المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوجه الرابع: سلمنا أنا لم نقل بجواز الجهر والإخفات معا - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٣

[ابن الوزير]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌الدعوى الأُولى: ادَّعَى أنَّ أحاديثَ الفقهاءِ متعارضَة في وضع اليَدِ على اليد

- ‌الدعوى الثانية: ادَّعى أنَّ العُمُومَ يعارِضُ الخصوصَ إذا جُهِلَ التاريخُ

- ‌الوجه الرابع: سلَّمنا أنا لَمْ نقلْ بجوازِ الجَهْرِ والإخفات معاً

- ‌الوجه السابع: أنَّ الخبَرَ إذا وَرَدَ في شَيْءٍ، ظهر في الأصل ظُهوراً عامَّاً

- ‌الوجه التاسع: سلَّمنا سلامَةَ هذا الحديثِ منْ جميعِ هذِهِ المَطَاعِنِ، فإنَّه حديث مُرْسَل

- ‌الوجه الحادي عشر: أنَّ هذا كُلهُ بناءٌ على أنَّا ما تَمَسَّكْنَا في المسأَلَةِ إلأَ بحديثِ فاسِقِ التَّأْويلِ

- ‌الوجه الثَّاني عشر: أنَّ السيدَ نَصَّ على أنَّا نُرَجِّحُ فُسَّاق التَّأويلِ

- ‌الإِشكال الأول: أنَّ المحدِّثينَ قد نصُّوا على عَكْسِ ما ذَكَرَهُ السيد

- ‌الإشكال الثالث: سلَّمنا للسيدِ أنَّ ذلكَ مَذْهَبُ الأوزريِّ

- ‌الإشكال السَّادسُ: سلَّمنا أنه يلزمُهُم

- ‌ الجواب عَنِ السيِّدِ في هذا مِنْ وُجُوهٍ

- ‌الوجه الثاني: أنَّ السيدَ غَلِطَ على ابنِ الصَّلاحِ، ولم يَنْقُلْ عنه مَذْهَبَه

- ‌ في كلامِ السيدِ هذا مباحثُ

- ‌البحثُ الرَّابعُ: أنَّ السيد ادَّعى على الرجُلِ في أَوَّلِ كلامِهِ أنَّه ادَّعى إجماعَ الفقهاءِ، ثُم ألزَمَهُ هُنا أنْ يَجْمَع لَهُ الأمَّةَ في صَعِيدٍ واحِدٍ

- ‌البحثُ السَّادِسُ: أنَّه ادَّعى إجماع العُلمَاءِ

- ‌البحث السابع: أنَّك إمَّا أنْ تُنْكِر الإجماعَ السُّكُوتيَّ أم لا

- ‌البحث التاسع: يتفضَّلُ السَّيِّدُ ويخبرُنا مَنِ الذي يقولُ مِنْ أهلِ البَيْتِ بطلاقِ زوجة هذا الحَالفِ

- ‌البحث العاشر: أنَّ الظَّاهِرَ إجماعُهم عليهم السلام على ذلِكَ

- ‌البحث الثالث عشر: أنَّه لا طريقَ إلى العِلْمِ بِأنَّ الحديثَ المُتَلَقَّى بالقَبُول هوَ بِنَفْسِهِ لفظُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ المضعَّف عليهما نوعان

- ‌النوع الأول: المعلولُ

- ‌ الجواب على هذا مِنْ وجوهٍ

- ‌الوجه الأول: أن كلامَ السيد في المسألة الأولى دالٌّ دِلَالَة واضِحَة على أنَّه يَدَّعِي أنَّه غير مجتهِدٍ، بل يدعي أنَّه لا مجتهدَ في الزَّمان

- ‌الوجه الثاني: أن نَقول: ما مُرَادك بهذا الإنتاج

- ‌الوجه الثالث: أنْ نقولَ: ما قصدُك " ويُستفتى مَنْ ليْس بعَلِيم

- ‌ في كلام السيدِ هذا أنظار

- ‌النظر الأول: أنه تعرَّض لتفسير كلامِ المؤيَّد باللهِ مِنْ غيرِ غَرَابَةٍ في ألفاظِهِ

- ‌النظر الثاني: أنَّ السيدَ في كلامه هذا قد أجاز التَّرجيح بالأخبار لبعضِ المُقَلِّدين

- ‌النَّظر الثالث: أنِّي لَمْ أُوجِبِ الترجيح بالأخبار على جميع المكلَّفين مِنَ العامَة

- ‌النظر الخامس: أنَّه وعد بضربِ مَثَلٍ، ولم يأتِ بما يَصْلُحُ أن يُسَمَّى مثلاً مضروباً عِنْدَ البُلغاءِ

- ‌ ضَعْفُ كلامِ السيِّدِ في هذا يتبيَّنُ بأنظار

- ‌النظر الأول: أنَّه مَنَعَ مِنْ جوازِ التَّرجيح للمقلِّدِ في كُلِّ مسألة

- ‌الوهم الأول: أنَّه عَوَّلَ على إجماعِ العامَّة المقلِّدين

- ‌الوهم الثاني: أنا لو سلَّمنا أنَّ إجماعُهم صحيحٌ، لما دلَّ على مذهبه

- ‌الوهم الثالث: وَهم أنَّ المقَلِّدِينَ مُجمعون على الالتزام

- ‌النظر السادس: قول السَّيِّد: إنَّ هذا لو وقع في زماننا، لأنكره النَّاس، عجيب أيضاً

- ‌النظر السابع: أنَّ السيِّدَ جاوزَ حدَّ العادة في الغُلُوِّ

- ‌النَّظر الأول: أنَّ السيدَ استدلَّ، ثم استثنى

- ‌النظر الثاني: أنَّ ما جاز في ذلك على المقلِّدِ جاز على المجتهد

- ‌النَّظر الرابع: أنَّ كلامَه في هذا الفصل يستلزِمُ اشتراطَ السَّفرِ والخطرِ في صِحَّة الاجتهاد

- ‌ الجواب على ما ذكره من وجوه:

- ‌الوجه الرابع: أنَّ اعتراضَ كتبِ الحديث الصَّحاح بأنَّ فيها ما ليس بصحيح عندَ غيرهم، عمَلُ منْ لم يعْرِفْ ما معنى الصحيح عند أهله

- ‌القسمُ الأول: ما يتعلَّقُ بأحكامِ التَّحليل والتَّحريم المشهورة مِنْ روايةِ الثِّقات

- ‌الحديث الأول: تحريمُ الوَصْلِ في شعور النِّساء

- ‌الحديث الثاني: "لا تَزَالُ طائفَةٌ منْ أُمَّتِي ظَاهِرينَ عَلى الحَقِّ

- ‌الحديثُ الثالث: النَّهي عن الركعتين بَعْدَ العصر

- ‌الحديثُ الخامس: "إنَّ هذا الأمْرَ لا يزالُ في قُرَيْشٍ

- ‌الحديثُ السادس: حدُّ شارب الخمر

- ‌الحديث السابع: النَّهي عن لباس الحرير، والذَّهب، وجلودِ السِّباع

- ‌الحديثُ الثامن: حديثُ افتراق الأمَّةِ إلى نَيِّفٍ وسبعين فِرقة

- ‌الحديث التَّاسع: النَّهي عن سبق الإمام بالرُّكوع والسُّجود

- ‌الحديث العاشر: النَّهي عن نِكَاح الشِّغارِ

- ‌الحديث الثاني عشر: حُكْمُ مَنْ سَهَا في الصلاة

- ‌الحديث الثالثَ عشر. النَّهيُ عَنِ النِّيَاحة

- ‌الحديث الرابعَ عشر: النَّهي عَنِ التَّمادح

- ‌الحديث الخامسَ عشر: النَّهي عن كُلِّ مسكر

- ‌الحديثُ السادسَ عشر: كراهةُ رضى الدَّاخِل على القوم بقيامهم له

- ‌الحديث السابعَ عشر: النهي عن تتبع عوراتِ الناس

- ‌الحديث الثامنَ عشر: النَّهي عَنِ القِران بَيْنَ الحجِّ والعُمرة

- ‌الحديث الموفي عشرين: روى عن أخته أمِّ حبيبةَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصَلِّي في الثَّوب الذي يُجَامِعُها فيه ما لم يَرَ فيه أذىً

- ‌الحديثُ الأول: فَضْل إجابة المُؤَذِّنِ

- ‌الحديث الثالث: في فضل حِلَقِ الذِّكر والاجتماعِ عليه

- ‌الحديث الرابع: النَّهي عن الغَلوطات

- ‌الحديث السادس: فضل حُبِّ الأنصار

- ‌الحديث الثامن: " المؤذِّنُونَ أطْولُ النَّاسِ أعنَاقَاً يوْمَ القيامَةِ

- ‌الحديث العاشر: تحريم وصل الشعر على النساء

- ‌الحديث الحادي عشر: " العَيْنَانِ وِكاءُ السَّه

- ‌القسم الثالث: ما يُوَافِقُ مذهبَ المعترِضِ من حديثه

- ‌الحديث الثاني: النَّهْي عن لباسِ الذَّهب إلا مُقَطَّعاً

- ‌القسمُ الرابعُ: ما يتعلَّقُ بالفضائل، مما ليس بمشهور

- ‌الحديث الثالث: حديثُ الفصل بَيْنَ الجُمُعَةِ والنّافلة بعدَها بالكلام

- ‌الحديث الرابع: " كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أنْ يَغْفِرَهُ إلا الشِّرْكَ باللهِ، وَقَتْلَ المُؤْمِنِ

- ‌القسم الخامس: ما لا يتعلَّق به حُكْمٌ

- ‌الحديث الأول: حديث وفاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو ابنُ ثلاثٍ وستِّين

- ‌فإن قلت: فما الوجه في روايتهم عنه؟فالجواب من وجهين:

- ‌الجوابُ من وجهين معارضةٌ وتحقيق

- ‌الوجه الثاني: التَّحقيق، وبيانُه أنْ نقولَ: توهم السَّيِّدُ أنَّ الشهادةَ على الزِّنى إذا لم يتمَّ نِصَابُها كانت قذفاً

- ‌الوهم التاسع: قال: ومنهم الوليد بنُ عقبة

- ‌الوهم العاشر: توهَّم السَّيّدُ أنّ الوليد منَ الرُّواة المعتمدين في الصِّحاح في الحديث عند أبي داود

- ‌الوهم الحادي عشر: ذكر السيِّد أنَّ الوليد مذكورٌ في غير " سُننِ أبي داود " من كتب الحديث، وهذا الوهم أفحشُ مِنَ الذي قبلَه

- ‌الوهم الثالث عشر: قال: ومنهم أبو موسى الأشعري نَزَعَ علياً الّذي ولّاه الله ورسوله

- ‌ ونَزيدُ على هذا وجوهاً

- ‌الوجهُ الأولُ: بيانُ القَدْح في أصلِ هذه الروايةِ

- ‌الوجهُ الثاني: المعارضةُ لذلك بثناءِ الإمام المنصورِ بالله على أحمدَ

- ‌الوجهُ الثالثُ: المعارضةُ لذلكَ من روايةِ الحنابلةِ وأهلِ الحديثِ

- ‌ ولنختم هذا الفصل بتنبيهين

- ‌التنبيه الثاني: ينبغي التأمُّلُ لَهُ، وذلك أنَّه قد يقع التَّساهلُ في نقل المذاهبِ مِنْ أهلِ كُتب المِلَلِ والنِّحَلِ

- ‌الفصل الثاني: في تحقيق مذهبِ أحمدَ بنِ حنبل وأمثالِه مِنْ أئِمَّة الحديث، وهُم طائفتان

- ‌أحدهما: القولُ بأنَّ النَّظر فيما أمر اللهُ تعالى بالنظر فيه

- ‌ثانيهما: أنَّهم يُنكرون القولَ بتعيُّنِ طرائقِ المنطقيِّين والمتكلِّمين للمعرفة

- ‌الوظيفة الأولى: التقديس:

- ‌الوظيفة الثانية: الإِيمانُ والتصديق:

- ‌الوظيفة الثالثة: الاعتراف بالعجزِ عن معرفةِ حقيقة هذه المعاني

- ‌ الوظيفة الرابعة: السُّكوت

- ‌ الموضعُ الثالث: تأويلُ العالِمِ مع نفسِه في سِرِّ قلبه

- ‌الوظيفةُ السابعة: التسليمُ لِقولِ الله تعالى، ولحديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الأصلُ الرابع: أنَّهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دَعَوا الخَلْقَ إلى البحث

- ‌ فصل: ولعلك تقول: الكف عن السؤال، والإمساك عن الجواب من أين يغني

- ‌ فإن قيل: بم يميز المقلد بين نفسه، وبين اليهودي المقلِّد

- ‌الرابع: من المعلوم أيضاً أن في كل طائفة عظيمة بلهاء بُلداء، وإنّ في الزيدية

- ‌السادس: أنّ الفلاسفة تدَّعي من التَّحذلق مثل ما أنت مُدَّعٍ

الفصل: ‌الوجه الرابع: سلمنا أنا لم نقل بجواز الجهر والإخفات معا

جداً؛ لأنَّه خلافٌ لجماهيرِهِمْ في أمرٍ غيرِ واجبٍ عِنْدَهمْ، وذلك لأنَّ مذهبَ جماهيرِ العِترة مِنَ المُتَقَدِّمينَ والمتأخِّرين أنَّ الجهر بالبسملة (1) والفاتِحَةِ في الصَّلَاةِ غَيْرُ واجبٍ. وقد ذكر ذلك الأمير الحسينُ في "الشِّفاء".

فالمخافِتُ (2) تاركٌ لِسُنَّةٍ عندَ جماميرِ العِترة، ولا إثمَ عليه، ولا حرجَ، ومَنْ كانَ عِنْدَ جماهيرِهِمْ غيرَ عاصي (3)، فالإنكارُ عليهِ عِنْدَهمْ مِنَ المعاصي.

هذا كُلُّهُ على تسليمِ ما ادَّعاهُ الخَصْمُ مِنَ المُخَافَتَةِ، وَلَسْتُ -بِحَمْدِ اللهِ- أُخَافِتُ، بَلْ أجْهَرُ عَلَى مَذْهَبِ زَيْدٍ والهادي عليهما السلام كما تَقَدَّمَ ذلِكَ، فهذا الكَلَامُ انسَحَبَ عليَّ مِنَ الكلَامِ على جوازِ الأمرين: الجَهرِ والإِخفاتِ، وقد طال، وهو مُفيدٌ إن شاء الله تعالى.

‌الوجه الرابع: سلَّمنا أنا لَمْ نقلْ بجوازِ الجَهْرِ والإخفات معاً

، وأنَّا (4) قلنا بأنَّ السُّنَّةَ الإِخفاتُ، فإنَّه يُمْكِن أنْ نَحْمِلَ أحاديثَ الجَهْرِ على معنى صحيحٍ، ونَجْمَع بَيْنَ الأحاديث، ولا نطرحَ أحاديثَ أهلِ البيتِ عليهم السلام، فإنَّ طرحَ أَحَدِ الحديثين لا يجوزُ إلَاّ بعد تَعَذُّرِ الجَمْعِ بينهما؛ لأنَّ الجمْعَ أولى بالاتِّفاقِ إنْ كان إليه سَبيل.

وقد ذكَرَ مَنْ تَقدَّمَ مِنْ أهلِ العلم الجمعَ بينَ الأحاديثِ في هذه المسألَةِ، وقال: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم جهر بها لِيُعْلِمَ الناسَ أنها تُقرأ سرَّاً،

(1) في (ب): في البسملة.

(2)

في (ب) و (ش): فالمخالف.

(3)

كذا الأصول بإثبات الياء، والجادة حذفها، وما هنا له وجه.

(4)

في (ش): وإن.

ص: 38

كما ثبت في " الصَّحيحين "(1) أنَّه كان يُسْمعُهُم الآيَةَ أَحْيَاناً في صَلاةِ النَّهارِ، وكما ثبتَ عَنْ عُمَرَ أنَّهُ جَهَرَ بالتَّوَجُّهِ للتَّعْليمِ (2) معَ الإجماعِ علَى أنَّ التَّوَجُّهَ ممَّا لا يُجْهَرُ بِهِ.

وقد يَحْتَمِلُ أنَّه جَهَرَ بِها لبيانِ جوازِ الجَهْرِ، لا لبيان استحبابهِ، كما جَهَرَ في صلاة النَّهارِ، وإذا كان هذا محتَملاً، لم تُعَارَضِ الأحاديث، وإذا لم تُعارَضْ، لَمْ يَحِلَّ التَّرجيحُ والعملُ بالبَعْضِ دونَ البَعْضِ.

فإنْ قُلْتَ: فهلَاّ جَعَلْت التَأويلَ للإخفاتِ؟ وقلتَ كما قال أهلُ الجَهْرِ: إنَّه يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم جَهَر (3)، ولكِنْ لَمْ يَسْمَعُوهُ لما يُعتادُ مِنْ رَفْع المأمومينَ لأصواتِهِمْ بعد تكبيرةِ الإِحرام، وذلكَ وقتُ البَسْمَلَةِ.

قلت: الجَوَابُ مِنْ وَجْهيْنِ.

الأول: أنَّ هذا الاحتمال يضعف في الرَّكْعَة الثانِيَةِ، وعِنْدَ قراءةِ السُّورَة بعد الفَاتِحَةِ، ويلزمُ منهُ التباسُ أوَّلِ الفاتِحَةِ.

(1) أخرجه البخاري (759) و (762) و (776) و (778) و (779)، ومسلم (451) من طرق عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبي قتادة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، فيقَرأ في الظهر والعصر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، ويسمعنا الآية أحياناً، وكان يطول الركعة الأولى من الظهر، ويقصر الثانية، وكذلك في الصبح. وللنسائي من حديث البراء: كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم الظهر، فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات. ولابن خزيمة (512) من حديث أنس نحوه، لكن قال بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} .

(2)

أخرجه مسلم في " صحيحه "(399)(52) من طريق محمد بن مهران الرازي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، عن عبدة أن عمر بن الخطاب كان يجهر بهؤلاء الكلمات يقول: سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدُّك، ولا إله غيرك.

(3)

في (ب): " جهرا "، وفي (ج):" جهره "، وهو خطأ.

ص: 39

والثَّاني: أنَّ فيه حُكمَاً على الرُّواة بالكذِب والوَهْم (1) مِنْ غيرِ تَعَمُّدٍ، فإنَّهم قالواْ لَمْ يَكُنْ يجهَرُ في بعضِ الطُّرُقِ الصِّحاحِ، ولو كان الأمر كما ذكَرْتَ، لكان الواجبُ عليهم أنْ يُورِدُوا لفظاً يصدُق ويدُلُّ على الشَّكِّ، مثل أن يقولوا: إنَّ أصواتَ المُكَبِّرين كانت تمنَعُنا من تَحَقُّقِ جَهْرِهِ بالبَسْمَلةِ، فلا ندري هل جَهَرَ أم لا؟ وبهذا تَعْرِفُ أنَّ تأويلَ الجَهْرِ أولى؛ لأنَّ فيه تصديق جميعِ الرُّواةِ، وحملَهُمُ الجَميع عَلى عدم الوَهْمِ، فكان أقوى، لأنَّ الوَهْمَ خلافُ الظَّاهر، وهو آخِرُ مراتبِ التَّأويل كما سيأتي، وليسَ بعدَ الحُكْم بِه إلَّا الحكمُ بتَعَمُّدِ الكَذِبِ، بل لا يصحُّ (2) القطع (3) بالوهْمِ إلا في المسائل القطعيَّةِ بعد انسدادِ بابِ التَّأويل، وسوف يأتي ما في ذلِكَ مِنَ الشَّرائِطِ العزيزة.

الوجه الخامس: أنَّهُ لا يلزَمُ القول بالتَّرجيح إلَاّ بعدَ أنْ يدَّعيَ كُلُّ واحدٍ مِنَ الفريقين أنَّ حديثَه صحيح، أو يدُلُّ دليلٌ على أنَّهُ يَدَّعِي ذلِكَ ويعتقدُه، وإنْ لم يُصَرِّحْ بذلك، لكنَّا لَمْ نعلمْ ذلِكَ في أحاديثِ أَهْلِ البَيْتِ عليهم السلام، فإنَّ كثيراً مِنْ أحاديثِ الجَهْرِ المَرْوِيةِ لَمْ تَثْبُتْ مِنْ طريقٍ أهلِ البيت عليهم السلام، وبعضُها ثَبَتَ من طريقهم (4) لكنَّهُمْ لَمْ يحتجُّوا به منفرداً، وُيصَرِّحُوا بأنَّه مُسْتَندُهمْ في العَمَلِ، بَلِ احْتَجُّوا على ذلك ببعضِ تلك (5) الأحاديث وبالقياس وبالاجتهاد، وهذا النَّوْعُ شبيهٌ بالنَّوْعِ المُسمَّى بالمتابَعَاتِ والشَّواهِدِ (6)، وهو أحدُ أنواع علوم الحديث،

(1) في (ب): بالوهم والكذب.

(2)

في (أ) و (ج): " بل يصح " وهو خطأ.

(3)

في (ب): الحكم.

(4)

في (ب): طريق.

(5)

ساقطة من (ب).

(6)

انظر التعليق رقم (1) من الجزء الثاني ص 95 من هذا الكتاب.

ص: 40

وَلَمْ أعلم بأنَّ أحدَاً قال: بأنَّها حُجَّةٌ، والدَّليلُ على أنها ليست بِحجةٍ أنَّهُ يجوزُ أنْ يكونَ العالِمُ اعتمد العُمُومَ، أَوِ (1) القياسَ، أو الاجْتِهَاد، ثُمَّ تقَوَّى بِالخَبرِ على جِهَةِ الاستئناس والزِّيادة في الظَّن، وَلَوْ لَمْ يَكنْ معه إلا الخَبرُ، لم يَعْتمِد عليه، وقد يُصَرِّحُ (2) بهذا كثيرٌ مِنْ أَهْل العلم في احتجاجِهِمْ لمذاهِبِهِم.

وكذلِكَ العَكْسُ مِن هذا قد يَحتجُّ العالِمُ بالخَبَرِ والقياسِ، ويكونُ مُعْتَمدَه الخَبرُ، وإيرادُه للقياسِ على سبيل إلاستظهار، ونظير ذلكَ أنَّ الحاكم إذا حَكَمَ بشهادَةِ رَجُلَيْنِ، كان الحُكْم تعديلاً لَهُمَا، ولو حكَم بشهادَةِ ثلاثة، كان تعديلًا لاثنينِ مِنْهُم، لجواز أَنْ يكونَ لَمْ يَعْلَمْ عدالَةَ الثالث، ولكِنْ تَقَوى بِهَا، وكذلِكَ العَالِمُ (3) إذا قال قولاً، واحتجَّ بِحجةٍ مُنْفَرِدَةٍ دلَّ على صِحتِها عِنْدَهُ، وإذا احتجَّ بحُجَّتين، احتمل (4) أنْ تكونا صَحِيحَتَيْنِ مَعَاً، وأَنْ تكون إحداهُمَا صَحِيحَةً، والأخرى ضَعِيفَةً عنده، لكن تقوَّى بها. فإذا لم يَثْبُتْ عَن الهادي أنَّه قال بِصحَّةِ الحديث، لم يَصِحَّ أنْ يعْمَلَ بِهِ، وإن لم يُعارضه حديث آخر، فكيفَ إذا عَارَضَهُ حديث صَحِيحٌ على شروطِ الأئمة، فَعَمِلْنَا بِهِ، كيف يجوز أَنْ يُقَالَ: إنَّا قد ذهَبْنَا إلى ترجيح فُسَّاقِ التَّأويلِ علَى الهَادِي عليه السلام؟ وَمَتَى صحَّحَ الهادي الخَبَرَ بنصٍّ أو ظاهِرٍ مِنْ كلامِه عليه الكلام حتى يَثْبتَ ما هُوَ فَرْعٌ على هذا مِنَ التَّرجِيح؟

الوجه السادس: أنَّ الهادي عليه السلام لما ذكر المسألة، احتجَّ

(1) في (ب): " والقياس ".

(2)

في (ش): صرح.

(3)

ساقطة من (ب).

(4)

ساقطة من (ب).

ص: 41

فيها بأنَّ " بسم اللهِ الرَّحمن الرحيم " مِنَ القرآن، والقرآنُ يُجْهَرُ بِه، وجعل هذه الحُجَّة عُمدتهُ، وصدَّرها في احتجاجِهِ في المسألة، ثمَّ روى بعدَها حديثين لم يَدُلَّ عليه السلام على صِحَّةِ واحد مِنْهُما عندَه بنصٍّ، ولا عموم، ولا منطوقٍ، ولا مَفْهُومٍ، ولا تَبَيَّن لنا ذلك مِنْ غيره عليه السلام كما نُبيِّنُ ذلك، أمَّا أحدُهما: فإنَّه رواهُ بلفظ التمريض والبلوغِ دونَ لفظِ القطْعِ والثبات، فقال: بلغَنَا عنْ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يَقُلْ: قالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قال: صَحَّ لنَا عنْ رسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وهذا أيضاً نوعٌ من أنواع الحديثِ يُسَمَّى البلاغات، وليس يُحكمُ بصحته؛ لأن عبارة البُلُوغِ تَصْدُقُ، سواءٌ كانَ الحديث (1) صحيحاًً أو ضعيفاً؛ لأنَّ الصحيحَ قد بُلِّغَ، والضعيف قَدْ بُلغَ.

ولهذا كان القول الصحيحُ المختارُ مِنَ الثَّلاثَةِ الأقْوالِ في تعاليقِ البُخاري (2) أن ما رواهُ بصيغَةِ التمريض لم يُقْبلْ، وما رواه بصيغة الجَزْمِ قُبِلَ (3).

(1) سقطت من (ش).

(2)

الحديث المعلق له صور: منها أن يحذف الراوي جميع السند، فيقول مثلاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها أن يحذف إلا الصحابي، أو إلا الصحابي والتابعي، ومنها أن يحذف من حدَّثه، ويضيفه إلى من فوقَه.

والأحاديث المعلقة في " صحيح البخاري " كثيرة جداً تجاوزت 1300 تعليقاً، وأكثرها مخرج في أصول متونه، وما لم يخرجه فقد قام الحافظ ابن حجر بوصله.

(3)

هذه القاعده أغلبية لا كلية، فقد علق البخاري حديث عائشة:" كان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه " بصيغة الجزم، مع أنَّه لا يصح على شرطه، بل على شرط غيره، فخبر عائشة هذا أخرجه مسلم في " صحيحه ". وذكر أيضاًً بصيغة الجزم حديث بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم:" الله أحق أن يستحيى منه من الناس "، وهو ليس من شرطه قطعاً، ولهذا لما علق في النكاح شيئاً من حديث جد بهز لم يجزم به، بل قال: ويُذكر عن معاوية بن حيدة.

وقال في (باب: العرض في الزكاة): وقال طاووس: قال معاذ رضي الله عنه لأهل =

ص: 42

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميس أو ليس في الصدقة مكان الشعير والذرة أهون عليكم، وخيرٌ لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة. رجاله ثقات إلا أن طاووساً لم يسمع من معاذ، فهو منقطع.

وعلق حديث جابر في كتاب العلم بصيغة الجزم، فقال: ورحل جابر بن عبد الله مسيرة شهر إلى عبد الله بن أنيس في حديث واحد.

وعلقه في كتاب التوحيد بصيغة التمريض، فقال: ويُذكر عن جابر، عن عبد الله بن أنيس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " يحشر الله العباد، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان ".

وقد قال الحافظ: جزم به حيث ذكر الارتحال فقط، لأن الإسناد حسن وقد اعتضد، وحيث ذكر طرفاً من المتن لم يجزم به، لأن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق نسبته إلى الرب، فإنه يحتاج إلى تأمل، فلا يكفي فيه مجيء الحديث من طرق مختلف فيها ولو اعتضد.

وما علق بصيغة التمريض، منها ما هو صحيح على شرطه، وقد أورده في موضع آخر من " جامعه "، ففيه 1/ 44 في المواقيت، باب: ذكر العشاء والعتمة ومن رآه واسعاً: ويذكر عن أبي موسى قال: كنا نتناوب النبي صلى الله عليه وسلم عند صلاة العشاء فأعتم بها، وقد رواه موصولاً (567) في باب: فضل العشاء .. ، ولفظه فيه: فكان يتناوب رسول الله صلى الله عليه وسلم عند صلاة العشاء كل ليلة نفر منهم.

وقال في كتاب الطب 10/ 76، باب: الرقي بفاتحة الكتاب: ويذكر عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسنده (5737) في الباب الذي بعده من حديث ابن أبي مليكة عن ابن عباس في قصة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم:" إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله ".

ومما أورده بصيغة التمريض، ولم يورده في موضع آخر من كتابه، وهو صحيح، ما جاء في كتاب الأذان من " صحيحه " 2/ 204: ويُذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ائتموا بي وليأتم بكم من بعدكم " وهو حديث صحيح أخرجه مسلم في " صحيحه "(438) من طريق أبي نضرة العبدي، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي في أصحابه تأخراً، فقال لهم: " تقدموا فأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم

".

وجاء في كتاب الصلاة 2/ 255: ويذكر عن عبد الله بن السائب قرأ النبي صلى الله عليه وسلم (المؤمنون) في الصبح، حتى إذا جاء ذكر موسى أو هارون أو ذكر عيسى أخذته سعلة، فركع. وهو حديث صحيح أخرجه مسلم (455) في الصلاة، باب: القراءة في الصبح، من طرق عن عبد الله بن السائب.

وبهذا يتبين لك أن ما صححه المؤلف في هذه المسألة غير صحيح، وأن تعاليق البخاري لا يتم الحكمُ على المروي منها بشيء من الصحة ولا الحسن ولا الضعف إلا بعد الكشف والفحص عن حال ما علقه. =

ص: 43

وليس هذا النَّوعُ يدخُلُ في المراسيلِ، ولا يرتقي إلى مرتَبَتِهَا، فإنَّ كثيراً مِنْ عُلماءِ الأصولِ نَصُّوا على أن المُرْسَلَ هُوَ قَوْلُ مَنْ لَمْ يُدْرِكِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، نصَّ عليه المنصور بالله عليه السلام في موضعين من " صفوته "(1) وكذلِكَ أبو الحسين في " معتمده "(2)، ونص عليه في " الجوهرة "، وأَقرَّهُ الفقيهُ العلَاّمة عليُّ بنُ عَبْدِ اللهِ، ولمْ يعترِضْهُ في تعليقه، بل أقَرَّهُ، وقال: الكلام كما ذكر (3)، واختلفوا في العنعنة.

وأمَّا البُلوغُ والرِّوايَةُ بلفظِ ما لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، فَلَمْ أَعْلَمْ أنَّ أحداً ذكرهما في المراسيلِ، ولا فيما يَجِبُ قَبُولُه مِنْ أخبارِ الثِّقات، وإنْ ذَكَرَ ذلكَ ذاكرٌ مِنْ غَيْر دليلٍ، لمْ يُقْبَلْ منهُ تقليداً حتى يَدلَّ عليهِ، وهذا الكلام مُتَّجِهُ إلا أَنْ يُعْرَف مِنْ بعضِ العلماءِ أنَّهُ لا يقولُ ذلكَ إلا فيما صحَّ لَهُ، ولا يقولُه في حديثٍ ضعيفٍ ألبتة عمل به، ولكِنا لمْ نَعْلَمْ هذا مِنَ الهادي عليه

= وهذه الأمثلة وغيرها أيضاًً تدلُّ على أن استعمال صيغة ما لم يسم فاعله قد يكون لمعنى غير التمريض، كاختصار السند، أو الاقتصار على بعضه، أو إيراد الحديث بالمعنى، وغير ذلك من الوجوه، وهذا شائع ذائع في كتب المتقدمين من الأئمة كالشافعي في " الأم "، فإنه يذكر في أحاديث كثيرة بصيغة التمريض، وهي في الصحيحين أو أحدهما، وكذلك البغوي في " شرح السنة " حين يطوي السند، يورد الحديث بصيغة التمريض، وكثير مما جاء كذلك صحيح، ولم يتنبه لهذا بعض من ينتحل الحديث في عصرنا، فضعف حديث عمر في التراويح الذي فيه أنَّه صلاها عشرين، لأن الشافعي صدره بقوله:" ورُوِيَ "، وفي النص الذي نقله عن الإمام الشافعي من طريق المزني ما ينبه الغافل، فقد جاء بإثره كما نقله هو:" وهو أحبُّ إليَّ "، فكيف يكون هذا العدد الذي جاء في حديث عمر أحبَّ إليه، وهو ضعيف في نظره كما زعم هذا القائل، وغير خافٍ على صغار الطلبة أن الشافعي رحمه الله لا يعتد بالحديث الضعيف.

(1)

ألفه في أصول الفقه، وسماه " صفوة الاختيار "، والمنصور بالله -واسمه عبد الله ابن حمزة- تقدم التعريف به في 1/ 286.

(2)

لم أجده في المطبوع من " معتمد أبي الحسين ".

(3)

في (ب): " ذكروا ".

ص: 44

السلامُ، ولا من غيرهِ مِنْ علماءِ الإسلام.

إذا تقرَّرَ هذا، فلا شَكَّ أنَّ أَرْفَعَ المراتِبِ في رفع الالتباسِ أنْ يقولَ العالِمُ: صح لنا عَنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثم يُبَينُ طريقَ الحصةِ.

المرتبة الثانيةُ: أن يقول: صَحَّ لنا، ولا يُبَين طريقَ الصحةِ.

المرتبة الثالثَةُ: أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هكذا على الجزم منْ دونِ تصريحٍ بِالصِّحةِ.

المرتبةُ الرابِعَةُ: أنْ يقول: مذهبي كذا وكذا، وحُجَّتي على ذلك قولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أو ما بَلَغَنِي في ذلك عَنِ النبِي صلى الله عليه وسلم، ثمَّ يَذْكُرُ الحديثَ مُصَرحاً أنَّه حُجَّتُهُ ومُعْتمدُه.

فَهذِهِ مراتبُ أربع، وفيها خلاف كُلُّها، لكنِ المرتبةُ الأولى لم يُخَالِفْ فيها إلَّا البَغْدَادِيَّةُ، وكلامُهم مهجورٌ مدفوعٌ بالإجماعِ قبلَ خلافِهم، ولكن لا يَتَّجِة الإنكارُ على من خالفَ الحديث الصَّحيحَ؛ لجوازِ أن يكونَ خالَفَهُ لِما هُوَ أَرْجحُ منهُ.

وأمَا المراتِبُ الثلاث المتأخِّرةُ، فلا سبيل إلى الإنكار على مَنْ لم يَقْبلْها، والخلافُ فيها شائِعٌ بين العُلَمَاءِ، فأمَّا إذا نَزَلَت الرواية عن هذِهِ المراتب الأربع، مثل أن (1) يَحْكِي العالِم مَذْهَبَهُ وحجتَهُ عليه، ثم يقولُ بعد ذلك: وبلغنا عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فلا أعلمُ أن أحداً يقول: إنَّ هذا طريقٌ للمجتهد إلى معرفَةِ صِحةِ الحَديثِ.

قال الإِمامُ يحيى بنُ حَمْزَة في " المعيار" في طرق (2) صِحةِ

(1) ساقطة من (ب).

(2)

في (ب): طريق.

ص: 45

الحديثِ: وأمَّا رابعاً، فالعَمَلُ علَى خَبَرِه، فإنَّه يكون تعديلاً إذا كان لا مُحْتَمَلَ لهُ إلا العَمَل عليه، فإنِ احتملَ غيره لم يكن تعديلاً. انتهى كلامُه عليه السلام.

وهو مثل الذي ذكرتُه، فلِله الحَمْد، ولهذا لم يَقُلْ (1) أَحَد مِنْ أهل النقل: إن كُتُبَ المسانِيدِ صحيحة عِنْد مصنِّفيها، مثل مَسانيد الشافِعِيِّ، وأبي حنيفةَ، وأحْمَدَ بنِ حَنْبَل وغيرهم، لمَّا كانت عبارتُهم (2) لا تقتضي دعْوى الصِّحة عِنْدَهم، ولكن أَخْبَرُوا بما سَمعُوا، وَبَلَغَهُم عَنْ ثِقَةٍ وغيره، ولهذا أَعْرَضَ أربابُ الصِّحاح، ونُقَّادُ الحَدِيثِ عَنْ بلاغات " الموطَّأ "، ولم يقولوا بصحَّتِها على جلالَةِ مَالكٍ عندهم، وإجماعهم على أمانَتِهِ وتقدُّمِه في الحِفْظِ والاحتياط في الحديثِ والرِّجالِ، فإنهُمْ لا يختلفون أنه رأسُ أئمةِ الحديثِ، وأوثقُ نَقَلَةِ (3) الأخْبَارِ وحملَةِ الآثارِ، وَهُو الَّذي أَقَلَّ مِن الرواية، وأَطَابَ، وَبَلَغَ الغايَةَ القُصوى في تَحَري الصدْقِ والصوابِ، فلَمْ يقْبَلُوا بَلَاغَاتِه، ولا التفتوا إلى ما مَرَّضَهُ مِنْ رواياتِهِ.

خاتِمَةُ أقصى ما في البابِ أنْ يثبُتَ عِنْدَك (4) أنَّ بلاغاتِ بَعْضِ الأئِمَّة حجةٌ مِنْ غَيْرِ أنْ ينُصَ ذلِكَ الإمامُ على ذلك، ولا يَدُلَّ عَلَيْهِ بظاهرٍ، ولا مفهومٍ، ولا يُبَيّنُ أنَّه حُجَّتُه، لكن هذا يكون مذهباً لَكَ، لا لذلكَ الإمامِ، ولا لِغيْرِهِ، ولو أَنَّ بعضَ المتأخِّرين خالفَ بعضَ الأئِمَّةِ في صحَّةِ حديث، لم يستحقَّ الإنكار، فكيف إذا (5) خَالَفَ بعضَ أَهْلَ عَصْرِه؟

(1) في (ش): ينقل.

(2)

في (ش): عباراتهم.

(3)

في (ب): أئمة.

(4)

جملة " أن يثبت عندك " ساقطة من (ش).

(5)

في (أ) و (ج): إلا إذا.

ص: 46

وقُصارى الأمْر أن يثبُتَ عَنْ بَعْضِ الأئمَّةِ أنَّ هذهِ طَريق إلى صحة الحديث، فهذا مما لا يقطَعُ الخلاف، كما نَصوا أنَّ الإرسال طريق إلى ذلِكَ، ولم يمنَعْ ذلكَ مِنْ تحريم رَد المراسيل على المُجْتَهدين، فَهذا هُوَ الكلامُ على الحديث الأوَّلِ، وقد تَبَيَّن بِهِ أن الهادي عليه السلام لم يدَّعِ صحَّتَه ألبتَّةَ.

وأمَّا الحديث الثاني، فإنه عليه السلام رواه عن أبيه، عن جَده، عن أبي بكر بنِ أبي أُوَيسٍ، عنِ الحُسين بنِ عبد الله بن ضُمَيرة، عن أبيه، عن جَدِّه، عن عليٍّ عليه السلام، وفيه وجهان:

الوجهُ الأوَّلُ: أنَّا لا نعْرِفُ عَدالَةَ الحسينِ بنِ عَبْدِ اللهِ بنِ ضُميْرةَ، ولا عدالَةَ أبيه، ولا جَدِّه.

فإنْ قُلْتَ: روايةُ الهادي عليه السلام تقتضي عدالتَهُم.

قلتُ: روايةُ العالِمِ لا تدُلُّ على توْثيقِ مَنْ زوَى عَنْهُ على الأصَح المشْهورِ، خلافاً لبعض أصحاب الشافعي، ذكره ابنُ الصَّلاح في كتابه " العلوم "(1)، والإمامُ يحيى بنُ حمزةَ في كتابه " المعيار "، فقد روى الثَّقاتُ العُدولُ مِنَ الصَّحابَةِ والتَّابعينَ عَنْ معاوية، والمغيرةَ، وعمرو بن العاص، وروى عليٌّ بنَ الحسينِ عليه السلام عَنْ مَرْوَان بنِ الحَكَمِ، ولم يكن ذلك مِنْهم تعديلاً لِهؤلاءِ، وسيأتي بيانُ من رُوِيَ عنهم في المسألة الثانية إن شاء الله تعالى.

(1) ص 120، ونص كلامه: إذا روى العدل عن رجل وسماه، لم يجعل روايته عنه تعديلاً منه له عند أكثر العلماء من أهل الحديث وغيرهم.

وقال بعض أهل الحديث وبعض أصحاب الشافعي: يجعل ذلك تعديلاً منه له، لأن ذلك يتضمن التعديل .. والصحيح هو الأول، لأنَّه يجوز أن يروي عن غير عدل، فلم يتضمن روايته عنه تعديله، وانظر "تنقيح الأنظار" للمؤلف مع " توضيحه " للصنعاني 1/ 319 - 323.

ص: 47

الوجه الثاني: أنَّ أهْلَ الحديثِ الذين (1) نَصَّ أئمةُ العِترةِ على قبُولهم قدَحُوا في الحُسينِ بنِ عبدِ الله بن ضمَيْرَةَ هذا، وضعَّفُوه في كُتُبِ الجَرْحِ والتعديل، ولم يذكروا له تعديلاً قطُّ، وهذِه ألفاظهم في ذلك:

قالوا: هو أبو ضَمْرَة الحسينُ بنُ [عبد الله] أبي ضميرة (2) الحِمْيَري المدَني، كذَّبه مالك، وقال أبو حاتِم: متروكُ الحديثِ، كَذَّاب، وقال أحمد: لا يساوي شيئاً، وقال ابن معين: ليس بثقة، ولا مأمون، وقال البخاري: منْكَرُ الحَدِيثِ، ضعيف، وقال أبو زُرعة: ليس بشيء، اضْرِبْ على حدِيثه (3).

فهذا الرجُل مجروحٌ بِمَرَّةِ، مَقْدُوحٌ فيه كما ترى، وجرحُ مالكٍ لَهُ قويٌ لاختصاصه به، فإنَّ بَلَدَهُما واحدةٌ، وزمنَهُما واحد، فهما مَدَنِيَّانِ معاً، وابن أبي ضُميرة شيخُ أبي بكر بنِ أبي أُويس، وأبو بكر هذا: هو ابنُ أختِ مالكٍ. فهذا يدُلُّ على أنَّهم مختلطون، وأهلُ بلدٍ واحدٍ، وزمانٍ واحد. والقاسِمُ عليه السلام لم يدْرِكِ ابْنَ أبي ضميرة، ولا صَحِبَه، ولا جاوَرَهُ، وإنَّما رَوَى عَمَّن روى عنه، فلا يكون في هذا تعديل لَهُ، ولو فرضنا أنَّه تعديلٌ عِنْدَ بعضِ الشَّافِعيَةِ، لم يلزَمْنا مذهبُ بعضِ (4) الشافِعِيةِ.

(1) في (ش): الذي.

(2)

" الحسين بن أبي ضميرة " ساقط من (ش).

(3)

نقل المؤلف هذه الترجمة من " ميزان الاعتدال " 1/ 538. وانظر ترجمته في " تاريخ البخاري " 2/ 388 - 389، و" الضعفاء الصغير " ص 33، و" الجرح والتعديل " 3/ 57 - 58، و" المجروحين والضعفاء " 1/ 244 لابن حبان، و" الضعفاء " 1/ 246 - 247 للعقيلي، و" لسان الميزان " 2/ 289 - 290.

(4)

ساقطة من (ب).

ص: 48

وعلى تقدير صحة مذهبِهِم، فالجَرْحُ المعَيَنُ (1) مُقَدَّم على التَعْدِيل، والمعدِّل محمولٌ على عَدَمِ الاطِّلاع على ذلك، وعلى العَمَلِ بالظَّاهِرِ، كما هُوَ مَذْهَبُ أَهْل البَيْتِ وغيرهم، بَل الظَاهرُ أنَّ الجَرْح المطلق مُقَدَّمٌ عندهم عليهم السلام، أو عند كثيرٍ منهُم، فكيف الجَرْحُ المُعَيَّنُ؟ وأمَّا أبو بكر بن أبي أويس (2) الذي يروي عنه القاسِمُ عليه السلام (3)، وهو الراوي عن ابن أبي ضميرة، فهو ثِقَة حُجَّة (4) عِنْدَ الجماهيرِ، ولا أَعْلَمُ فيه مقالاً إلَاّ ما قالَهُ الأزدي، فإنَّه قال: كان يَضَعُ الحديث، قال الذَّهبي (5) في قول الأزدي هذا: وهذِهِ زَلَّةٌ قبِيحَةٌ. انتهى.

فمن كان يُقَدِّم الجرح مُطلقاً، لَزِمَه جرْحُه، وهذا مقتضى اختيارِ السَّيدِ في رسالته، فيزدادُ الحديث ضعْفَاً على ضَعْفِهِ، لكن السيدَ قَدِ التزَمَ ما يوجبُ عليه التَّشكيك في ثُبوتِ هذا الجَرْحِ والتَّعديلِ، بل ما يُوجب عليه التَّشكيك في كونِ الهادي عليه السلام روى هذا الحديث في الأحكام، بل ما يوجب عليه التشكيكَ في كونِ ابن أبي أويس، وابنِ أبي

(1) أي: المفسر كما في ترجمة ابن أبي ضميرة. وانظر التفصيل في هذه المسألة في " تنقيح الأنظار " للمؤلف، وشرحه للصنعاني 2/ 158 - 167.

(2)

تقدمت ترجمته في 2/ 339.

(3)

من قوله: " أو عند " إلى هنا ساقط من (ب).

(4)

ساقطة من (ب).

(5)

في " ميزان الاعتدال " 2/ 538. والأزدي: هو الحافظ أبو الفتح محمد بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن بريدة الأزدي الموصلي، نزيل بغداد، المتوفى سنة 374 هـ. قال الخطيب: في حديثه غرائب ومناكير، وكان حافظاً، صنف كتباً في علوم الحديث، وسألت البرقاني عنه، فضعفه، حدثني النجيب عبد الغفار الأرموي قال: رأيت أهل الموصل يوهنونه، ولا يعدونه شيئاً.

قلت: وله مصنف كبير في الضعفاء. قال الإمام الذهبي: وعليه فيه مؤاخذات، فإنه ضعف جماعة بلا دليل، بل قد يكون غيره قد وثقهم. مترجم في " سير أعلام النبلاء " 16/ 347 - 350.

ص: 49