الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيستحيل ممن علم تسعاً، وقلَّد في العاشرة أن يكون عالماً، ويستحيل ممَّن علم العشر المقدمات أن يزيد فيها، وهذا الذي ذكره ضروري، وهو يمحو تخيُّلهم في الجواب بالمرة (1).
قال الشيخ:
فإن قيل: بم يميز المقلد بين نفسه، وبين اليهودي المقلِّد
؟
فالجواب: أن المقلد لا يعرف التقليد، ولا يعرف أنه مقلد من (2) يعتقد في نفسه أنه محق عارف، ولا شك في معتقده (3)، ولا يحتاج في نفسه إلى التمييز، لقطعه (4) بأن (5) خصمه مُبطِلٌ وهو محق، ولعله - أيضاً- مستظهر بقرائن وأدلة ظاهرةٍ يرى نفسه مخصوصاً بها، ومميزاً بسببها عن خصمه، وإن كان اليهودي يرى نفسه مثل ذلك، فإنَّ ذلك لا يشوش على المحق اعتقاده، كما أن العارف الناظر يزعم أنه يميز نفسه عن (6) اليهودي بالدليل، واليهودي (7) المتكلم الناظر يزعم أنه مميز عنه بالدليل، فدعواه تلك لا تُشككُ الناظر العارف، فكذلك لا يُشكك المقلد القاطع، ويكفيه في الإيمان أن لا تشككه في اعتقاده معارضة المبطل كلامه بكلامه، فهل رأيت عامياً قط قد اغتمَّ وحزن من حيث تعسَّر عليه الفرقُ بين تقليده وتقليد اليهودي؟ بل لا يخطر ذلك ببال العوام، وإن خطر ببالهم وشوفهُوا به، ضحكوا من قائله، وقالوا: ما هذا إلا هذيان،
(1)" بالمرة " ساقطة من (ش).
(2)
في (ش): بل من.
(3)
قوله: " ولا شك في معتقده " ساقط من (أ).
(4)
في (ش): بقطعه.
(5)
في (ج): لأن.
(6)
في (ش): مميز عنه.
(7)
في (ش): فاليهودي.
وكأن بين الحق والباطل مساواةٌ حتى تحتاج إلى الفارق، الفرق أنه على الباطل وأنا على الحق، وأنا متيقن لذلك، غير شاك فيه، فكيف أطلب الفرق حيت يكون الفرق معلوماً قطعاً من غير طلب؟ فهذه حالة المقلِّدين الموقنين، وهذا إشكالٌ لا يقع لليهودي المبطل، لقطعه بمذهبه مع نفسه، فكيف يقع للمقلد المسلم الذي وافق اعتقاده ما هو عند الله تعالى؟ فظهر بهذا على القطع أنَّ اعتقاداتهم جازمة، وأن الشرع لم يكلفهم إلا ذلك. انتهى كلامه رحمه الله.
وأقول: إن الله تعالى قد فطر الخلق على معرفته، كما قال تعالى:{فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30]، وأوضح ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وزاده بياناً بقوله:" كل مولود يولد على الفطرة "(1)، واتفق الكل على صحته، وهذه الفطرة تقتضي الإيمان بنفسها، وترجحه على ما ينافيه، سواءٌ كانت علماً ضرورياً، كما قاله أهل المعارف من المعتزلة، أو نظرياً (2) جلياً كما يقوله الجمهور، أو يقيناً ظنياً يقتضي من سكون النفس ما يقتضيه النظر، فمن قبلها، ولم يعارضها بما هو دونها من شُبَهِ (3) المبطلين، أثابه الله الزيادة في إيمانه، ومن عصى بعنادٍ، أو تقليدٍ لأبويه أو شيوخه، استحق العقوبة، كما قال تعالى:{كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّة} [الأنعام: 110]، وكما قال تعالى:{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب} [البقرة: 211]، وقد أوجبت المعتزلة الخاطر على الله تعالى، وهو زيادة على الفطرة، فكيف لا يفترق
(1) تقدم تخريجه في ص 48.
(2)
في (ش): نظراً.
(3)
تحرفت في (ب) و (ش) إلى " سنة ".
الحال بين الفطرة وضدها مع وجوب الخاطر عند اعتقاد الباطل دون الحق.
جواب آخر: وهو أن الخلاف قد ثبت في العلوم الضرورية، وللمخالفين (1) في ذلك سُنة معروفة، يصعب جوابها على العامة ضرورة، وأما (2) الخاصة، فإنما يسلكون في ردها مسلك السنة وأهلها في الرد على المبطلين، وذلك لأن ردها بالاستدلال محال، فإنها تشكك (3) في مقدماته الضرورية التي نشأ عليها، فثبت أن أهل الكلام رجعوا إلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال:" لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله "(4) الحديث.
فإن قيل: قد شكيت الوسوسة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تنافي الجزم، فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن النظر في الأدلة لا يقطع الوسوسة، وقد قال الخليل عليه السلام:{ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260}، وهذا مشترك الإلزام، فما أجابوا به فهو جوابنا.
(1) في (ش): فللمخالفين.
(2)
في (ش): فأما.
(3)
في (ش): تشكيك.
(4)
أخرجه من حديث أنس بن مالك: البخاري (7296)، ومسلم (136). ولفظه:" قال الله عز وجل: إن أمتك لا يزالون يقولون: ما كذا؟ ما كذا؟ حتى يقولوا: هذا الله خلق الخلق، فمن خلق الله؟ ".
وأخرجه من حديث أبي هريرة: البخاري (3276)، ومسلم (135)، وأبو داوود (4721). ولفظه:" لا يزال الناس يسألونكم عن العلم حتى يقولوا: هذا الله خلقنا، فمن خلق الله ".
والثاني: أنها لا تناقض (1) الجزم؛ لأن متعلقها مختلفٌ غيرُ متَّحدٍ، والجزم من فعل الله تعالى إن كان ضرورياً، ومن فعل العبد أو آثار فعله إن لم يكن ضرورياً، والوسوسة ليست من فعل العبد قطعاً؛ لأنَّها ضرورية، غير واقفةٍ على اختياره، وهي من فعل الشيطان، لما (2) ورد من النصوص الصحاح في الأمر بالتَّعوُّذ (3) منه عند ذلك، ولما يشهد بذلك من القرآن الكريم من نسبة جميع ما يعارض الحق والنبوات إلى الشيطان، وهذا (4) في حق من لا ذنب له، والسمعُ دلَّ (5) على أن من هذا حالُه، فإنَّ الله يهديه، ويشرح صدره للإسلام، ويمنع (6) رجحان ظن الباطل. والعقلُ عند المعتزلة يوجبُ ذلك مع السمع في حقِّ المطيع والعاصي، فلا يخاف من هذا على قواعدهم مطلقاً.
وأما من يستحق العقوبة بسلب اللُّطف عند أهل السنة، فقد يُعَاقَبُ من جهة الله تعالى بذلك (7)، وبأكثر منه (8)، كما لم يُؤمنوا به أوَّل مرَّة كما قال تعالى، وكما خالفوا الفطرة التي فطرهم عليها وغيَّرُوها، وكما حكى سبحانه من التيسير للعسرى، وكما سيأتي (9) مشروحاً واضحاً في مسألة الأفعال، ومسألتي الأقدار والمشيئة، وبيان ذلك وقوع الوسوسة في الضروريات مع الموسوسين.
(1) في (ج): أنه لا يناقض.
(2)
في (ش): كما.
(3)
في (ش): من التعوذ، وهو تحريف.
(4)
في (ش): وهي.
(5)
في (ش): دال.
(6)
في (ش): ويمتنع.
(7)
في (ش): عند ذلك.
(8)
ساقطة من (ش).
(9)
في (ج): يأتي.
وأما الطمأنينة التي تنتفي معها الوسوسة، فإنها موهبة من الله تعالى بالاتفاق، لأنها ضرورية غير واقفة على اختيار العبد، وقد يكون سببها مشاهدة الخوارق كما في قصة الخليل عليه الكلام، وقد يكون سببها كثرة اليقين والتصديق بوقوع الخوارق حتى يكون (1) السامع للأخبار كالمعاين.
وأساس هذا كثرة المعرفة لكتب معجزات الأنبياء عليهم السلام وأحوالهم، ومن أنفس ما صُنِّفَ في ذلك: كتاب " الشفاء "(2) للقاضي عياض، وأنفس منه أوائل " البداية والنهاية "(3) لابن كثير.
وقد يكون سببها كثرة الصلاح.
وأبعد أسبابها النظر على طريقة المتكلمين، بل هو منافر لها، لأنه عند أهله مبني على الشك، إذ لا يصح النظر عندهم في المقطوع بصحته.
والجواب عليهم (4): أن معرفة الله جلية في الفطرة، سابقةٌ للشك كما قال تعالى:{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض} [إبراهيم: 10]، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:" كل مولود يولد على الفطرة " الحديث، والشك لا يحل إلا أن يقع بغير اختيار، فيعفى عنه لقول الخليل:{ولكن ليطمئن قلبي} ، وللنصوص الصحاح.
(1) ساقطة من (ب).
(2)
انظر الجزء الأول منه ص 246 - 368.
(3)
في (أ): الهداية، وهو تحريف. وانظر المعجزات فيه من الصفحة 67 إلى الصفحة 304 من الجزء السادس منه.
(4)
ساقطة من (ش).
وهنا (1) جواب آخر على أصل السؤال وهو قولهم: بم يُميِّزُ المقلِّد المسلم نفسه عن اليهودي المقلِّد، وذلك أن نقول (2): هذا السُّؤال مبنيٌّ على التسوية بين الظنون والقرائن، وذلك غير مسلم، والتفرقة بين ذلك جلية فطرية، لأن الله تعالى خلق الخلق على فطرة الإسلام كما قال تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
واتفق الجميع على صحة الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة (3)، وإنَّما أبواه يهودانه وينصِّرانه "، وهذه الفطرة عند أهل المعارف علمٌ ضروريٌّ، وعند غيرهم ما يقاربه ويُسمى باسمه، ولا يكاد يتميز عنه من اليقين (4) المستند إلى مجموع قرائن لا يمكن التعبير عنها، فكيف لا يتميز الفرق بين ذلك وبين ما يُعارضه من وسواس الشياطين، وكيف لا نُدركُ الفرق بين ذلك بضرورة الفطرة المخلوقة بعدل الله تعالى، وفضله، وحكمته، وكمالِ حجته.
والتحقيق على أصل الجميع أن ظن الباطل لا يكون راجحاً في الابتداء، ولا يترجح إلا بالعقوبة المستحقة، وما لا يكون راجحاً، لا يكون في مخالفته مضرَّة (5) مظنونةٌ، ولا يجبٌ الاحتراز منه، وظن الحق
(1) في (ج): وهذا.
(2)
في (ج): يقال.
(3)
في (أ): فطرة الإسلام.
(4)
في (أ) زيادة، وعبارته: " ولا يكاد يتميز عنه من الشياطين وكيف لا ندرك الفرق اليقين
…
".
(5)
في (أ): ضرورة، وهو تحريف.
راجحٌ بالفطرة الأولة (1)، وفي مخالفته مضرة مظنونة، ودفع المضرة المظنونة واجبٌ عقلاً، وقد أخبر الله تعالى أنه كفَّر سيئات الذين آمنوا بما نُزِّل على محمّد صلى الله عليه وسلم، وهو الحق من ربهم تعالى، وأصلح بالهم (2)، وعلل ذلك بأنهم اتبعوا الحق من ربهم، بخلاف الذين كفروا واتبعوا الباطل (3)، والذين (4) اهتدوا زادهم هُدى وآتاهم تقواهم (5).
والعاميُّ يدرك ذلك، فإن العامي إذا أخبره كثير ممَّن يثق به غاية الثقة بأمرٍ موافقٍ للفطرة والشُّهرة، ثم عارضه من يستند إلى معرفة العامي أنه كذابٌ، أو يكون عند العامي مجهول الحال، فإن العامي يدرك التفرقة بين ظنَّه المستند إلى خبر الثقة المخبور المأمون، الموافق للفطرة والشهرة، وبين ظنِّ مخالفة المستند إلى قول الكذَّاب، أو المجهول، بل لا يُسمِّيه ظناً حتى يحتاج إلى فارقٍ، بل يقطع أنَّه باطل، وهذا مثالٌ نقيس عليه سائر القرائن (6)، فإنَّ التفرقة بين الظُّنون والقرائن ضروريةٌ غير مفتقرةٍ إلى الطلب، وقد دلَّ على ذلك السمع، حيث قال الله تعالى:{إن بعض الظن إثمٌ} [الحجرات: 12] فلو لم يكن بين الظن الصحيح والظن الباطل فرق، لكان الظن كله حراماً أو حلالاً، وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن الظن المحرم هو الذي لا (7) يستند إلى قرينةٍ صحيحةٍ،
(1) في (ج): الأولية.
(2)
في (ش): وأكد بأعمالهم، وهو تحريف.
(3)
في (ب): الشياطين.
(4)
في (ج): وقال: والذين
…
(5)
انظر الآيات (2 و3 و17) من سورة محمد.
(6)
في (أ): القرآن، وهو تحريف.
(7)
في (أ) و (ب): لم.
والظنُّ الجائز مخالفة منهم (1)، فقد تطابق العقل، والسمع (2)، والخاصة، والعامة على التفرقة بين الظنون والقرائن، وكيف لا يكون ذلك، وجميع أفعال العقلاء مبنيَّةٌ على الظنون والترجيح بين المتعارض (3) منها، فعمَّال الآخرة يعملون على ظن الإصابة، والقبول، وحسن الخاتمة، وعمال الدنيا كذلك، فالزراع يزرع على ظن التمام، والتاجر يسافر على ظن الفائدة، والملوك يحاربون على ظن النصر، والفقهاء يفتون على ظنِّ الإصابة، والمراض (4) يتداوون على ظنِّ النفع، والمؤرخون يؤرخون على ظن التصديق، وأهل العلم يحكون ما قالوهُ على ظن الصدق، والخلق يسأل بعضهم بعضاً، ويكتب بعضهم إلى بعضٍ، كل ذلك على أن الظنون معمول بها، ومتميز راجحها من مرجوحها، وقويُّها (5) من ضعيفها، وغالبُها من مغلوبها (6)، وربما احتفّ (7) بالخبر من القرائن ما يرفعه إلى مرتبة الضرورة، ولا سيما في معرفة الله تعالى، وصدق رسله (8) التي هي الفطرة بالنص الصحيح (9)، ولا سيما وطائفة جلَّةٌ من حُذَّاق المتكلِّمين يقولون: إن معرفة الله تعالى ضرورية، والطائفة الأخرى يقولون: إنها قرينة جلية، فلا شكَّ في قوة القرائن الموافقة لذلك الَّتي مادُّتها من كلمات الله التي لا ينفدها البحر يمُدُّه من بعده سبعة أبحر، والتي (10) مثَّلها الله تعالى في كثرة موادِّها، لا في
(1) في (ب): " والظن الجازم مخالف لهم ". وبعد هذا بياض في جميع النسخ.
(2)
في (ب): السمع والعقل، وفي (ش): أهل العقل والسمع.
(3)
في (ش): المتعارضين.
(4)
في الأصول " أمراض ".
(5)
في (أ) و (ب) و (ج): وقوتها، وهو خطأ.
(6)
تحرفت في (ش) إلى " مغلولها ".
(7)
في (أ): أحيف، وهو تصحيف.
(8)
في (ب) و (ش): رسوله.
(9)
في (ب) و (ش): الصريح.
(10)
في (ش): التي.
مقدارها {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 35]، ومثَّلها سبحانه بكلمةٍ طيبةٍ أصلُها ثابت وفرعها في السماء تُؤتي أُكُلها كُلَّ حين، فيا عجباً، كيف يدق الفرق بين الظن الموافق، وظن كلمة الباطل المشبهة بشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار؟ وبظلماتٍ في بحرٍ لُجِّيٍّ، يغشاه موجٌ، من فوقه موج، من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نُورٍ.
بل المعلوم للعقلاء أنَّه لا يحصلُ ظنٌّ راجح بما خالف الفطرة والبراهين الجلية، اللهم إلا أن يعاندوا في أول الأمر، ويعارضوا الظن الراجح بالشك المساوي، بل الوهم المرجوح، فيخذلهم الله كما لم يؤمنوا به أول مرة، ويعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه، ويكونوا من الذين في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضاً. الآيات في أول البقرة، ومن الأخسرين أعمالاً الذين ضلَّ سعيُهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. فهؤلاء لا يعدلون عن آيات الله تعالى بعد أن جاءتهم مبصرة، واستيقنتها أنفسهم إلى الشُّبه الخيالية، والمتشابهات الوهمية التي يتبعها الذين في قلوبهم زيغٌ ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وقد أخبر الله تعالى في مُحكَم كتابه: إنما أنزل المتشابه ليهدي به كثيراً، ويضل به كثيرا، وما يُضِلُّ به إلَاّ الفاسقين.
فكيف لا يعرف العاميُّ الفرق بين الفطرة والبدعة، والفرقُ بينهما ضروري من جملة الفطرة، فإنَّ الدين الحق إذا كان هو الفطرة، فمعرفته،
والطمأنينةُ به، وشرح الصدر، ونكارة ضده من الفطره أيضاً.
فإذا تقرَّر أنَّ معرفة العامي للفرق بين القرائن أمر جلي فطري، كان فرقه بين القرائن المولِّدة لظنِّه من قبيل العلوم الضرورية، فإنه -وإن لم يعلم أن ظنه مطابق لمظنونه- فإنه يجزم باعتقاد ذلك، ويعلم أن القرينة الدالة على حسن العمل بظنه قرينة صحيحة مقتضية لحسن العمل به بالفطرة الضرورية، كما أن الناظر يعتقد أن استدلاله -وإن كان يصحبه الوسوسة، وتجويز ورود الشُّبهة عليه- فإنه قد بناه على قواعد علمية، ومقدماتٍ يقينيةٍ، بل ضرورية عند المحققين.
ومثال ما ذكرناه في حق المقلد: ما يذكره المتكلِّمون، وأهل الأصول في تجويز التقليد في الفروع للمسلم العامي متى قلَّد مسلماً عالماً بالفقه، وتحريم مثل ذلك على اليهودي العامِّي متى قلَّد يهودياً عالماً بشريعة موسى عليه السلام، وكما أن العامي المقلد للعالم المسلم يجوز له ذلك، ونجد فرقاً بين ذلك، وبين تقليد العامي اليهودي للعالم اليهودي، فكذلك العامي المسلم المقلد في الأصول للأنبياء والصالحين وعلماء المسلمين الذين يعرفهم، وتتحقَّق أمانتهم، ونجد خبرهم موافقاً (1) للفطرة الضرورية التي فطره وربُّه سبحانه عليها، نجد فرقاً بما (2) عرفه من ذلك وبين اليهودي المقلد في أصول دينه للخرَّاصين والمجاهيل من كذبة اليهود وكفرتهم الذين عُلِمَ كذِبُهم أو جُهِلَ حالهم، وإن كان العامي اليهودي يعتقد في نفسه مثل ذلك، فالعامي المسلم يعلم فساد اعتقاده، كما يعلمه الناظر المسلم، وذلك بما قدَّمنا من أن علمه بصحة قرائنه وقوتها ورجحانها
(1) في (ش): موافق، وهو خطأ.
(2)
في (ش): ما، وهو خطأ.
فطريٌّ ضروريٌّ، وإن كان المتولِّد عنه ظناً، إذ لا رابطة عقلية بين القرائن المعلومة ضرورة، وبين مدلولاتها المظنونة، بل المسلم العامي المقلد في الأصول للأنبياء كالعامي المسلم المقلِّد في الفروع للعلماء في التمكن (1) من معرفة الظن الراجح والمرجوح، والتَّفرقة بينهما، وفي أنه لا بد من تسلسل هذه الظنون إلى علومٍ فطرية جلية، وهي (2) إما العلم بحسن العمل بالظن الصحيح الذي لم يعارض المعلومات أو العلم بصحة القرينة، ولذلك سُمِّي الفقهاء علماء، فإنَّ طرق الفقه وإن كانت ظنيَّة - لكن وجوب العمل بها مستند إلى العلم القاطع، فالظن حصل في طريقها (3)، لا في وجوب العمل بها.
جواب آخر: بل القرائن المقتضية لظن الأمر تقتضي بالضرورة ظن بطلان معارضه، ويستحيل الجمع بين ظن صحة أمر، واعتقاد صحة ظن (4) ما يضاده، فكيف يقال فيما يستحيل اجتماعهما: ما الفرق بينهما؟ بل نقلب السؤال على من سأل عن الفرق، فيقال: من أين جاء الاشتباه؟ فإن قال: من حيث إنَّ كلَّ واحد من المُحِقِّ والمبطل يعتقد ذلك في نفسه ومخالفه.
قلنا: وكذلك (5) أهل النظر من المحقِّين والمبطلين يشتبهون من هذه الحيثية، فكما أن النظر الصحيح يميز الفاسد في العلماء، فكذلك
(1) من قوله: " بل المسلم " إلى هنا ساقط من (ب).
(2)
ساقطة من (ب).
(3)
في (ش): طرقها.
(4)
" ظن " ساقطة من (ب).
(5)
في (ج): فكذلك.
الظن (1) الصحيح يميز الفاسد في العامة.
وجواب آخر: وذلك (2) أنه لو لم تكن الظنون وقرائنها ومراتبها متميزة بعضها عن بعض، لم يمكن (3) المجتهدون (4) من علماء الفروع أن يرجِّحوا قولاً على قول، ولاتسعت المناظرة بينهم، بل قد صح تمييز المقلدين لهم لمراتبهم، حتى أوجب بعض أهل (5) النظر على العامي تقليد الأعلم الأورع -في ظنَّه- على الإجمال، أو الأقوى (6) دليلاً في المسألة على التفصيل، وممَّن (7) اختار ذلك المؤيد بالله، نصَّ عليه (8) في " الزيادات "، ولا يعارض هذا بالقول بتصويب كلٍّ من المجتهدين، فإنه إنَّما قيل به بالنَّظر إلى مطلوب الرَّبِّ سبحانه منهم، لأنه سبحانه إنما طلب منهم أن يجتهدوا في طلب الصواب، لا في إصابته، كما طلب من رماة المجاهدين أن يجتهدوا في إصابة الكفار، ولم يطلب منهم أن يُصيبوا في رميهم، وذلك من عدل الله سبحانه ورحمته، حيث علم أنه لا طريق لهم، ولا طاقة سوى الطلب، فقد أصابوا مُراد الله تعالى، وهو الاجتهاد في طلب الإصابة، ولم يصيبوا مطلوبهم الذي هو الإصابة، فالذي تحرَّى القِبْلَةَ كالذي يرمي الكُفَّار في الجهاد، يصيب ويخطىء، وهو في إصابته وخطئه مصيبٌ لمراد الله في طلب الصواب، فبان أنَّ ها هنا مطلوبين اثنين:
(1) في (ش): النظر.
(2)
في (ج): وهو.
(3)
في (ب) و (ش): يكن.
(4)
في (ب): للمجتهدين.
(5)
ساقطة من (ش).
(6)
في (ب): والأقوى.
(7)
في (ش): ومما، وهو خطأ.
(8)
" نص عليه " ساقطة من (ج).
أحدهما: لله تعالى، وهو طلب الإصابة للحق لا سوى.
وثانيهما: مطلوب المجتهد، وهو إصابةُ عين ذلك الحق المشروع المطلوب، كالكعبة به في تحري القبلة، والخطأ الذي يطلق على المجتهد، بل على المعصوم هو الخطأ الذي نقيضه (1) الإصابة كخطأ الرامي للكافر مع أيه مصيب لمراد الله تعالى في رميه متعين الخطأ الذي نقيضه الصواب كفعل المحرمات.
فأما القول بأنه لا مطلوب متعين، فمحال، لأن الطلب يفتقر إلى مطلوبٍ سابقٍ للطلب يتعلق به الظن، كالكعبة في تحرِّي القبلة، وهذا التلخيصُ مما ألهم الله سبحانه إليه، ولم أقف عليه لأحدٍ من العلماء، ولا عرضتُه على من عرف معارضاتهم (2) في هذه المسألة إلَاّ استجاده لتقريره لأدلَّة الفريقين، ورفعه لِمَا أورد بعضهم على بعض من الإشكالات الصعبة، ولله الحمد والمنة.
ثم إني وقفت عليه بعد مده طويلة اختياراً للعلَاّمة محمد بن جرير الطبري، رواه عنه ابن بطال (3) في أواخر شرح " صحيح البخاري " أظنه في الكلام على مُحاجَّة آدم وموسى في أبواب القدر، فعرفت ما كنت
(1) في (ج) و (ش): " تقتضيه "، وهو خطأ.
(2)
في (ش): معارضتهم.
(3)
هو العلامة أبو الحسن عليُّ بن خلف بن بطال البكري القرطبي، ثم البلنسي، ويعرف بابن اللجام نسبة إلى عمل اللجم.
قال ابن بشكوال: كان من أهل العلم والمعرفة والفهم، مليحَ الخط، حسن الضبط، عُني بالحديث العناية التامة، وأتقن ما قيد منه، وشرح " صحيح البخاري " في عدة أسفار، رواه الناس عنه، واستُقضي بحصن لورقة، وحدَّث عنه جماعة من العلماء، توفي في صفر سنة تسع وأربعين وأربع مئة. مترجم في " السير " 18/ 47. =
أظنه من أنَّ مثل ذلك في وضوحه لا يخلو من قائل يقول به.
وأما القول بأنَّ بعض الخطأ في الظنون يُعفي عنه، كالخطأ في فروع الإسلام، وبعضها لا يعفى عنه، كالخطأ في مخالفة الإسلام، فلذلك متعلق آخر، ودليل يرجع إلى السمع، وله من النظر وجهٌ واضحٌ، وهو أن العمل بالظن حَسَنٌ عقلاً، ما لم يعارض العلم بل لم يعارض ما رجحانه عليه كلمةُ إجماع، أو بيِّن (1) مكشوف القناع، وكلُّ ذلك مما ليس فيه نزاعٌ، ولا يجهلُه أحدٌ من الرعاع (2)، فَمَنْ عَلم الله أنه عاند الحق المعلوم أو المظنون، فهو الذي يستحقُّ العقوبة، وإن ظن بعد عناده أنه مُحِقٌّ، ثم الذين عاندوا منهم من أعلمنا الله تعالى بأنه علم عناده كالكفرة، فيقطع بذلك، ومنهم من لم يُعلمنا سبحانه بذلك في حقِّهم (3)، مثل المبتدعة من المسلمين، وكل أمرهم إلى الله تعالى، وستأتي الإشارة إلى أنه لا سبيل إلى تعجيل يوم الفصل قبل يوم القيامة، وأنه لا يُخرجُ اللجاج من أدمغة أهل المِراء إلَاّ الحديد الذي أنزل الله تعالى مع القرآن، بل حكى سبحانه في محكم كتابه عن المعاندين إصرارهم على العناد يوم القيامة بما لا يُمْكِنُ تأويله، وذلك قولهم لجوارحهم حين أنطقها الله تعالى:{لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء} [فصلت: 21]، فبان بما ذكرنا هنا مع ما تقدم عند ذكر الظنون وحسن العمل بها، والجواب عن من يردُّ على ذلك: أنَّ عامة المسلمين على سبيل هذا،
= قلت: وشرحُه للصحيح لما يُطبع، وانظر التعريف بنسخه الخطية الموجودة في المكتبات العامة في " تاريخ التراث العربي " 1/ 229 لسزكين.
(1)
في (ج): " تبيين " وهو خطأ.
(2)
من قوله: " بل لم يعارض " إلى هنا ساقط من (ش).
(3)
في (ش): في جمعهم.
والحمد لله رب العالمين.
وقد اعترض صاحب هذه الرسالة المردودة بهذا الجواب على هذه (1) الطائفة من أهل السنة في تركهم للخوض في الكلام بأمورٍ ذكرها في رسالة أخرى، فمنها دعوى (2) مخالفة إجماع (3) أهل البيت عليهم السلام.
والجواب عليه: أنه (4) إمَّا أنْ يدَّعي إجماع القُدماء من أهل البيت عليهم السلام أو المتأخرين، وكلاهما ممنوع أمَّا القدماءُ (5) فقد وردت عنهم النصوص الكثيرة بمذهب (6) أهل الحديث، وصنف في ذلك محمد ابن منصور الكوفي كتابه المعروف بكتاب " الجملة والألفة " كما تقدم، وسيأتي.
ورواه نصاً (7) من كلام عبد الله بن موسى، والقاسم عليهم السلام، وغيرهما من أئمَّة العترة الطاهرة عليهم السلام، وسائر علماء الإسلام، وسيأتي من ذلك طَرَفٌ صالح في مسألة القرآن، وذلك موجود في كتب أهل البيت عليهم السلام عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في وصيته لولده الحسن عليه السلام، ومن لم يثبت عنه في ذلك (8) قولٌ، فعمله (9) بمقتضى مذهبِ أهل الحديثِ، وكيف يصحُّ له
(1) ساقطة من (ش).
(2)
في (ش): " دعواه "، وهي ساقطة من (ج).
(3)
ساقطة من (ش).
(4)
" أنه " ساقطة من (ج).
(5)
" أما القدماء " ساقطة من (ب).
(6)
في (ب): لمذاهب.
(7)
في (ج) و (ش): أيضاً.
(8)
" في ذلك " ساقطة من (ش).
(9)
في (ب): فعلمه.
القطعُ بذلك، وهذه نصوصُ أمير المؤمنين علي عليه السلام وأفعاله في تقرير العامة تدلُّ على ما ذكرناه كما جاء مسنداً من رواية السيد أبي طالب عليه السلام في " أماليه "، ومرسلاً من رواية صاحب " نهج البلاغة "، وذلك قوله عليه السلام: فعليك أيُّها السائل بما دلَّ عليه القرآن من صفته، وتقدَّمك فيه الرسل (1) بينك وبينَ معرفته إلى قوله في صفة الراسخين: اعلم أيَّها السائِلُ أنَّ الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السُّدد المضروبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا: آمنَّا به كُلٌّ من عند ربنا، فمدح اللهُ اعترافهم بالعجز عن تناولِ ما لم يُحِيطُوا به علماً، وسمَّى تركهمُ التَّعمُّق فيما لم يُكلِّفهُم منهم رسوخاً، فاقتصر على ذلك (2). انتهى كلامه عليه السلام.
وأصرحُ منه قوله في وصيته لولده الحسن عليهما السلام، وهي مستكملة في النُّسخ الصحيحة من " النهج " كما شرحها ابن أبي الحديد بكمالها، لم يُسقِطْ منها شيئاً (3)، وفي بعض نُسخ الشرح سقوط أشياء منها يسيرة، وفي " أمالي " السيد أبي طالب عن السيد أبي العباس عليهما السلام قطعةٌ وافرةٌ منها، وإشارة إلى روايات لم يورداها بذلك الإسناد.
وقد شرح ابن أبي الحديد هذا القدر الذي نقلتُه، ولم يطعن في ثُبوته مع مخالفته لمذهبه، وركُوبه العناد في تأويله، وهو قوله عليه السلام: ورأيت حين (4) عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق، وأجمعت عليه من أدبك أن
(1) ساقطة من (ب).
(2)
" شرح نهج البلاغة " 6/ 403 - 407.
(3)
في (ش): شيء.
(4)
في " شرح النهج " 16/ 67: حيث.
يكون ذلك وأنت مُقْبلُ العمر مُقتَبَل (1) الدَّهر، ذو نيّةٍ سليمةٍ، ونفسٍ صافيةٍ، وأن أبتدئك بتعلم كتاب الله عز وجل، وتأويله، وشرائع الإسلام وأحكامِه، وحلاله وحرامه، لا أُجاوِزُ ذلك بك إلى غيره، ثم أشفقت أن (2) يلتبس عليك ما اختلف النَّاس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم، فكان إحكام (3) ذلك على ما كَرِهتُ من تنبيهك له أحبَّ إليَّ من إسلامك إلى أمرٍ لا آمنُ عليك فيه الهَلَكَةَ، ورجوت أن يوفقك الله فيه لرُشدك، وأن يهديك لقصدك، واعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذٌ به [إلي] من وصيَّتي تقوى الله، والاقتصار على ما فرضه الله عليك، والأخذ بما مضى عليه الأوَّلون من آبائك والصالحون (4) من أهل بيتك، فإنهم لم يُدعُوا أن ينظروا (5) لأنفسهم كما أنت ناظرٌ، وفكروا كما أنت مُفكِّرٌ، ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عمَّا لم يكلفوا، وإن أبت نفسك (6) أن تقبل ذلك دون أن تعلم كما علموا، فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلُّمٍ، لا بتورط الشبهات، وغُلُوِّ الخصومات إلى آخر ما ذكره عليه السلام في هذا المعنى وتأوَّله ابن أبي الحديد بما يستحيى من ذكره من أن ذلك لعلم عليٍّ عليه السلام بقصور الحسن عليه السلام عن درك هذا
(1) في " القاموس " و" شرحه ": واقتَبَلَ أمره: استأنَفَهُ، ومنه رجلٌ مقتبل الشباب -بفتح الباء-: لم يظهر فيه أثر كبرٍ، كأنه يستأنفُ الشباب كلٍّ ساعة، وهو مجاز، قال أبو كبير الهذلي:
ولرُبِّ من طأطأته بحفيرةٍ
…
كالرُّمح مُقتبَل الشبابِ مُحَبر
(2)
في (ش): عليك أن.
(3)
في (ش): " وكانوا حكام "، وهو خطأ.
(4)
في (أ): الصالحين.
(5)
في " شرح النهج " 16/ 70: نظروا.
(6)
في (ش): وإن أبيت.
العلم. فكفى شاهداً ببطلان هذه البدعة ما أدَّت إليه من تفضيل شرِّ القرون على ريحانة سيِّد البشر، وعلى سيدي شباب أهل الجنة شَبِير وشَبَّر (1)، وكونها لا تصِحُّ إلا مع (2) تعسُّف التَّأويلات الباردة (3) لكتاب الله عز وجل، ثم لسنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لِظواهر أحوال السلف، وأفعالهم، وتقريراتهم، ثم لنصوص الأئمة من أهل بيت رسول الله (4). وكيف يظن بأمير المؤمنين أنه يجعل وصيته لولده الذي تخوَّف عليه الشبهات، ونصيحته التي يُخلِّفها له ولمن بعده بعد الممات من أغمض المتشابهات، وأدقِّ الشبهات، هيهات هيهات، لولا دفعُ الضرورات، وابتغاءُ الفتنة بالتَّأويلات كما هو شعارُ (5) الذين في قلوبهم زيغٌ بنصِّ أمِّ الآيات المُحكَمات.
وأمّا المتأخرون منهم، فقد ذكر (6) المنصورُ بالله عليه السلام في " المجموع المنصوري ": أنّه لا يمكن معرفة اجتماعهم كما سيأتي لفظه في ذلك، واحتجاجه، وهذا هو اختيار الإمام يحيى بن حمزة، والرازي والمحققين، وهو الذي تقومُ عليه الأدلة الوجدانية.
وقد ذكر ابنُ حزم في " جمهرة النسب " في أنساب الطَّالبية،
(1) أخرج الطبراني في " الكبير "(2777) من طريق محمد بن عبد الله الحضرمي، عن عبد الله بن عمر بن أبان، عن يحيى بن عيسى التميمي، حدثنا الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، قال علي: كنت رجلاً أُحبُّ الحرب، فلما ولد الحسن، هممت أن أسميه حرباً، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن، فلما وُلد الحسينُ، هممت أن اسميهُ حَرباً، فسماه الحسين، وقال:" إنني سميتُ ابنيّ هذين باسمِ ابني هارون شبر وشبير ".
(2)
في (ش): معها.
(3)
في (ش): النادرة.
(4)
من " ثم لظواهر " إلى هنا ساقط من (ش).
(5)
من قوله: " وأدق الشبهات " إلى هنا ساقط من (ب).
(6)
في (ش): نص.
وغيرُ ابنِ حزم من النَّسابين ما يعلَمُ العارِفُ به صدق قولِ المنصور عليه السلام، ومن قال بقوله.
ولنذكر هنا طرفاً يسيراً من ذلك على جهة التنبيه على ما عداه، فنقول: ذكر ابنُ حزم في " جمهرته "(1) من دُعاة أهل البيت، وساداتهم، ومحدِّثيهم خلقاً كثيراً، وأشار إلى ما لا يُحصى من ذُرِّياتهم، وجملة من سمَّى من دعاتهم الذين لا يُعرفُون في بلادنا، وعندَ علمائنا قَدْر خمسةٍ وعشرين داعياً أكثرهم في الغرب، وذكر أنه لهم في اليمامة دار مُلكٍ (2)، وأنهم فيها داع (3) بعد داع غير هؤلاء الخمسة والعشرين (4)، وذكر (5) من سادتهم الذين لم يدعوا جعفر بن عبيد (6) الله بن الحسين بن علي بن الحسين (7) كانت (8) له شيعة يُسمُّونه (9) حجة الله، وسيأتي ذلك مبسوطاً عند ذكر (10) ردِّ دعوى الإجماع على تكفير أهل الأثر الذين يؤمنون بالجُمل، ولا يتكلمون في تأويل القرآن، ودع عنك كلام ابن حزم، فإن السيد العلامة أبو عبد الله الحسني ذكر في كتابه " الجامع الكافي "(11) على مذهب (12) الزيدية عن محمد بن منصور، والحسن بن يحيى بن الحسين
(1) ص 37 - 65.
(2)
في (ب): مملكة.
(3)
في (ش): وأن لهم فيها داعياً.
(4)
في (ش): " والعشرون "، وهو خطأ.
(5)
في (ش): وذلك، وهو خطأ.
(6)
في (أ): عبد.
(7)
" ابن علي بن الحسين " ساقطة من (ب).
(8)
في (ج): كان.
(9)
في (أ): تسمى به، وهو تحريف.
(10)
" ذكر " ساقطة من (ش).
(11)
" الكافي " ساقطة من (أ).
(12)
في (ب): في مذاهب، وفي (ج): في مذهب.
ابن زيد بن علي عليهم السلام، وأحمد بن عيسى، وكثير من قدماء العترة مثل مذاهبِ أهل السنة كما مضى بعضُه ويأتي بعضه، وذكر الحسن بن يحيى في الفُروع كلها ولا يعرفه أهل الديار اليمنية الآن (1) ولا يروون (2) مذاهبه (3).
وقد أشار جماعة جلة من أهل البيت عليهم السلام إلى الاقتصار على الجُمَل في العقائد، ومنعوا من التعمق في علم الكلام، والخوض فيه، وصنف في ذلك محمد بن منصور كما تقدم، وصرَّحوا بتضليل المعتزلة والجبرية، والغُلاة، والروافض، والنواصب، وأمثالهم، وصنَّفوا في ذلك الكُتُب، وقالوا فيه الأشعار والنُّخَبَ (4)، فمن ذلك قولُ السيد الإمام (5) يحيى بن منصور بن العفيف (6) بن مُفَضَّل رحمه الله في ذكر المعتزلة:
ويرون ذلك مذهباً مُستعظماً
…
عن طول أنظارٍ وحُسنِ تفكُّر
ونسُوا غنا الإسلام قبل حدوثهم
…
عن كل قولٍ حادث مُتأخِّرِ
ما ظنُّهم بالمصطفى في تركه
…
ما استنبطوه ونهيه المُتكرِّر
أعلى صوابٍ أمْ على خطأٍ مضى
…
فَمَنِ المُصِيبُ سوى البشير المنذر؟
أيكُونُ في دين النَّبيِّ وصحبه
…
نقصٌ، فكيف به ولمَّا يشعرِ؟
(1) ساقطة من (أ) و (ب).
(2)
في (ب): يرون، وهو تحريف.
(3)
هنا بياض في جميع الأصول قدر كلمتين، وذكر في هامش (ش) أنه بياض في الأم. ولا يوجد هذا البياض في نسخة (د).
(4)
في (ب): النجب.
(5)
ساقطة من (ش).
(6)
" بن العفيف " ساقطة من (ب)، و" ابن العفيف بن المفضل " ساقطة من (ج).
أوليس كان المصطفى بتمامه
…
وبيانه أولى، فَلِمْ لم يُخبرِ؟
ما بالُهُ حتى السواك أبانه
…
وقواعد الإسلام لم تتقرَّرِ
إن كان رب العرش أكمل دينه
…
فاعجب لمبْطِنِ قوله والمظهر
أو كان في إجمال أحمدَ غُنْيَةٌ
…
فدع التكلف للزيادة واقصِرِ
ما كان أحمدُ بَعدَ منعٍ كاتماً
…
لهدايةٍ كلا وربِّ المِشْعرِ
بل كان ينكر كلَّ قولٍ حادثٍ
…
حتى الممات فلا تشك وتمتري
وكذا القرابة والصحابة بعده
…
ما بين راوٍ ضابطٍ ومُفسرِ
أو بين هادٍ للأنام بعلمه
…
أو مُوردٍ لغريبة أو مُصدِر
كخليفة المختار وارث علمه
…
رب العلوم أبي شبير وشبّر
ما كان منهم من يرى بتعمقٍ
…
كلا، ولا نقلوه عنه فَقَصِّر
بل جاء عنه وعنهم مُتواتراً
…
حظرُ التعمق والغُلُوِّ لمُبْصر
عن خبرةٍ وبصيرةٍ وتيقنٍ
…
لا عن قُنُوعٍ قاصرٍ وتَعَذُّر
لكن تأسٍّ منهم بمحمد
…
وتدبُّر للذكر أيّ تدبُّر
فالزم بعُروة دينهم مُتمسِّكاً
…
فلقد هُديتَ إلى سبيلٍ نيِّر
لا يخدعنَّك زُخرفٌ وتصورٌ
…
شتَّان بين تيقُّن وتصوُّر
إنَّ الخلاف بكلِّ فنٍّ مُمكنٌ
…
إلا الأصول فإنه لم يُؤثَر
فدع الخلاف إلى الوفاقِ تورُّعاً
…
فطريقة الإجماع غير مُنكَّرِ
كم بين مُعتمدٍ لقولٍ ظاهرٍ
…
ومقالِ حقٍّ واضح لم يُنكَر
ومجاوزٍ حدَّ الوفاق مُخَاطِرٍ
…
قد صار بين مُفسِّقٍ ومُكفِّر
من خارجٍ أو مُرجىءٍ أو رافضٍ
…
أو ذي اعتزالٍ مُبدِعٍ أو مُجبِر
أو غير ذلك من مذاهبَ جَمَّةٍ
…
حدثت ودينُ مُحمَّد منها بَرِي
يكفيك من جهة العقيدة مُسلم
…
ومن الإضافة أحمديٌّ حيدَري (1)
(1) أنشدها المؤلف بتمامها في " ترجيح أساليب القرآن " ص 29 - 30.
وهذا السيد هو يحيى بنُ منصور بنِ العفيف بن مفضّل كان عالماً فاضلاً، مُبرِّزاً في الكلام، صنف فيه قدر أربعين مُصنَّفاً، والظاهر أنها كلها مختصرات، والمشهور (1) منها " جمل الإسلام "(2)، وكان شديداً على غُلاة المتكلمين، وسائر المبتدعين، رحمه الله تعالى. ومن شعره أيضاً:
يا طالب الحقِّ إنَّ الحق في الجُمَلِ
…
وفي الوُقُوفِ عن الإفراط والزَّلَلِ
هي النَّجاةُ فلا تطلُب بها بدلاً
…
بذا أتاك حديثُ السادةِ الأُوَلِ (3)
وقال السيد الإمام حُميدان بن يحيى [بن] القاسم (4) رحمه الله، مع أن في كلامه ما لا أذهبُ إليه من التُّهمة بقصد العناد:
زال (5) أهل التفعيل والانفعال
…
وأُدِيلَ التطريفُ بالاعتزال
حرَّفُوا مُحكَمَ النُّصُوصِ، فصارُوا
…
قُدوةً في التلبيس والإضلال
ولهُم في التَّوحيد أقوالُ زورٍ
…
مُزرِيَات في الزُّور بالأقوال (6)
رانقاتٍ بالمَينِ كُلَّ محيل (7)
…
فائقات في النُّكرِ كُلَّ مُحَالِ
(1) في (أ): والمشهورة.
(2)
اسمه الكامل: "جُمل الإسلام وأصولُ دين محمد عليه أفضل الصلاة والسلام" منه نسخة ضمن مجموع 168 من 107 - 113 بخط إبراهيم بن سعد بن فيصل بتاريخ 1035 هـ. "فهرس مخطوطات المكتبة الغربية بالجامع الكبير بصنعاء" ص 789.
وله كتاب آخر في المجموع نفسه، اسمه " نهاية العقول الكاشفة لمعاني الجمل والأصول " من 115 - 136.
(3)
أنشدهما المؤلف أيضاً في " ترجيح أساليب القرآن " ص 30.
(4)
في (أ) و (ب): القاسمي.
(5)
في (ش): " زوال "، وهو خطأ.
(6)
في (ش): والانفعال.
(7)
في (ش): محل، وهو خطأ.
شاهداتٍ لمفرغ (1) الوهم فيها
…
باعتداء المحدود والإيغالِ (2)
أصَّلُوا للقياس أصل اصطلاحٍ
…
جلَّ عن أصل صُلحهم ذُو (3) الجلالِ
لَقَّبُوا الجسم بالذَّواتِ ليقضُوا
…
باشتراكٍ في حالةٍ وانفصالِ
وادَّعوا أنَّ للمُهيمن ذاتاً
…
شاركت، ثمَّ فارقت في خِلالِ
ثم قاسوا ما فرَّعُوهُ وخاضُوا
…
في شُرُوح لهُم عراضٍ طِوال
باختراصٍ في قولهم وابتداعٍ
…
وبظنٍّ في زعمهم وانتحالِ
واحتيالٍ في فرقهم للمعاني
…
بيِّنٍ ليسَ فيه فرقٌ بحالِ
نحو ما قد جمعتُ منها مثالاً
…
ها هنا فاستمع لضرب المثال
أزلي ثبوته وقديم
…
ووجود ما إن له من زوالِ
وكذا الفرقُ بين أمرٍ وشيءٍ
…
واشتراكِ الذوات والأمثالِ
ومزيدٍ على الذوات وغير
…
واقتضاء الأحكام والإعلالِ
أي فرقٍ ما بين اثنين منها
…
في صحيحِ الذَّكا وفرطِ المقالِ
ليس إن قيل ثابتٌ أزليٌّ
…
هُو إلا لربنا المُتعالي
مثل من قال: لم يزل كلُّ (4) شيءٍ
…
ذا ذواتٍ ثوابتِ الأحوالِ
ما أتى في التكليف قولٌ بهذا
…
في مقالٍ يُروى ولا في فعال
بل أتى الأمرُ بالتَّفكُّر في الصُّنـ
…
ـعِ وتَركِ اتِّباع رأي الرِّجَالِ
غير من كان مُصطفي ذا اعتصامٍ
…
أو حكيماً في قولِهِ غيرَ غالي
إلى آخر ما ذكره رحمه الله.
وقال أيضاً في أُرجوزته المشهورة التي سمَّاها الإمامُ المتوكِّلُ المطهر
(1) في (ب): لمفرع، وفي (ج): لمفزع.
(2)
تحرفت في (ش) إلى: " يا عبد المحدود والانفعال ".
(3)
في (ب): " ذي "، وهو خطأ.
(4)
في (ج): لكل.
ابن يحيى عليه السلام " المُزَلزِلَة لأعضادِ المعتزلة "، قال في أوَّلها:
إنَّ الشيوخ المفترين في الدُّول
…
والمُوهمين أنَّهم فوضَى هَمَلْ
ما دينُهُم أكثرُهُ إلا حِيَلْ (1)
…
وشاهِدُ النِّيات (2) في صِدْقِ العمل
فعالمٌ ضلَّ وأغوى من أضل
…
وراهبٌ للسُّحتِ بالصدِّ أكَلْ
وكُلُّهُم برفضِهِم نالُوا الأمَلْ
…
من لم يكُن مُحارباً منهُم خَذَل
وشرُّهُمْ مكيدةً من اعتَزَل
…
وحرَّف الحقَّ وسمَّاه جَدَل
وخاض في العلم برأيٍ مُغرِقِ
…
مُجاوِزٍ لحدِّهِ مُدَقِّقِ
مُغَلغِلٍ (3) في لُجَّةِ التَّعمُّق
…
وتابعٍ لأهلِ علمِ المنطق
في وصفه للعلم بالتعلُّق (4)
…
بثابتٍ من قَبْلِ أن لم يُخْلَقِ
وفي اشتراكِ مُبدِعٍ مُلَفِّقِ
…
في اللفظِ بالذَّات ووصفٍ مُطلقِ
ليُثبتَ التَّجنيسَ للمُحقِّق
…
والفَصْل بالتَّنويعِ للمُفَرِّقِ (5)
وكي يقِيسَ ربَّهُ بشاهِدِ
…
من يقرن الذَّات إلى الزَّوائد
ويُوهم التَّفريق بالفوائدِ
…
معوِّلٌ على قياسٍ فاسدِ
لبعض أوصاف القديمِ الواحد
…
سُبحانهُ عن فِريَةِ المُنادِدِ (6)
وعن قياس كُلِّ غاوٍ عانِدِ
…
ينظُرُ في الصَّانع كالمُشَاهَدِ
وليس في قياسه بواحد
…
إلا لمجبولٍ (7) على التَّزايُدِ
وما الذي ألجاهُمُ إلى الخَطَرْ
…
والخوضِ في علمِ الغُيُوبِ بالنَّظَرْ
(1) في (ش): " الأجل "، وهو خطأ.
(2)
في (ج) الثبات.
(3)
في (ش): فعلل، وهو تحريف.
(4)
في (ب): بالتغلق.
(5)
في (ش): للملفق.
(6)
في (ب): المتادد، وهو تصحيف.
(7)
في (ش): المجبول.
وما يقال فيه للمخطي: كَفَرْ
…
وفي النبيِّ أُسوةٌ ومُعتبرْ
وقدوةٌ محمودةٌ لمن شَكَرْ
…
ولم يُخالف بالوُهُومِ (1) والفِكَر
فإنَّهُ للفكرِ (2) في الله حَظَرْ
…
وفي عجيب الصُّنْعِ بالفكر أمَر
فمن يكونُ بعدهُ مِنَ البَشَرْ
…
أدرى بمَا يأتي به وما يَذَرْ
ليس الإلهُ الواحدُ القُدُّوسُ
…
كما يظُنُّه الذي يقيس
من وصفُه التشريكُ والتَّجنيسُ
…
بل قولُهُم مشاركٌ تلبيسُ
إذ كُلُّ فِكرٍ دُونَه محبُوسُ
…
وكلُّ ما تَخَالُهُ النفوسُ
فمُدركٌ مُكيَّفٌ محسوسُ
…
فاحذر شُيُوخاً علمُها تلبيسُ
وهمُّها (3) التَّدقيق والتدلِيسُ
…
قد حازَها دون الهُدى إبليسُ
ما الفرقُ بينَ مُقتضٍ وعِلَّهْ
…
وزائدٍ وكثرةٍ وقلَّه
إلَاّ اصطلاحُ سادةٍ مُضلهْ
…
قد سلكوا في طُرُقٍ مُزِلَّهْ
فاقنَعْ بنِحْلَةِ النبيِّ نِحلَه
…
قُنُوعَ ذي دينٍ مُسلِّمٍ له
فالمُصطفي من أهلِ كلِ مِلَّه
…
أعلمُ بالمَدلُول والأدِلَّه
وبالفُرُوضِ الواجباتِ لله
…
والشيخُ أدْنَى أن يَكُونَ مِثْلَهْ
إلى آخر ما ذكره في الأرجوزة، وله رحمه الله رسائل كثيرة في مجلد محتوٍ من الحثِّ على ترك التعمق في الكلام والبدع في الإسلام على ما لا مزيد عليه، وفي " مجموعه " هذا تقرير أئمة أهل البيت وساداتهم عليهم السلام لما ذكره، وتقريره على أن ما ذكره هو (4) مذهبُ أهلهم، ومِمَّن
(1) في (ش): بالوهم، وهو خطأ.
(2)
في (ج): للكفر، وهو تحريف.
(3)
في (ش): ووهمها.
(4)
ساقطة من (ش).
روى ذلك عنه: الإمامُ المهدي الشهيد أحمد بن الحسين القاسمي، والإمام المتوكل المطهَّر بن يحيى عليهما السلام، وقرر ذلك بعدهم السيد الإمام العلامة محمد بن يحيى القاسمي، وصنف كتاباً معروفاً، وكتب الإمام المهدي محمد بن المطهر بن يحيى على كتاب السيد محمد بن يحيى القاسمي أنه معتقدُهُ إلَاّ الجوهر، فإنَّ له فيه نظراً (1).
ومما قاله في ذلك (2) جدي المرتضى بن المفضل (3) رحمه الله تعالى:
دعْ عنك ذِكرَ بُثينةٍ وجميلِ
…
وحديث كلِّ خليلةٍ وخليلِ
واتلُ الكتابَ وكُنْ لهُ متدبِّراً
…
يا حبَّذا من قائِلٍ ومقُولِ
هُو شافعٌ ومُشفَّعٌ ومُصدَّقٌ
…
ومُنزَّهٌ حقاً من التَّبديل
وهو الشفاء لكلِّ داءٍ مُعضِل (4)
…
نَطَقَ النبيُّ بذاك عن جبريل
فالزم بعُروتهِ ومُتَّ بحَبلِهِ
…
فلقدْ نجوتَ وحُزتَ خيرَ سبيل
وعليكَ من بعدِ الكتابِ بعترةٍ
…
تنجُو من الآثام والتضليل
لا يخدعنَّك كلُّ قولٍ حادثٍ
…
قد نمَّقته الناسُ بالتعليل
وتكلَّفُوا ما لم يكونوا كُلِّفُوا
…
لا في الحديث ومُحكَمِ التنزيل
وصفُوا الإلهَ بكلِّ وصفٍ زائدٍ
…
يُنبي عن التَّكثيرِ والتَّقليلِ
جعلُوه من جنسِ الذواتِ وَخَالفُوا (5)
…
مِنْ بعْدِ ما وَصَفُوهُ بالتَّمثيلِ
زعمُوا بأن الوصفَ لا شيءٌ ولا
…
لا شيء هذا قولُ كلِّ مُحيلِ
(1) في الأصول غير (ج): نظر.
(2)
" في ذلك " ساقطة من (ج).
(3)
" بن المفضل " ساقطة من (أ) و (ش).
(4)
في (ش): معطل، وهو تحريف.
(5)
في (ش): فخالفوا.
ولهُم من الأقوالِ كَمْ مِنْ بدعَةٍ
…
في الوعدِ والتوحيدِ والتعديلِ
مالُوا عن الحقِّ القويمِ وما لهُم
…
سَبَبٌ سِوَى الإبدَاعِ في التَّفصيلِ
تَبِعُوا (1) الشيوخَ فلم يَرَوا أنَّ الذي
…
قالُوه إلَاّ غاية التَّحصيلِ
من لم يكُن آلَ النبيِّ هُداتُهُ
…
لم يأتِ فيما قالهُ بدليلِ
بل شُبهةٌ وتظنُّنٌ وتوهُّمٌ
…
وتحيُّرٌ في الغّيِّ والتعطيل
فاحذر تَحِيدُ عن الصراط، فإنه
…
نهجُ الأئمةِ جاء في التأويل
هم بابُ حطةَ للأنامِ وسُفْنُهَا
…
ونجاتُها من مُؤلِم التنكيل
وإذا أردتَ سلامةَ الأصلِ الذي
…
هُو دينُهُمْ فَعَليْك بالتِّجمِيلِ
فهُو الذى كان النَّبيُّ يَدِينُهُ
…
مِنْ دُونِ بدعَتِهِم وكُلُّ رسُولِ (2)
وتابعهم على هذا السيد الإمام الواثق المطهر بن محمد بن المطهر، وقال في ذلك قصيدته البليغة التي أولها:
لا يَستَزِلَّكَ أقوامٌ بأقوالِ
…
مُلفَّقَاتٍ حريَّاتٍ بإبطالِ
لا ترتضي (3) غيرَ آل المُصطفي وزراً
…
فالآلُ حقٌّ وغيرُ الآلِ كالآلِ (4)
فآيةُ الوُدِّ والتطهيرِ أُنْزِلَتَا (5)
…
فيهم كَمَا قد رُوي مِنْ غيرِ إشكالِ
و" هل أتى "(6) قد أتى فيهِم فما لهُمُ
…
من الخلائق من ندٍّ وأشكالِ
(1) في (ج): " منعوا "، وهو خطأ.
(2)
في (ب) و (ج) بعد هذا البيت صدر بيت، وهو قوله:
صلى عليهم ذو الجلال وآلهم
(3)
في (ش): ترضى.
(4)
كالآل: أي: كالسراب.
(5)
في (ش): أنزلها.
(6)
قال القرطبي في " أحكام القرآن " 19/ 130 - 131: قد ذكر النقاشُ، والثعلبي، والقشيري وغير واحد من المفسرين في قصة علي، وفاطمة، وجاريتهما حديثاً لا يصح، ولا يثبت. ثم أورده بطوله. =
وهُم سفينةُ نُوحٍ كُل (1) من حَمَلَتْ
…
نَجَّته من أزلِ أهواءٍ (2) وأهوالِ
والمصطفى قال: إنَّ العلمَ في عَقِبِي
…
فاطلُبْهُ ثَمَّ وخلِّ الناصِبَ الغالي
لم يُثبتُوا صفةً للذَّاتِ زائدةً
…
ولا قَضَوا باقتضا (3) حالٍ لأحوال
ولا قَضَوْا بثباتِ الذَّات في أزلٍ
…
وليس لله إلَاّ صنعةُ الحال
دانُوا بأنّ إله العرش دونَهَا
…
بلا احتذاءٍ على حدٍّ وتمثالِ
ما كان يخطرُ هذا من ركَاكَتِهِ
…
للمصطفي صفوةِ الباري على بالِ (4)
ولا عليٍّ ولا ابنيه وزوجتِهِ
…
فقولُهُم عن أباطيلِ الهُذا خالي
انظُر بإنسانِ عينِ الفكرِ في خُطبٍ
…
لَهُمْ ومنثُورِ لفظٍ سلسلٍ حَالِ
قَدْ لحَّبُوا (5) طُرُقاً للسَّالكينَ بِهَا
…
وبيَّنُوها (6) بتفصِيلٍ وإجْمَالِ
= وقال الحافظ ابن حجر في " تخريج أحاديث الكشاف " ص 180: رواه الثعلبي من رواية القاسم بن بهرام، عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس. قال الذهبي في " الميزان " 3/ 369: القاسم بن بهرام له عجائب، وقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به بحال، وقال ابن حجر في " لسان الميزان " 4/ 459: وهو صاحب الحديث الطويل في نزول قوله تعالى: {يُوفُون بالنذر} ، وأورده الحكيم الترمذيُّ في " أصوله "، وقال: إنه مفتعل، وهو في تفسير الثعلبي.
ومن رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله تعالى:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}
…
وقال الحكيم الترمذي: هذا حديث مزوَّق مفتعلٌ لا يروجُ إلا على أحمق جاهلٍ.
ورواه ابن الجوزي في " الموضوعات " 1/ 370 - 371 من طريق أبي عبد الله السمرقندي، عن محمد بن كثير، عن الأصبغ بن نباتة مرسلاً. قال: مرض الحسن والحسين
…
ثم قال: موضوع، أصبغُ لا يساوي شيئاً، والكوفي والسمرقندي ضعيفان.
(1)
في (ج): وكل.
(2)
في (ج): من نارٍ لأهواء.
(3)
في (ش): ما اقتضا.
(4)
في (ب): حال، وهو تحريف.
(5)
أي: وضحوا، يقال: طريق لاحِبٌ، ولَحْبٌ وملحوب، إذا كان واضحاً واسعاً، موطأً، منقاداً، لا ينقطع.
(6)
في (ش): ثبتوها.
ثم سرد (1) أسماء الأئمة عليهم السلام، راوياً عنهم الموافقة على إنكار هذه المذاهب المبتدعة، فذكر علي بن الحسين (2)، وولديه الباقر (3) و (4) زيداً (5) وجعفراً الصادق (6)، والقاسم، وابنه (7) محمداً، وحفيده الهادي يحيى بن الحسين، وولديه أحمد الناصر، ومحمداً المرتضى، والناصر الأُطروش، والقاسم بن علي، وأحمد بن سليمان، والمنصور بالله، وأحمد بن الحسين، والإمام الحسن بن محمد، والمطهر بن يحيى، ومحمد بن المطهر. نقلتُ ذلك من شرح هذه القصيدة المسمى " باللآلي الدُّرِّية في شرح الأبيات الفخرية " للسيد العلامة شيخ العترة ترجمان الموحدين محمد بن يحيى بن الحسن القاسمي (8)، وقد طوَّل في شرحها، وبيَّن في
(1) في (ش): وذكر.
(2)
ابن الإمام علي بن أبي طالب السيد الإمام الثقة زين العابدين الهاشمي العلوي المدني المتوفى سنة 94 هـ. مترجم في " السير " 4/ 386 - 401.
(3)
هو السيد الإمام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي العلوي الفاطمي المدني المتوفى سنة 114 هـ بالمدينة. مترجم في " السير " 4/ 401 - 409.
(4)
الواو ساقطة من (ش).
(5)
هو زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي العلوي المدني، أخو أبي جعفر الباقر، وعبد الله، وعمر، وعلي، وحسين، وأمه أم ولد، عاش نيفاً وأربعين سنة، واستشهد سنة 122 هـ. مترجم في " السير " 5/ 389 - 391.
(6)
هو أبو عبد الله جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي القرشي الهاشمي العلوي المدني، أحد الأعلام الثقات، وأمه: هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر التيمي، وأمها: هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ولهذا كان يقول: ولدني أبو بكر مرتين، وكان يغضب من الرافضة، ويمقتهم إذا علم أنهم يتعرضون لجده أبي بكر ظاهراً وباطناً. وروى محمد بن فضيل، عن سالم بن أبي حفصة قال: سألت أبا جعفر، وابنه جعفراً عن أبي بكر وعمر، فقالا: يا سالم تولَّهما، وابرأ من عدوِّهما، فإنهما كانا إمامي هدى، ثم قال جعفر: يا سالم، أيسب الرجل جده؟ أبو بكر جدي، لا نالتني شفاعةُ محمد صلى الله عليه وسلم يومَ القيامة إن لم أكن أتولاهما، وأبرأ من عدوهما. وقد صحح إسناد هذا الخبر الإمام الذهبي في " تاريخ الإسلام " 6/ 46. توفي سنة 148 هـ. مترجم في " السير " 6/ 255 - 270.
(7)
في (ش): وأخيه.
(8)
هو العلامة السيد محمد بن يحيى القاسمي الحسني المعروف بمؤمن آل القاسم =
ذلك طرق الرواية عنهم عليهم السلام، وأفاد وأجاد رحمه الله تعالى، وما زال علماء أهل البيت عليهم السلام على هذا (1) قديماً وأخيراً، ومن الشواهد لذلك أنه ليس لهم في علم الكلام مُصنَّف مبسوط (2)، كتواليف المتكلمين الحافلة، إلَاّ ما صنفه بعضُ العجم (3) منهم في ذلك متابعة لقاضي القضاة، وهو السيد مانكديم، وهو الكتاب الموجود في ديار الزيدية في اليمن المسمى " بشرح الأصول الخمسة "(4)، ويدل على انفراده بذلك من بين سلفه: أنه لم ينقل عنهم فيه حرفاً واحداً، وإنما نقل كلام (5) شيوخ الاعتزال، ومذاهبهم، وأدلتهم، إلا أن يكون حكى مذهبهم وأدلتهم في فروع الكلام السمعية كالأسماء (6)، والشفاعة، والإمامة.
وإذا كان هذا كلام أهل البيت من الزيدية والشيعة، فما ظنك بأهل
= الرسي عليه السلام، أخذ عن السيد الحسن بن المهدي الهادوي، والإمام محمد بن المطهر، والقاضي أحمد بن الحسن بن محمد الرصاص، والفقيه علي بن شوكان، وجار الله الينبعي وغيرهم، وكان عالياً كبيراً، وأجل تلامذته السيد علي بن المرتضى بن المفضل، وولده إبراهم بن علي المرتضى، وغيرهم، وهو شارح الأبيات الفخرية، للإمام الواثق المطهر بن محمد بن المطهر بن يحيى التي أولها:
لا يستزلك أقوامٌ بأقوالِ
…
مُلفقاتٍ حَرِيَّاتٍ بإبطالِ
وكان فراغ صاحب الترجمة من تأليف شرحها في ربيع الأول سنة 779 بهجرة الظهراوين. " ملحق البدر الطالع " ص 209.
(1)
في (ش): ذلك.
(2)
في (ش): مبسوطاً، وهو خطأ.
(3)
في (ش): الأعاجم.
(4)
في " فهرس المكتبة الغربية بجامع صنعاء " ص 178: " الأصول الخمسة " للسيد مانكديم أحمد بن أبي هاشم الحسني. والشرح عليه لعبد الجبار بن أحمد.
ومانكديم: لفظ فارسي، معناه: وجه القمر.
(5)
ساقطة من (ش).
(6)
في (ش): كالأسماء والصفات.
البيت من أهل الأثر، والفرق الأربع (1)، ويوضح ذلك تأليفهم المختصرات المشهورة في ذلك، واقتصارهم (2) على الإجمال والإشارات، من أشهر ذلك ما أودعه محمد بن سليمان رحمه الله في أول " المنتخب " على مذهب الهادي عليه السلام، فإنه سأله عليه السلام عن ما يكفي في معرفة الله تعالى، ودليل ذلك، فأوجز له الكلام في مقدار عشرة أسطر.
وكذلك كلامات علي عليه السلام في ذلك.
وللمؤيَّد بالله عليه السلام في ذلك كتاب " التبصرة " مختصر جداً، وله في آخر " الزيادات " تزهيدٌ في هذا الفنِّ كثيرٌ، وقد نقلته بألفاظه في كتابي " ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان "، وبسطتُ القول في هذا المعنى، فليراجع هنالك (3) وبالله التوفيق.
وما أحسن كلام المنصور بالله عليه السلام في الرد على من ادعى إجماع أهل البيت عليهم السلام، حيث قال في " المجموع المنصوري ": وإن شئت أن ترجع إلى أهل البيت، فتشتتهم كان في أيام عبد الله بن الحسن، ولحاقِ إدريس بن عبد الله بالغرب، وبعضُهم بالمشرق، وتشتَّتوا تحت كُلِّ كوكب، وفيهم العلم ووراثة النُّبوة، وليس لكل منهم تصنيف مع علمه إلى آخر ما ذكره، وسيأتي كلامه عليه السلام مستوفى في آخر هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
وقد مرَّ في أول هذا الكتاب ذكر جماعة من علمائهم ممن ليس من (4)
(1) في (ش) الرابع، وهو تحريف.
(2)
في (ش): فاقتصارهم، وهو خطأ.
(3)
انظر ص 24.
(4)
في (ش): في.
الشيعة، ذكرتُه في المسألة الأولى (1) عند دعوى المعترض لخُلُوِّ العالَم من العلماء من بعد الإمام الشافعي رحمه الله، وبينت هناك (2) قبح هذه الزَّلَّة، وما تؤدي إليه من تجهيل أئمة الإسلام، وفي ذكرهم إشارة إلى عدم صحة الطريق إلى دعوى إجماعهم في كثيرٍ من المواضع التي (3) يُدعى ذلك فيها فيجبُ على المؤمن أن يُراعي قول الله سبحانه:{ولا تقف ما ليس لك به عِلمٌ} [الإسراء: 36]، فيما يرويه عن الأُمَّة والعِتْرةِ، كما يُراعي ذلك فيما يرويه من كلام الله تعالى، وكلام رُسُله عليهم السلام.
وقد كان من الحسين بن القاسم مبالغة في تعظيم فن الكلام، وتصانيفه فيه، وتابَعَتْهُ على ذلك طائفة من ضُعفاء العقول (4)، وأنكرت عليهم ذلك الزيديةُ، وجاهدوهم حتَّى أبادوهم، ولم يبق منهم -وللهِ الحمد- بقيةٌ.
وذكر بعضُ أئمةِ العترة -أظُنُّه المطهر بن يحيى عليه السلام أنَّه اختلَّ عقلُ الحسين بن القاسم، وتَوَسْوَسَ، وهو المرجوُّ إن شاء الله تعالى.
فأمَّا أتباعُه من الغُلاة، فمرقُوا من (5) الإسلام، وفضَّلُوا كلامه على كلام الله تعالى، وفضلوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تكن شبهتُهم إلَاّ أنَّ علم الكلام -كما زعمت المعتزلة- هو أساس الإسلام، وأنه ليس في كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يكفي من ذلك العلم، ويُجزِىء
(1) ساقطة من (ش). وانظر مكانه في 2/ 104 - 118.
(2)
في (ش): هنالك.
(3)
في (ش): الذي.
(4)
في (ب): القول.
(5)
في (ش): عن.
عنه. ولا كلامَ أنَّ التوحيد وأدلَّتَه أساسُ الإسلام، هذه كلمةُ (1) إجماعٍ، ولكن البدعة في قول الحُسينيَّة ومن وافَقَهُم: إنَّه لم يَرِدْ في كتاب الله تعالى، وسنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما فيه غَناء وكفاية.
وقد كنتُ قلتُ أبياتاً في الحثِّ على استنباط الأدلَّة العقليَّة في التَّوحيد من كتاب الله تعالى، وذكرتُ أن ذلك يُغني عن الكلام، فعارضني بعضُ من يدَّعي علمَ الكلام (2) العصريِّين، وكاد جوابُه يُلبسُ على كثيرٍ من (3) الضعفاء، فنقضتُ جوابه نقضاً شافياً، كشف الغِطاء عن بدعته، وأجمعتْ (4) كلمةُ المعاصرين من المتكلمين (5) على إنكار كلامه إلَاّ من لا ينظر (6)، وقد رأيتُ أن أُورِدَ من ذلك ما أرجو أن ينفع اللهُ تعالى به، وأُنَبِّهَ على شيءٍ يسيرٍ ممَّا يحتاج إلى الشرح.
قلت في الابتداء:
أُصُولُ ديني كتابُ الله لا العَرَضُ
…
وليسَ لي في أُصولٍ غَيره (7) غَرَضُ
وأردتُ بهذا البيت معنيين:
أحدهما: أنَّ القرآن مُعجِزٌ، وكُلُّ معجزٍ (8) لا يَقْدِرُ عليه أحدٌ مِنَ
(1) في (ش): هذا كله.
(2)
في (ش): " علماً "، وكتب فوقها في (ب):" المهدي أحمد بن يحيى "، وفي حاشية (أ):" هو أحمد بن يحيى صاحب الأزهار ".
(3)
" كثير من " سقطت من (ش).
(4)
في (ش): اجتمعت.
(5)
في (ش): الموحدين المتكلمين.
(6)
في (ش): لا ينظر إليه.
(7)
في (ش): دونه.
(8)
" وكل معجز " سقطت من (ب).
البشر، فإنَّه يُعلم بدليلِ العقل أنَّه من عند الله تعالى، وذلك يقتضي صحَّة النبوة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقَ ما جاء به عن الله تعالى عَلى كُلِّ مذهب.
أما الأشعرية، فعندهم أن العلم بصدقه بعد المعجز ضرُوريٌّ، لا يحتاج إلى استدلال (1)، وأنَّ العلم بالإعجاز ضروريٌّ سواء كان من جنس مقدور العباد، أو مِن غير جنسه، والذي من جنسِ مقدورهم مِنْ قسمِ العاديات (2) من الضروريات.
وكذلك طائفة من المعتزلة، وهم أهل المعارف الضرورية، ومن مذهبهم أن العلم بالله تعالى ضروري، ولكن فيهم طائفة يوجبون النظر، ويقولون: إنه شرط اعتيادي (3)، بمعنى أن الله يخلق العلم الضروري عنده، لا به كما يخلق الإنسان عند قرار النطفتين في الرحم لا بذلك، وهو (4) أقربُ إلى مذاهب (5) أهلِ السُّنَّة، فإنهم يوجبون النظر فيما أمر الله تعالى بالنظر فيه من المعجزات والمصنوعات من غير ترتيب المقدمات على الأساليب (6) المنطقيات، ويقولون: إن الله تعالى يهبُ لمن يشاء من عباده عقيبَ ذلك النظر (7) من اليقين والمعرفة ما لا يُقْدَرُ قَدْرُه، ولا يُحْصَرُ حَدُّه، فأعلاه ما لا يَعْرِضُ معه الوسواسُ، وأدناه ما يَعْرِضُ (8) معه الوسواسُ إلى
(1) في (ش): الاستدلال.
(2)
في (ب): العادات.
(3)
في (ب): اعتباري.
(4)
في (ش): هو.
(5)
في (ش): مذهب.
(6)
في (ش): أساليب.
(7)
" النظر " ساقطة من (ش).
(8)
في (ش): يحصل.
أن ينتهي إلى ما قدَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدنى من مثقال (1) حبَّةِ خردلٍ، كما جاء في أحاديث الشفاعة (2)، ويدينُون بأنَّ الإيمان يزيدُ وينقُصُ، وعلى المؤمن التَّعرُّضُ لما يزيدُ إيمانَه من التَّفكُّر في المصنوعات، ومُعجزات الأنبياء، وأحوالِهم، وسِيَرهم، والقرائن الدالَّة على صدقهم، والدعاء والتضرع إلى الله تعالى، والتَّلقِّي لما وَهَبَ الله تعالى له من الإيمان، واليقين بعد ذلك بالشكر.
وأمَّا النظرُ في الطُّرق المبتَدَعَةِ، فلا تجبُ عِنْدَ أحدٍ من (3) أهل السُّنة، وظاهِرُ مذهبِ الإمام المؤيَّد باللهِ عليه السلام موافقٌ لمذهبهم في ذلك، فإنه يُجيز حصول العلم الضروري بالله لمن شاء الله من أوليائه، والعلم الاستدلالي لمن دونهم من أهل النظر، ومُجرَّد الظَّنِّ لمن دون الأولياء، وأهل (4) النظر من ضعفاء العامة، وقد نص على هذا الأخير في آخر " الزيادات "، واحتجَّ عليه، وأطال القول فيه، فلا يمكن تأويله، ونَسَبَهَ إلى أبي القاسم البلخي البغدادي شيخ الاعتزال، ولكن حكى عنه أنه يُسمِّيه علماً، ولا طائل تحت الاختلاف في مجرد العبارات.
وفي " مقالات " أبي القاسم ما يؤيد (5) هذه الرواية، فإنه ذكر العامة، وأنها فرقة مستقلة، وقال: هنيئاً لهم السلامة.
(1)" مثقال " ساقطة من (ش).
(2)
أخرجه البخاري (7510)، ومسلم (193)(326)، وأحمد 3/ 116 و244 و247 و248، وابن ماجه (3412) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيه: "إن الله تعالى يقولُ لنبيِّه: انطلق، فأخرج من كان في قلبه أدنى مثقال حبة خردل من إيمان، فأخرجه من النار، فأنطلق، فأفعل
…
".
(3)
" أحد من " ساقطة من (ش).
(4)
" أهل " ساقطة من (ب).
(5)
تحرفت في (ش) إلى: يزيد.
وعن ابن تيمية أن الرازي (1) ذكر لبعض مشايخ الصوفية أنه أملى في التوحيد كذا بُرهاناً، فقال له الشيخ: ليس ذلك بالتوحيد. قال الرازي: فأفدني يا سيدي، فقال له: التوحيدُ وارداتٌ تَرِدُ على النُّفوس تَعْجِزُ النفوسُ عن ردِّها، قال: فجعل الرازي يتحفَّظ هذه الكلمات ويُردِّدُها حتَّى خرج من عند الشيخ.
وقد (2) ذكر هذا بعضهم في شرح قول أمير المؤمنين عليٍّ عليه السلام في كلامه لكُمَيْل بن زياد (3)، حيث قال عليه السلام في وصف
(1) في (ش): " الراوي "، وهو تحريف.
(2)
" قد " ساقطة من (ش).
(3)
هو كُمَيْل بن زياد بن نهيك بن الهيثم النخعي، تابعي، ثقة، من أصحاب علي، قال ابن سعد: شهد مع علي صفين، وكان شريفاً مطاعاً في قومه، قَتَلَه مبيرُ ثقيفٍ صبراً سنة 82 هـ. مترجم في " تهذيب التهذيب " 8/ 448 وقول علي هذا قطعة من وصيةٍ مطولة أوردَها صاحب " العقد الفريد " 2/ 69 - 70، رواه عن أيوب بن سليمان، عن عامر بن معاوية، عن أحمد بن عمران الأخنس، عن الوليد بن صالح الهاشمي، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبي مخنف، عن كميل النخعي قال: أخذ بيدي عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، فخرج بي إلى ناحية الجبَّانة، فلما أصحر، تنفس الصعداء، ثم قال: يا كُميلُ، إن هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، فاحفَظ عني ما أقول لك: الناسُ ثلاثة: عالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهَمَج رَعاع، أتباعُ كُلِّ ناعق مع كل ريح يميلونَ، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجؤوا إلى ركنٍ وثيقٍ.
يا كُميلُ، العلمُ خيرٌ من المال، العلمُ يحرسُك وأنت تحرسُ المالَ، والمالُ تنقصُه النفقة، والعلمُ يَزْكو على الإنفاق، ومنفعة المال تزولُ بزواله.
يا كُميل، محبة العلم دينٌ يُدان به، به يكسبُ الإنسانُ الطاعة في حياته، وجميلُ الأُحدوثة بعد وفاته، والعلمُ حاكمٌ، والمالُ محكومٌ عليه.
يا كميل، ماتَ خُزانُ المالِ وهم أحياءٌ، والعلماءُ باقون ما بقيَ الدهرُ، أعيانهم مفقودةٌ، وأمثالهم في القلوب موجودةٌ، ها إنَّ هاهنا لعلماً جَمّاً -وأشار بيده إلى صدره- لو وجدتُ له حَمَلةً، بلى أجد لقناً غير مأمون عليه، يستعمل آلة الدين للدنيا، ويستظهِرُ بحجج الله على أوليائه، وبنعمه على عباده، أو منقاداً لحملة الحق ولا بصيرة له في أحنائه، ينقدح الشكُّ في قلبه لأوَّلِ عارض من شُبهة، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، أو منهوماً باللذة، سَلِس القياد للشهوة، أو مُغرماً بالجمع والادِّخار ليسا من رعاة الدين في شيء أقرب شبهاً بهما الأنعام =
العلماء: " هَجَمَ (1) بهمُ العِلْمُ على حقيقةِ الأمر، فاستلانُوا ما استوعرهُ المترفون، وأَنِسُوا (2) بما استوحش منهُ الجاهلون " فإنَّ الهُجوم إنما يُستعمل فيما حصل (3) دفعةً واحدة من غير كدِّ الخواطر في الدقائق، والتَّولُّج من الأنظار في مضايق المزالق، وقال في " ضياء الحلوم ": هجم [على] القوم: إذا أتاهم بغتةً، وهَجَمَ على العدو هجوماً، وهجم على ما في نفسِ فلان.
وأما على مذاهب (4) النُّظَّار مِنْ متكلّمي الشيعة والمعتزلة، فإن النظر في كتاب الله تعالى يدل على قدرة الله تعالى على كل شيءٍ، وكذلك كل معجزٍ لجميع الخلق عندهم، والذي في القرآن من الإحكام البليغ، والتحسين والتقبيح يدل عندهم على علمه سبحانه بكل شيءٍ عموماً، كما تدل أحكام المحكمات عندهم، ويدل على علمه سبحانه بقُبح الكذب، وعلى علمه بقُبح تصديق الكاذب خصوصاً، وبعد علمنا بذلك يجبُ القطع بأنه لا يصح صدور الكذب، وتصديق الكاذب منهُ سبحانه، لعلمه
= السائمة، كذلك يموت العلمُ بموتِ حامليه، اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم بحجة الله إما ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلا تبطُلَ حُجج الله وبيناته، وكم ذا، وأين؟ أولئك والله الأقلونَ عدداً، والأعظمونَ عند الله قدراً، بهم يحفظ الله حُججه حتى يودعوها نُظَراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباهِهم، هجم بهم العلمُ على حقيقة الإيمان حتى باشروا روح اليقين، فاستلانوا ما استخشنَ المترفون، وأَنِسُوا بما استوحش منه الجاهلون، وصَحِبُوا الدنيا بأبدانٍ أرواحُها معلقة بالرفيق الأعلى.
يا كُميل، أولئك خلفاءُ الله في أرضه، والدعاةُ إلى دينه، آه، آه، شوقاً إليهم، انصرفْ إذا شئتَ.
(1)
في (ش): " هجمتهم "، وكتب فوقها:" هجم ".
(2)
في (ش): واستأنسوا.
(3)
في (أ): يحصل.
(4)
في (ش): مذهب.
بقبحه (1)، واستغنائه عن فعله بقدرته على كلِّ شيء، وذلك لأنَّ الكذب ليس بمشتهي لذاته، وإنما يتوصَّل به العاجز إلى منافعه، أو يفعله الجاهل بقبحه، بدليل أنه لو قيل لبعض العقلاء: إن صدقت، فلك درهم، أو كذبت، فلك درهم، فإنَّه يختار الصدق لا محالة إجماعاً، فهذا في آحاد المخلوقين، فكيف برب العالمين القادر على كل شيءٍ، العليم الحكيم. وإلى هذا الدليل أشار قوله تعالى. {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23]، وأمثالها، وقد ألمَّ بهذا المعنى مختار المعتزلي في كتابه " المجتبى "(2) في آخر الطريق الرابع من
(1) من قوله: " وبعد علمنا " إلى هنا مكرر في (ب).
(2)
قال اللكنوي في " الفوائد البهية " ص 212 - 213: هو مختار بن محمود بن محمد أبو الرجاء نجم الدين الزاهدي الغزميني نسبة إلى غزمين -بفتح الغين المعجمة ثم الميم المكسورة، ثم الياء التحتانية المثناة الساكنة، ثم النون- قصبة من قصبات خوارزم، كان من كبار الأئمة، وأعيان الفقهاء، عالماً، كاملاً، له اليد الباسطة في الخلاف، والمذهب، والباع الطويل في الكلام والمناظرة، وله التصانيف التي سارت بها الركبان، منها " شرح مختصر القدوري " شرح نفيس نافع، " وتحفة المنية لتتميم الغنية " استصفاها من " البحر المحيط " للبديع القزويني، وكتاب " الحاوي "، و" الرسالة الناصرية "، وأخذ العلوم عن الأكابر منهم محمد بن عبد الكريم التركستاني عن الدهقان الكاساني، عن نجم الدين عمر النسفي، عن أبي اليسر محمد البزدوي، وأيضاً أخذ عن ناصر الدين المطرزي صاحب " المغرب " تلميذ الزمخشري، وعن صدرِ القُراء سندِ الأئمة يوسف بن محمد الخوارزمي، وعن سراج الدين يوسف السكاكي، وعن فخر الدين القاضي بديع، وبعدما بلغ رتبة الفضل والكمال، رَحَلَ إلى بغداد، وناظَرَ الأئمة والفضلاء، ثم بلغ الروم، وتوطن بها مدةً، ودارس الفقهاء. ومن تصانيفه أيضاً " زاد الأئمة "، و" المجتبى في الأصول "، و" الجامع في الحيض "، و " كتاب الفرائض ".
قال الجامع: ذكر القاري وغيره أنه مات سنة 658 هـ، وقد طالعت " المجتبى شرح القدوري "، و" القنية "، فوجدتهما على المسائل الغريبة حاويين، ولتفصيل الفوائد كافيين إلا أنه صرح ابن وهبان وغيره أنه معتزلي الاعتقاد، حنفي الفروع، وتصانيفُه غيرُ معتبرةٍ ما لم يوجد مطابقتها لغيرها لكونها جامعة للرطب واليابس، وقد فصلتُ المرام في رسالتي " النافع الكبير ".
الباب الثاني في إثبات الصَّانع، ولكن لم يُلخِّصهُ هذا التَّلخيص ذكره آخِرَ الاستدلال على نفي الوسائط.
فإن قيل: ما المانعُ أن يكون القُرآن العظيم من كلام الملائكة أو الجنّ، لأنه من جنس مقدور الخلق، وذلك مثل نَتْقِ الجبال، وليس من المعجزات التي ليست من مقدور الخلق، كإحياء الموتى، وقلب العَصَا حيَّة؟
فالجواب: أمَّا على مذهب الأشعريّة، وأهلِ السُّنَّة، فإنا نعلمُ عجز الخلق أجمعين بالضرورة العادية، وذلك أنا نعلمُ أن العرب الفُصحاء المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَعْجِزُوا عن معارضته (1) لأجل وقتٍ مخصوص، ولا صورة مخصوصة، ولا بيِّنة مخصوصة (2)، بل لكونِهِ معجزاً في نفسه، فإنا لو قدَّرنا زمانهم تقدَّم أو تأخّر، أو أجسامهم كبرت أو (3) لطفت، أو صورهم اختلفت، أو انعكست، لبقي عِلمُنَا بعجزهم عن حاله، وكذلك البينةُ المخصوصةُ، فإنّا نعلمُ أنّه ليس علَّة عجزهم تركيبهم من اللحمية والدمية، ونُجوِّزُ أنّهم لو كانوا ممن لا نَفْسَ لهُ سائلة، قدروا على مِثْلِهِ، وكذلك أنا نجزمُ على عجز المتأخرين من البشر، ليس إلَاّ لأنّه علمٌ عاديٌّ كعلمنا أنّ الزُّجاج ينكسر بالحديد (4)، سواءٌ كان الكاسر له من الجنِّ أو من الإنس، وفي قديم الزمان وحديثه، وفي شرقِ الأرض وغربها، وهذا العلم الضروري نشأ من العلم الضروري بأنّ فُصحاء العرب
(1) في (ش): معارضة.
(2)
عبارة " ولا بينة مخصوصة " ساقطة من النُّسخ، ومثبتة في (ب) فقط.
(3)
في (ب) و (ش): و.
(4)
في (ش) يكسر الحديد، وهو تحريف.
قد بلغوا في لغتهم الغاية القصوى (1)، التي لا يُعجِزُهم كُلَّهم فيها مخلوق، وإنه لو كان مخلوقٌ (2) يقدِرُ عليه، لقضت العادةُ بقُدرة بعض بُلغاء العرب عليه، لأن العادة لم تجرِ بتفاوت المخلوقين فيما يشتركون في معرفته والقدرة عليه تفاوتاً يبلغ هذا الحدَّ، وهذا هو الموافق لكلام الله عز وجل، فإنه (3) قال تعالى في خطاب العرب:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23].
وكذلك في (4) غير هذه الآية مما عُلِمَ أنه تعالى رتَّب علمهم (5) بأنّه معجزٌ من عند الله تعالى على عجزهم عن الإتيان بمثله، لا على عجزِ جميع الجنِّ، والملائكة، والرُّوح، وما لا يعلمونه غير هؤلاء من خلق الله تعالى، الذي لا سبيل إلى حصره في هذه الأجناس، ولو كان الأمرُ كما زعمت المعتزلة، لكانت هذه الآيات (6) القرآنية معترضةً، ومن جاء بها مُفحَماً منقطع الحجة، وقد اتفق الجميع على امتناع (7) ذلك بأدلة قاطعة، فثبت فساد ما أدَّى إليه.
وإذا حقَّقت النَّظر في جميع ما يُقَدَّرُ اختلاف الجنِّ والإنس فيه مما يرجع إلى الفصاحة، وجدتَهُ مساعداً لهذا العلم الضروري العادي، كما أنا لو (8) سلمنا أن (9) العلم الضروري العادي لم يحصل في هذا المقام،
(1) في (ش): الغاية القصوى في لغتهم.
(2)
عبارة: " وإنه لو كان مخلوقاً " ساقطة من (ش).
(3)
في (ش): فإن.
(4)
ساقطة من (ب)، وفي (ش): و.
(5)
في (ب) و (ش): عليهم.
(6)
في (ش): الآية.
(7)
في (ش): منع.
(8)
"لو" ساقطة من (ش).
(9)
في (ش): أن هذا.
لادعيناه في مقام آخر، وذلك أنا نقول: أما تقدير أن القرآن من كلام الملائكة، فغفلةٌ فاحشةٌ، لأن الملائكة اسمٌ موضوعٌ في التقدير لمن لا يصدُرُ عنه الكذب، وأما تقديرُ أنه من الجن، فهو بمعنى (1) تقدير أنه من كلام الشياطين، لأنهم هم مردة الجن وفسقتهم، ونحن نعلم بالضرورة العادية أن فسقة الشياطين ومردتهم لا يعتنون في ظهور مثل القرآن الكريم لما فيه من نقضِ مقاصدهم في الفساد، فإنَّ العمل بمقتضاة بإجماع العُقلاء من المسلمين وغيرهم من أعظم أسباب الصلاح، وحسم مواد الفساد، فإنَّه اشتمل (2) على النَّهي عن الظُّلم، والعُدوان، والبغي، واللهو واللعب، والغفلة، وسائر أسباب الشر، والأمر بالبر، والإحسان، والعفو والرحمة، والرفق، والتعاون على الخير، وفعل جميع أسباب الخير، مع ما فيه من سبِّ الشياطين، ولعنهم، وتبكيتهم (3)، فكيف يجوز أنه منهم، وقد ثبت بالبراهين الصحيحة العقلية أنه لا يقع الفعل من القادر بمجرد قدرته عليه؟ ولذلك أجمعت المعتزلة على امتناع صدور القبائح من الله مع قدرته عليها، وإذا تقرَّر ذلك، فمنتهى الأمر أنا نُجوِّزُ قدرة الشياطين على ذلك -وحاشا وكلاّ- فليس لهم داعٍ إليه البتَّة، بل الصَّوارِفُ لهم عنه معلومةٌ بالضرورة من دون مُعارض، وقد نطقت النصوص القرآنيةُ بالردِّ على من زعم ذلك، وأشارت إلى الوجه الأول، أو إلى الوجهين (4) معاً، قال الله تعالى:{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 210 - 212]،
(1) في (ب): لمعنى.
(2)
في (ش): أشمل.
(3)
في (ش): وتكذيبهم.
(4)
في (ش): والوجهين.
وقال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 25 - 27]، وأيضاً، لو جاز ذلك عقلاً، لوجب بطلانُهُ عقلاً أيضاً، وذلك أنه يجب أن يكون الجن مختلفي المقاصد والطبائع، كما اطَّرد الاختلافُ بين جميع الأجناس في ذلك، فكان يجب أن يكون في الجن من يُعارض الذي أتى بالقرآن، ويُحِبُّ تكذيبه (1) في دعواه، لعجز الجن والإنس عن ذلك، ويجب أن يهدي من أضلَّه الكاذب لذلك، ولا يجوز اجتماع طبائعهم على ذلك في عقل عاقلٍ (2)، وهذا من أنفس ما يُعارضُ به هذا الهذيان إن أصغى إليه مبطلٌ أو جاهل، كما نبَّه القرآن على ذلك في قوله تعالى:{مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 69] بل عليه بعينه في قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11]، بل أعظمُ منه دلالة وهو (3) أنّه تعالى أوجب من تعدُّد الآلهة وقوع الاختلاف في غير آية والله أعلم.
وأمّا على قواعد المعتزلة، فقد أجابوا بوجوهٍ:
منها: أن العلم بالملائكة والجنِّ إنَّما حصل بالقرآن.
ومنها: أنَّ تقدير مثل هذا يفتح (4) باب الجهالات.
ومنها: أنَّ القرآن العظيم مشتملٌ من (5) علم الغيوب على ما ليس بمقدورٍ لغير الله، وهو أحسنُ ما احتجُّوا به، وهو صحيح على قواعد
(1) في (ج): ويجب تكوينه، وهو تحريف.
(2)
في (ب) و (ش): في عقل كل عاقل.
(3)
في (ب) و (ج): على ذلك أنه.
(4)
في (أ): " بقبح "، وهو تصحيف.
(5)
في (ش): على من، وهو خطأ.
أهل السنة أيضاً، وتجويزُ استناد ذلك إلى ما استرقته (1) مردةُ الشياطين باطلٌ بالضرورة العادية كما نعلم في المفتي (2) بالصواب أنه فقيهٌ، ولا نُجوِّز أنه عامي، وإنما يتلقَّن (3) من بعض الشياطين، ولا مستند إلى القطع (4) بأنه فقيه (5) إلا الضرورة العادية، وكذلك نعلم (6) فصاحة الفصحاء، وقوة الأقوياء، وذكاء الأذكياء، مع تجويز إعانة الجن في ذلك في بعض الأحوال النادرة، بل معرفتنا لمن نعرفه من الناس مع تجويز أن (7) يتصور بعض الجن على صورته بإذن الله، بل تجويز أن يخلق الله بشراً مثله، إنما مستند ذلك جميعه العلوم العادية الضرورية، ولو رفعناها، دخلنا في السفسطة، وكثير من الناس يغلَطُ فيها، لأنَّ التَّجويز يدخُلُ فيها بالنظر إلى قدرة الله، لا بالنظر إلى الواقع، وقد نعلم بالضرورة العادية كثيراً من البواطن من جوع الجائع، وغضب الغضبان، وإخلاص أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين، فإنا نجزمُ بنفي النفاق عنهم، ولا نجدُ إلى تجويز ذلك سبيلاً، ومستند ذلك العلم الضروري العادي بأن المنافق لا يستمر له إظهار ذلك، وأيضاً فاستراق السمع متفرِّعٌ على ثبوت الرب تعالى، وتفرُّده بعلم الغيب، وهذا متفرِّعٌ على أن القرآن كلام الله تعالى، لأن هذه الأمور لا تُعلمُ إلا منه، وبالجملة فمن ابتُلي بالوسوسة في الضروريات، شكَّ فيها، مثل الموسوسين في الطهارات، نعوذ بالله من الخذلان.
(1) في (ش): تتراقبه.
(2)
في (ش): بالمفتي.
(3)
في (ب): يتلقف.
(4)
في (ب): للقطع.
(5)
من قوله: " ولا نجوز " إلى هنا ساقط من (ش).
(6)
في (ش): يعلم الناس.
(7)
في (ش): إنه.
وأما الدليل الذي تُعوِّل عليه المعتزلة فيما كان من جنس مقدور (1) بعض المخلوقين من المعجزات، كتحريك الجبال عندهم، فإنه من مقدور الملائكة والجن، فهو أن حكمة الله تعالى توجبُ منعهم من فعل ذلك تصديقاً للكاذبين، وقد نازعهم الرازي في إيجاب ذلك على تقدير تسليم قاعدة التحسين العقلي، وقال: إن المنع مما يُوهِمُ غير الصَّواب لا يجب على الله، ولو كان يجب عليه، لقَبُحَ إنزال المتشابه، والتمكين من السحر، وزعم أنَّه لا جواب لهم، وأنه لا بُدَّ لهم من الرجوع إلى مذهب أهل السُّنَّة في أن مستند العلم في هذه الأشياء هو (2) العلوم العادية، لا سوى، ومن ثَمَّ ألزم المعتزلة خاصة أن يكون القرآن من كلام الجن، والحق أنه لا يلزمهم، لما ذكرناه عنهم من الأجوبة، لا سيما الاحتجاج بما فيه من علم الغيب.
وأما احتجاجُهم بوُجُوبِ المنع من ذلك على الله، ففيه مباحثُ، مع أنه يشهد له قوله تعالى:{وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 44 - 47]. ولكن (3) يَرِدُ عليه أن الله لم يقُل: إن ذلك واجبٌ عليه (4)، ويمكن أن يفعل من ذلك سبحانه ما لا (5) يجب عليه، فليس جميع أفعاله سبحانه واجبة، مع أنه سبحانه لم يفعل ذلك مع كُلِّ كذَّابٍ من المُدَّعين للنبوَّة، إمَّا لأنه لا يجب، وإمّا لأنه لم تظهر عليهم معجزاتٌ
(1)" مقدور " ساقطة من (ب).
(2)
في (ش): هي.
(3)
في (ش): ولكنه.
(4)
ساقطة من (ب).
(5)
في (ش): فلا.
تُوجب تكذيبهم عليه سبحانه.
أما (1) المتشابه، والسحر، والدَّجَّال، فقد ذكرها الله تعالى ورسوله، وكذلك يمكن أن يقال: قد ثبت أنه لا نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبرهان القاطع، فأغنى ذلك (2) عن تكذيب الكاذبين بأكثر منه، ولله سبحانه الحجة البالغة، ولا أحد أحبُّ إليه العذرُ منه سبحانه، وبنحو هذه الأمور يُجابُ عن قول من قال: إنّ النُّبُوَّات (3) من قبيل الخواص مثل النفوس التي من خواصها التأثير في الآلام المسمَّاة بالعين، وهو أن يقال: إنّ الأمارات الضرورية قد دلَّت على صدق الأنبياء، وعدم تعمُّدهم الكذب، ودلَّ اجتماعهم على تصديق بعضهم لبعض، ومخالفتهم النُّظَّار في ذلك على عصمتهم عن الخطأ، ورفيع منزلتهم، وتميُّزهم عن أجناس المختلفين وأنواعهم، والخواص من قبيل الطبائع التي لا يتأتَّى منها صُدورُ الأمور المُحْكَمَةِ على الدوام، إلَاّ لو كانوا (4) متهمين بالتَّزوير، وترويج الباطل، وقد يضُرُّ (5) المعاين ولده ونفسه، وتحرق النار (6) أكثر من (7) المقصود مرةً ودونه أخرى (8).
وأما الجاحظ، فقد مال إلى أنه لا جواب على هذا (9)، إلاّ أنه يجبُ
(1) في (ش): وأما.
(2)
في (ش): بذلك.
(3)
في (ش): الثواب، وهو تحريف.
(4)
في (ش): إلا وكانوا، وهو خطأ.
(5)
تحرفت في (أ) إلى: " نصر ".
(6)
في (أ): " الباب "، وهو تحريف.
(7)
في (أ): برمي، وهو تحريف.
(8)
" من المقصود مرة ودونه أخرى " ساقطة من (ش).
(9)
في (ش): عن هذه.
على الله المنعُ منه، وليس بجيِّدٍ لوضوحِ هذا الجواب، وعدمِ الوفاقِ على وجوب ما ذكره (1).
فإذا تقرَّر صحةُ الاحتجاج عقلاً بإعجاز القرآن على ثُبوت الرَّبِّ سبحانه، أو بغير القرآن من سائر المعجزات، وعلى عِلمِهِ بقُبح الكذب، وقبح تصديق الكاذب، واستغنائه عن ذلك، جاز الاستدلالُ بالسَّمع بعد ذلك على سائر العقائد حتى على (2) كونه سبحانه غنيّاً عن كل شيءٍ على الإطلاق، فإنه لو (3) لم يتقرر بإعجاز القرآن إلا غناهُ سبحانه عن الكذب، لا سوى، بدليل قدرته على كل شيءٍ من غير واسطة الكذب، مع علمه بقُبحه، فيجب الجزمُ بصدقه، وصدق من صدَّقهُ، ويشهدُ لذلك ما عُلِمَ من أديان الأنبياء من تقرير المسلمين على الإسلام بعد ظهور المعجِزِ، وفي الاستدلال بالمعجزات السَّلامة مِنَ النَّزاع في الحدوث، وفي الطبع، لأن شرط المعجز أن لا يكون وقوعُه سابقاً لدعوى النبوة، ولا موافقاً للعادة، وكثيراً ما يجعل الله المُعْجِزَ من جنس ما يعرفه المعاصرون لصاحب النبوة، ليعلموا أنه متميِّزٌ عن السحر، وعن مَقدورات العباد، مثل تَلَقُّفِ عصا موسى لما جاءت به السَّحرةُ، لمَّا كان السحرُ صنعة أهل ذلك العصر، وإحياء عيسى عليه السلام للموتى، لمّا كان الطِّبُّ صنعة أهل عصره، وإتيان محمدٍ صلى الله عليه وسلم بالقرآن العظيم، لمّا كانت الفصاحةُ صنعة (4) أهل زمانه. ومتى عجز أهلُ العصر، وتواتَرَ عجزُهُم، عُلِمَ من بعدهم الإعجازُ بالتواتر، وإن لم يكن من أهل الصنعة، كالعَجَمي، يعلم إعجازَ
(1) من قوله: " وأما الجاحظ " إلى هنا ساقط من (ب).
(2)
في (أ) بدل " حتى على ": " لا ".
(3)
"لو" ساقطة من (ب).
(4)
في (ش): صنعة الفصاحة، وهو خطأ.
القرآن، لما تواتر لهُ من عجز بُلَغَاء الخلق عن معارضته، وَمَن لا يعرف السحر، يعرف (1) باعتراف السحرة أنّ ما جاء به موسى ليس بسحرٍ، ومن لا يعرف الطبَّ، يعلم بعجز الأطباء عن إحياء الموتى أنَّ ما جاء به عيسى عليه السلام ليس بطب، وكذلك ما يجري للأنبياء عليهم السلام من الكرامات زمن (2) الطفولة، وأيام التربية، فإنه (3) يُميِّزهم من السحرة (4)، وكذلك ما يكونُ لهم من الصدق، والزهادة، والعِفَّة، والجلالة، ولذلك (5) كان معرفة سيرهم وأحوالهم من موجبات الإيمان، وقد جمعتُ في ذلك كتاباً سميته " البرهان القاطع في إثبات الصانع، وجميعِ ما جاءت به الشرائع "، وأشرت إلى أنّ الفرق بينهم عليهم السلام وبين السحرة بذلك أولى من النظر في الفرق بين السحر والمُعجز، لتوقُّفِ ذلك على معرفة السحر (6)، ثمَّ شَغَبَ بعضُ أهل العصر في ذلك بمباحث، فألَّفتُ كتاب (7)" ترجيح أساليب القرآن " وتقصَّيتُ فيه الجواب على المباحث في ذلك (8)، فليُطالعهُ من أراد تحقيق هذا المهم.
والأمر الثاني مما أردته بقولي:
أصولُ ديني كتابُ الله لا العَرَضُ
النظر في الأدلة التي أمرنا الله تعالى أن ننظُر فيها، أو حثَّنا على النَّظَرِ
(1) ساقطة من (ش).
(2)
في (ش): من.
(3)
في (ش): وأنه.
(4)
في (ش): السحر.
(5)
في (ش): وكذلك.
(6)
ص 22 - 30.
(7)
في (ش): كتاباً سميته.
(8)
في (ش): الجواب عن ذلك.
فيها، كقوله تعالى:{أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67]، وقوله تعالى، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ -إلى قوله- ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} [الحج: 5 - 6]، وكذا قوله تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ - إلى قوله- لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164]، وما لا يأتي عليه العدُّ، وهذا أمرٌ لا يصلح أن يكون فيه خلاف بين المسلمين (1) البتة، ومن أدّاهُ الغُلُوُّ إلى تقبيح الاكتفاء بهذه الأدلة، وجب على جميع المسلمين النَّكيرُ عليه، والإغلاظُ له، وقد ظهر لي أنّه قولُ أئمَّة الكلام، فضلاً عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وسائر علماء الإسلام.
قال الحاكم في " شرح العيون ": وأمّا الفصلُ السابعُ فيما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم من الخوض في الكلام، فلا شُبْهَةَ أنّه دعاهم إلى هذه الأُصول، والنَّظَرِ في الأدلَّة بمَا تلا عليهم من الآيات في أدلَّة التَّوحيد، والعدل، والنُّبُوَّات.
وذكر مختار في " المجتبى " الاستدلال بطريقة الأحوال في الطريق الرابع من الباب الثاني، ثمَّ قال: وقد جمعها الله تعالى في قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ -إلى قوله- لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
وقال الرَّازي في كتابه " الأربعين "(2) في الكلام على النُّبُوَّات في عرض الكلام في المعجزات العقليَّة: بل أقرَّ الكُلُّ بأنّه لا يُمكِنُ أن يُرادَ
(1) في (ش): الناس.
(2)
في (ش): الأربعون.
في تقرير الدلائل على ما ورد في القرآن، فهؤلاء الغلاة في الكلام يصرحون بذلك، فلا تلتفت إلى قول من ينكره منهم عند استظهار أهل السنة عليهم في الحجة بذلك، لأن إقرارهم بذلك يلزمهم ترك الخوض فيه، ولزوم منهاج أهل السنة، وذلك واضح، ولله الحمد.
وقال الغزالي في " القدسية "(1) في الأصل الأول من الركن الأول في معرفة وجوده تعالى: وأوَّل ما يُستضاء به من الأنوار، ويسلك من طريق النظر والاعتبار بما أرشد إليه القرآن، فليس بعد بيان الله بيان. ثم ساق الآيات القرآنية، وكذلك فعل يحيى بن منصور في كتابه " الجمل الإسلامية "، فإنه صدر الاحتجاج فيها بالآيات القرآنية، كما ذلك معروف.
وقال الإمام يحيى بن حمزة عليه السلام في أوائل كتاب " التمهيد " في القول في وجوب النظر ما لفظه: وكيف يقال: إنهم مُنكرون للخوض في هذه الأدلة، وأكثر القرآن مُشتملٌ على ذكرها وشرحها، ولنذكر منها واحدة يُقاسُ بها الباقي، وهي قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77] إلى آخر السورة، فالله تعالى حكى في هذه الآية إنكار المنكرين للإعادة (2)، وقرَّر وجه شبهتهم، وأجاب عن كل واحدة منها بوجه يخصُّه، وطوَّل في بيان ذلك إلى قوله: فأمَّا الآيات الدالة على إثبات الصانع وصفاته، والنبوة، والرد على منكريها، فأكثرُ من أن تُحصى.
(1) وهي " الرسالة القدسية في قواعد العقائد "، وهي أيضاً قسم من كتاب " الإحياء "، وهو كتاب قواعد العقائد في الجزء الأول منه. وإفرادها على حدة جاء في مخطوطات عدة، وتسمى الرسالة الوعظية. وانظر " إحياء علوم الدين " 1/ 182.
(2)
في (ش): للعادة، وهو تحريف.
وقال قاضي القضاة في المجلد الرابع من " المحيط في النبوات " في ذكر إعجاز القرآن ما لفظه: واتَّفق فيه أيضاً استنباطُ الأدلة التي تُوافقُ العقول، وموافقة ما تضمنه لأحكام العقل على وجه يَبْهَرُ ذوي العقول، ويحيِّرهم، فإن الله سبحانه يُنبِّهُ (1) على المعاني التي يستخرجها المتكلمون بمعاناةٍ وجهدٍ بألفاظ سهلةٍ قليلةٍ، تحتوي على معانٍ كثيرةٍ، كما ذكره عز وجل في نقض مذاهب الطبائعيين في قوله:{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} الآية [الرعد: 4]، وفي الآيات التي ذكرها في نفي الثاني، وفي غير ذلك من الأبواب التي لا تكادُ تحصى. انتهى بحروفه.
وقال القاضي عياض في " الشفاء "(2): ومنها جَمْعُهُ لعلوم (3) ومعارف لم تَعهَدِ العربُ عامةً، ولا محمد صلى الله عليه وسلم قبل نبوَّته خاصة (4) بمعرفتها، ولا القيام بها، ولا يُحيطُ بها أحدٌ من علماء الأُمم، ولا يشتمل عليها كتابٌ من كُتبهم، فجمع فيه من بيان علم الشرائع، والتنبيه على طُرق الحُجج العقليات، والرد على فِرَقِ الأمم ببراهين قوية، وأدلة بيِّنةٍ، سهلة الألفاظ، موجزة المقاصد، رام المتحذلقون بعد أن ينصبوا (5) أدلة مثلها، فلم يقدروا عليها، كقوله:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]، و {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79]، و {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] إلى ما حواه من علوم السير، وأنباء الأمم، والمواعظ، والحكم.
(1) في (ش): نبه.
(2)
1/ 277.
(3)
ساقطة من (ب).
(4)
في (ش): خاصة قبل نبوته.
(5)
في (ش): يثبتوا.
وقال محمد بن منصور في كتاب " التوحيد والجملة ": وإنما جاءت الرسل بغاية الحجة على من سألها بما بين الله لها، وأنزل في كتبه إليها، لم تَعْدُ ذلك إلى غيره، ولن تُكون حجةٌ أبلغ في الدلالة على الله من حُجج أنبياء الله التي أبلغها عن الله خلقه، ولا أهدى لهم إن قبلوها، قال الله تعالى:{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [إبراهيم: 10] ثم ساق مُحاجَّة إبراهيم إلى قوله: وقالوا عند مسألة فرعون: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} الآية [طه: 49 - 50]، وقال فرعون أيضاً:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الشعراء: 23 - 24]، وفي آية {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] فلم يتعدَّ موسى في الجواب عند مسألة فرعون غير ما أنبأه (1) اللهُ به في الكتاب، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم حين سأله قومه: مَنْ يُعيدُنا؟ فأمره الله بالجواب {قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51]، فلم يُكلِّفْهُ من الحجة والجواب غير ما قال له في الكتاب، ولمَّا قالوا له: انسُب لنا ربَّك، نزل عليه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} إلى آخر ما ذكره في كتاب " الزيادات "(2) من المجلد السادس من " الجامع الكافي ".
ولما وقف هذا المشارُ إليه على أبياتي هذه، حسب أنِّي استدللتُ على السمع بالسمع (3)، وظنَّ أنَّ مُرادي " أصول ديني ": السمعُ لا العقل، وظن أنَّ أهل السُّنة لا يرون العقل شيئاً، كأنَّه لا يعلم إجماع المسلمين أنه لا تكليف على صبيٍّ ولا مجنون، ولا بُدَّ من نظر العقل،
(1) في (ش): أنبأ.
(2)
" الزيادات " ساقطة من (ش).
(3)
في (ش): بالسمع على السمع.
ولذلك أمر الله بتدبر كتابه، فبأيِّ شيء يتدبَّرُهُ إلَاّ بالعقل؟ وإنما منعوا من وضع النظر في غير موضعه، ومن الطرائق (1) المبتدعة الضارة، نسأل الله الهداية (2)، وهذا تمام الأبيات:
أصولُ ديني كتابُ الله لا العَرَضُ
…
وليس لي في أُصولٍ غيره غَرَضُ
لولاه بالنصِّ ما كان الرسولُ درى
…
ما هو الكتابُ ولا الإيمانُ يَفتَرِضُ
ما احتجَّ قطُّ نبيٌّ في الكتابِ بما
…
قالوا كأن لم يكُن في وقتهم عَرَضُ
جاء الهُدى والشِّفا فيه وموعِظةٌ
…
ورحمة قولُ ربٍّ ليس ينتقِضُ
إشارة إلى قوله تعالى في يونس: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57 - 58].
وفي توهمهم إن الخليل به اسـ
…
ـتدل أفحش وهم ليس يرتحض
ما الفرق في ذاك بين النيرات وما
…
بين الأفولين للنظار لو محضوا
وما لهم عن دليل المعجزات أما
…
في الشمس عن زحل للمهتدي عوض
دليل موسى لأهل السحر عرفهم
…
في ساعة فغنوا عن علمهم ورضوا
وما تحقق ما أوجبتم سنة (3)
…
إلا ذكي حريص ليس يغتمض
وذاك أوضح ما حج الكليم به
…
فرعون في الشعرا والكفر ينخفض
وعلل الله أعلام الأنام بأهـ
…
ـل الكهف بالعلم (4) تعليلاً هو الغرض
كما تقرر في الكشاف وهو من الـ
…
ـخصوم، لكن أمر الحق منتهض
(1) في (ش): الطريق.
(2)
عبارة " نسأل الله الهداية " ساقط من (ش).
(3)
في (ج): شبه.
(4)
" بالعلم " ساقطة من (ج) و (ش).
إشارة إلى قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا} (1)[الكهف: 21].
تجري على ألسُنِ الأعداء مُتَّضِحَاً
…
عساهُ يشفي الذي في قلبه مرضُ
فما لهم إن جرى ذكرُ الكلام
…
وإن ذكرنا كلام الله ينقبض
وليتهُم إذ دَرَوْا علمَ الكلام دروا
…
أنَّ الشفاءَ الذي ظنُّوا به مَرَضُ (2)
قالوا: السُّكُونُ (3) وجودٌ ثابتٌ عَرَضٌ
…
وقطعُهُم فيه بالتَّشكيك مُنْتَقَضُ
لعلَّ وُجْدانه من ضدِّهِ عدمٌ
…
كالجهلِ والموت للأحياء يعترضُ
قالوا: فذاتُ كلا الكونين لبثهما
…
ولا دليلَ لهُم في ذاك ينتهِضُ
وكيف يتَّحِدِ الضدان من جدلٍ (4)
…
والأوَّليّ ببحثٍ ليس ينقرِضُ
بل السكوتُ هو اللبثُ الذي زعموا
…
والاحتراكُ بذاك اللبثِ يُرتَفَضُ
إذِ السكوتُ بسيطٌ يستحيلُ لهُ
…
فضلٌ ومعناهُ بالتقييد ينتقِضُ
ألا ترى أنه في طُولِ مدَّته
…
فرد على الفرضِ منَّا أنَّه غَرَضُ
وقيدُهُم لبثُه وقتاً بنقلته
…
في الاحتراك ركيك ليس ينتهضُ
إن كان ذا القيد شيئاً كان ذاك هو الـ
…
ـتحريكُ أو لم يكن شيئاً فما الغرضُ
فإن تقولوا انتفى الماضي فذا عدمٌ
…
ووصفُه بحدوث الذات معتَرَضُ
وإن تقولوا: هو المجموع فهو بنا الـ
…
ـموجود من عدمٍ والخلف ينتقض (5)
إنَّ البَسَائطِ لا تركيب يدخُلُها
…
إذ كُلُّ ما رُكِّبَتْ أفرادُهُ فَضَضُ
وكُلُّ ذاك إضافاتٌ وحاصِلُها
…
تخيُّلٌ لذواتٍ ليس تُمْتَحَضُ
(1) من " إشارة إلى " إلى هنا ساقط من (ش).
(2)
هذا البيت ساقط من (ب).
(3)
في (ب): السكوت.
(4)
في (ش): حدث.
(5)
في (ج) و (ش): منتقض.
كوصفهم لمقالٍ لا وجود لهُ
…
معاً فما وصفُ حرفٍ بالذي فرضُوا
وبعضُ مُحتركِ الأجسامِ أثقلُ مِنْ
…
بعضٍ وفي ذاك بحثٌ ليسَ يغتمضُ
سريعُها لابثٌ وقتاً بكُلّ جها
…
ت الكونِ حتَّى لُمُوع البرقِ إذ يفِضُ
وضدُّه لابثٌ ضعف (1) السريع بلا
…
ريبٍ -على زعمِهِم- والحقُّ مُفترضُ
فكان في جهة (2) وقتين مُحترِكاً
…
وجمعُ ذا باضطرار العقلِ يُنتقضُ
ولو تَحَلَّل في ذاك السُّكُون لَمَا
…
خفي إذا كان أضعاف الذي يَفِضُ (3)
وكان عن قصدِنَا فيما يكونُ لنا
…
لا سيما في الذي ينهَى ويفترِضُ
فانفد (4) حدودهم الأكوان إنَّ بها
…
مُزيَّفاً باطلاً بالنقدِ يُرتَفَضُ
فإن قضينا ببُطلانِ الحدودِ، فَذَا
…
وإن نقُل باعتباراتٍ، فذا الغَرَضُ
ويشهدُ الظلُّ والنَّجم البطيء لقو
…
ل الاعتبار إذا خرَّ الذي يفضُ (5)
صحَّ السُّكُونَ طويلاً فيهما لُغَةً
…
والاحتراكُ لمحضِ العقل مُمتحضُ
والحقُّ أنَّ السكونَ والبقاء ردِيـ
…
ـفَاً للَّبثِ والكون في المعنى هو الغَرَضُ
وقولُنا الكونُ ذاتٌ غيرُ مُتَّضحٍ
…
لأنه باعتبار الوقت مُعتَرضُ
وهو الوجودُ يُسمَّى باعتبارهما
…
اسماً وما كُلُّ لفظٍ تحتهُ غَرَضُ
ولا دليلَ عليه وهو مُحتَمَلٌ
…
والاحتمالُ بميلِ الظِّلِّ ينتهض (6)
ونُقْلَةُ الجسم والتحريك قطع مسا
…
فة ترادُفُها ما ليس يُعتَرَضُ
فالكونُ في حالةِ التحريكِ يُطلقُ لا
…
يُقالُ: لبثٌ له، فاللبثُ يُنتَقضُ
إذ فيه معنى السُّكونِ وهو مُحتَرِكٌ
…
كما تقدَّم في المبطي وما يَفِضُ
(1) في (ب): ضد.
(2)
في (ب) و (ج): وجهه.
(3)
في (ش): نقض.
(4)
في (ب): فافقد.
(5)
في (ش): نقض.
(6)
في (ج) و (ش): منتهض.
والنَّجم والنَّبْتُ (1) والظلُ الجميعُ سكو
…
نهُنَّ كالطفلِ بالبرهانِ مُعتَرَضُ
هذا المُطابِقُ والموضُوعُ في لُغةٍ
…
وأوهمُوا فيه بالملزُوم فاعترضوا
فلا تظُنَّ اختلافَ اللفظِ يلتزمُ الـ
…
أشيا ولا كُلَّ معنى تحتَهُ غَرَضُ
فالجهلُ لفظٌ لهُ معنى وليس لهُ
…
ذات، كذلك موتُ الحيِّ لا المَرَضُ
يعني الجهل اللُّغوي، وكذلك النوم والسهو، والجنون، وكذلك الموت، لأنه زوالُ الحياة، ولو كان معنى، لزم أن يكون للجمادِ معنى بكونه جماداً، بل العدمُ المحضُ لفظٌ له معنى معقول (2)، وليس بشيءٍ ضرورة.
والعَدمُ المحضُ معقولٌ تجدُّدُه
…
لفظاً ومعنى ولا وصفٌ ولا غَرَضُ
فلا ترُدَّ نُصوصَ الذِّكر مُعتمداً
…
على خيالٍ لأذكى منك يَنتَقِضُ
ورُبما جاء أذكى مِنكُما فَغَدَا الـ
…
إسلامُ في كُلِّ يومٍ وهو يُرتَفَضُ
فَقِفْ على الجُمَلِ المعلُومِ صحَّتُها
…
ولا تُجَاوِزْ، وقولُ النَّصْحِ مُفتَرَضُ
ومعنى البحث الأول الوارد بعد قولي:
قالوا السُّكونُ وجودٌ ثابتٌ عَرَضٌ
…
وقطعُهُمْ فيه بالتَّشكيك ينتقض
أنهم جعلوا مُجرَّد كون الجسم في الجهة لبثاً فيها، سواء كان قاطعاً لها بالحركة والنقل، أو قاراً فيها وقالوا: لا فرق بين الحركة والسكون بالنظر إلى ذاتهما البتَّة، فإنَّ ذاتهما واحدةٌ، وهي اللبث عندهم، ولكن ذلك اللبث إنِ استمرَّ وقتين فصاعداً، وإن قصر، فهو السُّكون، وإن لم يستمر (3) وقتين وكان (4) بعد نقله، فهو الحركة، وإن كانت بطيئة، وهذا
(1) في (ش): واللبث، وهو تحريف.
(2)
في (ب): مغفور.
(3)
في (ب): يستمروا.
(4)
" وكان " ساقطة من (ب).
فاسد من وجهين:
أحدهما: ما ذكرتُه من فساد تركيب المعاني البسيطة.
وثانيهما: ما نظمته (1) في هذه الأبيات، وتلخيصُه: أنا إذا فرضنا محتركين في جهاتٍ مستوية الأطراف، وكان أحدهما يقطعها في ساعة، والآخر في ساعتين أو أكثر، وكان مُجرَّد الكون في الجهة لُبثاً فيها، استلزم بالضرورة أنَّ البطيء (2) قد لبث في كلِّ جهة وقتين قصيرين من أوقات سريع الحركة الذي قطع تلك الجهات كلها في ساعة، وهذا يستلزم أحد أمرين:
إمَّا أنَّ البطيء يُسمَّى محتركاً ساكناً معاً باعتبار الجهتين، أعني: متحرِّكاً باعتبار قطع المسافة، ساكناً باعتبار ما هو أسرعُ منه، كما يصحُّ تسمية الظل والنجم ساكنين (3) باعتبار الرؤية، ومحترِكَيْنِ باعتبار البرهان، وحينئذٍ يحصُلُ الغرضُ، وهو أن الأكوان ليست أشياء حقيقةً، لأنَّ الأضداد الحقيقية لا تجتمعُ، كالسَّواد والبياض، بخلاف الإضافيَّة، كالقبلية والبعدية في اليوم، بالنظر إلى أمسِ وغدٍ.
وهم يعتذرون عن هذا بأنَّ في الحركة الثقيلة سكوناتٍ (4) متخلِّلة، وقد أبطله الرازي في " الملخص " بوجوه:
منها، ما أشرتُ إليه في الأبيات، وهذا لفظُ الزازي، قال: لو كان
(1) في (ش): تضمنته.
(2)
في (أ): المبطىء.
(3)
من قوله: " باعتبار الجهتين " إلى هنا ساقط من (ش).
(4)
في (ب): سكونان.
كذلك، كان نسبةُ السكنات المتخلِّلة من حركات الفرس التي (1) تعدو من أول اليوم إلى الظهر خمسين فرسخاً إلى حركاته، كنسبة فضل حركة الفلك الأعظم إلى حركاته، لكن الفلك الأعظم قطع قريباً من ربع مقداره، ومعلومٌ أنه أزيدُ من المسافة المذكورة ألف ألف مرة، فيجبُّ أنْ تكون سكنَاتُ هذه الفرس أزيد من حركاته ألف ألف مرة، ولو كان كذلك، لما ظهرت الحركات الفرسية (2) ما بين خَلَلِ تلك السكنات، لكن الأمر بالعكس، فإنَّا (3) لا نُشاهدُ في (4) حركاته (5) سكناتٍ أصلاً، فيجب أن لا يكون البطءُ المتخلل (6) السكنات، انتهى من التقسيم الثاني في تقسيمات الحركة.
وإمَّا أن ينتقض قولهم: إنَّ مجرَّد السكون (7) لُبث، ويكون الُّلبث مُرادفاً للسكون، بل هو في عُرْفِ اللغة أطول منه، قال في " الضياء ": هو الإقامة، قال الله تعالى:{لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23].
والذي يقوم عليه الدليل أنَّ اللبث والسكون يُضادَّان النُّقلة وقطع المسافة، وأنَّ (8) الكون في المكان كالجنس، وهو المسمى في عُرفهم بالكون المطلق، فإن طال حتَّى اتَّصف بما يُناقضُ النقلة ويضادها، فهو اللبث والسكون بالنظر إلى المكان، والبقاء والدوام بالنظر إلى الزمان، وإن لم
(1) في (ش): الذي.
(2)
في (ش): " ألف سنة " وهو تحريف.
(3)
في (ج): فأما، وهو خطأ.
(4)
في (ش): " من "، وهي ساقطة من (ب).
(5)
ساقطة من (ج).
(6)
في (ش): فوجب أن لا يكون النطق لمتخلل، وهو تحريف.
(7)
في النسخ: الكون، وكذا كُتِبَ فوقها في (أ).
(8)
في (ش): فإن.
يطُل طولاً يناقض مُطلق النقلة السريعة والبطيئة، فهو كونٌ مطلقٌ في كلِّ جهةٍ، ولا يُوصفُ بلُبْث، كما لا يُوصف بسكون، ولا فرق بين كونه في المكان وبين وجوده فيه إلَاّ في العبارة. وحاجته إلى المكان لا توجب حاجته إلى ذاتٍ تحُلُّهُ، كما أن حاجته إلى الزمان لا تُوجب ذلك عند الخصم، ولو سلَّمنا جواز ذلك، فلا يثبتُ بمُجرَّد التجويز. والاستدلال بمثل قولهم: إنَّ المتحرك إذا سكن، فقد حدث، أمرٌ باطل، لوجهين:
الوجه (1) الأول: ما ذكره الرازي في كتابه " الملخص في الجواهر والأعراض "، فإنه ذكر أنَّه ضعيفٌ؛ لأنَّ الحادث بشرط كونه مسبوقاً بالعدم يمنَعُ أن يكون صِحّةُ حصوله على هذا الشرط أزلية، وإلَاّ اجتمع النفي والإثباتُ، فهو قد كان ممتنعاً، ثمَّ صار مُمكناً، وقد ثبت بالدلالة أن الامتناع والإمكان يستحيلُ كونُ واحدٍ منهما أمراً ثُبوتياً، ولأن الشيء أن حدوثه (2) حادث، وغيرُ باقٍ، ثمَّ يصيرُ بعد ذلك باقياً، ويزولُ عنه كونه حادثاً، مع أن الحدوث قد كان يستحيل أن تكون صفتُه ثُبوتيّةً، وإلَاّ لزم التسلسل، والبقاء أيضاً ليست صفة ثبوتية، وإلَاّ لَزِمَ الدَّوْرُ، وكذا القول في جميع الأحوال الاعتبارية التي لا ثبوت لها في الخارج. انتهى بحروفه منسوباً إلى زيتون، ذكره في الفنِّ الخامس في الحركة والزمان من الباب الثاني في بقيَّة المقُولات.
الوجه الثاني: سلَّمنا أنَّ أحدهُما ثبوتيٌّ، فلا يلزمُ أنَّ المتحرِّكَ إذا سكن فيه حدوثُ (3) أمرٍ لجواز أنَّهُ عدمُ أمرٍ، كالجهل، والموت، والظلِّ
(1) ساقطة من (ش)، وفي (ج): أحدهما.
(2)
في (ش): حدثه.
(3)
في (ب): إذا حدث سكن فيه، وفي (ج): إذا سكن فقد حدث، وفي (ش): إذا سكن حدث فيه.
بعد الشمس، وما لا يُحصى. ومجرَّدُ اختلاف الأسماء لا يدلُّ على الذوات كما قدَّمنا، وكالسُّرعة (1) والبطء في الحركة، وكذلك الأحكام الشرعية كلُّها، وهي الوجوب، والنَّدْبُ، والإباحةُ والحظر، والكراهة.
فإذا عرفت معنى اللُّبث والسُّكون، والبقاء والدوام، فاعرف أنَّ الحركة هي قطعُ المسافة، وهي النُّقلة، وليست اسماً للكون في الجهة من حيث هو كون، ولا يدلُّ على ذلك دليلٌ، ولذلك اشترطوا في حدها النقلة، لعلمهم أنهم لو لم يشترطوه، لبطل قولهم ضرورةً، ومع اشتراطه وثُبوتِ الحركة به، وانتفائها بانتفائه، يتعيَّنُ القول بأنه الحركة، والحمد لله.
وبيان ذلك بعرضه على دلالتي المطابقة والالتزام، فإنَّ الحركة في دلالة المطابقة الوضعية في الحقائق الثلاث تدلُّ على النُّقلة، وقطع المسافة من حيث هي كذلك، ولا تدلُّ على الكون في الجهة من هذه الجهة (2) البتة، وإنَّما يدلُّ على ذلك بدلالة الالتزام العقليَّة، كدِلالة الجسم على ذلك محقَّقاً، وهم عكسوا ذلك عكساً مُحقّقاً.
فرضٌ على مِثْلِ هذا النَّقل (3) قولُهُمُ
…
تَجِدْهُ مِثْلَ شَرابٍ شُربُهُ حَرَضُ
هذا وإنِّي على ردِّي لِقَولِهِمُ
…
أحنُوا عَلَيْهِمْ وإنْ عابُوا وإن بَغَضُوا
إخوانُنَا وعلى الدِّين الحنيف وإنْ
…
أخطَوْا، فَمَا الشمُّ يومَ الرِّيحِ تَنْتَقِضُ
لهُم سوابِقُ مِنْ علمٍ ومِنْ عَمَلٍ
…
فَكَمْ أَصَحُّوا وكَمْ صحُّوا وإن مَرِضُوا
(1) الواو ساقطة من (ش).
(2)
عبارة " من هذه الجهة " ساقطة من (ب).
(3)
في (ب) و (ج) و (ش): النقر.
ولي ذُنُوب إذا قِيسَتْ بذَنبِهِم
…
رُدَّتْ عليَّ ردوداً (1) ليس يَنْتَقِضُ
فاللهُ يُوسِعُنِي فَضْلاً ويوسِعُهُمْ
…
فَمَقْصِدُ الكُلِّ أنَّ الحَقَّ يَمْتَحِضُ
وإنَّما نظمتُ هذه المباحث في الأكوانِ على كراهتي للخوض في هذا العلم، لأنَّها لا تَعَلَّقٌ بالكلام في ذات الله تعالى وصفاته، ورجوتُ انتفاع بعضهم بمعرفة ذلك، ومعنى بقية هذه (2) المباحث أنَّ دليلَهم مبنيٌّ على أنَّ الأكوانَ ذواتٌ ثابتةٌ غيرُ عدميَّة، ومن المُمْكِنِ أن يكون السُّكون عدم الحركة، كما أن الجهل عدم العلم، إلا (3) أنه أمرٌ ثبوتيٌّ، فلا يصحُّ قولهم: إنه إذا سكن المحترك، فقد حدث أمرٌ لجواز أن يكون الصواب أنه عدمُ أمرٍ، كما لو عدم العالم، وقد أضربوا عن هذا السُّؤال في كُتُبِهِمْ مثل:" الشرح وتعاليقه "، " والخلاصة وتعاليقها "، وذكره الرازي في " الأربعين "، وحاولوا (4) الجواب عنه بالتزامِ (5) أنَّ الحركة والسكون ذات (6) واحدة، وهي من قبيل (7) اللُّبث، لكن إن استمرَّ وقتين فصاعداً، فهو السُّكُونُ، وإلَاّ فإن كان بعد نقله، فهو الحركة، وإلَاّ فهو الكونُ المطلق، ولبثُ الحركة عندهم في الوقت الثاني ينقلِبُ سكوناً، وهذه (8) منهم غفلةٌ عظيمةٌ، فإنَّ انقلاب الذوات محالٌ، والمعاني كُلُّها بسيطةٌ، لا تركيب فيها كالعلم، والسكون عندهم متركِّبٌ مِنْ لُبثين (9) فصاعِدَاً، وعلى
(1) في (ش): ردود.
(2)
في (ش): بقية معرفة هذه.
(3)
في النسخ: لا.
(4)
في (ش): وحالوا.
(5)
في (ج): والتزام.
(6)
في (ب): ذوات.
(7)
في (أ) و (ب): قبل.
(8)
في (ش): وهذا.
(9)
في (ش): اثنين.
هذا يصحُّ أن يكونَ له نصف، ويلزمُ أنَّه لو طال، لكان سكونات كثيرة، وهم لا يقولون به، ثم الحركةُ عندكم متركِّبة من لُبْثِ المتحَيِّز وقتاً واحداً في المحلِّ الثاني، ومِنْ عدم لُبثها في المحلِّ الأوَّل، والذوات الثبوتية الحقيقية (1) لا تُرَكَّبُ من العدم، والعَدَمُ لا يُوصَفُ بالحدوث.
فإن نازعوا في هذه المعاني، نازعوا في الضرورة، وإن سلَّموها، وزعموا أنهم اصطلحوا هذه الأسماء لهذه المُسمَّيات، فاختلاف الأسماء لا يُحيلُ الذوات ويقلب المعاني، ويتركَّب عليه الدليل، ثم يلزمهم في البقاء أن يكون معنى كالسكون (2)، لأن استمرار الوجود يسمى بالنظر إلى الزمان بقاءً، وبالنظر إلى المكان سُكوناً، ثم إنهم يقولون في الكون المقارب لحدوث الجسم: إنه فعل الله.
فإما أن يكون الجسم (3) مقدوراً من غير كون، لَزِمَ صحةُ خُلوه عنه، وإما أن يكون غير مقدورٍ إلاّ به، لزم نفيُ اختيار الله تعالى في خلقه الجسم منفرداً، وفي هذا منع القادر على كل شيء من مقدور معلوم أنه يقدر عليه إلَاّ بأن يخلُقَ معه شيئاً (4) آخر من غير برهان قاطع.
وأما كونه لا بُدّ أن يكون في جهةٍ معيَّنةٍ فذلك بالفاعل، لا بمعنى كما أنه لا بد أن يكون وقت مُعين، وذلك بالفاعل لا بمعنى اتفاقاً، وقال لهم منازعوهم: ما المانعُ من أنّ المؤثر في هذه الأشياء هو الفاعل من غير واسطة معنى؟
قالوا: المانعُ من ذاك أنا رأينا كلامنا لمّا كان مقدوراً لنا، قدرنا على
(1) في (ش): الحقيقة.
(2)
في (ش): السكون.
(3)
ساقطة من (ب).
(4)
في (ش): شيء.
أن نُوجده على صفاته كلها من نحو كونه خبراً وأمراً ونهياً، وكلامُ الغير لما لم يكن مقدوراً لنا، قدَّرنا لم نقدر (1) على جعله صفةً، فثبت أن كل ما لم يكن مقدوراً، كان مثل كلام الغير، والموجود غير مقدور، فلو قدرنا على جعله على صفةٍ قدرنا على جميع صفاته، فنجعله أسود وأبيض، وحلواً ومُرّاً.
وأجاب منازعوهم: بأن هذا القياس يتركب (2) على غلطٍ واضحٍ، فإن وصف الكلام بأنه خبرٌ وإنشاء ونحو ذلك ليس بوصفٍ ثبوتيٍّ حقيقيٍّ، بدليل أنه لا يصحُّ أن يُوجد من الكلام إلَاّ حرفٌ بعد حرفٍ، والمعدوم من الحروف لا يُوصفُ، والموجود منها ليس إلا حرف واحد (3)، والحرف الواحد ليس بكلامٍ وفاقاً (4)، فكيف يُوصفُ ما ليس بكلامٍ بأنّه خبرٌ أو إنشاء، ويكون ذلك الوصف حقيقياً؟
وإذا كان هذا حال الميزان المقيس عليه، فكيف حال الموزون به؟ ثم ما المانع أن تكون بعض الصفات مقدوراً دون بعض؟ كالأعراض عندكم، وما الجامع بين الأكوان، والألوان، والطعوم؟ فدلَّ على أن هذه الصفات إضافيةٌ لا حقيقة لها، أو أن (5) بعضها كذلك، وبعضُها ثبوتيٌّ، والصحيح أن الحركة قطعُ المسافة، والمرجع بالإجماع، والافتراق إليهما، وهذه إشارةٌ لطيفةٌ على حسب اختصار الأبيات، وتمكن الصارف من البسط في هذا العلم، ومن أحبَّ معرفة المباحت في هذه المسألة،
(1) في (ب): لم نحصل نقدر.
(2)
في (ش): متركب.
(3)
في (ش): حرفاً واحداً.
(4)
في (ش): واحداً وفاقاً.
(5)
في النسخ: وأن.
فعليه بكتاب " منهاج السنة النبوية "(1)، وكتب ابن تيمية الكلامية، وفي كتب الرازي، وأصحاب أبي الحسين شيء منها غير مستوفى، وكتب الرازي أكثر من غيرها، وأما كتبُ المتكلمين من الزيدية والبهاشمة (2) في عصرنا، فما فيها من هذا ما يُغني البتة، وإنما ذكرتُ هذا لإرشاد (3) من لا بُدَّ له من البحث، مع أنَّ الأولى تركُ هذه الوساوس والخيالات، والإقبال على أدلة الكتب السماوية، والسنن النبوية المحروسة من الزَّيغ، المصونة من الوهم (4). نسألُ الله السلامة.
ولأهل علم المعقولات أسلوبٌ آخر في الاستدلالِ بالحركة وتقسيمها إلى ستِّ حركات يجمعها الابتداء من كل تغير (5)، وهي حركة الكون (6)، والفساد، والنُّمو، والنُّقصان، والاستحالة، والنقلة، وهي طبيعية وقسرية (7)، وكلاهما إما أن يتحرَّك المتحرك بكلِّه كانت حركته مستقيمة (8) أو بجزئيه (9) كانت مستديرة، وقد كنت أثبتُّ الجواب ونقضه هنا، ثم رأيتُ ترك ذلك وإفرادَه في (10) مؤلَّفٍ.
(1) وتمام اسمه: " منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية " وقد طبع في أربعة أجزاء في المطبعة الكبرى الأميرية في مصر سنة 1322 هـ. ثم طبع بتحقيق الدكتور رشاد سالم رحمه الله رحمة واسعة.
(2)
في (ش): " البهاشمية "، والبهاشمة -وهم البهشمية-: أتباع أبي هاشم الجبائي من معتزلة البصرة. انظر " الملل والنحل " 1/ 78 - 85 للشهرستاني.
(3)
في (ب): الإرشاد.
(4)
في (ش): المصونة من الزيغ، المحروسة من الوهم.
(5)
في (ش): غير.
(6)
في (ب): اللون.
(7)
في (ب): وبشرية.
(8)
في (ش): مستديمة.
(9)
في (ب) و (ش): جزئية.
(10)
في (ج): من.
وقد اعترض بعضُ غُلاة (1) المتكلمين من أهل العصر على أهل الأثر بأنه إنما قال بذلك من هو جامِدُ الفطنة مثل مالكٍ، وبُلْهِ المحدثين، لقلَّةِ ممارستهم للعلوم، واقتصارهم على فنِّ الحديث، وكلامه هذا من فضلات الكلام المؤذي الذي ليس تحته أثارةٌ من علم، وقد قصد به ذم المحدِّثين كلِّهم، ووصمهم (2) بالبَلَهِ، لأن القول الذي نسبه إلى البُله منهم هو قول جلتهم وأئمتهم (3)، ولأنه صرح بنسبة البله إلى إمامهم: إمام دار الهجرة النبوية المُجمع على إمامته وورعه واجتهاده، ذلك شيخ الإسلام الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، فكيف بمن دونه منهم، ولأنه علَّل ذلك بعلةٍ تعُمُّهم، وهي ترك (4) ممارسة علوم أهل النظر والجدل، فينبغي تأديبُه على هذه الكلمات المؤذية الزائدة على القدر المحتاج إليه من عبارات المتناظرين في طلب المعرفة، وذلك بذكر بضعة عشر وجهاً على سبيل التَّقريع والتَّأديب:
الأول: أن عادة أهل العلم والفضل، وأهل الإسلام والخلف والسلف، وأهل البدع والكلام، وأهل كتب المقالات في الملل والنِّحل، كلهم استمرت على نسبة الأقوال إلى أهلها من غير زيادة سخريةٍ، ولا غمصٍ، ولا أذى (5)، ولا استهانة، مُنَزِّهين لألسنتهم عن خَبَثِ (6) السَّفه، ولمصنفاتهم عمَّا يدلُّ على قلة التمييز والمناصفة، فترى
(1) ساقطة من (ب).
(2)
في (ش): ووصفهم.
(3)
" وأئمتهم " ساقطة من (ج).
(4)
في (ش): تركهم.
(5)
في (ش) ازدراء.
(6)
في (ش): من حيث.
المتكلمين يقولون: ذهبت الثَّنوية إلى كذا، وذهبت النصارى إلى كذا، وكذلك سائر أهل المقالات علماً من المحصِّلين أنه لا حاصل تحت السَّفه، وأنه مقدورٌ لأدنى السُّوقة، وإنما يُوجَدُ ذلك في كلام كثير (1) من العلماء عند الانتصاف من البادي (2) بالعدوان، قال الله تعالى في مثل ذلك (3):{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148].
الثاني: أنك علَّلتَ (4) جُمود فِطَنِهِمْ وبَلَهَهُم بقلةِ ممارستهم للعلوم النظرية، والأساليب الجدلية، وهذه هفوةٌ عظيمة، لأن هذه العلة قد شاركهم فيها خِيرَةُ الله من خلقه من الملائكة المقربين، والأنبياء، والمرسلين، والصحابة، والتابعين، والأبدال والصَّالحين.
فإن كان هذا المعترض يجعل هذه العلة مؤثِّرة صحيحة، ويستلزمُ ما أدت إليه من الزِّراية على كُلِّ من ترك الخوض في الكلام والجدل والممارسة لأساليب العلم المنطقي، فقد تعرَّض للهلاك، وارتبك في الغباوة أيَّ ارتباكٍ، وانتظم في سلكِ الحسينية المخذولين (5) المفضِّلين لبعض المتكلمين على الأنبياء والمرسلين، وإن كان يأبى ذلك (6) إباء المسلمين، ويأنَفُ منهُ أنَفَة المؤمنين، فقد تبيَّن له أن من كان له أُسوةٌ في ترك الممارسة لهذه الفنون بالملائكة المقرَّبين، والأنبياء والمرسلين (7)،
(1) في (ش): ذلك كثيراً.
(2)
في (ش): المبادي.
(3)
" في مثل ذلك " ساقطة من (ش).
(4)
في (ش): أنه علَّلَ.
(5)
ساقطة من (ش).
(6)
في (ب): من ذلك.
(7)
من قوله: " ويأنف منه " إلى هنا، مكرر في (ش).