المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحديث الأول: حديث وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٣

[ابن الوزير]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث

- ‌الدعوى الأُولى: ادَّعَى أنَّ أحاديثَ الفقهاءِ متعارضَة في وضع اليَدِ على اليد

- ‌الدعوى الثانية: ادَّعى أنَّ العُمُومَ يعارِضُ الخصوصَ إذا جُهِلَ التاريخُ

- ‌الوجه الرابع: سلَّمنا أنا لَمْ نقلْ بجوازِ الجَهْرِ والإخفات معاً

- ‌الوجه السابع: أنَّ الخبَرَ إذا وَرَدَ في شَيْءٍ، ظهر في الأصل ظُهوراً عامَّاً

- ‌الوجه التاسع: سلَّمنا سلامَةَ هذا الحديثِ منْ جميعِ هذِهِ المَطَاعِنِ، فإنَّه حديث مُرْسَل

- ‌الوجه الحادي عشر: أنَّ هذا كُلهُ بناءٌ على أنَّا ما تَمَسَّكْنَا في المسأَلَةِ إلأَ بحديثِ فاسِقِ التَّأْويلِ

- ‌الوجه الثَّاني عشر: أنَّ السيدَ نَصَّ على أنَّا نُرَجِّحُ فُسَّاق التَّأويلِ

- ‌الإِشكال الأول: أنَّ المحدِّثينَ قد نصُّوا على عَكْسِ ما ذَكَرَهُ السيد

- ‌الإشكال الثالث: سلَّمنا للسيدِ أنَّ ذلكَ مَذْهَبُ الأوزريِّ

- ‌الإشكال السَّادسُ: سلَّمنا أنه يلزمُهُم

- ‌ الجواب عَنِ السيِّدِ في هذا مِنْ وُجُوهٍ

- ‌الوجه الثاني: أنَّ السيدَ غَلِطَ على ابنِ الصَّلاحِ، ولم يَنْقُلْ عنه مَذْهَبَه

- ‌ في كلامِ السيدِ هذا مباحثُ

- ‌البحثُ الرَّابعُ: أنَّ السيد ادَّعى على الرجُلِ في أَوَّلِ كلامِهِ أنَّه ادَّعى إجماعَ الفقهاءِ، ثُم ألزَمَهُ هُنا أنْ يَجْمَع لَهُ الأمَّةَ في صَعِيدٍ واحِدٍ

- ‌البحثُ السَّادِسُ: أنَّه ادَّعى إجماع العُلمَاءِ

- ‌البحث السابع: أنَّك إمَّا أنْ تُنْكِر الإجماعَ السُّكُوتيَّ أم لا

- ‌البحث التاسع: يتفضَّلُ السَّيِّدُ ويخبرُنا مَنِ الذي يقولُ مِنْ أهلِ البَيْتِ بطلاقِ زوجة هذا الحَالفِ

- ‌البحث العاشر: أنَّ الظَّاهِرَ إجماعُهم عليهم السلام على ذلِكَ

- ‌البحث الثالث عشر: أنَّه لا طريقَ إلى العِلْمِ بِأنَّ الحديثَ المُتَلَقَّى بالقَبُول هوَ بِنَفْسِهِ لفظُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم

- ‌ المضعَّف عليهما نوعان

- ‌النوع الأول: المعلولُ

- ‌ الجواب على هذا مِنْ وجوهٍ

- ‌الوجه الأول: أن كلامَ السيد في المسألة الأولى دالٌّ دِلَالَة واضِحَة على أنَّه يَدَّعِي أنَّه غير مجتهِدٍ، بل يدعي أنَّه لا مجتهدَ في الزَّمان

- ‌الوجه الثاني: أن نَقول: ما مُرَادك بهذا الإنتاج

- ‌الوجه الثالث: أنْ نقولَ: ما قصدُك " ويُستفتى مَنْ ليْس بعَلِيم

- ‌ في كلام السيدِ هذا أنظار

- ‌النظر الأول: أنه تعرَّض لتفسير كلامِ المؤيَّد باللهِ مِنْ غيرِ غَرَابَةٍ في ألفاظِهِ

- ‌النظر الثاني: أنَّ السيدَ في كلامه هذا قد أجاز التَّرجيح بالأخبار لبعضِ المُقَلِّدين

- ‌النَّظر الثالث: أنِّي لَمْ أُوجِبِ الترجيح بالأخبار على جميع المكلَّفين مِنَ العامَة

- ‌النظر الخامس: أنَّه وعد بضربِ مَثَلٍ، ولم يأتِ بما يَصْلُحُ أن يُسَمَّى مثلاً مضروباً عِنْدَ البُلغاءِ

- ‌ ضَعْفُ كلامِ السيِّدِ في هذا يتبيَّنُ بأنظار

- ‌النظر الأول: أنَّه مَنَعَ مِنْ جوازِ التَّرجيح للمقلِّدِ في كُلِّ مسألة

- ‌الوهم الأول: أنَّه عَوَّلَ على إجماعِ العامَّة المقلِّدين

- ‌الوهم الثاني: أنا لو سلَّمنا أنَّ إجماعُهم صحيحٌ، لما دلَّ على مذهبه

- ‌الوهم الثالث: وَهم أنَّ المقَلِّدِينَ مُجمعون على الالتزام

- ‌النظر السادس: قول السَّيِّد: إنَّ هذا لو وقع في زماننا، لأنكره النَّاس، عجيب أيضاً

- ‌النظر السابع: أنَّ السيِّدَ جاوزَ حدَّ العادة في الغُلُوِّ

- ‌النَّظر الأول: أنَّ السيدَ استدلَّ، ثم استثنى

- ‌النظر الثاني: أنَّ ما جاز في ذلك على المقلِّدِ جاز على المجتهد

- ‌النَّظر الرابع: أنَّ كلامَه في هذا الفصل يستلزِمُ اشتراطَ السَّفرِ والخطرِ في صِحَّة الاجتهاد

- ‌ الجواب على ما ذكره من وجوه:

- ‌الوجه الرابع: أنَّ اعتراضَ كتبِ الحديث الصَّحاح بأنَّ فيها ما ليس بصحيح عندَ غيرهم، عمَلُ منْ لم يعْرِفْ ما معنى الصحيح عند أهله

- ‌القسمُ الأول: ما يتعلَّقُ بأحكامِ التَّحليل والتَّحريم المشهورة مِنْ روايةِ الثِّقات

- ‌الحديث الأول: تحريمُ الوَصْلِ في شعور النِّساء

- ‌الحديث الثاني: "لا تَزَالُ طائفَةٌ منْ أُمَّتِي ظَاهِرينَ عَلى الحَقِّ

- ‌الحديثُ الثالث: النَّهي عن الركعتين بَعْدَ العصر

- ‌الحديثُ الخامس: "إنَّ هذا الأمْرَ لا يزالُ في قُرَيْشٍ

- ‌الحديثُ السادس: حدُّ شارب الخمر

- ‌الحديث السابع: النَّهي عن لباس الحرير، والذَّهب، وجلودِ السِّباع

- ‌الحديثُ الثامن: حديثُ افتراق الأمَّةِ إلى نَيِّفٍ وسبعين فِرقة

- ‌الحديث التَّاسع: النَّهي عن سبق الإمام بالرُّكوع والسُّجود

- ‌الحديث العاشر: النَّهي عن نِكَاح الشِّغارِ

- ‌الحديث الثاني عشر: حُكْمُ مَنْ سَهَا في الصلاة

- ‌الحديث الثالثَ عشر. النَّهيُ عَنِ النِّيَاحة

- ‌الحديث الرابعَ عشر: النَّهي عَنِ التَّمادح

- ‌الحديث الخامسَ عشر: النَّهي عن كُلِّ مسكر

- ‌الحديثُ السادسَ عشر: كراهةُ رضى الدَّاخِل على القوم بقيامهم له

- ‌الحديث السابعَ عشر: النهي عن تتبع عوراتِ الناس

- ‌الحديث الثامنَ عشر: النَّهي عَنِ القِران بَيْنَ الحجِّ والعُمرة

- ‌الحديث الموفي عشرين: روى عن أخته أمِّ حبيبةَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كان يُصَلِّي في الثَّوب الذي يُجَامِعُها فيه ما لم يَرَ فيه أذىً

- ‌الحديثُ الأول: فَضْل إجابة المُؤَذِّنِ

- ‌الحديث الثالث: في فضل حِلَقِ الذِّكر والاجتماعِ عليه

- ‌الحديث الرابع: النَّهي عن الغَلوطات

- ‌الحديث السادس: فضل حُبِّ الأنصار

- ‌الحديث الثامن: " المؤذِّنُونَ أطْولُ النَّاسِ أعنَاقَاً يوْمَ القيامَةِ

- ‌الحديث العاشر: تحريم وصل الشعر على النساء

- ‌الحديث الحادي عشر: " العَيْنَانِ وِكاءُ السَّه

- ‌القسم الثالث: ما يُوَافِقُ مذهبَ المعترِضِ من حديثه

- ‌الحديث الثاني: النَّهْي عن لباسِ الذَّهب إلا مُقَطَّعاً

- ‌القسمُ الرابعُ: ما يتعلَّقُ بالفضائل، مما ليس بمشهور

- ‌الحديث الثالث: حديثُ الفصل بَيْنَ الجُمُعَةِ والنّافلة بعدَها بالكلام

- ‌الحديث الرابع: " كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أنْ يَغْفِرَهُ إلا الشِّرْكَ باللهِ، وَقَتْلَ المُؤْمِنِ

- ‌القسم الخامس: ما لا يتعلَّق به حُكْمٌ

- ‌الحديث الأول: حديث وفاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو ابنُ ثلاثٍ وستِّين

- ‌فإن قلت: فما الوجه في روايتهم عنه؟فالجواب من وجهين:

- ‌الجوابُ من وجهين معارضةٌ وتحقيق

- ‌الوجه الثاني: التَّحقيق، وبيانُه أنْ نقولَ: توهم السَّيِّدُ أنَّ الشهادةَ على الزِّنى إذا لم يتمَّ نِصَابُها كانت قذفاً

- ‌الوهم التاسع: قال: ومنهم الوليد بنُ عقبة

- ‌الوهم العاشر: توهَّم السَّيّدُ أنّ الوليد منَ الرُّواة المعتمدين في الصِّحاح في الحديث عند أبي داود

- ‌الوهم الحادي عشر: ذكر السيِّد أنَّ الوليد مذكورٌ في غير " سُننِ أبي داود " من كتب الحديث، وهذا الوهم أفحشُ مِنَ الذي قبلَه

- ‌الوهم الثالث عشر: قال: ومنهم أبو موسى الأشعري نَزَعَ علياً الّذي ولّاه الله ورسوله

- ‌ ونَزيدُ على هذا وجوهاً

- ‌الوجهُ الأولُ: بيانُ القَدْح في أصلِ هذه الروايةِ

- ‌الوجهُ الثاني: المعارضةُ لذلك بثناءِ الإمام المنصورِ بالله على أحمدَ

- ‌الوجهُ الثالثُ: المعارضةُ لذلكَ من روايةِ الحنابلةِ وأهلِ الحديثِ

- ‌ ولنختم هذا الفصل بتنبيهين

- ‌التنبيه الثاني: ينبغي التأمُّلُ لَهُ، وذلك أنَّه قد يقع التَّساهلُ في نقل المذاهبِ مِنْ أهلِ كُتب المِلَلِ والنِّحَلِ

- ‌الفصل الثاني: في تحقيق مذهبِ أحمدَ بنِ حنبل وأمثالِه مِنْ أئِمَّة الحديث، وهُم طائفتان

- ‌أحدهما: القولُ بأنَّ النَّظر فيما أمر اللهُ تعالى بالنظر فيه

- ‌ثانيهما: أنَّهم يُنكرون القولَ بتعيُّنِ طرائقِ المنطقيِّين والمتكلِّمين للمعرفة

- ‌الوظيفة الأولى: التقديس:

- ‌الوظيفة الثانية: الإِيمانُ والتصديق:

- ‌الوظيفة الثالثة: الاعتراف بالعجزِ عن معرفةِ حقيقة هذه المعاني

- ‌ الوظيفة الرابعة: السُّكوت

- ‌ الموضعُ الثالث: تأويلُ العالِمِ مع نفسِه في سِرِّ قلبه

- ‌الوظيفةُ السابعة: التسليمُ لِقولِ الله تعالى، ولحديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌الأصلُ الرابع: أنَّهم في طول عصرهم إلى آخر أعمارهم ما دَعَوا الخَلْقَ إلى البحث

- ‌ فصل: ولعلك تقول: الكف عن السؤال، والإمساك عن الجواب من أين يغني

- ‌ فإن قيل: بم يميز المقلد بين نفسه، وبين اليهودي المقلِّد

- ‌الرابع: من المعلوم أيضاً أن في كل طائفة عظيمة بلهاء بُلداء، وإنّ في الزيدية

- ‌السادس: أنّ الفلاسفة تدَّعي من التَّحذلق مثل ما أنت مُدَّعٍ

الفصل: ‌الحديث الأول: حديث وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين

في ذلك في الكلام في مسألة الإِرجاء والرَّجاءَ من آخِرِ هذا الكِتاب إنْ شاء الله تعالى.

‌القسم الخامس: ما لا يتعلَّق به حُكْمٌ

وفيه أحاديث.

‌الحديث الأول: حديث وفاةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهو ابنُ ثلاثٍ وستِّين

سنة (1)، رواه مسلم عنه (2)، وقد تابعه على ذلِكَ غيرُ واحدٍ، ولذلك كان أكثرَ الأقوال وأصحّها، ذَكَرَ ما يقتضي ذلِكَ ابنُ الأثيرِ في " جامعه "(3)، وقيل في مُدَّةِ عمره صلى الله عليه وسلم غيرُ ذلِكَ.

الثاني: ذكرُ حديثِ كعبٍ الأحبارِ عن أهلِ الكتاب (4).

(1) رواه مسلم (2353)، والترمذي في " السنن "(3653)، وفي " الشمائل "(362)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 8/ 434.

وله شواهد من حديث عائشة عند البخاري (4466)، ومسلم (2349)، والترمذي في " السنن "(3654)، و" الشمائل "(363).

ومن حديث ابن عباس عند مسلم (2351)، والترمذي (3652)، و" الشمائل " له (361).

(2)

في (ب): عنه مسلم.

(3)

أي: في " جامع الأصول ". انظر 11/ 217 - 220، وانظر أيضاً " فتح الباري " 8/ 150 - 151.

(4)

علَّقَه البخاري في " صحيحه "(7361) في الاعتصام، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا تسألوا أهلَ الكتاب عن شيء، فقال: وقال أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزُّهري، أخبرني حُميد بن عبد الرحمن، سَمِعَ معاويةَ يحدث رَهطاً من قريش بالمدينة، وذكر كعبَ الأحبار، فقال: إنْ كان من أصدقِ هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا - مع ذلك لنبلو عليه الكذب.

قال الحافظ تعليقاً على قوله: وقال أبو اليمان: كذا عند الجميع، ولم أره بصيغة " حدثنا "، وأبو اليمان من شيوخه، فإما أن يكون أخذه عنه مُذاكرةً، وإما أن يكونَ ترك التصريحَ بقولِه: حدثنا، لكونه أثراً موقوفاً، ويحتمل أن يكون مما فاته سماعه، ثم وجدت الإسماعيلي أخرجه عن عبد الله بن العباس الطيالسي، عن البخاري قال: حدثنا أبو اليمان، ومن هذا الوجه أخرجه أبو نعيم، فذكره، فظهر أنَّه مسموع له، وترجحَ الاحتمالُ الثاني، ثم وجدتُه في " التاريخ الصغير " للبخاري، قال: حدثنا أبو اليمان.

ص: 198

الثالث: حديث " إنَّمَا أنَا خَازِنٌ، واللهُ الْمُعْطِي "(1) رواه مسلم، وله شاهِدٌ رواه عليٌّ عليه السلام عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولفظه:" لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت، وَلَا يَنْفَعَ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ"، رواه مسلمٌ مِن حديث عليٍّ عليه السلام فيما يُقَالُ في الاعتدال مِنَ الرُّكوع، ومعناه مجمعٌ عليه، وشواهدُهُ لا تُحصى.

الرابع: قولُهُ صلى الله عليه وسلم للنّاس: " الصِّيام يَوْمُ كذا "(2) رواه ابن ماجه، ولا ثمرةَ له إلا أنَّه يُستحب للإمام، والقاضي إذا علِمَ أوَّلَ الشَّهْرِ أنْ يُخْبِرَ النَّاسَ، وما زال النَّاسُ على هذا، وهذه سُنَّةٌ مستمرة.

الخامس: حديث " الخَيْرُ عَادَةٌ والشّرُّ لَجَاجَةٌ "، رواه ابن ماجه (3).

(1) رواه البخاريُّ (71) و (3116) و (3641) و (7312) و (7460)، ومسلم (137)، وأحمد 4/ 93 و95 و97 و98.

ورواه أحمد 4/ 101 بلفظ: " إني انا مبلغٌ، والله يهدي، وقاسمٌ، واللهُ يُعطي

" وقد ثبت أيضاً هذا الدّعاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدْعُو به إذا فرَغ من الصلاة وسلم. رواه البخاري (844)، ومسلم (593) من حديث المغيرة بن شعبة.

ورواه ابن ماجه (879) من حديث أبي جحيفة.

أما حديث علي، فليسَ في الباب الذي أشار إليه المصنفُ عند مسلم، إنما رواه مسلم في نفس الباب من حديث أبي سعيد الخدري (477)، وحديث ابن عباس (478)، والدارمي 1/ 301. وأما حديث علي، فأخرجه مسلم (771) مطولاً في صلاة المسافرين، باب: الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وفيه: " وإذَا رفَعَ رأسَه مِنَ الركوع، قالَ: اللهُمَّ ربَّنا لَكَ الحمدُ مِلْء السماواتِ، ومِلْء الأرضِ، ومِلء ما شئتَ من شيءٍ بعدُ ".

(2)

تقدم تخريجه ص 194.

(3)

برقم (221) من طريق هشام بن عمار، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا مروان بن جناح، عن يونس بن ميسرة بن حلبس أنَّه حدثه قال: سمعتُ معاويةَ بن أبي سفيان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: " الخيرُ عادةٌ، والشرُّ لجاجةٌ، ومن يُردِ اللهُ به خيراً يُفقِّهْهُ في الدينِ "، وهذا سند حسن. وصححه ابن حبان (310).

ورواه القُضاعي في " مسند الشهاب "(22)، وأبو نعيم في " الحلية " 5/ 252، وفي " أخبار أصبهان " 1/ 345، والطبراني في " الكبير " 19/ (904) من طرق عن الوليد، به.

وقوله: " الخيرُ عادةٌ " قال المناوي: لعود النفس إليه، وحرصها عليه من أصل الفطرة. =

ص: 199

السادس: حديث " لمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إلا بَلَاءٌ وَفِتْنَة "، رواه ابن ماجه (1).

السابع: حديث " إنَّما الأعمالُ كالوِعَاءِ إذا طابَ أسْفَلُهُ، طَابَ أَعلاهُ " رواه ابن ماجه (2).

الثامن: سبب نزول قوله تعالى: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} (3)[التوبة: 34] وفيمَ نزلت، رواه البخاريُّ، والنِّسائي مِنْ طُرُقٍ

= قال الغزالي: من لم يَكُنْ في أصل الفطرة جواداً مثلاً، فيتعود ذلك بالتكلف، ومن لم يخلق متواضعاً يتكلفه إلى أن يتعوَّدَه، وكذلك سائر الصفات يعالج بضدها إلى أن يحصلَ الغرضُ .. وأكثر ما تستعمل العرب العادة في الخير، وفيما يسرُّ وينفعُ.

و" الشر لجاجة ": لما فيه من العوجِ وضيقِ النفس والكرب، واللجاج أكثر ما يستعملُ في المراجعةِ في الشيء المُضِرِّ بشؤمِ الطبعِ بغير تدبُّر عاقبةٍ، وُيسمى فاعلُه لجوجاً، كأنه أخذ من لُجة البحر، وهي أخطرُ ما فيه، فزَجَرَهُم المصطفى صلى الله عليه وسلم عن عادةِ الشَّرِّ بتسميتها لجاجةً، وميَّزَها عن تَعَوُّدِ الخير بالاسم للفرق.

(1)

برقم (4035) من طريق غياث بنِ جعفر الرحبي، أنبأنا الوليدُ بن مسلم، سمعتُ ابن جابر يقول: سمعت أبا عبد ربه يقول: سمعتُ معاوية يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لم يبقَ مِنَ الدُّنيا إلا بَلاءٌ وفِتْنةٌ ". وهذا سند قوي، ابن جابر: هو عبد الرحمن بن يزيد.

وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ورقة 253: هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وصححه ابن حبان (690).

ورواه ابن المبارك في " الزهد "(596)، ومن طريقه أحمد في " المسند " 4/ 94، والطبراني في " الكبير " 19/ (866) عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، به. وزاد فيه:" وإنَّمَا مَثَلُ عملِ أحدِكُم كمثلِ الوِعَاء إذا طَابَ أعلاهُ، طابَ أسفلُهُ، وإذا خَبُثَ أعلاه، خَبُثَ أسفلُهُ ".

(2)

برقم (4199) من طريق عثمان بن إسماعيل بن عمران الدمشقي، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني أبو عبد رب، قال: سمعت معاوية

(3)

رواه البخاري (1406) و (4660) والنسائي في التفسير في " الكبرى " كما في التحفة 9/ 163، والطبري (16671) و (16673) و (16674).

ص: 200

كلّها من حديث زيد بن وهب، عن أبي ذرٍ أنّه قال: نزلت فينا، وفي أهلِ الكتاب، وخالفه معاويةُ، وقال: إنَّما نزلت في أهلِ الكتاب، وهذا الحديثُ إنَّما ذُكِرَ لسياق قصَّة أبي ذرٍّ، وسبب خروجه من المدينة لمخالفة معاوية له في ذلك، واجتماع النّاس عليه، وليس يَلْتَفِتُ أحدٌ مِنْ أهلِ السُّنَّة إلى ترجيح معاوية على أبي ذرٍّ، ولا يختلفون في ترجيح أبي ذَرٍّ، سيما وقد وافقه ابنُ عباس، وابنُ عمر، وثوبانُ، وأبو هريرة كما ذكره أهلُ كتب الحديث والتَّفسير، وإن كان الواحديُّ (1) أشار إلى اختلاف المفسرين في ذلك مِنْ أجلِ أنّ الآية الّتي قبلها في أهل الكتاب، ولذلك قالوا: إنّها محتملة، وهذا أيضاً غيرُ مرفوعٍ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ويدلُّ على ما ذكرته أنّ البخاريَّ قال: باب قوله عز وجل {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] ثمَّ بدأ فيه بحديثِ أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم " يَكُونُ كَنْزُ أحَدِكمْ يَوْمَ القيَامَةِ شُجَاعاً أقْرَعَ "(2)، فجعلها في المسلمين، ثم قوّاه وأردفه بحديثِ أبي ذرِّ أنَّ معاوية قال: إِنَّما هِيَ فيهم، فقلت: إنَّها لَفِينا وفيهم.

التاسع: وفي " المسند " من طريق قتادة عن أبي شيخ أنَّ معاوية ذكر أشياء لجَمْعٍ مِنْ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فقال: أتعلمون أنه نهى عن جمْعٍ بَيْنَ حَجٍّ وَعُمْرة؟ قالوا: أمَّا هذه، فلا، قال: إنَّها مَعَهُنَّ.

رواه أحمدُ (3)، وزاد:" ولكِنَّكمْ نَسِيتُمْ " ففي صحته نظرٌ، لما فيه من الاضطراب كما مضى في الحديث الثامن عشر من القسم الأول من حديث معاوية، وإن كان في ذلك النَّهْي عن القرانِ بين الحجِّ العمرة، وهو يقتضي النَّهْيَ عَنِ القِران، لا عن التَّمَتُّع، وهذا محتملٌ، وهو في القِران

(1) في " أسباب النزول " ص 165.

(2)

هو في " صحيحه "(4659).

(3)

4/ 92.

ص: 201

أظهرُ، فهذا مِنْ جملة اضطراب الرَّاوي في متن الحديث. على أنَّهُ قد رُوي له شواهد مع ضعفها عن رَجُلٍ صحابِيٍّ، وعن ابنِ المسيب، وعن بلالِ ابن الحارث، وعن أبي ذرٍّ موقوفاً عليه، وفي كُلٍّ منها مقالٌ، رواه أبو داود عن ابن المسيِّب، عن رجلٍ من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه أتى عُمَرَ، فَشَهِدَ عنده أنَّه سَمِعَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم في مرضه الَّذي قُبِضَ فيه ينهى عَنِ العُمرة قبْلَ الحجِّ، وعن حَيْوَةَ عن أبي عيسى الخُراساني سليمان بنِ كيسان، عن عبدِ الله بنِ القاسم، عن ابن المسيب به.

وقد تقدم في الحديثِ التاسعَ في القسم الأوّل أن معاويةَ روى أنّه قَصَّرَ منْ شعر النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حَجَّةِ الودَاعِ بعد عُمرته، مُتَّفَقٌ على صحَّته عنه، رواه الجماعة كلُّهم عنه (1) مِن حديثِ ابنِ عباس عنه، وليس عندهم لابنِ عباس عنه سواه، وهو الحديثُ الذي كان ابنُ عباس يقوله فيه: أمّا هذه فإنَّها على معاوية لا له، لأنَّه كان ينهى عَنْ مُتْعَةِ الحجِّ، وكان ابنُ عبَّاس، وعليٌّ عليه السلام، وجمهورُ الصَّحابة يُفْتُونَ بها، وكان عمر يُصَرِّحُ أنَّه رَأيٌ منه.

وفي حديث معاوية ذلك دِلالَةٌ على أنَّ التَّمَتُع بالعمرة إلى الحجِّ جائز، وأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان متمتِّعاً، وقد مضى أنَّه قولُ جماعةٍ كثيرةٍ مِنَ الصَّحابة، وَمَنْ بعدهم، وفيه تضعيفٌ لحديثه هذا في النَّهْيِ عن جمعٍ بين حجٍّ وعُمرة، فهذا مُنْكَرٌ جِدّاً، مُخالِفٌ لِمَا في الصِّحاح في مُتعة الحجِّ، وأنَّها لِأبَدِ الأبَد مما ذِكْرُه يَطُولُ (2).

(1) عبارة " رواه الجماعة كلُّهم عنه " ساقطة من (ب).

(2)

انظر الأحاديث التي فيها الأمرُ بفسخ الحج إلى العمرة وتخريجها في " زاد المعاد " 2/ 178 - 189 بتحقيقنا مع صاحبنا الأستاذ عبد القادر الأرنؤوط.

ص: 202

ولما روى الحارثُ بنُ بلال عن أبيه هلال بن الحارث أنّ فَسْخَ الحجِّ إلى العُمرة كان خاصّاً بأصحابِ النّبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال أحمد بنُ حنبل، لا يُعْرَفُ الحارثُ بنُ بلال، ولو عُرف، إِلاّ أنَّ أحدَ عشرَ رجلاً من أصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يُخَالِفُونه، أين يَقَعُ الحارثُ منهم ذكره ابنُ تيمية في " المنتقى"(1).

وأما حديثُ معاوية هذا لا أعلمُ أن أحداً منهم صحَّحه، ولا التفت إليه -أعنىِ مِنْ أئِمّة الحديثِ- وإنَّما خَرَّجَ مسلم (2) شيئاً موقوفاً في هذا عن أبي ذرٍّ مِن قوله في معنى حديث بلال بن الحارث، وهو ضعيف أيضاً.

وبقيةُ ما في " المسند " عنه مما لا نكارةَ فيه:

منها: " الإِيمانُ قَيْدُ الفَتْكِ "(3)، و"مَنْ كَذَبَ علَيَّ

(1) انظر " المنتقى " مع شرحه " نيل الأوطار " 5/ 63. وحديث الحارث بن بلال عن أبيه رواه أبو داود (1808)، والنسائي 5/ 179، وأحمد 3/ 469، وهو ضعيف لجهالة الحارث. وانظر " زاد المعاد " 2/ 189 - 194.

(2)

في " صحيحه "(1224) قال: كانت المتعةُ في الحجِّ لأصحابِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم خاصة.

قال ابن القيم في " زاد المعاد " 2/ 194: وأما ما رواه مسلم في " صحيحه ": عن أبي ذر، أن المتعة في الحج كانت لهم خاصة، فهذا إن أريدَ به أصلُ المتعة، فهذا لا يقولُ به أحدٌ من المسلمين، بل المسلمون متفقونَ على جوازِها إلى يومِ القيامة، وإن أريد به متعةُ الفسخ، احتملَ الوجوهَ الثلاثةَ المتقدِّمة. وقال الأثرمُ في " سننه ": وذكر لنا أحمدُ بن حنبل أن عبد الرحمن بن مهدي حدثه عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبي ذر في متعةِ الحجِّ كانت لنا خاصة. فقالَ أحمدُ بن حنبل: رَحِمَ اللهُ أبا ذر، هِيَ في كتاب الله عز وجل:{فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} .

(3)

حديث صحيح بشواهِدِهِ. رواهُ من حديث معاوية: أحمد 4/ 92، وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " 1/ 189، والحاكمُ 4/ 352، والطبراني في " الكبير " 19/ (723)، والقضاعي في " مسند الشهاب "(863)، وفي سنده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.

ورواه من حديث أبي هريرة: أبو داود (2769)، والحاكم 2/ 352، وفي سنده عبدُ =

ص: 203

مُتَعَمِّداً" (1)، و" مَنْ مَاتَ بِغَيرِ إمَامٍ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً " (2)، و" العَيْنانِ وِكَاءُ السَّهِ " (3)، و" العُمرى جائزة (4)، والنّهْي عن

= الرحمنِ بنُ أبي كريمة والد السدي، وهو مجهول الحال.

ورواه من حديثِ الزبيرِ: أحمدُ 1/ 166 و167، وابن أبي شيبة 15/ 279، وفيه عنعنة الحسن.

ورواه من حديث عمرو بن الحمق: القضاعي في " مسند الشهاب "(164)، وفيه رشدين بن سعد، وهو ضعيف.

ورواه الطحاويُّ في " مشكل الآثار " رقم (203) بتحقيقِنا، وأبو نعيم في " الحلية " 9/ 24 والطبراني في " الصغير "(584) من طرق عن السدي -إسماعيل بن عبد الرحمن- عن رفاعة بن شداد الفِتياني، عن عمرو بن الحمق رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ أمَّنَ رجلا على دمِه، فقَتلَه، فأنا بريءٌ مِنَ القاتِل وإنْ كانَ المقتولُ كافراً " وهذا سند حسن. وصحَّحَه ابن حبان (1682).

ورواه الطبرانيُّ في " الصغيرِ "(38) من طريقِ هُدبة بن خالد، عن بيان بن بشر، عن رِفاعة، به.

ورواه ابنُ ماجه (2688)، والطحاوي (201) و (202)، وأحمد 5/ 223 و224، والنسائي في " الكبرى " كما في " التُّحفة " 4/ 59 - 60 من طريق عبد الملك بن عمير، عن رفاعة بن شداد الفِتياني قال: لولا كلمةٌ سمعتُها من عمرو بن الحمق الخزاعي لمشيتُ فيها بين رأسِ المختار وجسدِه، سمعتُه يقولُ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ آمن رجلاً على دمِهِ فقتلَه، فإنه يحمل لواء غدْرٍ يوم القيامةِ ". وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات كما قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " ورقة 172.

والفِتياني -بالفاء والياء-: نسبة إلى بطن من بجيلة من أهلِ اليمن، وقد تَصَحَّفَ في غير ما مصدر إلى " القتباني " بالقاف والباء، وتابعَ الألبانيُّ هؤلاء في " صحيحته "(441) على تصحيفِه، وضبطَهُ بالقاف المكسورة!

(1)

رواه أحمد 4/ 100، والطبراني في " الكبير " 19/ (922). قال الهيثمي في " المجمع " 1/ 143: ورجاله ثقات.

ورواه الطحاوي في " مشكل الآثار "(395)، وهو حديث متواتر.

(2)

رواه أحمد 4/ 96 من طريق أسود بن عامر، والطبراني 19/ (769) من طريق يحيى الحِمَّاني، كلاهما عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح السمان، عن معاوية رفعه

وهذا سند حسن.

(3)

تقدم تخريجه ص 192.

(4)

رواه أحمد 4/ 97 و99، والطبراني 19/ (733) من طرق عن حماد بن سلمة، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن محمد بن الحنفية قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان يقول: =

ص: 204

الإلحاف (1)، وتكفير الذُّنوب بالمصائب (2)، ولَعَنَ مشققي

= قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " العُمرى جائزةٌ ". وهذا سند حسن.

ورواه الطبراني (734) من طريق محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، به.

وله شاهد من حديث أبي هريرة، رواه الجاري (2625)، ومسلم (1626)، وأبو داود (3548)، وأحمد 2/ 429 و489، والنسائي 6/ 277، والبغوي في " شرح السنة "(2197).

وآخر من حديث جابر بن عبد الله، أخرجه أحمد 3/ 297، و303 و319 و360 و361 و363 - 364 و381 و392، والبخاري (2625) وبإثر الحديث (2626)، ومسلم (1625)، والنسائي 6/ 272 - 273.

وثالث عن سمرة، رواه أحمد 5/ 8 و13 و22، وأبو داود (3549)، والترمذي (1349).

ورابع عن زيد بن ثابت، وخامس عن ابن عباس رواهما النسائي 6/ 271 و272.

قال الإمام البغوي في " شرح السنة " 8/ 293 بتحقيقنا: العُمْرى جائزةٌ بالاتفاق، وهي أن يقول الرجلُ الآخرَ: أعْمَرْتُك هذه الدارَ، أو جعلتُها لكَ عمرك، فقَبِل، فهي كالهبة إذا اتَّصلَ بها القبضُ، ملكلها المعمَر، ونَفَذَ تصرُّفُه فيها، وإذا مات تُورثَ منه، سواءٌ قال: هي لعقبك من بعدك أو لورثتِك، أو لم يقُل، وهو قولُ زيد بن ثابت، وابن عمر، وبه قال عروة بن الزُّبير، وسليمانُ بن يسار، ومجاهد، وإليه ذهبَ الثوريُّ، والشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، وأصحاب الرأي. قال حبيبُ بن أبي ثابت: كنَّا عند عبد الله بن عمر، فجاءه أعرابي، فقالَ: إني أعطيتُ بعضَ بنيَّ ناقةً حياتَه، وإنَّها تناتجت، فقال: هيَ له حياتَه وموته، قالَ: فإني تصَدَّقْتُ بها عليه، قال: فذلك أبعدُ لك منها.

وذهب جماعةٌ إلى أنَّه إذا لم يقلْ: هي لعقبك من بعدك، فإذا مات يعودُ إلى الأول، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أيُّما رَجُلٍ أعمرَ عُمْرى له ولعقبِه ". وهذا قولُ جابر، ورُوي عن معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر قال: إنَّما العُمْرى التي أجازَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: هي لك ولعقبك، فأمَّا إذا قال: هيَ لك ما عشت، فإنها ترجعُ إلى صاحبها. قال معمر. وكان الزهري يُفتي به، وهذا قول مالك، ويُحكى عنه أنه قال: العُمرى تمليكُ المنفعةِ دون الرقبة، فهي له مُدة عُمرِه، ولا يُورثُ، وإنْ جَعَلَها له ولعقبه، كانت المنفعةُ ميراثاً عنه.

(1)

تقدم تخريجه ص 166 ت 1.

(2)

رواه أحمد 4/ 98 من طريق يعلى بن عبيد، حدثنا طلحة بن يحيى، عن أبي بردة، عن معاوية قال: سمعت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما مِن شيءٍ يُصيبُ المؤمنَ في جسدِه يؤذيه إلا كفَّر اللهُ عنه به من سيئاتِه "، وهذا سند قوي، رجاله رجالُ الشيخين =

ص: 205

الكلامُ (1)، و" النّاسُ تَبَعٌ لقريش "(2)، و" إن وَليتَ، فاتَّقِ اللهَ وَاعْدِلْ "(3)، و" إِنَّ هذَا الأمْرَ في قُرَيْشٍ "(4)، وأنه صلى الله عليه وسلم مصَّ لسانَ الحَسَنِ، وَلَنْ يَدْخُلَ النار لسانٌ مصَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم (5).

= غير طلحة بن يحيى، وهو ابن طلحة بن عُبيد الله التيمي، فإنه من رجال مسلم، وصححه الحاكم 1/ 347 على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي! وأورده الهيثمي في " المجمع " 2/ 301، ونسبه لأحمد. وقال: ورجاله رجال الصحيح.

ورواه الطبراني في " الكبير " 19/ (842) من طريق يونس بن بكير، عن طلحة بن يحيى، به.

ورواه أيضاً (841) من طريق فروة بن أبي المغراء، حدثنا القاسم بن مالك المزني، حدثنا عاصم بن كليب، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن معاوية. وهذا سند حسن في الشواهد.

وله شاهد من حديث السائب بن خلاد عند أحمد 4/ 56، وسنده ضعيف.

(1)

رواه وكيع في " الزهد "(169) و (298)، ومن طريقه: أحمد 4/ 98، ولفظه: لَعَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الذين يشققون الكلامَ تشقيقَ الشعر.

ورواه الطبراني 19/ (848)، وفي سنده عندهم جابر بن يزيد الجعفي، وهو ضعيف.

(2)

رواه أحمد 4/ 101 من طريق أبي نعيم، حدثنا عبد الله بن مبشر مولى أم حبيبة، عن زيد بن أبي عتاب، عن معاوية قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يقول: " الناسُ تبَعٌ لقريش في هذا الأمرِ، خِيارُهم في الجاهلية خِيارُهم في الإسلامِ

".

وفي الباب عن جابر بن عبد الله عند أحمد 3/ 331، ومسلم (1819).

وعن أبي هريرة عند البخاري (3495)، ومسلم (1818)، والطيالسي (2380)، وأحمد 2/ 242 - 243.

(3)

رواه أحمد 4/ 101 من طريق روح، حدثنا أبو أمية عمرو بن يحيى بن سعيد سمعت جدي يُحدثُ أن معاوية أخذ الأداوة بعد أبي هريرة يَتْبَعُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بها، واشتكى أبو هريرة، فَبَيْنَا هو يوضىءُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، رَفَعَ رأسَهُ إليه مرة أو مرتين، فقال:" يا معاويةُ إن وَلِيتَ أَمْراً، فاتَّقِ اللهَ عز وجل، واعْدِلْ "، قال: فما زلتُ أظنُّ أني مُبتلى بعمل لقول النبي صلى الله عليه وسلم حتى ابتليت.

(4)

تقدم تخريجه ص 167.

(5)

رواه أحمد 4/ 93 من طريق هاشم بن القاسم، حدثنا حريز، عن عبد الرحمن بن عوف الجرشي، عن معاوية قال: رأيتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَمُصُّ لسانَه، أو قال: شفته -يعني الحسن بن علي- صلوات الله عليه، وإنه لن يُعَذَّبَ لسانٌ أو شفتان مصَّهما رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم. وهذا سند صحيح إن كان حريز هو ابن عثمان كما قيَّده الذهبي في " النبلاء " 3/ 259، وقد تصحف في المطبوع من " المسند " إلى " جرير ".

ص: 206

فهذا جميع ما لمُعَاوِيَةَ في الكتب السِّتَّةِ، و" مسند أحمد " حَسْبَ معرفتي، وجملتُها سِتُّون حديثاًً ما صَحَّ عنه وما لَمْ يصِحَّ، المتَّفق على صحَّته عنه أربعة، وهي: تحريمُ الوَصْلِ في شعور النِّساء، وأنَّها لا تزالُ طائفةٌ مِنَ الأُمَّةِ ظاهرين على الحقِّ، وأنَّ صومَ (1) عاشوراء غَيْرُ واجبٍ، وأنّه قصَّر للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِن شعره في حِجَّة الوَدَاع، هذا جميعُ ما اتَّفقوا على صحَّته عنه.

وما سواه جميع ما رُوِيَ عنه ممّا لم يتَّفِقُوا على صحَّتِهِ، وإن سقط من ذلِكَ شيءٌ، فهو اليسيرُ، وأرجو أن لا يكونَ فاتني من ذلك شيء (2) إن شاء اللهُ تعالى، وهو أكثرُ الجماعة المذكورين حديثاًً، وهو مُقِلٌّ جداً بالنَّظَرِ إلى طُولِ مدَّته، وكثرة مخالطته، وليس فيما صحَّ عنه بوفاق شيء يُوجِبُ الرِّيبة والتُّهمة، ولا فيما رواه غَيْرُهُ مِنْ أصحابه، فبان أنّ الأمر قريبٌ، مَنْ قبِلَ حدِيثَهم، فلم (3) يقبل منه حديثاً منكراً، ومَنْ لم يَقْبَلْهُ، استغنى بحديثِ غيرهم مِنَ الصَّحابة الَّذين وافقوهم على رواية مثل (4) ما رووه مِمَّنْ ذَكَرْتُ، وَمِمَّن لم أذْكُرْ، فإنِّي لم أسْتَقْصِ، ولا سبيلَ إلى الاستقصاء، فَمَنْ أحبَّ الزِّيادة على ما ذكرتُهُ من معرفة مَنْ وافقهم، فليطالِعْ ذلِكَ في مظانِّه مِن كُتُبِ الحديثِ البسيطة مثل " مجمع الزوائد " للحافظ الهيثمي، فإنه أجمعُ كتابٍ لذلك، ولم أتعرَّض لنقل ما فيه مِنْ ذلكَ، ولا أعلمُ في حديث هؤلاء شيئاً (5) مما يُتَّهم فيه راويه (6) إلا حديثاًً

(1) في (ب): صوم يوم.

(2)

في (ج) و (ش): شيء من ذلك.

(3)

في (ش): ولم.

(4)

" مثل " ساقطة من (ب).

(5)

في الأصول " شيء "، وكتب فوقها في نسخة (أ):" شيئاً ظ ".

(6)

في (ب) و (ش): رواته.

ص: 207

واحداً رُوِيَ عن عمرو بن العاص بغير اللفظ المعروف في الصَّحاح، ولم يصحَّ بذلكَ اللّفظ المنكر، وله به معنى صحيحٌ محتملُ، لكنه لم يصحَّ ذلِك اللفظ كما نوضِّحُه، بل تفسيرُهُ الصَّحيحُ يُنَافي ما ذكره مِن التُّهْمَةِ لَهُ في ذلِك، وذلِكَ ما أخرجه البخاريُّ في الأدب في الباب الرابع عشر منه، وهو باب تُبَلُّ (1) الرَحِمُ ببلالها، ومسلم في كتاب الإيمان، كلاهما من طريق محمد بنِ جعفر غندر، عن شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيسِ بنِ أبي حازم، عن عمرو بن العاص، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ جِهاراً غَيْر سِرَارٍ (2)" آلُ أبي فُلانٍ لَيْسوا بأوليائي، إنَّما وَليي اللهُ وصَالِحُ المُؤْمِنِينَ "(3) خرَّجَاه، قال البخاري: زاد عنبسةُ بن عبدِ الواحد، عن بيان، عن (4) قيس، عن عمرو " لكن (5) لهُمْ رَحِمٌ أبُلُّها بِبَلَالِهَا " هذا لفظ البخاري، وهو الحديثُ العشرون من مسند عمرو في (6)" جامع ابن الجوزي "، ولفظ أحمد بن حنبل في " المسند " مثل البخاري ومسلم لم يُسم أحدٌ منهم هؤلاء المذكورين، وفي " صحيح البخاري "" آلُ (7) أبي " من غير ذكر شيءٍ بعدَه، وفيه قال عمرو بنُ عباسٍ الراوي في " صحيح البخاري ": عن محمد بنِ جعفر، في (8) نسخة محمد بن جعفر بياض،

(1) في (ش): ما تبل.

(2)

ساقطة من (ش).

(3)

رواه البخاري (5990)، ومسلم (215)، وأحمد 4/ 203. وقد تقدم في الجزء الثاني ص 401. وانظر " فتح البارى " 10/ 419 - 423، و" شرح مسلم " للنووي 3/ 87 - 88.

(4)

تحرفت في (ش) إلى: بن.

(5)

في (ش): ولكن.

(6)

في (ش): وفي: وهو خطأ.

(7)

تحرفت في (ش) إلى: إلى.

(8)

في (ش): يحيى، وهو خطأ.

ص: 208

يعني بَعْدَ " آل أبي "، وهذا هُو الّذي ذكره القاضي العلاّمة عياض المالكي في كتابه " إكمال المُعْلِم بفوائد شرح مسلم "(1)، وفسَّر ذلك بالحكمِ بن أبي العاص طريدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك العلامةُ النَّواوي في " شرحه " لمسلم، وكذلِكَ العلَاّمة ابن حجر فسر ذلك بآلِ أبي العاص، وقد ثبت أنَّ إبهامَ هؤلاء وقع قبل اتِّصال الحديثِ بالبخاري ومسلم، إن ثبت ذلك الإبهامُ، فإنَّ في " صحيح البخاري " في رواية عمرو بن عباس شيخ البخاريِّ فيه: أنَّ في كتاب محمد بن جعفر غُندر عن (2) شُعبة بياضاً في ذلِكَ الموضع، فيحتمل أنَّ شُعبة الّذي حذف ذلكَ عمداً، ويحتمل أنَّ الذي حذفه مَنْ قَبْلَهُ، وبيَّض لبيان ذلك حين (3) يقع له كما هو عادة المصنِّفين (4) التبييض لمثل ذلِك، بَلِ الظَّاهر أنَّ عمرو بنَ العاص هو

(1) لقد شرح الإمام أبو عبد الله محمد بن علي بن محمد التميمي المازري المتوفى سنة 536 هـ " صحيح مسلم " بكتاب سماه " المُعْلِمَ بفوائد مسلم "، ولكنه لم يُِتمَّه، فجاء القاضي عياض بن موسى اليَحصِبي المتوفى سنة 544، فأتمه بكتابه " إكمال المعلم بفوائد مسلم " وكلاهما لم يُطبع. وانظر نسخهما الخطية في " تاريخ التراث العربي " 1/ 264 - 265 لفؤاد سزكين.

وممن شرح " صحيح مسلم ": الإمام أحمد بن عمر الأنصاري القُرطبي المتوفى سنة 656 هـ المحدث، شيخ صاحب التفسير، وسماه " المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم "، ومنه عدة نسخ خطية. انظر "تاريخ التراث العربي" 1/ 266.

وممن شرح " صحيح مسلم " أيضاً: محمد بن خِلْفة بن عمر الأُبي التونسي، المتوفى سنة 827 هـ، ويضم شرحه هذا شروح المازري، والقاضي عياض، والقرطبي -المحدث لا المفسر- والنووي مع زيادات من شيخه ابن عرفة، وسماه " إكمال إكمال المعلم "، وهو مطبوع في سبع مجلدات بالقاهرة سنة 1328.

ولعلامة الهند شبير أحمد الديربندي العثماني المتوفى سنة 1369 هـ شرح حافل طبع منه ثلاث مجلدات ضخمة في دلهي، وتوفي المؤلف قبل إكماله.

(2)

في (ب): " بن "، وهو خطأ.

(3)

في (ب): حتى.

(4)

في (ش): المصنف من.

ص: 209

الذي حذفه، فلا عَتْبَ (1) على صاحِبَيِ " الصَّحيح " في إثبات الحديث، فإنَّهما إنَّما (2) أثبتاه لفائدةِ البراءِ من أعداءِ الله، وتخصيص الموالاة لأوليائه كما قال النَّواوي في " شرح مسلم "، وعلي بن خلف بن بطال في " شرح البخاري " على (3) أنّ ابن بطَّال جعل الرواية:" إنَّ آلَ أبي ليْسُوا بِأوْليَائي " بإثبات ضمير المتكلِّم، وحذف " فلان " وذلكَ ظاهرُ المنصوص في " الصَّحيحين "، وهذا لفظه في شرحه، قال (4): قال المهلب: " إنَّ آلَ أبي لَيْسُوا بأوليائي، إنَّما (5) ولِيي الله، وَصَالِحُ المُؤمِنِين "، فأوجب عليه السلام الولاية بالدِّين، ونفاها عَنْ أهلِ رَحِمِهِ إذا لم يكونوا منْ أهل دينه، فدلَّ بذلكَ أنَّ النَّسبَ محتاجٌ إلى الولاية الّتي بها (6) تقع الولايةُ بين المتناسبين والأقارب، فإنْ لم يكُنْ دينٌ يجمعهم، لم تكن ولاية، ولا موارثة، ودلَّ هذا أن الرَّحِمَ التي تضمَّن اللهُ أن يَصِلَ مَنْ وصَلَهَا، ويقطعَ منْ قطعها، إنما ذلِكَ إذا كان في الله تعالى وفيما شرع، وأما مَنْ قطعها في الله، وفيما شرع، فقد وصل الله والشَّريعة، واستحقّ صلةَ اللهِ بقَطْعِه مَنْ قَطَعَهُ اللهُ، قال الله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ} [التوبة: 23]، وقال تعالى:{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72]، فكيف بِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ، وَقَوْله: "ولكِنْ لَهُمْ

(1) في (ش) و (ج): عيب.

(2)

سقطت من (ب).

(3)

في (ب): وعلى.

(4)

ساقطة من (ش).

(5)

في (ب): وإنما.

(6)

كذا الأصول، وقد كتب فوق نسخة (ش):" إلى الدين الذي به "، وأثبت بجانبها " ظ "، وربما يكون ذلك من الإمام الشوكاني صاحب النسخة.

ص: 210

رَحِمٌ أبُلُّها بِبِلالِها"، -يعني أصِلُهَا معروفاً- إلى قوله: قال المهلَّبُ: هو الذِي أمر اللهُ به في كتابه فقال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، فلمَّا عَصَوْهُ وعاندوه، دعا عليهم قال: " اللهم أَعِنِّي بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ "، فلمَّا مسَّهُمُ الجوعُ، أرسلوا إليه: فقالوا: يا مُحَمَّد، إنَّكَ أمرت بِصِلَةِ الرَّحِمِ، إنَّ أهلك قد جاعوا، فادْعُ الله لهم، فدعا لهم (1) بعد أن كان دعا عليهم، فوصلُه رَحِمَهُ فيهم بالدُّعاءِ لهم، فذلك ما (2) لا يَقْدَحُ في دينِ الله، ألا ترى صُنْعَهُ عليه السلام فيهم، إذ (3) غَلَبَ عليهم يَوْمَ الفتح كما أطلقهم مِنَ الرِّقِّ الذي توجه إليهم، فسُمُّوا بذلِكَ الطُلقاءَ، ولم ينتهِكْ حريمهم (4)، ولا استباحَ أموالهم، ومنَّ عليهم، فهذا كُلُّهُ مِنَ البلال. انتهى بحروفه.

وقال في تفسير " البلال " مثل ما ذكره ابنُ الأثير في " الجامع "(5) في تفسير الحديث في صِلَةِ الرَّحم من حرف الصَّاد.

ويعضُد ما ذكره ابنُ بَطَّال من تصحيح هذا الرِّواية بهذا المعنى وعَدَمِ الالتفات إلى غيرها ما خرَّجه الحاكم في تفسير سورة الأنفال من حديث إسماعيل بني عُبَيْدِ بنِ رِفاعة، عن أبيه، عن جدِّه رِفاعة، قال: جمع رسول الله قريشاً، قال:" هلْ فِيكُمْ مِنْ غَيْرِكُمْ؟ "، قالوا: فينا ابنُ أختنا، وفينا حلِيفُنا، وفينا مولانا، فقال: "حَلِيفُنَا مِنَّا، وابنُ (6) أُخْتِنَا

(1) ساقطة من (ش).

(2)

" ما " ساقطة من (ب).

(3)

في (ب): " إذا "، وهو خطأ.

(4)

في (ش): حريم.

(5)

" جامع الأصول " 6/ 491.

(6)

في (ش): ومنا ابن.

ص: 211

منَّا، وَموْلانا مِنَّا إنّ أَوْليَائي مِنْكمْ المُتَّقُونَ" (1). قال الحاكم: صحيح الإسناد، فهذا الحديثُ شبيهٌ بذلك، وشاهدٌ له أو هو هو، وهو جديرٌ أن يَدْخُلَ في مناقب آل أبي طالب، فإنَّهُمْ داخلون في المتقين.

وفي " مجمع الزوائد "(2) في فضل قريش أنه رواه البزَّار، وأحمد باختصار، والطبراني بنحو البزَّار بأسانيد، ورجالُ أحمدَ، والبزَّار، وإسناد الطَّبراني ثقاتٌ وفي صالح المؤمنين بالإجماع على كلِّ تفسير، وعلى كلِّ تقدير، بل هُمْ أئمَّةُ المتَّقين ورؤوسُهما وكُبراؤهم وساداتهم. وعن أبي هُريرة مرفوعاًً نحوَ ذلك، رواه (3) الطَّبراني في " الأوسط "، والهيثمي في كتاب " الزهد "(4) في باب جامع في المواعظ، وعن معاذ مرفوعاًً مثلَ ذلِكَ رواه (5) الطبراني، سنده (6) جيد، ذكره الهيثمي (7) بعد ذلِكَ في باب بعدَ باب التَّعرض (8) لنفحات رحمة الله، فكيف أن يكونوا في " الصَّحيحين "

(1) المستدرك 2/ 329 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

(2)

انظر " مجمع الزوائد " 10/ 26. ورواه أحمد 4/ 340، والبزار (2780)، والطبراني 5/ (4544) و (4545) و (4546).

(3)

ساقطة من (ش).

(4)

من " مجمع الزوائد " 10/ 288: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا بني هاشمٍ، يا بني عبد المطلب، يا صفيةُ عمةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم، لا أعرفَنَّ ما جاءَ الناسُ غداً يحملون الآخرة، وجئتم تحملونَ الدنيا، إنما أوليائي منكم يومَ القيامة المتقون، إنما مثلي ومثلكم كمثلِ رجلٍ مستصبحٍ في قومه أتاهم، فقال: يا قومِ أُتيتُم غُشيتم واصباحاه، أنا النذير والموتُ المغيرُ، والساعة الموعد ". قال الهيثمي: رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه زكريا بن يحيى الوقار، وهو ضعيف.

(5)

في (ش): ورواه.

(6)

في (ب) و (ش): وسنده.

(7)

" الهيثمي " ساقطة من (ب). وهو في " مجمع الزوائد " 10/ 231.

(8)

في (ش): التعريض.

ص: 212

هُمُ الّذين نُفِيَتْ عنهمُ الوِلَايَة في نصِّ الحديث، وأنَّهم مع نَصِّ الحديث على نفي الولاية عنهم تعمدوا تصحيحَه لذلك، وهم أعلمُ وأتقى لله من ذلِكَ؟

وقال البخاري في تفسير سورة براءة، في باب قوله:{ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} [التوبة: 40]: حدثني عَبْدُ الله بنُ محمد، قال: حدثني يحيى بنُ معين، قال: حدثنا (1) حجّاج، قال: حدثنا ابنُ جُريْج، قال لي ابنُ أبي مُليكة -وكان بينهما شيءٌ- فغدوتُ على ابن عبَّاس، فقلتُ: أتريدُ أن تُقاتِلَ ابنَ الزُّبير، فَتُحِلَّ حُرُمَ اللهِ؟ فقال: معاذَ الله؛ إنَّ الله كتبَ ابنَ الزبير، وبني أمية مُحِلِّين، وإنِّي والله لا أُحلُّهُ أبداً (2). هكذا في " البخاري " ذم بني أمية مصرَّحٌ غيرُ مُسَتَّرٍ ولا مُأوَّلٍ، لا في " صحيحه "، ولا في " شرحه "، وكتب هذا فيه (3) وخلَّده وأصحّه (4)، ولم يُؤخذ له منه أنّه منصف، بل، ولا سلم (5) معه مِنْ نسبته إلى تعمُّد ما (6) يعلم

(1) في (ش): أخبرنا.

(2)

أخرجه البخاري (4665)، وقوله:" وكان بينهما شيء " كذا أعاد الضمير بالتثنية على غير مذكور اختصاراً، ومراده ابن عباس، وابن الزبير، وهو صريح في الرواية التي قبل هذه (4664) حيث قال: قال ابن عباس حين وقع بينه وبين ابن الزبير.

وقوله: " كتب " أي: قدر، وقوله:" محلين " أي: إنهم كانوا يبيحون القتال في الحرم. قال الحافظ: وإنما نسب ابن الزبير إلى ذلك -وإن كان بنو أمية هم الذين ابتدؤوه بالقتال وحصروه، وإنما بدأ منه أولاً دفعهم عن نفسه- لأنَّه بعد أن ردَّهم الله عنه، حَصَرَ بني هاشم ليبايعوه، فشرع فيما يؤذن لإباحته القتال في الحرم، وكان بعضُ الناسِ يُسمي ابنَ الزبير المحل.

وقوله: " لا أُحلُّه أبداً " أي: لا أبيحُ القتال فيه، وهذا مذهبُ ابنِ عباس أنَّه لا يقاتلُ في الحرمِ ولو قُوتلَ فيه.

(3)

ساقطة من (ش).

(4)

في (ج): أوضحه.

(5)

في (ش): نسلم.

(6)

في (ش): مالا.

ص: 213

تحريمه من بُغْضِ عليٍّ وأهل بيته، ورواية الموضوعات في مثالِبِهِم، بل ما سلم من نِسْبَةِ (1) ما لم يَرْوِه البتَّة إلى أنَّه في صحيحِهِ المشهورِ المعلومِ مع وجودِ صحيحه بين الناس، وظهور براءته عمّا رُمِيَ به، ووضوحِ السَّبيل إلى الطَّلب لذلِكَ في صحيحه، واختبار (2) صدق مَنْ رماهُ بذلِكَ أو كَذبه، لكنَّهُ قد كَثُرَ التَّقليدُ لسهولته، وتزيين (3) الشَّيطانِ لهُ، فَصُدِّقَ الكاذِبُ على البخاري مِنْ غيرِ أدنى بحث، ولا أقل عناية، فمِنْ ها هنا وقع الخَللُ، وفشا الجهْلُ، وعُورِضَ الحقُّ بالباطلِ (4)، فاللهُ المستعان.

وكُتب المحدِّثين مشحونةٌ بالتَّصريح بذمِّ بني أميَّة مِنْ دون تستُّر في ذلك ولا تقية، كما أنّها مشحونَةٌ بمناقِبِ العِترة الزَّكيَّة، مع أنهم في بلاد أعداءِ أهل البيت، وكفي لهم شاهداً على تحرِّي الصدق، وقوّة الأمانة بذلك، ففي " سنن الترمذي "، و" أبي داود " عن سفِينَة مولى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، أنَّه (5) لمَّا روى حَديثَ:" الخِلَافَةُ بَعْدِي ثلاثُون سَنَّة، ثُمَّ يَكُون مُلْكُ "(6) قيل له: إنّ بني أمية يزْعُمونَ أنَّ الخلافَةَ فيهم، فقال: كذبوا بنو (7) الزَّرقاء، بل هُمْ ملوكٌ مِنْ شَرِّ الملوك. هذا لفظُ التّرمذي (8)،

(1) في (ب): نسبته.

(2)

في (ش): " واختيار " وهو تصحيف.

(3)

في (ش): وتزين.

(4)

سقطت من (ب).

(5)

ساقطة من (ش).

(6)

في (ش): تكون ملكاً.

(7)

في (ب) و (ش): " بني "، وهو خطأ.

(8)

(2226)، وهو حديث صحيح بشاهديه، وقد تقدم تخريجه 2/ 385.

ص: 214

وقال: حديث حسن، ولفظ أبي داود (1): كَذَبَتْ استاه (2) بني الزرقاء، يعني بني مروان.

وفي " الترمذي "(3) من حديثِ الحسن بنِ عليٍّ عليهما السلام، أنَّه صلى الله عليه وسلم رأي بني أُمَيّة على منبره، فساءَه ذلك، فنزلت: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ

(1) برقم (4646).

(2)

تحرفت في (ش) إلى: " أشباه ".

(3)

(3350) من طريق محمود بن غيلان، حدثنا أبو داوود الطيالسي، حدثنا القاسم بن الفضل الحُدَّاني، عن يوسف بن سعد، قال: قامَ رجلٌ إلى الحسن بن علي بعدمَا بايَعَ معاوية، فقال: سَوَّدْت وُجُوهَ المؤمنين، أو يا مُسَوِّدَ وجوهِ المؤمنين، فقال: لا تُؤنِّبْني رَحِمَك اللهُ، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أُرِيَ بني أُمية على منبره، فساءَه ذلك، فنَزَلَت:{إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} يا محمدُ، يعني نهراً في الجنة، ونزَلَتْ:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} يَمْلِكُها بنو أمية يا محمدُ. قال القاسمُ: فعدَدْناها، فإذا هي ألف شهر لا يزيد يومٌ ولا ينقص. قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث القاسم بن الفضل، وهو ثقة، وثَّقَهُ يحيى القطان، وابن مهدي. وشيخه يوسف بن سعد -ويقال: يوسف بن مازن-: رجل مجهول، ولا نعرف هذا الحديث على هذا اللفظ إلا من هذا الوجه.

وقال ابن كثير في " تاريخه " 6/ 249 بعد أن ذكر كلام الترمذي: فقوله: " إن يوسف هذا مجهول " مشكل، والظاهر أنَّه أراد أنَّه مجهول الحال، فإنه قد روى عنه جماعة، منهم حماد بن سلمة، وخالد الحذاء، ويونس بن عبيد، وقال يحيى بن معين: هو مشهور، وفي رواية عنه قال: هو ثقة، فارتفعت الجهالة عنه مطلقاً، قلتُ: ولكن في شهوده قصة الحسن ومعاوية نظر، وقد يكون أرسلَها عمَّن لا يعتمد عليه، والله أعلم. وقد سألتُ شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي رحمه الله عن هذا الحديث، فقال: هو حديث منكر. وأما قول القاسم بن الفضل رحمه الله: إنَّه حسب دولة بني أمية، فوجدها ألف شهر، لا تزيد يوماً ولا تنقصه، فهو غريب جداً، وفيه نظر، وذلك لأنَّه لا يمكن إدخال دولة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكانت ثنتي عشرة سنة، في هذه المدة، لا من حيثُ الصورةُ ولا من حيثُ المعنى، وذلك أنها ممدوحةٌ لأنَّه أحد الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون.

وهذا الحديث إنما سيق لذمّ دولتِهم، وفي دلالة الحديثِ على الذمِّ نظرٌ، وذلك أنَّه دلَّ على أن ليلة القدَرِ خيرٌ من ألفِ شهر التي هي دولتهم، وليلةُ القدر ليلةٌ خيرة، عظيمةُ المقدار والبركة، كما وصفَها الله تعالى به، فما يلزمُ من تفضيلها على دولتِهم ذمُّ دولتهم، فليتأمَّل هذا، فإنه دقيق يدُلُّ على أن الحديث في صحتِه نظرٌ، لأنَّه إنما سيق لذم أيامِهم، والله تعالى أعلم.

ص: 215

الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر] يمْلِكُهَا بعْدَكَ بنُو أُمَيَّة يا محمَّد، فكانت تلك مدَّتَهُم، لم تَزِدْ، ولم تنْقُصْ.

وفي " مسند أحمد بن حنبل " عن عُمَر بن الخطاب، أنَّه وُلدَ [لأخي أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم] غلامٌ، فَسَمَّوْهُ (1) الوليدَ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:" سَمَّيْتُمُوه بِأسْمَاءِ فَرَاعنَتِكُمْ، لَيَكُونَنَّ في هذِهِ الأُمَّةِ رجُلٌ يُقَالُ لَهُ الوَليدُ، لَهو أَشَرُّ عَلَى هذِه الأُمَّةِ منْ فِرْعَوْن لِقَوْمهِ "(2).

ورواه الهيثمي الشافعي في " مجمع الزوائد "(3) في باب فتنة الوليد، وقال: رجاله ثقات.

وروى من هذا شيئاً كثيراً في مواضِعَ متفرقة، منها في تفسيرِ قوله

(1) في (ب): " فسمَّاه "، وهو خطأ.

(2)

رواه أحمد 1/ 18 من طريق أبي المغيرة، حدثنا ابن عياش، حدثنا الأوزاعي وغيره عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب. وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على " المسند "(109) إسنادُه ضعيف لانقطاعه، سعيد بن المسيب لم يُدرك عمر إلا صغيراً، فروايته عنه مرسلة إلا رواية صَرَّح فيها إنَّه يذكر فيها يومَ نَعَى عمرُ النعمان بن مقرِّن على المنبر، ثم إن ذكر عمر في الإسناد خطأ، لعلَّه من ابن عياش، وهو إسماعيل بن عياش، قال الحافظ في " القول المسدَّد " ص 15:" وغاية ما ظَهرَ في طريق إسماعيل بن عياش من العلة أنَّ ذكر عمر فيه لم يُتابع عليه، والظاهرُ أنَّه من رواية أُمِّ سلمة، لإطباق معمر، والزبيدي عن الزهري، وبشر بن بكر، والوليد بن مسلم عن الأوزاعي على عدم ذكر عمر فيه ". وهذا أيضاًً ليس بشيء، لأنِّي لم أَجِدْ في الروايات التي ذكرها الحافظ أن ابنَ المسيب روى هذا الحديث عن أم سلمة، فإنَّ كُلَّ الرواياتِ عن ابن أم المسيب: " ولد لأخي أم سلمة

الخ " ليس فيها: " عن أُمِّ سلمة ". وهذا الحديث مما ادَّعى فيه بعضُ الحفاظ أنَّه موضوع، منهم الحافظ العراقي، وقد أطال الحافظُ ابنُ حجر الردَّ عليه لإثباتِ أنَّ له أصلاً في كتاب " القول المسدَّد " ص 5 - 6 و11 - 16، وفي كثير مما قال تكلفٌ ومحاولةٌ. والظاهرُ عندي ما قلت: إنه ضعيفٌ لانقطاعِهِ.

(3)

7/ 313، ونسبه لأحمد.

ص: 216

تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ} [المائدة: 27] من حديث عبدِ الله بنِ عمرو بن العاص، عنه صلى الله عليه وسلم:" أَشْقى النَّاسِ ثَلَاثةٌ: عاقِرُ نَاقَةِ ثَمُود، وابْنُ آدَمَ الذي قَتَلَ أَخَاه، وقاتِل عَلِيِّ رضي الله عنه "(1).

فكيف نتركُ معرفة صِدْقهم وتحرِّيهم مِنْ هذه الأشياء الجليَّة الكثيرة الطَّيِّبة، ونتكلَّف نقيضَ ذلك ممَّا لم يَكُنْ؟

وعلى تقدير ثبوتِ آل فلان في الحديث، فقد تطابقوا على تفسيرهم بآلِ أبي العاص، وهو الحَكَمُ بنُ أبي العاص طريدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وولده، كما جاء صَرِيحاً كثيراً كما يأتي قريباً في هذا الكتاب، وأنَّه قولُ أهلِ السُّنَّة يُصَرِّحُون به لا يكتمونه، فمِمَّن نصَّ على ذلك القاضي عياض في كتابه " إكمال المعلم بفوائد شرح مسلم "، وهو أشهر شروح مسلم، ولم يعترضه في ذلك أحدٌ، بل قرَّره النَّواوي على ذلك (2)، وهما إماما الطَّائفتين العظيمتين: الشَافعية والمالكية، وإماما الحديثِ النَّبوي متناً،

(1)" المجمع " 7/ 14 ولم ينسبه لأحدٍ، وقال: وفيه ابن إسحاق وهو مدلس، وذكره السيوطي في " الدر المنثور" 3/ 61 - 62، ونسبَه للطبراني، وهو في " حلية أبي نعيم " 4/ 307 من طريق محمد بن إسحاق، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وحكيم بن جبير ضعيف.

ورواه البيهقي في " دلائل النبوة" 3/ 12 - 13 من طريق محمد بن إسحاق، حدثني يزيد بن محمد بن خُثيم، عن محمد بن كعب القرظي، عن محمد بن خثيم أبي يزيد، عن عمار بن ياسر قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لعلي: " يا أبا تراب " -لما عليه من التراب- فأخبرناه بما كان من أمرنا، فقال:" ألا أخبركم بأشقى الناس رجلين "؟ قلنا: بلى يا رسولَ الله، فقال:" أُحَيْمر ثمود الذي عَقَرَ الناقةَ، والذي يضربُك يا عليٌّ على هذه "، ووضع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يدَه على رأسه " حتى يَبُلَّ منها هذه "، ووَضعَ يده على لحيته. وسنده محتمل للتحسين.

وأورده السيوطيُّ في " الدر المنثور " 8/ 531، وزادَ نسبتَه لابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبغوي.

(2)

انظر" شرح مسلم " 3/ 87 - 88.

ص: 217

وسنداً، وشرحَ غريبٍ، وبيان مجملٍ: وكشف مُشْكِلٍ. وكذلك ذكر ذلك العلامة أحمدُ بنُ علي العسقلاني المعروف بابن حجر في مقدمة " شرحه " للبخاري (1)، وهؤلاء وجوهُ علماءِ السُّنَّةِ وأَئِمَّتهم، وطريق معرفتهم لِذلكَ من كتب (2) المستخرجات على " الصحيحين "، وسائر ما ورد من الأحاديث، فإن أَهْلَ المستخرجات يذكرون أحاديث الصحيح مِنْ غيرِ طريق صاحبه بزيادةِ بيانٍ، وتتمَّةِ نقصٍ، ونحوِ ذلك، وسائرُ الأحاديث تدلُّ على ذلك، فإنَّ السُّنَّة يفسِّرُ بعضُها بعضاً، كما أنَّ القرآن يفسِّرُ بعضُه بعضاً.

وقد ورد في آل أبي العاص مِنَ اللَّعْنِ والذَّمِّ في الأقوال، والنَّفي والطَّرد في الأفعال ما يدلُّ على أنَّهم المتبرَّأُ منهم جهاراً غير سرارٍ (3) كما يأتي، وإنَّما كَتَمَ الذي كتمه تقيَّةً مِنْ عظيمِ المضرَّة كما قال أبو هريرة في الوِعاءِ الذىِ كتمه من حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنَّه لو بثَّه، لقطِعَ هذا البُلعوم (4)، وقد فسَّره شراح الحديث بنحو هذا.

فأمَّا قولُ منْ قالَ: إنَّهم آلُ أبي طالب عليهم السلام، فهذا مِنْ أسمج المقالات القبيحة، والصِّحاح مُنزَّهَةٌ وأهلُها عن تدوين مثلِ هذا، وإنَّما هذا تصحيفٌ من بعض النَّواصب، حَمَلَهُ الغيظُ على تزوير ما لا يمضي.

وهَبْك تقُولُ هذا الصُّبْح لَيْلٌ

أَيَعْمى العَالَمُونَ عَنِ الضِّيَاءِ؟

(1) انظر " فتح الباري " 10/ 419 - 423.

(2)

في (ب): طرق.

(3)

في (ب): " سراراً " وهو خطأ.

(4)

تقدم تخريجه في 2/ 400.

ص: 218

وقد قال بعضُ النَّاس ما معناه: إنَّه عليه السلام أرادَ: أولياؤه صالحوا المؤمنين مِنْ آل أبي طالب وغيرِهم، وأنَّه لا يقتصر على تولي آلِ أبي طالبٍ دونَ غيرهم مِنْ صالحي المؤمنين كعادَةِ الرب، وهذا معنى صحيحٌ لو كان إليه حاجةٌ، لكنْ لا حاجة إليه، وفي الحديث زيادةٌ ذكرها البخاريُّ تستلزِمُ القَطْعَ على أنَّهم ليسوا (1) آل أبي طالب، وذلك قولُه في آخره في بعض الرِّوايات " ولكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أبُلُّهَا ببَلَالِها " وليس يُسْتنْكَرُ أنَّ (2) عمرو ابن العاص يروي هذا في آل أبي العاص بن أمية، وقد صحَّ أنَّه كان يُجاهِرُ معاوية بالثَّناء على أميرِ المؤمنين، وفي " مسند أحمد " بسند صحيح أنَّه جاهر مُعاويَة بحديثِ عمَّار العظيم، وفَزِعَ مِنْ قتله، وقال له معاوية: ما أفزعك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " تقتله (3) الفِئَةُ الباغِيَةُ "(4)، وكذلك ولده عبد الله قال عند معاوية لرجلين يختصمان أيُّهما قاتله: لِيطِبْ (5) أحدُهما به نفساً، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:" تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ "، وردَّ على معاويةَ تأويله في ذلك (6).

وأما حديثُ عمرو أنه سأل النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم: أيُّ النَّاسِ أحبُّ إليك؟ قال: " عائشةُ "، قلتُ: مِنَ الرِّجال؟ قال: " أبوها "(7)، وهو من

(1) في (ش): غير.

(2)

ساقطة من (ش).

(3)

في (ش): تقتلك.

(4)

رواه أحمد 4/ 197.

(5)

في (ش): " ليطيب " وهو خطأ.

(6)

رواه أحمد 2/ 164 - 165. وحديث " تقتُلُكَ الفئةُ الباغية " حديث متواتر، تقدم تخريجه 2/ 170.

(7)

رواه البخاري (662) و (4358)، ومسلم (2384)، والترمذي (3885)، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 8/ 154، وفي " فضائل الصحابة "(5)، والحاكم 4/ 12.

ص: 219

حديث خالدٍ الحَذاء، عن أبي عثمان النَّهديَ، عن عمرو، وأوَّلَهُ (1) أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أمَّره على جيش ذي السَّلاسل، فليس هُوَ مِنْ هذا القبيل، ويشهدُ له " لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذاً خَلِيلاً، لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرِ خلِيلاً، ولكِنْ خُلَّة الإِسْلَامِ أفْضَلُ " رواه البخاريُّ (2) من حديث ابنِ عباس، ورواه مسلم، والترمذيُّ من حديث ابن مسعود، وفيه " ولكِنْ صاحِبُكُمْ خَليلُ اللهِ "، وفي رواية " وَقَدِ اتَّخَذ اللهُ صاحِبَكُم خَلِيلاً "(3). ورواه مسلم (4) أيضاًً عن جندب بن عبد الله نحو حديث (5) ابن مسعود.

وقد روى الحاكم (6) على تَشَيُّعِهِ عنِ أمِّ سلمة أنَّها لما سمعتِ الصَّرخة على عائشة، قالت: واللهِ لقد كانت أحبَّ النَّاسِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلا أباها. ذكره الذَّهبيُّ، وقال: إسنادهُ صالح. والحاكم لا يُتَّهَمُ في ذلك، فإنَّه شيعيٌّ، وأمُّ سلمة فأبعدُ مِنَ التُّهمة، فإنَّها ضَرَّةُ عائشة، ولكن ذلكَ في أحبِّ الناس إليه، لا في أحبِّ أهلِه إليه الَّذين هم أحبُّ الناس إليه.

وقد روى التِّرمذيُّ (7) من حديث عائشة أنَّه قيل لها: أيُّ الناس كان أحبُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: فاطمة مِنْ قِبل النِّساء، ومِنَ الرِّجال زوجُها، وإن كان ما علمتُ صوَّاماً قوَّاماً، وكذلك فليكُنِ الإنصافُ رضي الله عنهم.

(1) في (ش): " أوله ".

(2)

رواه البخاري (467) و (3656) و (3657) و (6738). وتقدم تخريجه 1/ 176.

(3)

في (ب): بدل " خليلاً ": خليل الله، وفي رواية وقد اتخذ الله صاحبكُم.

(4)

(538) في المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور.

(5)

" نحو حديث " ساقطة من (ش).

(6)

في " المستدرك " 4/ 12 - 13.

(7)

رقم (3874) وقال: حديث حسن غريب، ورواه الحاكم 3/ 157، وصححه.

ص: 220

وكذلك روى التِّرمذيُّ (1) مثلَه من حديث بُريدة، وذكر الترمذي نحو الجمع الذي ذكرتُه عن إبراهيم -يعني النَّخعي-.

والكلام فيما شجر بين الصحابة ممَّا (2) كثُرَ فيه المِرَاءُ والعصبِيَةُ مع قِلَّة الفائدة في كثيرٍ منه، وفي الحديث " مَنْ تَرَكَ المِرَاءَ، وَهُوَ مُحِقٌّ، بَنَى اللهُ لَهُ بَيْتاً في رَبَضِ الجَنَّةِ "(3)، وقَدِ اقتصرتُ لأجل ذلك عَنْ كثيرٍ منه رغبةً فيما أعدَّ (4) اللهُ لمنْ تركَ المِرَاءَ بنِيَّةٍ صالحةٍ مَع القطع بأنَّ الحَقَّ مع أميرِ المؤمنينِ عليٍّ عليه السلام، وأنَّ مُحَارِبَه بَاغٍ عليه، مُباحُ الدَّم، خارجٌ عَنِ الطَّاعة والجماعة، وقد تقدَّم أو سيأتي أنَّ هذا إجماعُ الأُمَّةِ من رواية أئِمَّة (5) أهل السُّنَّةِ، دَعْ عَنْكَ الشِّيعة.

على أنَّ أحاديثَ هؤلاء الجماعة متميِّزةٌ عن غيرها، فلو قدَّرنا أنَّ حديثَهم نِصْفُ حديثِ الصَّحاح أو أكثره، لم يكن مانعاً من طلب ما في الصِّحاح من حديث الثقات المجمَعِ عليهم، ولا مُسْقِطَاً لوجوب ذلك، بل لو علم المكلَّفُ أنَّ فيها حديثاً واحداً (6) صحيحاًً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه عليه تكليفٌ، وبقيَّتُها أكاذيبُ وأباطيل، لوجب طلبُ (7) ذلك الحديث

(1)(3868) وقال: هذا حديث حسن غريب، وهو شاهد لحديث عائشة رضي الله عنها.

(2)

في (ب): فيما.

(3)

رواه من حديث أنس: الترمذي (1993)، وابن ماجه (51)، وفيه سلمة بن وردان، وهو ضعيف، ومع ذلك فقد حسَّنه الترمذي، ولعله لشاهده الذي رواه أبو داود (4800) من حديث أبي أمامة بلفظ:" أنا زعيمٌ ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً ". وإسناده صحيح.

(4)

في (ب): عند.

(5)

" أئمة " ساقطة من (ب)، و" أئمة أهل " ساقطة من (ش).

(6)

ساقطة من (ب).

(7)

ساقطة من (ش).

ص: 221

الصحيح، وقد سافر جابر بن عبد الله شهراً في طلب حديثٍ واحدٍ (1)، ولولا (2) عنايةُ أئِمَّة الحديث في حفظ الأسانيد والمتون، ما تميَّز حديثُ هؤلاء من غيره هذا التميُّز (3)، وعُرِفَ ما فيه ممَّا فيه نكارة، وما فيه ممَّا لا نكارَةَ فيه، فكيفَ يُتهمون بالعصبيَّة والإِضلال مع بيانهم لِمَا يتمكَّنُ الخصمُ به مِن الرد على بصيرة، أو القبول على بصيرة؟ وإنَّما يُتَّهمون بالإِضلالِ والغَرَرِ لو كتموا الأسانيدَ، وخَلَطُوا أحاديث (4) المختَلَفِ فيهم بأحاديث المُجْمَع عليهم، كما يصنعُ من يحذف (5) الأسانيد، ولا يذكر صحابيّاً ولا

(1) علقه البخاري في " صحيحه " 1/ 173 في العلم، باب: الخروج في طلب العلم، وهو حديث أخرجه البخاري في " الأدب المفرد "(970)، وأحمد 3/ 495، وأبو يعلى والخطيب في " الرحلة في طلب الحديث " ص 109 - 111 من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل أن جابر بن عبد الله حدثه أنَّه بَلَغَه حديثٌ عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فابتعتُ بعيراً، فشدَدْتُ إليهِ رحلي شهراً، حَتَّى قدِمْتُ الشامَ، فإذا عبدُ الله بن أنيس، فبعثتُ إليه أن جابراً بالباب، فرجَعَ الرسولُ، فقال: جابر بن عبد الله؟ فقلت: نعم، فخَرَجَ، فاعتنقني، قلتُ: حديث بلغَني لم أسمعْهُ، خشيت أنْ أموت أو تموتَ، قال: سمعتُ النبيَّ يقول: " يحشرُ الله العبادَ -أو الناسَ- عُراة غُرْلاْ بُهْماً "، قلنا: ما بُهْماً؟ قال: " ليس معهم شيء، فيناديهم بصوت يسمعُهُ منْ بَعُد (أحسبُه قال: كما يسمعه مَنْ قرُب): أنا الملك لا ينبغي لأحدٍ من أهل الجنة يدخلُ الجنة، وأحد من أهل النار يطلبه بمظلمة، ولا ينبغي لأحد من أهل النار يدخُلُ النار، وأحد من أهل الجنة يطلبه بمظلمة " قلت: وكيف؟ وإنما نأتي الله عُراة بُهْماً؟ قال: " بالحسنات والسيئات ". وصححه الحاكم 2/ 427 - 428، و4/ 574 - 575، ووافقه الذهبي، وهو حسن فقط، لأن عبد الله بن محمد بن عقيل لا يرقى حديثه إلى الصحة.

وله طريق آخر عند الطبراني في " مسند الشاميين "، وتمام في فوائده فيما ذكر الحافظ في " الفتح " 1/ 174، وفي " تغليق التعليق " 5/ 356 من طريق الحجاج بن دينار، عن محمد بن المنكدر عن جابر

قال الحافظ: وإسناده صالح.

وله طريق ثالثة عند الخطيب في " الرحلة "، وفي سندها عمر بن الصبح، وهو متروك، وكذبه ابن راهويه، فلا يُفرح بها.

(2)

في (ش): لولا.

(3)

في (ب) و (ج): التمييز.

(4)

في (ب): " الأحاديث "، وهو خطأ.

(5)

في (ب): حذف.

ص: 222

غيره، فتأمَّل ذلك.

واعلمْ أنَّ هذه الجملة كافيةٌ في الجواب على ما ذكره السيدُ في الموضع الثَّاني مِنَ المسألة الثَّانية، وتتبُّعِ كلامِهِ لفظةً لفظةً كما صنعتُ في جميع أوَّلِ رسالته يَطُولُ من غير طائلٍ، وليس فيه (1) أكثرُ مِنْ بيان ما يردُّ عليه مِنَ الإشكالات، وما في كلامه مِن المناقضات، ومجرَّدُ التَّتبُّعِ للعثرات ليس بمقصودٍ ما لم يكن فيه إيضاحٌ لِحَقِّ، أو دَلَالَةُ على هُدَىً، ولكن (2) لا بُدَّ من التَّنبيه على ما عَظُمَ مِنْ أوهامه أيده الله لأجل ما في معرفتها مِنَ النَّفع والفائده، لا لمجرَّدِ الاعتراض، فلو أردتُ الاستكثار مِنْ ذلِكَ، لاستوفيتُ الجواب على كتابه، وتتبَّعتُ (3) كُلَّ لفظةٍ من خطابه، لكنِّي كرهتُ ذلك لِمَا فيه من تضييعِ الوقت، وقِلَّةِ الجدوى، فلنقتَصِرْ على ذكرِ ما يُفيدُ من أوهامه أيَّدهُ الله.

الوهمُ الأول: قال أيَّده الله: إنَّ المحدِّثين يذهبونَ إلى أنَّ الصحابة لا يجوزُ عليهمُ الكبائِرُ، وأنَّهم إذا فعلوا المعصية الظَّاهرة، عَدُّوها صغِيرَةً. لكِنِ السَّيِّدُ سمَّاهم بغير اسمهم (4)، وهذا وهمٌ فاحش، فإنَّه قد قَدَّمَ أنَّ الصَّحابي عندهم هو مَنْ رأي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، والقولُ بعصمة مَنْ رأي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لم يُنْقَلْ عن أحدٍ مِنَ الأُمَّة أبداً، بل ما نُقِل عن أحدٍ من العُقلاء، وهذه كتبُ المِلَلِ والنِّحَلِ موجودةٌ، والسَّيِّدُ مُطالَبٌ بنقل ذلك عن (5) ألفاظهم ونُصوصهم، وفي أيِّ كُتبهم قالوا ذلك، فأمَّا الذي وجدناه في

(1) ساقطة من (ش).

(2)

في (ب): لكن.

(3)

في (ش): أو.

(4)

في (ب): أسمائهم.

(5)

في (ب): من.

ص: 223

كتبهم، فغيرُ ذلك، ولكنَّ بعضَهم قد يُطْلِقُ القولَ بعدالة الصَّحابة عموماً، لعُمومِ الثَّناء عليهم في القرآن والسُّنَّة، ثمَّ يَخُصُّون هذا العموم عند ذكر المجاريح المصرّحين مِنَ الصَّحابة، مثل الوليد بن عقبة (1)، وبُسْرِ بن أرطاة (2) كما سيأتي، كما خصَّه الله تعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11]، وحدَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِسْطَحاً (3) وغَيرِه على الإفْكِ، مع أنَّ مِسْطَحَاً بدريٌّ مِنْ خيرِ الصَّحابة، وكذلك حَدَّ عُمَرُ أبا بَكْرَةَ وصاحبيه على قَذْفِهِم للمغيرة، وجرَّحهم في الشَّهادة والرِّواية، وأقرَّته الصَّحابَةُ (4)، وحدَّ منهم جماعة في

(1) انظر ترجمته في " السير " 3/ 412 - 416.

(2)

انظر ترجمته في " السير " 3/ 409 - 411.

(3)

هو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف بن قصي المطلبي المهاجري البدري.

روى الإمام أحمد 6/ 35 من طريق ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرة، عن عائشة، قالت: لما نزل عُذري، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك وتلا القرآن، فلمَّا نزلَ أمرَ برجلينِ وامرأةٍ فضربوا حدهم. وأخرجه أبو داود (4474) و (4475)، والترمذي (3181)، وابن ماجه (2567)، والنسائي في "الكبرى" كما في " التحفة " 2/ 409. وقال الترمذي: هذا حديث حسن، ووقع عند أبي داود تسميتهم حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش.

ولما نزل القرآنُ في براءةِ الصديقةِ بنتِ الصديق، قال أبو بكر رضي الله عنه -وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره-: واللهِ لا أنفقُ على مسطح شيئاً بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزَلَ الله:{وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال أبو بكر: بلى واللهِ إني أُحِبُّ أن يغفرَ اللهُ لي، فَرجَعَ إلى النفقةِ التي كان ينفقُ عليه، وقال: واللهِ لا أنزعها منه أبداً. انظر البخاري (4750). توفي مسطح سنة أربع وثلاثين رضي الله عنه.

(4)

في البخاري 5/ 255 في الشهادات، باب: شهادة القاذف، وجلد عمرُ أبا بكرة وشبل بن معبد، ونافعاً بقذف المغيرة، ثم استتابهم، وقال: من تاب، قبلت شهادته.

وَوصَلَهُ الشافعيُّ في " الأم " 7/ 41 قال: سمعتُ الزُّهري يقولُ: زعَمَ أهلُ العراق أن =

ص: 224

معاصي التَّصريح مِنْ شُرب الخمر، والزِّنى والسَّرِقة، وهِيَ منْ معاصي التَّصريح والخِسَّةِ.

= شهادةَ المحدود لا تجوزُ، فأشهدُ لأخبرني فلانٌ أن عمرَ بنَ الخطاب قال لأبي بكرة: تُبْ، وأقبل شهادتكَ، قالَ سفيانُ: سَمَّى الزهريُّ الذي أخبره، فحفظته، ثم نسيته، فقال لي عمر بن قيس: هو ابنُ المسيب. قال الشافعي: فقلت له: هل شككت فيما قال؟ قال: لا، قالَ الشافعيُّ: هو ابن المسيبِ بلا شك.

وأخرجَه ابنُ جرير في " جامع البيان " 18/ 76 من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، عن سعيدِ بنِ المسيب أتم من هذا، ولفظه: أن عمر بن الخطاب ضربَ أبا بكرة، وشبلَ بن معبد، ونافعَ بن الحارث بن كلدة حدَّهم، وقال: منْ أكذبَ نفسه، أجزْتُ شهَادته فيما أستقبلُ، ومنْ لم يفعلْ، لم أُجِرْ شهادته، فأكذب شبلٌ نفسه ونافعٌ، وأبَى أبو بكرة أنْ يفعل. قال الزهريُّ: هو واللهِ سُنة، فاحفظوه.

وأخرجه سليمانُ بنُ كثير، عن الزهريِّ، عن سعيد بنِ المُسَيِّب أنَّ عمر حيث شهد أبو بكرة، ونافع، وشبل على المغيرة، وشَهِدَ زيادٌ على خلافِ شهادتهم، فجلَدَهم عمرُ، واستتابهم، وقال: مَنْ رَجَعَ منكم عن شهادته، قبلتُ شهادته، فأبى أبو بكرة أن يَرْجِعَ. أخرجَهُ عمرُ بنُ شبة في " أخبار البصرة " من هذا الوجه. وساقَ قصة المغيرة هذه من طرقٍ كثيرة، محصلُها أنَّ المغيرة بن شعبة كان أمير البصرة لعمر، فاتهمه أبو بكرة -وهو نفيع- الثقفي الصحابي المشهور، وكان أبو بكرة، ونافع بن الحارث بن كَلَدَةَ الثقفي، وهو معدودٌ في الصحابة. وشِبْلٌ -بكسر المعجمة، وسكون الموحدة- ابن معبد بن عتيبة بن الحارث البجلي، وهو معدود في المخضرمين، وزياد بن عبيد الذي كان بعد ذلك يقال له: زياد بن أبي سفيان، إخوة من أُمِّ أمهم سُمية مولاة الحارث بن كلدة، فاجتَمعُوا جميعاً فَرَأوُا المغيرةَ مُتبطِّنَ المرأةِ، وكان يقالُ لها: الرقطاءُ أُمُّ جميل بنتُ عمرو بن الأفقم الهلالية، وزوجُها الحجاج بن عتيك بن الحارث بن عوف الجشمي، فرحَلُوا إلى عمر، فشكوه، فعزله، وولى أبا موسى الأشعري، وأحضرَ المغيرة، فَشهِدَ عليه الثلاثةُ بالزنى، وأما زيادٌ، فلم يبُتَّ الشهادة، وقال: رأيتُ منظراً قبيحاً، وما أدري أخالطها أم لا، فأمر عمرُ بجلدِ الثلاثة حدَّ القذف، وقال ما قال.

وأخرج القصة الطبراني (7227) في ترجمة شبل بن معبد، والبيهقي 8/ 234 و235 من رواية أبي عثمان النهدي أنَّه شاهدَ ذلك عند عمر، وإسناده صحيح.

ورواه الحاكمُ في " المستدرك " 3/ 448 - 449 من طريق عبد العزيز بن أبي بكرة مطولاً، وفيها:" فقال زياد: رأيتهما في لِحافٍ، وسمعتُ نفساً عالياً، ولا أدري ما وراء ذلك ".

ص: 225

فكيف يقولُ عاقِلٌ مع ذلِكَ: إنَّ عُموم الثَّناء غَيْرُ مخصوص؟ ولكنه خصوص (1) نادِرٌ، فهو فيهم كالشَّعرة السَّوداء في الثَّور الأبيض، فلذا تُرِكَ ذكرُه، وهو معروف في " الاستيعاب " لابن عبد البر وغيرِه مِنْ كتب الصَّحابة.

ولا شك في قَبُول الخُصوص وتقديمِه على العمومِ، فقد صحَّ تخصيص العموم (2) في كلام الله تَعالى، وهو أصدقُ القائلين، ولم يكن في ذلك مناقضةٌ ولا مكاذَبةٌ، بل قد صحَّ ذلك في كتاب الله في هذه المسألة بعينها، فقد أثنى الله سبحانه في كتابه على الصحابة عُموماً، ولم (3) يقدح في كتابِ الله بما يُوجَدُ مِن بعضهم كقوله تعالى (4):{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وكذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرةٍ تَقَصَّاها أبو عمر بنُ عبد البر في كتاب " الاستيعاب "(5)، ولم يمنع ذلك مِنَ التَّخصيص، وكذلك عموم كلامِ المحدِّثين، فكيف يجوز (6) ذلك، والله تعالى يقول:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: 11]، والصِّحاح مشحونَةٌ بذكر مَنْ حدَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم في الإِفك، والزِّنى، والسَّرِقة مع خِسَّتِهما (7) كما تقدَّم بيانُه. وقد نصَّ الرَّازي في " محصوله "(8) على أنَّ الصَّحابة عدولٌ

(1) في (ش): ولكن خصوصهم.

(2)

عبارة " فقد صَحَّ تخصيصُ العموم " سقطت من (ب).

(3)

في (ش): فلم.

(4)

عبارة " كقوله تعالى " ساقطة من (ش).

(5)

1/ 3 - 8.

(6)

في (ب): يقول.

(7)

في (ش): " حسنهما "، وهو خطأ.

(8)

2/ 1/437.

ص: 226

عندهم في الظَّاهر ما لم يأتِ له مُعارض. هكذا لفظُه، وهو يُفِيدُ خلافَ ما ذكره السَيِّد، وأنَّ القوم يعتقدون زوالَ عدالةِ الصَّحابي عند ورود ما يَدُلُّ على الجَرْحَ.

وقد حكى ابنُ عبد البر في كتاب " الاستيعاب "(1) عن جماعة: أن الوليدَ بن عُقبة (2) كان فاسقاً، شِرِّيباً للخمر بهذا اللَّفظ، مع إجماعهم أنَّه صحابي، وقال: إنَّه مِمَّن يُقْطَعُ بسوءِ حاله، وقُبْحِ فعاله، وقال: لم يرْوِ سُنَّةً يُحْتَاج إليه فيها.

وقال في بُسْرِ بنِ أرطاة: قال الدارقطني: كانت له صحبةٌ، ولم تكن له استقامةٌ بَعْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، هو الَّذي قتل طِفْلَيْنِ لعُبَيْد الله بنِ عبَّاسٍ، قال أبو عُمَرَ: وكان ابنُ معين يقولُ: إنَّه رجلُ سوءٍ، قال أبو عمر: ذلك (3) لعظائِمَ ارتكبها في الإِسلامِ، ثمَّ حكى أنَّه أوَّل من سَبَى المسلمات (4).

وذكر أحمدُ بن حنبل أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما يَدْعُ للوليدِ بنِ عُقبة ولم يَمسََّهُ لِسابق عِلْمِهِ فيه، وأنَّه لذلك حُرِمَ بَرَكةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وكذلك الذَّهبي ذكره في " النبلاء "(5)، وذكر شربَه للخمر، ونزولَ القرآنِ بفسقه، وروى في ذلك حديثاًً مسنداً، وقال: إسناده قويٌّ، وسيأتي بيانُ ذلك في ترجمة الوليد.

(1) 3/ 633.

(2)

" ابن عقبة " ساقطة من (ش).

(3)

في (ب): " ولذلك " وهو خطأ.

(4)

" الاستيعاب " 1/ 161 - 170.

(5)

3/ 415، وتمام كلامه بعد قوله:" إسناده قوي ": لكن سياق الآية يدل على أنها في أهل النار.

ص: 227

وقال الذهبي في كتابه في (1)" المشتبه "(2): إنَّ لعبدِ الرحمن بن عُدَيْس (3) صحبة وزَلَّة، بهذا اللَّفظ. وهذا عكس ما اعتقده السيِّد، وقد ذكر المحدِّثون منِ ارتدَّ وكفر مِنَ الصَّحابة بعد إسلامه وصُحبته في كتبِ معرفة الصَّحابة، والكفرُ أعظم الكبائر بإجماعِ أهل الإسلام وسائرِ الأديان (4) من (5) اليهود والنَّصارى وأمثالهم.

وقَدِ احتجَّ ابن عبد البر على تخصيص أدلَّةِ تعديلِ الصَّحابة بحديث: " فأَقُولُ: أَصْحَابي، فيقال: إنَّكَ لا تَدري ما أَحْدَثُوا بَعْدَكَ "(6)، وذكر أنَّ في هذا أحاديث كثيرة تقصَّاها في " التّمهيد ". ذكر

(1)" في " لم ترد في (ش).

(2)

2/ 488، وهذا الكتابُ يعتمده أهل العلم في ضبط ما يشتبه ويتصحف من الأسماء، والأنساب، والكُنى، والألْقاب مما اتفق وضعاً، واختلف لفظاً، وهو مشتملٌ على فوائد كثيرةٍ في بابه، إلا أنَّ الإمامَ الذهبيَّ رحمه الله بالغَ في اختصاره، وأحال على ضبطِ القلم دون الضبط بالحروف، مما دفعَ بالإمامِ الحافظِ محدث الديار الشامية ومؤرخها شمس الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد الدمشقي المتوفَّى سنة 842 هـ إلى سدِّ الخلل الذي فيه في كتابه العظيم " توضيح المشتبه " الذي تتولى نشره لأول مرة مؤسسة الرسالة، وقد صَدَر منه الجزء الأول بتحقيقِ صاحبنا وحبيبنا الشيخ نعيم العرقسوسي مفتتحاً بمقدمةٍ حافلةٍ عرف فيها بالمؤلف وبكتابه وبالمنهج الذي اتبعه في التحقيق.

(3)

في (ش): " عدس "، وهو خطأ. في " الإصابة " 2/ 403: عبد الرحمن بن عُدَيس -بمهملتين مصغراً- ابن عمرو بن كلاب بن وهمان أبو محمد البلوي. قال ابن سعد: صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وَسمِعَ منه، وشَهِدَ فتح مصر، وكان فيمن سار إلى عثمان. وقال ابن البرقي والبغوي وغيرهما: كان ممن بايع تحت الشجرة، وَشَهِدَ فتح مصر، واختطَّ بها، وكان من الفرسان، ثم كان رئيسَ الخيل التي سارت من مصر إلى عثمان في الفتنةِ. وقال ابنُ عبد البر: هو كان الأميرَ على الجيش القادمين من مصر إلى المدينةِ الذين حَصَروا عثمان وَقَتَلُوهُ.

قلتُ: وهذه هي الزلةُ التي عَنَاهَا الإمامُ الذهبي رحمه الله وهو المشاركة في قتل عثمان رضي الله عنه.

(4)

في (ش): أهل الأديان.

(5)

" من " سقطت من (ش).

(6)

أخرجه البخاري (3349) و (3447) و (4625) و (4626) و (4740) و (6524) =

ص: 228

ذلك في ترجمة بُسْرِ بنِ أرطاة في " الاستيعاب "(1).

= و (6525) و (6526)، ومسلم (2860)، والترمذي (2423)، والنسائي 4/ 117، وأحمد 1/ 235 و253، والطيالسي (6638) من حديث ابن عباس قالَ: قام فينا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خطيباً بموعظة فقال: " يا أيُّها الناسُ، إنكم تُحشرون إلى الله حُفَاةً عُراةً غُرْلاً {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ألا وإنّ أولَ الخلائقِ يُكْسى يومَ القيامة إبراهيمُ عليه السلام، ألَا وإنَّه سَيُجاءُ برجالٍ من أمتي، فيُؤخَذُ بهم ذات الشِّمالِ، فأقولُ: يا ربِّ، أصحابي، فيقال: إنك لا تَدري ما أحدثوا بعدَك، فأقول كما قال العبدُ الصالحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قال: فيقالُ لي إِنَّهم لم يَزَالُوا مُرتدينَ على أعقابهم منذُ فارقتهم ".

وفي الباب عن ابن مسعود عند البخاري (5055)، وأحمد 1/ 384 و402، وابن ماجه (3057).

قال الحافظ في " الفتح " 11/ 385: قوله: " فيقولُ اللهُ: إنَّكَ لا تَدْري ما أحْدَثُوا بعدَكَ " في حديث أبي هريرة المذكور: " إنَّهم ارتَدُّوا على أدبارهمْ القَهْقرَى "، وزاد في رواية سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أيضاًً:" فيقول: إنَّك لا علمَ لك بما أحدثوا بعدَك، فيقال: إنَّهم قد بَدَّلُوا بعدَك، فأقول: سُحْقاً سُحْقاً " أي: بُعْداً بُعْداً، والتأكيد للمبالغة،

وفي حديث أبي سعيد في "باب صفة النار" أيضاً: " فيقال: إنك لا تَدْري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سُحْقاً سُحْقاً لمن غَيَّر بعدي "، وزاد في رواية عطاء بن يسار:" فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم "، ولأحمد والطبراني من حديث أبي بكرة رفعه:" لَيرِدَنَّ عليَّ الحوض رجالٌ ممن صحبني ورآني "، وسنده حسن. وللطبراني من حديث أبي الدرداء نحوه، وزاد:" فقلت: يا رسول الله، ادعُ الله أن لا يجعَلَني منهم، قال: لَسْتَ منهم "، وسنده حسن.

وقوله: " قال: فيقالُ: إنَّهم لم يزالوا مرتدين على أعقابِهم ": وَقَع في رواية الكشميهني: " لن يزالوا "، ووقع في ترجمة مريم من أحاديث الأنبياء، قال الفِرَبْري: ذكر عن أبي عبد الله البخاري عن قَبيصة قال: هم الذين ارتدُّوا على عهد أبي بكر، فقاتلهم أبو بكر، يعني حتى قتلوا وماتوا على الكفر، وقد وَصَلَه الإسماعيلي من وجهٍ آخرَ عن قَبيصَة.

وقال الخطابيُّ -ونقلَهُ عنه البغويُّ في " شرح السنة " 15/ 123 - 124 - : لم يرتدَّ من الصحابةِ أحَدٌ، وإنما ارتَدَّ قومٌ من جُفَاةِ الأعراب مِمَّن لا نصرةَ له في الدينِ، وذلك لا يوجبُ قدْحاً في الصحابة المشهورين، ويدلُّ قولُه:" أصيحابي " بالتصغير على قلةِ عددهم. وقالَ غيرُهُ: قيل: هو على ظاهرِهِ من الكفر، والمرادُ بأمتي أمةُ الدعوةِ لا أمة الإجابة. ورجَّحَ بقوله في حديث أبي هريرة " فأقولُ بُعْداً لهم وَسُحْقاً "، ويؤيده كونُهُم خَفِيَ عليه حالُهُم، ولو كانوا من أمةِ الإجابةِ، لعرفَ حالهم بكون أعمالهم تعرض عليه.

(1)

1/ 159.

ص: 229

والسَّبب في وَهْمِ السيدِ -أيَّده الله- في هذه المسألة: أنّه رآهم لا يُفَسِّقُون مَنْ أظهر التَّأويلَ مِمَّن حاربَ أميرَ المؤمنين عليه السلام مِمَّن يَعُدُّونَه صحابِيّاً، ولا شكَّ أنَّهم يقولون ببغيِ مَنْ حاربَ عليّاً عليه السلام، كما رواه القرطبي عنهم الجمبع في " تذكرته "(1)، ورواه غيرهُ منهم كما سيأتي.

وأمَّا قولُهم بتأويلهم، فقد مرَّ الكلامُ عليه قريباً، وممَّا يدخلُه التَّأويل بالإجماع: قتالُ المسلمين وبعضِ الأئِمَّة، والبغيُ عليهم، والدخولُ في الفتن كما فعلت الخوارج، والنواصب، والرَّوافض، ومَنْ لا يأتي عليه العَدُّ.

فإذا عرفتَ هذا، فاعلم أنَّ الناس اختلفوا في مَنْ تأوَّل فيما ليس مِنَ المعلوم تحريمُه بالضَّرورة عند الجميعِ على ثلاثةِ أقوال:

القول الأول: أنَّ التّأويل لا يمنع مِنَ التَّأثيم مطلقاً، وسواء كان في الظَّنيَّات أو في القطعيَّات (2)، وهذا مذهبُ الأصَمِّ وغيره.

القول الثاني: على العكس، وهو أنَّ التأويل يُسْقِط الِإثمَ والعِقَابَ، سواءٌ كان في الظَّنيَّات أو في القطعيَّات، إلاّ أنَّه (3) فرَّق بينهما، فإن التِّأويل في القطعيَّات لا يخْرِجُ الفعل عَنِ القبح، ووجوبِ كراهَتِه، وتحريمِ الرِّضى به، ووجوبِ النَّهْي لمرتكبه، ومنعِه منه إنْ أمكنَ ذلك، والتَّأويلُ في الظَّنِّيَّات يُثَابُ فاعله، ويُرضى به، ولا يُنهى عنه، واختلفوا في التَّصويب.

(1) 2/ 545 - 547.

(2)

في (ب): القطعيات أو في الظنيات.

(3)

في (ش): إذ لا.

ص: 230

واعلم أنَّ المحدِّثين ما خالفونا في هذه المسألة إلَاّ في هذا، وأنَّ مذهبنا ومذهبَهم في عدالة الرُّواة واحدٌ إلَاّ (1) قدرَ أربعة أو خمسة، أو قريبٍ مِنْ ذلك، قد ذكرتهم (2) في هذا الكلام المقدَّم.

القول الثالث: مذهبُ الأكثرين مِنَ الأئِمَّة، وجماهيرِ علماءِ الأُمَّةِ، وهو التَّفصيل، والقولُ بأنَّ التَّأويل في القطعيات لا يمنعُ الكفر أو (3) الفِسْق أوِ التَّأثيم، وأمَّا التَّأويل في الظَّنِّيَّات، فيمنع ذلك كلَّه، وُيوجِبُ التَّصويبَ أو المثُوبة، فإذا عرفتَ هذا، تبيَّنَ لك أنَّ القوم ما خالفوا إلا فيما يدخله التَّأويلُ مِنَ الكبائر، وهو ما أمكن أن يَصِحَّ دعوى بعضُ النَّاس جهله، وإنْ كان عند غيره معروفاً.

والفرقُ بَيْنَ ما يدخلُه التَّأويلُ مِن الكبائر، وبَيْنَ جميع الكبائر (4) معلومٌ بالضرورة لِكلِّ عاقلٍ، فإنَّ الشِّرك بالله، وعبادةَ اللَاّت، ونِكَاح الأخوات والأُمَّهات، وتركَ الصَّوم والصلوات من الكبائر (5)، فإنْ كان السَّيِّدُ يعتقدُ في أهل الحديث أنَّ مذهبهُمْ عدالَةُ مَنِ ارتكبَ هذه الفواحش العظام (6)، وكذَّبَ الرُّسلَ الكِرَامَ عليهم السلام، لكونه رأي النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد الدُّخول في الإسلام، فهو أجَلُّ مِنْ أن يقولَ بهذا الكلام أو ينسبَه إلى أحدٍ مِنَ الأنام، وإن كان لا يعتقدُ ذلك فيهم، فما هذا الذي أعشى (7) بصر

(1) في (ش): إلا في.

(2)

في (ب): فذكرتهم.

(3)

في (ش): و.

(4)

عبارة: " وبين جميع الكبائر " ساقطة من (ش).

(5)

كتب فوق كلمة " الكبائر " في (ش): " التي لا يدخلها التأويل ".

(6)

ساقطة من (ش).

(7)

في (ب): "أغشى"، وهو تصحيف.

ص: 231

بصيرته، وغَشَّى على أضواءِ معرفته، حتَّى تجاسرعلى رَمْيِهمْ بهذه الشَّناعة الَّتي لا يجترىءُ على القولِ بها إلا أهلُ الخلاعَةِ.

وقد قال محمد بن منصور الكوفي (1) في كتابه المعروف " بكتاب أحمد "، يعني أحمد بن عيسى بن زيد عليهم (2) السَّلام: أنَّ أحمدَ بن عيسى قال: فإنْ جَهِلَ الوِلايةَ رَجُلٌ، فلم يتولَّ أميرَ المؤمنين، لم تنقطع (3) بذلك عصمتُه، وإن تبرأ وقد عَلِمَ، انقطعت عنَّا، وكان منا في حَدِّ براءةٍ، يقول: براءة (4) ممَّا دانَ به، وأنكر مِنْ فرضِ الولاية لا براءة يخرج بها مِنْ حدِّ المناكحة، والموارَثةِ، وغير ذلك ممَّا تجري به (5) أحكامُ المسلمين منهم بعضُهم (6) في بعض -إلى قوله- لا (7) على مثل البراءة منَّا مِنْ أهل الشِّرك، واليهود، والنَّصارى، والمجوس. هذا وجهُ البراءة عندنا مِمَّن خالفنا. انتهى بحروفه من آخر المجلد السَّادس من " الجامع الكافي ".

ومعناه لا يَزِيدُ على ما عُلِمَ بالتَّواترِ عن علي عليه السلام أنّه لم يَسِرْ في أهل صفِّين والجَمَلِ سِيرَة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في المشركين، ولا حَكَمَ بسَبْيِ النِّساء والذُّرِّيَّة، ولو كانوا جَحَدُوا ما يُعْلَمُ مِنْ ضَرُورة الدِّين، كان الواجِبُ تكفيرَهم عند جميع المسلمين، فدلَّ على أنَّ فِعْلَهم ممَّا يدخله

(1) تقدمت ترجمته في 2/ 53 و403.

(2)

في (ش): عليهما.

(3)

في (ب): نقطع.

(4)

" براءة " ساقطة من (ب).

(5)

" به " ساقطة من (ب).

(6)

" بعضهم " ساقطة من (ب).

(7)

" لا " ساقطة من (ب).

ص: 232

التّأويلُ بشهادة (1) سيرةِ أمير المؤمنين، وهذا هو مضمونُ ما أنكره السيد على المحدثين.

الوهم الثاني: قال: إنَّهم يُجيزون الكبائر على الأنبياء عليهم السلام.

وهذا الإطلاقُ تجاهُلٌ لا جهلٌ، لأن السَّيِّد لا يزال يُقْرِىءُ مذهبَهم في هذه المسألة، وأنا أُورِدُ من كتبهم ما يشهد (2) ببطلان هذا القولِ الذي أطلقه السيدُ، ولم يقيِّده.

فمِنْ ذلك ما ذكره الرّازي في " محصوله "(3) فإنَّه قال في هذه المسألة في حكم أفعالِ الأنبياء عليهم السلام (4) ما لفظه: والَّذي نقولُ به: إنَّه لم يقع منهم ذنبٌ على سبيل القصد لا صغير ولا كبير (5)، وأمَّا السَّهو (6)، فقد يقع منهم بشرط (7) أن يتذكروه (8) في الحال، ويُنَبِّهوا غيرهم على أنَّ ذلك كان سهواً، وقد سبقت هذه المسألة في علم الكلام، ومن أرادَ الاستقصاء، فعليه بكتابنا في عصمة الأنبياء، والله أعلم. انتهى كلامه.

(1) في (ب): " شهادة ".

(2)

في (ب): شهد.

(3)

1/ 3/344.

(4)

من قوله: " السَّيِّد ولم يقيده " إلى هنا ساقط من (ش).

(5)

جملة "لا صغير ولا كبير" سقطت من (ب).

(6)

في (ش): " السهولة "، وهو تحريف.

(7)

في (ب): شرط.

(8)

في (ب): " يذكروه "، وفي (ش):" يتداركوه ".

ص: 233

وقال ابن الحاجب في " المنتهى "(1): الإجماع (2) على عصمتهم بعد الرسالة من تعمد الكذب في الأحكام، والإجماع على عصمتهم من الكبائر وصغائر الخِسَّةِ.

وقال الذهبي في كتاب " النبلاء "(3)، وقد ذكر ما معناه تنزيه النَّبي صلى الله عليه وسلم مِنَ الأكل مِمَّا ذُبحَ على النُّصُب قبل النُّبُوَّة، فقال في ترجمة سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل ما لفظه: وما زال المصطفى محفوظاً محروساً قبل الوحي وبعدَه، ولو احتمل جوازُ ذلك، فبالضرورة ندري (4) أنَّه كان يأكل [من] ذبائح قريشٍ قبلَ الوحي، وكانَ ذلك على الإباحة، وإنّما تُوصفُ ذبائحُهُم بالتَّحريم (5) بعد نزول الآية، كما أنَّ الخمرَ كانت على الإباحة الى أن نزل (6) تحريمها بالمدينة بعدَ يومِ أُحُدٍ، والَّذي لا ريبَ فيه أنّه كان معصُوماً قَبْلَ الوحي وبعدَه، وقبلَ الشَّرائع مِنَ الزِّنى قطعاً، ومِنَ الخيانة، والغَدْر، والكَذِبِ، والسكْرِ، والسُّجود لوثَنٍ، والاستقسام بالأزلام، ومِنَ الرذائل، والسَّفَهِ، وبذاء اللسان، وكشف العَوْرَةِ، فلم يكن يطوف عُرياناً، ولا يَقِفُ يوم عرفة مع قومه، بل كان يَقفُ بعرفة.

ومن أحسنِ من تكلَّم في هذا منهم (7) القاضي العلامة عياضُ بنُ موسى بنِ عياض اليَحْصُبي المالكي في كتابه " الشفا في شرف المصطفى "، فإنه أجاد الكلام في هذه المسألة، وليس يتَّسع هذا الجواب

(1) 2/ 22.

(2)

في (ش): للإجماع.

(3)

1/ 130.

(4)

في (ش): تدري.

(5)

" بالتحريم " ساقطة من (ش).

(6)

في (ش): نزول.

(7)

في (ش): في هذا المعنى.

ص: 234

لذكر جملة كبيرة (1) من كلامه، فإنَّه طوَّله ونوَّعه (2)، واحتجَّ وتأوَّل، حتَّى بلغ كلامه في ذلك ستِّين ورقة أو يزيد قليلاً، أو ينقص قليلاً بحسب اختلافه فيه. ومِنْ كلامه فيه ما لفظُه: أجمع المسلمون على عِصمة الأنبياء مِنَ الفواحش، والكبائرِ الموبقات، ومستندُ الجمهورِ في ذلك الإجماعُ، وهو مذهبُ القاضي أبي بكر، ومنعها غيرُه بدليلِ العقل مع الإجماع، وهو قولُ الكافة، واختاره (3) الأستاذُ أبو إسحاق. وكذلك لا خلافَ أنَّهم معصومون من كِتمان الرِّسالة، والتَّقصيرِ في التَّبليغ، وذكر الإجماع على عصمتهم من الصَّغيرة الَّتي تؤدِّي إلى إزالة الحِشْمَةِ، وتُسْقِطُ المروءة، وتُوجِب الخَسَاسَة، قال: بل يلحق بهذا ما كان مِنْ قبيل المُباحِ، فأدَّى إلى مثله ممَّا يُزري بصاحبه، ويُنَفِّرُ القلوبَ عنه، ثمَّ إنَّ القاضي ذكر في المتن الاختلاف في عصمتهم قَبْلَ النُّبُوَّةِ حتى قال: والصَّحيحُ تنزيههم من كُلِّ عيب، وعصمتُهم من كلِّ ما يُوجِبُ الرَّيْبَ، فكيف والمسألة تصوُّرُها كالممتنع؟ فإنَّ المعاصي، والنَّواهي (4) إنَّما تكون بعد تَقَرُّر (5) الشَّرع، وذكر عصمتهم قبلَ هذا عَنِ الصَّغائر، واختاره، واحتجَّ عليه، وأطال القولَ (6).

إذا عرفتَ هذا، فَلْنَذْكُرِ الذِي أوجب الوهمَ في هذا (7)، بَلِ الَّذِي أوجب التَّسَاهُل فيه، وذلك أمران:

(1) في (ش): كثيرة.

(2)

في (ش): نَوَّعه وطوله.

(3)

تحرفت في (ب) إلى: " ومنعه ".

(4)

في (ش): " المناهي ".

(5)

في (ش): تقرير.

(6)

انظر " الشفا " 2/ 146 فما بعد.

(7)

" في هذا " ساقطة من (ش).

ص: 235

أحدُهما: أنَّ بعضَهم يقول: إنَّ (1) المعاصي الدَّالَّة على الخِسَّة قَبْلَ النُّبُوة يمتنع وقوعُها مِنَ الأنبياء عليهم السلام بدليل السَّمع فقط، ولا يمتنِعُ بدليلِ العقل، ونحن نقولُ -والجمهور منهم-: إنَّها (2) تمتنع عقلاً وسمعاً، فهم موافقون لنا على إمتناعها، ولكن بعضهم استدلُّوا على ذلِكَ بدليلٍ واحدٍ، ونحن وجمهورُهُم استدللنا عليه بدليلين، فهذا لا يقتضي الاختلافَ في تجويزِ الكبائرِ على الإِطلاقِ البتَّة، فأمَّا ما لم يكن مِن صغائِرِ الخِسَّة المنفِّرات، فلا ينبغي أن يكونَ فيه (3) اختلافٌ، لأنَّ وصفه بأنّه كبيرٌ قَبْلَ الشرع خطأ، بل وصفُه بأنّه حرام، ألا ترى أنَّ الخمرَ كان مباحاً؟ فإن ثبت أنَّه حرام، وأنَّهم متعبِّدون بشرع مَنْ قبلنا، فبأدلَّة ظنِّيَّة، فإن قدرنا ثبوتَ ذلكَ بأدلَّةٍ قاطعةٍ، فثبوتُ التَّحريم لا يدلُّ على أنَّ المُحَرّمَ كبيرٌ، فأمَّا الكفرُ وجميعُ ما عَدَّدهُ الذهبي، والقاضي عياض وغيرهما فيما تقدم من المعاصي الدّالة على الخِسَّةِ، وسائر الرذائل، فقد وافقونا على تنزيههم عنها، وأقصى ما في الباب أن يكونوا خالفونا في تجويزِ بعض الكبائرِ على الأنبياء قبل النُّبُوَّة، فهذا لا يُجيزُ الإِطلاقَ الَّذِي رواه السَّيِّدُ عنهم لوجهين.

أَحَدُهُما: أن الخلافَ في بعض الكبائرِ ليس خلافاً في جميعها، ومَنْ لم يفَرِّقْ بينَ البعضِ والكُلِّ، فليس مِنَ العقلاء، فإنَّ العلمَ (4) بالفرق بينهما ضروريٌّ، ومن المعلومِ بالضَّرورة عنهم أنَّهم ما خالفُوا (5) في جميعِ الكبائر، فإنَّ الشَّركَ مِنَ الكبَائِرِ واللواطَ من الكبائر، ونحو ذلك.

(1) ساقطة من (ب).

(2)

في (ب): إنما.

(3)

ساقطة من (ب).

(4)

في (ش): فالعلم.

(5)

في (ب): خالفونا.

ص: 236

الوجه الثاني: أنّ الأنبياءَ عليهم السلام قبل النُّبُوَّةِ لا يُسَمَّوْنَ أنبياءَ على الحقيقة، ولا يُحْكمُ لهم حُكْمٌ من أحكامِ الأنبياء، ألا ترى أنّ كلامَهُم وأفعالَهم قبل النُّبُوَّةِ ليس بِحُجَّةٍ، وأمرهم قبلَها لا يُوجِبُ الطاعة، والشَّاكَّ في صدقهم قبل النُّبُوَّةِ لا يُكْفَرُ؟ فإذا نسب الفقهاءُ إلى الأنبياء جواز أمرٍ قبل النُّبُوَّة، لم يُقَلْ: إنَّ مذهبَهم جوازُه على الأنبياء هكذا على الإِطلاق، ولو كان ذلِكَ يجوز، للزم (1) أن يكون مذهبنا أنّ كلامَ الأنبياء ليس بِحُجَّةٍ، وأنّ مَنْ شَكَّ في صدقهم، فليس (2) بكافر، وأمثال ذلِكَ مِمَّا هو مذهبنا فيهم عليهم السلام قبل النُّبُوُّةِ، وبالجملة فمذهبُ القوم ونصوصُهم يَدُل (3) على بُطلان ما أطلقه السَّيِّدُ قطعاً، والله سبحانه أعلم.

الوهم الثّالث: قال السيدُ أيّده الله: ومنهم مروانُ بنُ الحكم، طَرَدَهُ وَلَعَنَهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا (4) وهمٌ عظيمٌ، لا يخفى على مَنْ له أدنى أُنْس بِمعرفة الرِّجال أنَّ الذي طرده النبِيُّ صلى الله عليه وسلم هو الحكمُ ابنُ أبي العاص لا مروان، وهذا معلومٌ بالضرورة (5).

وقد وهِمَ الحاكِمُ في ذلك في " شرح العيون "، وتوفي صلى الله عليه وسلم وهو ابنُ ثمانٍ أو نحوها، فمتى (6) استحقَّ التَّطريد، ولكن (7) نقله أبوه يَوْمَ طُرِد معه.

(1) في (ش): لزم.

(2)

في (ش): ليس.

(3)

في (ش): تدل.

(4)

في (ب): هذا.

(5)

في (ب): ضرورة.

(6)

في (ش): فمن أين.

(7)

في (ب): ولكنه.

ص: 237

قال في " النبلاء "(1) في الحكم بن أبي العاص: [قيل]: نفاه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لكونه حكاه في مشيته، وفي بعض حركاته، فسبَّه وطرده، وروى في ترجمته عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أُريتُ (2) بني الحَكَم (3) يَنْزُونَ على مِنْبَري نزْوَ القِرَدَةِ ". رواه العلاء بإسناده إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم (4). وذكر في " الاستيعاب "(5) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طردَه مِن المدينة، فنزل الطَّائف، وأنّه عليه السلام كان إذا مشى يتكفَّأ، وكان الحكمُ يحْكِيه، فالتفت إليه النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فرآه يفعلُ ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فكذلِكَ فلتكن "، فكان الحكمُ مُتخلجاً (6) يرتَعِشُ من يومئذ. فعيَّرَ عبدُ الرحمن بن حسان بن ثابت مروانَ بذلِكَ، فقال يهجوه:

إنَّ اللّعينَ أبُوك، فارْم عِظَامَهُ

إنْ تَرْمِ تَرْم مُخَلَّجَاً مَجْنُوناً

يُمْسىِ خَميصَ البَطْنِ مِنْ عَمَلِ التُّقَى

وَيظَلُّ مِنْ عَمَلِ الخَبِيثِ بَطيناً

قال ابن عبد البر: فأمّا قوله: إن اللعين أبوك، فرُوِيَ عن عائشة من طرق ذكرها ابن [أبي] خيثمة وغيرُه، [أنها قالت لمروان إذ قال في أخيها عبد الرحمن ما قال] أما أَنْتَ يا مروان، فأشهد أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لَعَنَ أباكَ

(1) 2/ 108.

(2)

في (ش): رأيت.

(3)

في (ش): الحكم بن أبي العاص.

(4)

أورده الهيثمي في " مجمع الزوائد " 5/ 243 - 244، وقال: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير مصعب بن عبد الله بن الزبير، وهو ثقة. وأورده ابن حجر في " المطالب العالية " 4/ 332، ونسبه لأبي يعلى، ونقل المحقق عن البوصيري قوله: رواتُهُ ثقات.

(5)

1/ 318.

(6)

التخلج في المشي مثل التخلع، وتخلج المفلوج في مشيته، أي: تفكك وتمايل.

ص: 238

وأنتَ في صُلْبِهِ (1).

وروى بإسناده عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ لَعينٌ "، فدخل الحَكَمُ بن أبي العاص (2). وفي هذا

(1) وأخرجه النسائي من طريق علي بن الحسين، حدثنا أمية بن خالد، حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد قال: لما بايَعَ معاوية لابنه، قال مروان: سنةَ أبي بكر وعمر، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سنة هرقل وقيصر، فقال مروان: هذا الذي أنزل الله فيه {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} الآية. فبلغ ذلك عائشة، فقالت: كَذَبَ مروانُ، والله ما هُو بهِ، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته، ولكن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لعَنَ أبا مروان، ومروانُ في صلبه، فمروانُ فَضَضٌ من لعنةِ الله. وانظر البزار (1624).

وأخرج أحمد 4/ 5، والبزار (1623) من طريق عبد الرزاق، عن سفيان بن عيينة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: سمعت عبد الله بن الزبير يقول -وهو مستندٌ إلى الكعبة-: وربِّ هذا البيت، لقد لَعَنَ اللهُ الحَكَمَ وما وَلَدَ على لسانِ صلى الله عليه وسلم. وهذا سند صحيح. وانظر " مجمع الزوائد " 5/ 240 - 241.

(2)

ذكره ابنُ عبد البر من طريق قاسم بن أصبغ، عن أحمد بن زهير، عن موسى بن إسماعيل، عن عبد الواحد بن زياد، عن عثمان بن حكيم قال: حدثنا شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

وأخرجه أحمد في " المسند 2/ 163 من طريق ابن نمير، حدثنا عثمان بن حكيم، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عبد الله بن عمرو قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذهب عمرو بن العاص يلبسُ ثيابَه ليلحقني، فقال -ونحن عنده-: " ليدخلَنَّ عليكم رجلٌ لعين "، فوالله ما زلتُ وَجِلاً أتَشَوَّفُ داخلاً وخارجاً حتى دخل فلان، يعني الحكم. وهذا سند صحيح على شرط مسلم، وذكره الهيثمي في " المجمع " 1/ 112، ونسبه لأحمد، وقال: ورجاله رجال الصحيح.

وذكره أيضاًً 5/ 241 وقال: رواه أحمد، والبزار (1625) إلا أنَّه قال: دخل الحكم بن أبي العاص، والطبراني في " الأوسط "، ورجاله رجال الصحيح.

والحكم: هو ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وهو عم عثمان بن عفان، وأبو مروان بن الحكم وبنيه من خلفاء بني أمية، أسلم يوم فتح مكة، وسكن المدينة، ثم نفاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف، ومكث بها حتى أعاده عثمان في خلافته، ومات بها.

قال ابن الأثير في " أسد الغابة " 2/ 38: وقد روي في لعنه ونفيه أحاديث كثيرة لا حاجة إلى ذكرها، إلا أن الأمر المقطوع به أن النبي صلى الله عليه وسلم مَعَ حلمِه وإغضائِهِ على ما يكرَهُ ما فَعَلَ به ذلك إلا لأمرٍ عظيمٍ. =

ص: 239

ما يشهدُ بمعرفة المحدِّثين بحالِ طريدِ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقد وهم السَّيِّد (1)

في هذا الوهم (2) وهمين:

أحدهما: أنَّ مروانَ هو الطَّريد، وليس كذلك.

وثانيهما: أنَّ طريدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدُ رجال الصحاح (3) الثّقات،

وليس كذلك أيضاً، وليس في كُتُبِ الحديث رواية عنه البتَّة، وجملةُ من

فيها مِمَّنِ اِسْمُهُ الحكم ثلاثة وعشرون رجلاً ليس فيهم الحكم بن أبي

العاص، فليعلم ذلِك أيده الله.

الوهم الرابع: أنَّ مروان بن الحكم عند المحدثين من أهل التَّقوى

والصَّلاح. وليس كذلِكَ، فإنَّهم لا يجهلون ما له مِنَ الأفعال القبيحة،

والمعاصي المهلِكلة، وأنا أُورِدُ من كلامهم ما يدلُّ على ذلِكَ.

قال الذهبي في كتابه " ميزان الاعتدال في نقد الرجال "(4) ما لفظه:

مروان بن الحكم له أعمال موبقة، نسأل الله السلامة، رمى طلحةَ

بسهمٍ، وفعل وفعل. انتهى بلفظه في " الميزان " وذكره في " النبلاء "(5)،

وساق من أخباره حتى قال ما لفظه: وَحَضَر الوقعةَ يَوْمَ الجَمَلِ، فقتل

طلحَةَ، ونجا (6) فليتَه ما نجا (7)، هذا لفظ الذهبي. فلو كان عنده مِنْ أهل

= وقال الحافظ في " الفتح " 13/ 11: وقد وردتْ أحاديثُ في لعنِ الحكم والد مروان

وما ولد. أخرجها الطبراني وغيره، غالبها فيه مقال، وبعضها جيد.

(1)

ساقطة من (ش).

(2)

ساقطة من (ب).

(3)

في (ش): الصحيح.

(4)

4/ 89.

(5)

3/ 477.

(6)

في (ش): فنجا.

(7)

في " السير ": لا نُجِّي.

ص: 240

الصَّلاح ما تَمنَّى له الهلاك، وكره له النَّجاة، وقد نَصَّ في " الميزان " على (1) أن له أعمالاً مُوبِقَة، وهذا تصريحٌ بفسقه.

وذكر الذهبي في " النبلاء "(2) في ترجمة طلحة من طرقٍ أنَّ مروانَ ابنَ الحَكَمِ قاتل طلحة، ثم قال: قاتلُ طلحة في الوِزْرِ بمنزلة قاتِلِ علي. انتهى.

وروى الذهبي في " النبلاء " عن الحسين بنِ علي عليهما السلام أن مروان هو الذي قَتَلَ طلحةَ بنَ عُبَيْدِ الله أحدَ العشرة المشهود لهم بالجنة، ذكره في ترجمة طلحة (3).

وقال ابنُ حزم في " أسماء الخلفاء والأئمَّة "(4)، وقد ذكر بعض مساوىء مروان، وهو أوَّلُ مَنْ شَقَّ عصا المسلمين، بلا شبهة، ولا تأويل، وقتل النُّعمان بنَ بشيرٍ أوَّلَ مولودٍ وُلدَ (5) في الإِسلام في الأنصار صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر (6) أنَّه خرج على ابنِ الزُّبير بَعْدَ أن بايعه على الطَّاعة.

وقال ابن حبان الحافظ في مقدمة " صحيحه "(7) عائذاً بالله أن

(1) ساقطة من (ب).

(2)

1/ 35 - 36.

(3)

لم أجد هذا الخبر في ترجمة طلحة من " السير ".

(4)

انظر الرسالة الخامسة الملحقة بـ " جوامع السيرة " ص 359.

(5)

لم ترد في (ش)، ولا في " أسماء الخلفاء".

(6)

في (ش): وذلك.

(7)

ثم يذكره في مقدمة " صحيحه "، وإنما ذكره بإثر حديث بسرة بنت صفوان من طريق مروان (1114)، ونصه: قال أبو حاتم: عائذ بالله أن نَحْتجَّ بخبرٍ رواهُ مروانُ بنُ الحكم وذووه في شيء من كتبنا، لأنَّا لا نستحلُّ الاحتجاجَ بغيرِ الصحيح من سائر الأخبار، وإنْ وافَقَ ذلك مذهبنا، ولا نعتمد من المذاهبِ على المنتزع من الآثار، وإن خالفَ ذلك قولَ أئمتنا.

ص: 241

يحتج بمروان وذويه في شيءٍ من كتبنا.

وقال ابن قدامة الحنبلي في كتابه " الكافي "(1) على مذهب أحمد ابن حنبل في باب صِفَةِ الأئِمَّةِ: في إمامة الفاسق بالأفعال روايتان، إحداهما (2): تصح لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر " كَيْف أنْتَ إذا كانَ عَلَيْكَ أُمَرَاءُ يُمِيتُونَ الصَّلَاةَ .. الحديث "(3) إلى قوله في الاحتجاج على ذلِكَ: وكان الحسنُ والحسينُ يصلِّيان وراءَ مروان (4)، انتهى، وفيه بيان معرفتهم

(1) 1/ 182 - 183. وهذا الكتاب بأجزائه الثلاثة كنت حققته مع صاحبنا الأستاذ الفاضل عبد القادر الأرنؤوط عن أصلين خطيين، وكان يشاركُنَا في تحقيقه العلامةُ الشيخُ عبد القادر الحتاوي الحنبلي الدُّومي رحمه الله رحمة واسعة، فقد كان من العلماء المتمكنين، قرأ الكثيرَ من كتبِ الفقهِ الحنبلي على شيوخه، وطالعَ الكثيرَ منها بنفسه، وكان مرجع العلماء في معرفه مذهب الإمام أحمد في بلده.

وقد ألف ابن قدامة رحمه الله في الفقه على مذهب أحمد " العمدة "، وهو مختصر صغير، سهلُ العبارة، يَصْلُحُ للمبتدئين، ثم ألَّفَ " المقنع "، وهو أكبر من " العمدة "، جَمَعَ فيه أكثر المسائل عريَّة عن الدليل والتعليلِ، ثم ألَّفَ " الكافي "، وفيه مسائلُ الفقه مقرونةً بأدلتها، ثم ألف " المغني "، وهو في عدة مجلدات ضخام، شرح فيه " مختصر الخرقي "، وقد أرادَ رحمه الله أن يكون هذا الكتاب في فقه المسلمين كافةً، فهو يذكُرُ أقوالَ علماء الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار المشهورين كالأئمة المتبوعين، ويحكي أدلةَ كُلِّ واحد منهم، وإذا رَجَّحَ مذهب الحنابلة في كثير من المسائل، فهو لا ينتقصُ غيرهم، ولا يحمله التعصبُ على كتمان شيءٍ من أدلتهم، ولا على الطعن فيها، يسر الله لنا إخراج هذه السلسلة إخراجاً متقناً محققاً.

(2)

ساقطة من (ش).

(3)

أخرجه مسلم في " صحيحه "(648) في المساجد، باب: كراهية الصلاة عن وقتها المختار، وما يفعله المأموم إذا أخرها الإمام، وتمامُها: قال: قلت: فما تأمرني؟ قال: " صل الصلاةَ لوقتها، فإن أدركتها معهم فَصَلِّ، فإنها لك نافلةٌ " وصححه ابنُ حبان (484) بتحقيقنا، وانظر تخريجه هناك.

(4)

أخرجه الشافعيُّ في " مسنده " 1/ 130: حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: كان الحسن، والحسين يصليان خلفَ مروانَ قال: فقال: ما كان يصليان إذا رجعا إلى منازلهما؟ فقال: لا واللهِ ما كانا يزيدان على صلاة الأئمة.

وأخرجه البخاري في " التاريخ الصغير " 1/ 110 من طريق أبي نعيم، حدثنا عبد الرحيم ابن عبد ربه، حدثني شرحبيل أبو سعد قال: رأيتُ الحسن والحسين يُصليانِ خلفَ مروان.

ص: 242

لمقدار أهل البيت (1) عليهم السلام في الفضل، ولموضع أعدائهم مِنَ الفسْقِ، ونحن محتاجون من بيان الأمرين كليهما في هذا المقام.

وقال أبو السعادات ابن الأثير في كتابه " النهاية "(2) في حرف الفاء مع الضاد: قالت عائشة لمروان: وأنت فَضَضٌ مِن لعنةِ الله، أي: قطعةٌ وطائفة منها، ورواه بعضُهم فُظَاظَةٌ مِن لعنة الله بظائين، وهو من (3) الفظيظ، وهو مَاءُ الكَرِشِ، وأنكره الخطابي (4).

وقال الزمخشري: افتضضت الكَرِشَ: اعتصرت ماءَها، كأنَّه عصارةٌ من اللعنة، أو فُعَالَة من الفظيظ: ماءِ الفحل، أي نُطْفَةٌ من اللعنة. انتهى بلفظه من " نهاية ". ابن الأثير.

وممَّن ذكر مروان أبو عمر (5) بن عبد البر في " الاستيعاب "(6)، ولم يذكره بتقوى ولا وصَفَه بدِيَانَة، بل روى عن علي عليه السلام أنَّه نظر إليه يوماً، فقال: ويلَكَ، وَويلُ أمَّةِ محمّد منك، وَمِنْ بَنيك (7) إذا شابت

(1) في (ش): بيان مقدار معرفتهما لأهل البيت.

(2)

3/ 344، وانظر " الفائق " 4/ 102.

(3)

" من " ساقطة من (ش).

(4)

نص كلام الخطابي في " غريب الحديث " 2/ 518: وقولها: " فَضَضٌ من لعنةِ الله "، أي: قِطعةٌ وطائفةٌ منها، مأخوذٌ من الفضِّ، وهو كسرُ الشيء وتفريقُ أجزائه، يقال: فضضتُ الشيءَ، فهو فَضضٌ، كما يقالُ: قبضته فهو قبَض، وهدمته فهو هدم، ولهذا سُمي فَلَّ الجيش إذا انهزموا أو انفضوا: فضضَاً، يُقَالُ: رأيتُ فَلَّ الجيش وَفضضَهم، أي: من انفلَّ منهم وانفضَّ من جمعِهم. ورواه أبو عبد الله نِفطويهِ، فقال: فَظَاطة من لعنةٍ، قال: والفظ والفظيظُ: ماء الكرش. قال: ورواه آخرُ فقال: أنت فُضُضٌ، قال: وَفُضُض جمع فَضيض: وهو الماءُ السائل، قالَ أبو سليمان: ولا وجهَ لشيء مما جاء به أبو عبد الله في هذا الحديث، وإنَّما هو على ما رويته لك وفسرتُهُ قبلُ.

(5)

تحرف في (ش) إلى: " عمرو".

(6)

3/ 425.

(7)

ساقطة من (ب).

ص: 243

ذِرَاعُكَ، وكان يُقَال له: خيطُ باطل (1)، وفيه يقول أخوه عبد الرحمن بن الحكم لمّا بُويعَ له بالإمارة:

فو اللهِ ما أدْرِي وإنِّي لسائلٌ

حليلة مَضْرُوبِ القَفَا كَيْفَ يَصْنَعُ

لَحَا اللهُ قَوْمَاً مَلَّكوا خَيْطَ باطِلٍ

على النّاس يُعْطِي من يشاء ويمنع (2)

وكان أخوه عبد الرّحمن شاعراً محسناً (3)، وكان لا يرى رأيَ مروانَ، وإنّما قال له: مضروبُ القفا، لأنّه ضُرِبَ يوم الدّارِ على قفَاهُ، فَخَرَّ لِفِيه (4).

قلت: وذلك أيضاًً هجوٌ له بالجُبْنِ (5)، وهي كنايةٌ حسنةٌ.

وأنشد ابنُ عبدِ البَرِّ لأخيه عبدِ الرحمنِ يهجوه:

وهَبْتُ نصيبي فيكَ يَا مَرْوُ (6) كُلَّهُ

لعمروٍ ومروانَ الطَّويلِ وخَالِدِ

فكلُّ ابنِ أمٍّ زائِدٌ غيرُ ناقِصٍ

وأنتْ ابنُ أمٍّ ناقِصٌ غيرُ زائِدِ

وأنشد لغير أخيه (7) شيئاً في هجوه تركتُه، لأنَّه أقذع فيه، وذكر أنه لم يَرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ورواه عن (8) البخاري.

(1) قال الثعالبي في " ثمار القلوب " ص 76: لقب بذلك، لأنَّه كان طويلاً مضطرباً.

(2)

رواية البيت في " الاستيعاب ":

لَحَا اللهُ قوماً أُمَّروا خيط باطلٍ

على الناسِ يُعطي ما يشاءُ ويمنعُ

(3)

وتوفي في حدود السبعين للهجرة. انظر " فوات الوفيات " 2/ 277 - 279.

(4)

في (ش): فجرى لقبه به.

(5)

ساقطة من (ش).

(6)

في (ب): " يا عمرو"، وهو خطأ.

(7)

في (ب): وأنشد لغيره.

(8)

" عن " ساقطة من (ش)، وفي " تهذيب التهذبب " 10/ 92: قال البخاري: لم يَرَ النبي صلى الله عليه وسلم.

ص: 244