَّة، فكيف يستلزمُ وصفه بأنه مريدٌ للقبائح، وهذه صفةٌ يشتركُ فيها جميعُ أهل العجز والنقص مِنَ الخلق، ويختصُّ بها مفردةً أهلُ الخسَّةِ مِن الخلق، وما (4) أفحشَ ما رامت المبتدعةُ مِنْ إلزام أهلِ السُّنَّةِ مثلَ ذلك، وقطعهم بأنَّ من قال:" ما شاء الله كان " مثلُ مَنْ قال: " إنَّه (5) مريد للقبائح " وسيأتي بيانُ بطلان ذلك في مسألة الإِرادة، فمِنْ ثمَّ منعنا مِنَ الرواية بالمعنى في القطعيَّات، وخصوصاً في الأسماء والصِّفات، وإنِ اعتقدَ المعترض أنَّها سواء، وإن قلنا: إنَّ ذلك لا يجوز إلا لعالم بما
(1) في (ب): إنه.
(2)
في (ش): والاحتمالات.
(3)
" أنَّه " ساقطة من (ش).
(4)
في (ش): فما.
(5)
في (ش): بأنه.
يُحيل (1) المعاني؛ لأنَّ كُلَّ واحدٍ من الخائضين حسنُ الرَّأي في نفسه، فقد يعتقد بعضُ النَّاسِ أنَّه مِنَ العارفين بذلك، وليس منهم، فيجبُ سَدُّ هذا الباب، كما اختاره مالكٌ وغَيْره في تحريمِ رواية الحديث بالمعنى (2)، وإن لم يتعلَّق بصفاتِ الله تعالى، فكيفَ إذا تعلَّق بذلك؟
وثانيهما: سُوءُ الأدبِ على تسليم عدمِ تغيير المعنى، فقد تَحْرُمُ بعضُ العبارات، كما لا يُقال في الدعاء: يا ربَّ الكلابِ والخنازير على الإفراد، بل يَجِبُ التعظيمُ أو التَّعميمُ، فالتعظيم مثل: يا ربَّ العرش الكريم، والتَّعميم مثل: يا ربَّ كُلِّ شيء، كما ورد السَّمعُ بذلك، ولذلك ورد وصفه تعالى بأنَّ بيده الخيرَ وهُو على كُلِّ شيءٍ قدير، فدخل الشَّرُّ في التَّعميم، ولم يُذكر بالتَّخصيص، فيقال: بيدِهِ الشَّرُّ وهو على كل شيء قديرٌ (3)، ولذلك قال العلماء: لا يُفْرَدُ (4) الضَّارُّ عَنِ النَّافع في أسمائه الحسنى، لأنَّه تعالى نافع، بِعَيْنِ (5) ما هو به ضار، مثالُه: مضرَّتُه
(1) في (ش): يحل.
(2)
في " الكفاية " للخطيب ص 188: قال مالك بن أنس: كُلُّ حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يُؤدِّى على لفظه وعلى ما رُويَ، وما كان عن غيره، فلا بأس إذا أصابَ المعنى، وفيه: قال أشهب: سألتُ مالكاً عن الأحاديث يُقدَّمُ فيها ويؤخر، والمعنى واحد؟ فقال: أما ما كان منها من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أكره ذلك، وأكره أن يُزاد فيها، ويُنقص منها، وما كان من قول غيرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أرى بذلك بأساً إذا كان المعنى واحداً.
وفيه: عن معن سألت مالكاً عن معنى الحديث، فقال: أما حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدِّه كما سمعته، وأما غير ذلك، فلا بأس بالمعنى.
وقال السخاوي في " شرح الألفية " 2/ 243: وقيل: لا تجوز له الرواية بالمعنى مطلقاً، قاله طائفة من المحدثين، والفقهاء، والأصولين من الشافعية وغيرهم. قال القرطبي: وهو الصحيح من مذهب مالك.
(3)
من قوله: " فدخل الشر " إلى هنا ساقط من (ش).
(4)
" لا يفرد " ساقطة من (ج).
(5)
في (ش): " يعني "، وهو خطأ.
للظالم، فإنَّها عَيْنُ منفعته للمظلوم، ولهذه الأسرارِ وجب الاقتصارُ على ما ورد به السمع، وحرم التَّصرف فيه، والله أعلمُ.
قال الشيخ: التصرفُ الرابع الذي يجبُ الإمساكُ عنه: القياسُ والتفريع، مثل: أن يَرِدَ لفظ اليدِ، فلا يجوز (1) إثباتُ الكفِّ (2) والساعد استدلالاً بأن هذا مِنْ لوازمِ اليَدِ.
فأهمُّ المواضع بالاحتياط ما هو تصرف في ذات الله تعالى وصفاته، وأحق المواضع بإلجام اللِّسان، وتقييده (3) عَنِ الجريان ما عَظُمَ فيه الخَطَرُ، وأيُّ خطرٍ أعظم من الكفر؟
قلتُ: والأصلُ في هذا وأمثاله ما ثبت من طريق الحسنِ بنِ علي عليهما السلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " دع ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ "(4) وما في معناه.
قال الشَّيخ: الوظيفة السادسةُ في الكفِّ بعد الإمساك للِّسان، وأعني بالكفِّ: كفَّ الباطن عَنِ التفَكرِ في هذه الأمور، فذلك واجبٌ عليه، وهذه أثقلُ الوظائفِ، وهي واجبة كما وجب على العاقلِ أن لا يخوضَ غَمْرَةَ البحرِ اتِّكالاً على عادته في السِّباحة، فإنَّ معاطب البحر كثيرة، ومهالِكَه جمَّة، ويتفكَّرُ في أنَّه -وإن فاتته نفائسُ البحر وجواهرُه- فلم تفُته إلَاّ زياداتٌ وتوسعات (5) في المعيشة، وهو مستغنٍ عنها، وإن
(1) ساقطة من (ب).
(2)
في (ش): مثل الكف.
(3)
في (ج): ويفسده.
(4)
حديث صحيح، تقدم تخريجه في 2/ 371.
(5)
في (ش): وتوسعة.
غرِقَ أو التقمه التمساحُ، فاته (1) أصل الحياة.
قلت: وللإمامِ المؤيَّدِ بالله عليه السلام نَحْوُ هذا الكلامِ في آخر كتابه " الزِّيادات "(2) ذكره في (3) التحذير في (4) الزِّيادة على قدرِ (5) الحاجة في هذه الأمور.
قال الشيخ: فإن قيل: فإن لم ينْصَرِفْ قَلْبُهُ عن التفكر؟
فالجواب: أنَّ طريقه أن يَشْغَلَ نفسه بعبادة اللهِ تعالى، وبالصَّلاة، والقرآن، والذكر، فإن لم يَقْدِرْ، فبعلمٍ آخر لا يُناتسِبُ هذا الجنس من فقهٍ أو غيره، فإن لم يُمْكنْه، فَبِحِرْفَةٍ أو صناعة، ولو الحِراثة أو الحياكة، فإن لم يقدر، فليحدِّثْ نفسه بهولِ القيامة، والحشرِ، والنَّشرِ، والحساب (6)، فكلُّ ذلك خيرٌ له مِنَ الخوض في هذا البحر البعيد عُمْقُهُ، العظيم خَطَره وضَرَرُهُ، بل لو اشتغل الإنسانُ بالعادات (7) البدنية، كان أسلم له مِنْ أنْ يخوضَ في البحث عن تأويلِ صفات الله تعالى، فإنَّ ذلك عاقِبَتُه الفسقُ، وهذا عاقبتُه الشِّرْكُ، و {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48 و116].
فإنْ قيل: إنَّ (8) الإِنسانَ لا تركَنُ نفسُه إلى الاعتقادات الدِّينيَّة إلَاّ
(1) في (ش): فاتته.
(2)
في (ش): في الزيادات.
(3)
في (أ): من.
(4)
في (ش): "من"، وهي ساقطة من (ج).
(5)
في (أ): قدم، وهو خطأ.
(6)
" والحساب " ساقطة من (ش).
(7)
في (ش): بالعبادات، وهو خطأ.
(8)
في (ش): إن هذا.
بدليل، فهل يُجوز أنْ يُذْكَرَ له الدليلُ (1)؟ فإن جوَّزتَ ذلك، فقد رخّصت له في التَّفكُّرِ والنَّظر، وأيُّ فرق بينَ النَّظرِ وبَيْن غيره؟ وإن منعته (2)، فكيف تمنعُهُ ولا يتِمُّ إيمانُه إلَاّ به؟
فالجواب: إنَّه يجوز له أن يسمع الدَّليلَ على معرفةِ الخالق سبحانه ووحدانيَّته، وعلى صِدقِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم، وعلى اليوم الآخرِ، ولكن بشرطين:
أحدُهما: أن لا يُزادَ على أدلَّة القرآن والسُّنَّةِ، ولا يُسْلَكَ به طريقةُ المتكلِّمين وتشطيحاتهم.
والآخر: أن لا يُماريَ فيه إلَاّ مراءً ظاهراً، ولا يتفكَّرَ فيه إلَاّ تفكُّراً سهلاً جليَّاً، ولا يُمْعِنَ في التَّفكُّر، ولا يُوغِلَ فيه غايةَ الإِيغال، وأدلَّةُ هذه الأمور الأربعة ما ذُكِرَ في القُرآن.
أمَّا الدليل على معرفة الخالق سبحانه، فمثل قوله تعالى:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ} [يونس: 31].
(1) في (ش): دليل.
(2)
" وإن منعته " ساقطة من (ب).
وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 24 - 31].
وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا -إلى قوله- وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 6 - 16].
وأمثال هذه الآيات -وهِيَ قريبٌ (1) من خمس مئة آية- ينبغي للخلق أن يعرفوا جلالَ الله وعظمته بقوله الصادِقِ المعجز، لا بقولِ المتكلمين: إِنَّ الأعراضَ حادثةٌ، وإنَّ الجواهر لا تخلو مِنَ الأعراض الحادثة، فهي حادثة، ثم الحادثة (2) تفتقِرُ إلى مُحْدِثٍ، فإِنَّ تلك التقسيمات والمقدمات الرسمية تُشَوِّشُ قُلوب المؤمنين، لا سيما وهي صادرةٌ مِنْ غَيْرِ مَلِيٍّ بالدين (3)، ولا مضطلع بحملِ شريعة سيِّد المرسلين والأولين والآخرين صلَّى الله عليه وعلى آله أجمعين. والدِّلالات الشَّرعيّةُ الصَّادرةُ عَنِ الله اللَّطيفِ الخبير، وعن رسوله البشيرِ النَّذيرِ تُقْنِعُ وتُسَكِّنُ النُّفُوسَ، وتَغْرِسُ في القلوب الاعتقاداتِ الصَّحيحةَ الجازِمةَ، ولقد بَعُدَ عَنِ التوفيق مَنْ سلك طريقة (4) المتكلِّمين، وأعرض عن كتاب ربِّ العالمين.
وأما الدليل على وحدانيته سبحانه، فيُقنع فيه بما في القرآن مِنْ قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
(1) في " ش ": قريبة.
(2)
" ثم الحادثة " ساقطة من (ب).
(3)
في (ش): الذين، وهو تحريف.
(4)
في (ش): بطريقة.
وبقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} (1)[الإسراء: 42]، وقوله تعالى:{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} (2)[المؤمنون: 91].
وأمَّا صِدْقُ رسوله صلى الله عليه وسلم، فَيُسْتَدَلُّ عليه بقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ
(1) في تفسير الآية قولان معروفان للمفسرين. أحدهما: أن قوله: {لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} أي: بالتقرب إليه والعبادة والسؤال له. والثاني: بالممانعة والمغالبة، والأول هو الصحيح المنقول عن السلف كقتادة وغيره، وهو الذي ذكره ابن جرير، ولم يذكر غيره. انظر " درء تعارض العقل والنقل " 9/ 350 - 351.
(2)
قال ابن أبي العز شارح الطحاوية ص 39 - 40: فتأمَّلْ هذا البرهان الباهر بهذا اللفظ الوجيز الظاهر، فإن الإله الحَقَّ لا بُدَّ أن يكون خالقاً فاعلاً، يوصل إلى عابده النفع، ويدفع عنه الضُّرَّ، فلو كان معه سبحانه إلهٌ آخر يشركُه في ملكه، لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة، بل إن قَدَرَ على قهرِ ذلك الشريك، وتفرُّده بالمُلك، والإلهية دونَه، فَعَل، وإن لم يَقدر على ذلك، انفرد بخلقه، وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوكُ الدنيا بعضهم عن بعض بممالكه إذا لم يقدر المنفردُ منهم على قهرِ الآخر والعلو عليه، فلا بُدَّ من أحد ثلاثة أمور:
إما أن يذهَبَ كلُّ إله بخلقِهِ وسلطانِهِ.
وإما أن يعلوَ بعضُهُم على بعضٍ.
واما أن يكونوا تحت قهرِ ملكٍ واحد يتصرف فيهم كيف يشاء، ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحدَه هو الإله، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجهٍ.
وانتظامُ أمير العالم كُله، وإحكامُ أمره، من أدلِّ دليل على أن مدبِّره إله واحد، وملك واحد، وربٌّ واحد، لا إله للخلقِ غيرُه، ولا ربَّ لهم سواه، كما قد دَلَّ دليلُ التمانع على أن خالق العالَمِ واحدٌ، لا ربَّ غيره، فلا إله سواه، فذاك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة والإلهية، فكما يستحيلُ أن يكون للعالم ربَّان خالقان متكافئان، كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان.
فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته، مستقرٌ في الفِطَر، معلوم بصريح العقل بُطلانه، فكذا تبْطل إلهيةُ اثنين. فالآية الكريمة موافقة لما ثَبَتَ واستقرَّ في الفِطَر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة ملزمة لتوحيد الإلهية.
بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وبقوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23].
وبقوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] وأمثاله.
وأمَّا اليوم الآخر: فَيُسْتَدَلُّ عليه بقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78، 79].
وبقوله عز وجل: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 36 - 40].
وبقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} إلى قوله تعالى: {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحج: 5 - 6] وأمثالُ ذلك في القرآن كثير.
فهذه أدلَّة قاطعة جليَّة (1)، تسْبِقُ إلى الأفهام (2) ببَادي الرَّأي، وأوَّلِ النَّظرِ، وَيشتَرِكُ كافَّةُ الخلق في دِرْكِهَا، ولأجل ذَلك كانت هَادِيةً نافعةً، فأدلَّة القرآن والسنَّة مثلُ الغذَاءِ، يَنْتَفِعُ به كُل إنسان، وأدلّة المتكلمين مثلُ الداءِ: يتضرر به كل إنسان، بل أدلَّة القرآنِ والسنَّة كالماء الَّذي ينتفِعُ به الصَّبيُّ الرضيعُ، والرجُلُ القويُّ، وأدلة المتكلِّمين كالسُّمِّ الذي يضرُّ كُلَّ
(1) في (ش): جليلة.
(2)
في (ش): أفهام.
أحدٍ، ولهذا قلنا: إِنَّ أدلَّة القرآن جليَّةٌ سابقة إلى الأفهام، ألا ترى أنَّ (1) منْ قدر على الابتداءِ، فهو على الإعادة أقدر {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27]، وأن التَّدبيرَ لا ينتظمُ في دارٍ واحدة بمدبرَيْنِ، فكيف ينتظِم في جميع العالم؟ وأن من خلق عَلِمَ ثُمَّ خَلَقَ (2)، كما قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14]، فهذه أدلَّةٌ تجري مجرى الماء الَّذِي جعل الله منه كلَّ شيْءٍ حيّ، وما أحدثه المتكلِّمُون وراء ذلك من تنقيرٍ، وسؤالٍ، وإلزامٍ، وتوجيه إشكال، ثمَّ اشتغال بحلِّه، فهو بدعةٌ، وضررُه في حقِّ عمومٍ الخلق بَيِّنٌ بالمشاهدة (3) والتجرِبة، وما أثار مِن الفتن (4) بَين الخلق منذ نَبَغَ المتكلمون، وفشا صناعةُ الكلام، مع سلامة العصر الأول مِنَ الصَّحابة رضي الله عنهم أجمعين (5) عن ذلك، ويدلُّ عليه أيضاًً: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه بأجمعهم ما سلكوا في المُحَاجَّةِ مسلكَ المتكلِّمين في تقسيماتهم وتشطيحاتهم، لا لعجز منهم عن ذلك، ولو علموا (6) أنَّه نافع، لأطنبُوا فيه، ولخاضوا في تحرِّي الأدلَّة خوضاً يَزِيدُ على خوضهم في مسائلِ الفرائضِ، ولقد صدق أبو يوسفُ رحمه الله تعالى في قوله: مَن (7) طلب الدينَ بالكلام (8) تزندق.
(1)" أن " ساقطة من (ش).
(2)
في (ش): علمه.
(3)
ساقطة من (ش).
(4)
في (ت): وأما آثار الفتن.
(5)
ساقطة من (ش).
(6)
في (ش): ولو علمه الله تعالى.
(7)
ساقطة من (ش).
(8)
في (ش): في الكلام.
فإن قيل: إنَّما أمسك الصحابةُ رضي الله عنهم عن ذلك لِعدم الحاجة، فإِن البدع إِنَّما نَبَغَتْ من بعدهم، فَعظُمَتْ حاجةُ المتأخِّرين إليه، ومعرفةُ الكلام راجعة إلى معرفةِ معالجة المرضى بالبدع، فلمَّا قلَّت في زمانهم (1) أمراضُ البدع، قلَّت عنايتُهم بجمع (2) طرق المعالجة.
فالجوابُ من وجهين:
أحَدُهُما: أنَّهم في مسائل الفرائِض ما اقتصروا على شأن حكم الوقائع، بل وضعوا المسائلَ، وفرضُوا فيها ما تنقضي الدُّهُورُ ولا يَقَعُ مِثْلُهَا، لأنَّ ذلك ممَّا أمكن وقوعُه، فصنَّفوا حكمه ورتبوه (3) قبلَ وقوعه، إذ ظنَّوا أنَّه لا ضررَ في الخوض فيه، وفي بيانِ حكم الواقعة قبل وقوعها، وكانت (4) العنايةُ بإزالةِ البدعِ ونزعها من النفوس أهمَّ (5)، إلَاّ أنَّهم ثم يتخِذُوا ذلك صناعةً، لعلمهم (6) أنَّ الاستضرارَ بالخوض فيه أكثرُ مِن الانتفاع، ولولا (7) أنَّهم كانوا قد حذَّروا مِنْ ذلك، لما فَهِمُوا تحريمَ الخوضِ فيه، وقصَةُ عمر مع صَبيغ بن عَسَلِ معروفة (8)، وقصة الخوارج، وذكر الفرق عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وتحذيره منها مشهورٌ غيرُ منكرٍ.
الجوابُ الثاني: أنَّهم كانوا محتاجين إلى محاجَّةِ اليهودِ والنصارى في إثبات النبوَّة نُبُوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، وإلى إثبات الإلهية مع عَبَدَةِ الأصنام،
(1) في (ش): أزمانهم.
(2)
في (ش): بجميع.
(3)
في (ش): ورتبوا.
(4)
في (ش): فكانت.
(5)
ساقطة من (ش).
(6)
في (ب): لعملهم، وهو خطأ.
(7)
في (ش): ولو.
(8)
تقدم تخريجها في هذا الجزء ص 346 ت (1).
وإلى إثباتِ البعث مع منكريه، فما ركبوا ظهر الحِجَاجِ في وضع المقاييسِ العقلية، وترتيب المقدِّمات، وتحرير طُرُق (1) المجادلات، كلُّ ذلك لعلمهم بأنَّ ذلك مثارُ الشرِّ، ومنبعُ الفتنة، بَلِ اقتبسوا رضي الله عنهم أدلةَ (2) القُرآن، فمن أقنعه ذلك خَلَّوْهُ، ومن لم يقْنَعْ به، قتلوه، وعدلوا إلى السيف والسِّنان، لأنَّه ليس بَعْدَ بيانِ الله تعالى بيان، على أنَّا نُنْصفُ الخَصْمَ، ولا نُنكِرُ أنَّ حاجة المعالجة تَزيدُ بزيادةِ المرض، فإنَّ لِطُولِ الزَّمان، وبُعْدِ العهد عن عصر النُّبُوَّة تأثيراً في إثارة الإشكالات (3)، وإنَّ للعلاج طريقين:
أحدهما: البيانُ والبرهانُ، وإلى أن يصلح واحد، قد (4) فسد إثنان فصلاحه بالإضافة إلى الأكياسِ، وهو فسادٌ بالإضافة إلى البُلْهِ، وما أقَلَّ الأكياسَ، وما أكْثَرَ البُلْهَ، والعنايةُ بالأكثر أولى.
الطريق الثاني: طريقُ الكفِّ، والسُّكوت، والعُدول إلى الدِّرَّة، والسوط، والسيف، وذلك ممَّا يَنْفعُ الأكثرين، وإنْ كان لا يُقْنِعُ الأقلِّين، وآيةُ إقناعه أن (5) مَنْ يُسْتَرَقُّ مِنَ الكافر من الإماء والعبيد تراهم يُسلمون تحتَ ظلالِ السيوف (6)، ثمَّ يستمرون عليه حتَّى يصيرَ طوعاً ما كان كَرهاً في البداية، ويصير اعتقاداً جزماً ما كان في الابتدإء إِمْرَاً (7) وَشَكَّاً، وذلك بمشاهدة أهلِ الدِّين، والمؤانسةِ بهم، وسماعِ كلامِ الله تعالى، ورؤيةِ
(1) ساقطة من (ش).
(2)
في (ش): بأدلة.
(3)
في (ش): المشكلات.
(4)
في (ش): فقد.
(5)
ساقطة من (ب).
(6)
في (ب): السيف.
(7)
أي: عجباً منكراً.