الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الأول: المعلولُ
، ومثالُه: أن يرفَعَ الحديثَ بعضُ الثِّقات، ويقفَهُ الباقون، أو يُسْنِدَه ويُرْسِلُوه، أو نحو ذلك مِن العِلَل، وهذا النَّوع ممَّا يقدَحُ في الصحةِ عند المحدِّثين، ولا يقدَحُ في الرَّاوي، ولا يقدَحُ عند الأصوليّين في الصحة ولا في الرَّاوي، والذي في كُتُبِ أهل البيتِ عليهم السلام أنَّه لا يقدح بهذا النَّوعِ.
مثالُ ذلك، حديثُ البخاريِّ عَنِ الشِّعبي، عن جابرٍ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تُنْكحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتهَا "(1). هذا الحديث رواه ثِقَات، لكِنِ المشهورُ أنَّ الشِّعْبِيَّ رواهُ عَنْ أبي هُريرة، لا عن جابرٍ، فرِوَايَةُ البُخاري له مِنْ طريقِ جابرٍ غيرُ صحِيحَةٍ عندهم لهذِهِ العلَّةِ، لأنَّ الذي يَغْلِبُ عَلَى الظن أن الشِّعبيّ لو كان يحفَظُه عن أبي هريرةَ وجابرٍ معاً، ما رواه الحُفَّاظُ الثِّقَاتُ عن أبي هريرة وَحْدَهُ.
فهذا وأمثالُه مِمَّا يقدحون بِهِ أَمْرُهُ قريب (2) عندنا، لأنَّه إنَّما يدُلُّ علَى أنَّ الثِّقَةَ وَهم في رِوَايَته، والوَهْمُ جائِزٌ على الثِّقات، ولا يقدح بِمُطْلَقِهِ إجماعاً، بل إذا كان حِفْظُه أكثرَ قُبِلَ إجماعاً، ذكره عبد الله بن زيد في " الدُّرر "، لأن ارتفاعَهُ عَنِ البَشَير غَيْرُ مقدورٍ لهم، وإنَّما اختلف العُلماء فيما يقدَحُ به منه.
فقال جمهورُ الأصوليّين: إذا غلب الوَهْمُ على حديثه، وكان أكْثَرَ مِنَ الصَّواب أوِ اسْتَوَيَا حتَّى يَبْطُلُ ظَنُّ إصابَتِه، ولا يُمْكِنُ ترجيحُها، فهُنا يَبْطلُ الاحتجاجُ به إجماعاً.
(1) تقدم تخريجه في 2/ 54 - 55.
(2)
في (ش): " قريباً "، هو خطأ.
وقال بعضُهم: لا بُدَّ مِنْ كثرة وَهْمِهِ وزيادَتِه على صَوَابِهِ، وَإِنِ استويا (1) قُبِلَ لِعُمُوم الَأدِلَّة الموجِبَةِ لقبُوله، وعَدَمِ انتهاض الاستواءِ لتخصيصِ العُموماتِ، واختاره الإمامُ المنصور بالله في " الصفوة "، وعبد الله بن زيد في " الدرر ".
وأمَّا المحدِّثُون، فالظاهِرُ منهم أنَّ المُحَدِّثَ متى كَثُرَ وهمُه، ودخل في حيِّزِ الكثْرَة، بطل الاحتجاجُ به، وإنْ كان صوابُه أكثر، وإنَّما يحتجُّون بِمَنْ قلَّ وَهْمُه وَنَدَرَ، فافْهمْ ذلِكَ.
ومِنْهُمْ مَنْ يغلو غُلُوَّاً منكراً، فيُضَعِّفُ الرَّاوي بالوهم النَّادِرِ، وهذا مخالِفٌ للإجماع، غيرُ مُمْكِنٌ اعتبارُه، ولا ملتفت إلى قائِلهِ، ومثل هذا لا يُعَدَّ مذهباً، وإنَّما هُوَ جَهْلٌ مَحْضٌ، والله أعلمُ.
النوع الثاني: مما يقدح (2) عليهما بِهِ الرِّوايةُ عَنْ بعضِ مَنِ اختلف في جَرْحِهِ وتعديلِهِ.
وقد ذكر النَّواوي ذلِكَ، وذكر الجوابَ عليه، وأنا أورِدُ كلامهُ بلفظه. قال في " شرح مسلم " (3): فصل: عابَ عائِبونَ مُسْلمَاً بِرِوايَتِه في " صحيحِه " عنْ جماعَةٍ مِنَ الضُّعَفَاءِ والمُتَوَسِّطين الواقعين في الدرجةِ الثانية الذين ليسوا من شرط الصحيح، ولا عيبَ عليه في ذلك، بل جوابُه من أوجُهٍ، ذكرها الشَّيخُ أبو عمرو بنِ الصَّلاحِ (4).
(1) من قوله: " حتى يبطل " إلى هنا ساقط من (ش).
(2)
في (ش): قدح.
(3)
1/ 25.
(4)
في كتابه " صيانة صحيح مسلم من الإخلال والغلط وحمايته من الإسقاط والسقط " انظر ص 94.
أحدها: أن يكونَ ذلِكَ في مَنْ هُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ غَيْرِهِ، ثقَةٌ عِنْدَهُ، ولا يقال: الجرحُ مُقَدَّمٌ على التَّعديلِ، لأنَّ ذلِكَ فيما إذا كان الجرحُ ثابِتَاً مُفَسَّراً، وإلَاّ فلا يقْبَلُ الجَرْحُ إذا لم يكنْ كذلِكَ.
وقد قال الإمامُ الحافظُ أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي وغيره: ما احتجَّ البُخاريُّ، ومسلمٌ، وأبو داوود [به] منْ جماعةٍ عُلِمَ الطَّعْنُ فيهم منْ غيرهم مَحْمُولٌ عَلَى أنَّه لم يثبتِ الطَّعْن المؤثِّر مفسَّر السَّببِ. انتهى كلام النواوي.
قال شيخ الإِسلامُ عُمَرُ بنُ رسلان البُلْقيني في كتابه " علوم الحديث "(1): ولا يلزمُ ذلِكَ لجوازِ أنْ يكونَ لم يثبُت عِنْدَهُمُ الجَرْحُ، وإن فُسِّرَ هذا هو الأقربُ، فإنَّ المذكورين ما مِنْ شَخْصٍ منهم إلا وَنُسِبَ إلى (2) أشياءَ مفَسَّرَة مِنْ كَذِبٍ وغيره، يَعْرِفُ ذلِكَ مَنْ راجَعَ كُتُبَ القَوْمِ، ولكِنَّها لَمْ تثبُتْ عند مَنْ أَخَذَ بحديثهِمْ، ووثَّقَهم، وروى عنهم. انتهى.
قلتُ: وهذا بَيّنٌ وقد بسطتُ الدَّليل عليه في علوم الحديث (3).
رجعنا إلى كلام النَّواوي رحمه الله.
الثَّاني: أنْ يكونَ ذَلِكَ واقعاً في المُتَابَعَاتِ، والشَّواهد، وقد اعتذر الحاكِمُ أبو عبد الله بالمتابعة والاستشهاد في إخراجِهِ عَنْ جماعةٍ ليسُوا مِنْ شَرْطِ الصَّحيح، منهم مَطَرُ بن الوَرَّاق (4)،
(1) المسمى بـ " محاسن الاصطلاح وتضمين كتاب ابن الصلاح " وقد تقدم التعريف به 1/ 310 وكلامه هذا في الصفحة 221 منه.
(2)
في (ب): إليه.
(3)
انظر " توضيح الأفكار " 2/ 133 - 161.
(4)
هو مطر بن طهمان الوراق أبو رجاء الخراساني السلمي. قال يحيى بن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم: صالح، وقال البزار: ليس به بأس، وقال العجلي: بصري صدوق، وقال مرة: لا بأس به وذكره ابن حبان في " الثقات "، وقال: ربما أخطأ، وقال النسائي: =
وبقيَّةُ (1) بن الوليد (2)، ومحمَّد بنُ إسحاق بنِ يسار (3)، وعبدُ الله
= ليس بالقوي، وقال ابن سعد: كان فيه ضعف في الحديث، وضعفه غير واحد في عطاء خاصة، وذكره الذهبي في " من تكلم فيه وهو موثق " ص 175، وقال: صدوق مشهور، ضعف في عطاء، وقال في " الميزان " بعد أن نقل قول عثمان بن دحية في مطر: لا يساوي دستجة بقل: فهذا غلو من عثمان، فمطر من رجال مسلم، حسن الحديث، وقال الحافظ في " التقريب ": صدوق كثير الخطأ، وحديثه عن عطاء ضعيف.
(1)
تحرفت في (ش) إلى: وثقه.
(2)
هو بقية بن الوليد بن صائد بن كعب الكلاعي الحميري، قال الذهبي في " أسماء من تكلم فيه وهو موثق " ص 54: من وعاة العلم، مختلف في الاحتجاج به، وبعضهم قبله على كثرة مناكيره عن الثقات، وقال النسائي: إذا قال: حدثنا أو أخبرنا، فهو ثقة، وإذا قال: عن فلان، فلا يؤخذ عنه، لأنَّه لا يدري عمن أخذه، خرج له مسلم في الشواهد. قلت: وروى له البخاري تعليقاً، وقال ابن عدي: يخالف في بعض روايته الثقات، وإذا روى عن أهل الشام، فهو ثبت، وإذا روى عن غيرهم خلط، وإذا روى عن المجهولين، فالعهدة منهم لا منه. وقال الذهبي في " الميزان ": قال أبو الحسن بن القطان: بقية يدلس عن الضعفاء، ويستبيح ذلك، وهذا -إن صح- مفسد لعدالته. قلت (القائل الذهبي): نعم والله صح هذا عنه أنَّه يفعله، وصح عن الوليد بن مسلم، وعن جماعة كبار فعله، وهذه بلية منهم، ولكنهم فعلوا ذلك باجتهاد، وما جوزوا على ذلك الشخص الذي يسقطون ذكره بالتدليس أنَّه تعمد الكذب، وهذا أمثل ما يُعتذر به عنهم. وانظر " جامع التحصيل " ص 114.
(3)
العلامة، الحافظ، الأخباري، صاحب السيرة النبوية. قال الذهبي في " السير " 7/ 39: قد أمسك عن الاحتجاج بروايات ابن إسحاق غير واحد من العلماء لأشياء، منها تشيعه ونسب إلى القدر، ويدلس في حديثه، فأما الصدق فليس بمدفوع عنه، وقال في " ميزان الاعتدال " 3/ 475: فالذي يظهر لي أن ابن إسحاق حسن الحديث صالح الحال صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة، فإن في حفظه شيئاً، وقد احتج به أئمة. وقال البخاري: رأيت علي بن عبد الله يحتج بحديث ابن إسحاق، وذكر عن سفيان أنَّه ما رأي أحداً يتهمه، وقال يونس بن بكير: سمعت شعبة يقول: محمد بن إسحاق أمير المحدثين لحفظه. وقال أبو زرعة الدمشقي: ابن إسحاق رجل قد اجتمع الكبراء من أهل العلم على الأخد عنه، منهم سفيان، وشعبة، وابن عيينة، والحمادان، وابن المبارك، وإبراهيم بن سعد، وروى عنه القدماء يزيد بن أبي حبيب، وقد اختبره أهل الحديث، فرأوا صدقاً وخيراً مع مدح ابن شهاب له، وقد ذاكرت دحيماً قول مالك، فرأي أن ذلك ليس للحديث، وإنما هو لأنَّه اتّهم بالقدر.
قلت: الذي عليه المحققون من الأئمة في هذا الفن تقوية حديث ابن إسحاق والاحتجاج به إذا صرح فيه بالسماع دون ما رواه بالعنعنة.
بنُ عمر العمري (1)، والنُّعمان بن راشد (2)، وأخرج مسلمٌ عنهم في الشَّواهد في أشباه لهم كثيرين.
الثالِثُ: أن يكونَ ضَعْفُ الضَّعِيفِ الَّذي احتجَّ بِهِ طَرَأَ بَعْدَ أخذهِ عَنْهُ باختلاطٍ حَدَثَ عليه، غيرِ قادحٍ فيما رواه مِنْ قَبْلُ في زمنِ استقامته كما في أحمد بن عبد الرحمان بن وهب (3) ابن أخي عبدِ الله بن وهب، فذكر
(1) هو عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري، أخو عبيد الله، ضعيف لسوء حفظه، يكتب حديثه ولا يحتج به، فهو يصلح للمتابعات والشواهد.
(2)
هو الجزري الرقي مولى بني أمية، ضعفه يحيى القطان، وابن معين، وأبو داود، والنسائي، والعقيلي، وقال أحمد: مضطرب الحديث، وقال البخاري، وأبو حاتم: في حديثه وهم كثير، وهو في الأصل صدوق، وقال ابن عدي: احتمله الناس، وفي رواية عن ابن معين: ثقة، ومع ذلك فقد ذكره الذهبي في " من تكلم فيه وهو موثق " ص 184، وقال: حسن الحديث، وقال الحافظ في " التقريب ": صدوق سيئ الحفظ.
(3)
هو الحافظ العالم المحدث أبو عبيد الله أحمد بن عبد الرحمن بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم المصري، الملقب ببحشل ابن أخي عالم مصر عبد الله بن وهب المتوفى سنة 264 هـ.
وثقه محمد بن عبد الله بن الحكم، وعبد الملك بن شعب بن الليث، وكان أبو الطاهر ابن السرح يحسن القول فيه، وسأل أصحاب الحديث عنه هارون بن سعيد الأيلي، فقال لهم: إنما يسأل أبو عبيد الله عنا، ليس نحن نسأل عنه، وهو الذي كان يستملي لنا عند عمه، وهو الذي كان يقرأ لنا على عمه.
قال ابن أبي حاتم 2/ 60: سمعت أبي يقول: حدثنا أبو عبيد الله ابن أخي ابن وهب، ثم قال: كتبنا عنه، وأمره يستقيم، ثم خلط بعد، ثم جاءني خبره أنَّه رجع عن التخليط، قال: وسئل أبي عنه بعد ذلك، فقال: كان صدوقاً.
وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة -وأتاه بعض رفقائي فحكى عن عبيد الله بن وهب أنه رجع عن تلك الأحاديث- فقال أبو زرعة: إن رجوعه مما يحسن حاله، ولا يبلغ به المنزلة التي كان قبل ذلك.
وقيل لابن خزيمة: لم رويت عنه وتركت سفيان بن وكيع، فقال: لأن أحمد بن عبد الرحمن لما أنكروا عليه تلك الأحاديث رجع عنها عن آخرها، إلا حديث مالك، عن الزهري، عن أنس:" إذا حضر العشاء "، فإنه ذكر أنه وجده في درج من كتب عمه في قرطاس، وأما سفيان بن وكيع، فإن وراقه أدخل عليه أحاديث فرواها، وكلمناه، فلم يرجع عنها، فاستخرت الله، وتركت الرواية عنه. وقال: ابن عدي: ومن ضعفه أنكر عليه أحاديث وكثرة روايته عن =
الحاكم أبو عبد الله (1) أنَّه اختُلِطَ بَعْدَ الخمسين ومئتين بعدَ خروجِ مسلم مِنْ مِصْر، وهو في ذلك كسعيد بن أبي عروبة (2)،
= عمه، وحرملة أكثر رواية عن عمه منه، وكل ما أنكروه عليه فمحتمل، وإن لم يروه عن عمه غيره، لعله خصه به.
وقال الإمام الذهبي في " السير " 12/ 323: قلت: كان من أبناء التسعين رحمه الله، وقد روى ألوفاً من الحديث على الصحة، فخمسة أحاديث منكرة في جنب ذلك ليست بموجبة لتركه. نعم، ولا هو في القوة كيونس بن عبد الأعلى، وبندار.
وقال الحافظ ابن حجر: وقد صح رجوع أحمد عن هذه الأحاديث التي أنكرت عليه، لأجل ذلك اعتمده ابن خزيمة من المتقدمين، وابن القطان من المتأخرين.
(1)
نص كلام الحاكم عند مغلطاي في كتابه " إكمال تهذيب الكمال " 1/الورقة 18 قال أبو عبد الله الحاكم: قلت لأبي عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ: إن مسلماً حدث عن ابن أخي ابن وهب، فقال: إن ابن أخي ابن وهب ابتلي بعد خروج مسلم من مصر، ونحن لا نشك في اختلاطه بعد الخمسين، وذلك بعد خروج مسلم، والدليل عليه أحاديث جمعت عليه بمصر لا يكاد يقبلها العقل، وأهل الصنعة من تأملها منهم، علم أنها مختلقة أدخلت عليه، فقبلها، فما يُشبه حال مسلم معه إلا حال المتقدمين من أصحاب ابن أبي عروبة، إنهم أخذوا عنه قبل الاختلاط، وكانوا فيه على أصلهم الصحيح، فكذلك مسلم أخذ عنه قبل تغيره واختلاطه.
فهذا النقل يبين أن الحاكم لم يقل ذلك، وإنما نقله عن محمد بن يعقوب الحافظ الثقة أبو العباس الأصم النيسابوري، المترجم في " تذكرة الحفاظ " 3/ 860 - 863.
(2)
تحرف في الأصول كلها إلى " عروة ". وسعيد بن أبي عروبة -واسم أبي عروبة مِهران- العدوي مولى بني يشكر أبو النضر البصري، من كبار الأئمة، وثقه الأئمة كلهم، واحتج به الشيخان، وكان قد اختلط سنة خمس وأربعين ومئة، ومات سنة 156، وقيل: سنة 157.
وممن سمع منه قبل اختلاطه: عبد الله بن المبارك، ويزيد بن زريع، وشعيب بن إسحاق، ويزيد بن هارون، وعبدة بن سليمان، وشعيب بن إسحاق، وعبد الأعلى السامي، وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف، وخالد بن الحارث، ويحيى بن سعيد القطان، ومحمد بن بشر، ومحمد بن بكر البرساني، وعيسى بن يونس، وعبد الله بن بكر بن حبيب السهمي، وروح بن عبادة، وأسباط بن محمد، وسفيان بن حبيب، وسرَّار بن مجشر، ومصعب بن ماهان، وحماد بن سلمة، وإسماعيل بن علية، والثوري، وشعبة، وأبو أسامة، والأعمش.
وممن سمع منه بعد الاختلاط: الفضل بن دكين، ووكيع، والمعافى بن عمران، ومحمد بن جعفر الملقب بغندر، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، ومحمد بن أبي عدي، وعبد =
وعبد الرزَّاق (1)، وغيرهما مِمَّنِ اختُلِط آخراً، ولم يمنع ذَلِكَ مِنْ صِحَّة
= الرحمن بن مهدي، وعمرو بن الهيثم أبو قطن. انظر " الكواكب النيرات " مع تعليق المحقق ص 190 - 212.
قال الحافظ في " هدي الساري " ص 406: لم يخرج له البخاري عن غير قتادة سوى حديث واحد أورده في كتاب اللباس، من طريق عبد الأعلى عنه، قال: سمعت النضر بن أنس يحدث عن قتادة، عن ابن عباس، فذكر حديث:" من صور صورة "، وقد وافقه على إخراج مسلم، ورواه أيضاً من حديث هشام، عن قتادة، عن النضر، وأمَّا ما أخرجه البخاري من حديثه عن قتادة، فأكثره من رواية من سمع منه قبل الاختلاط. وأخرج عمن سمع منه بعد الاختلاط قليلاً كمحمد بن عبد الله الأنصاري، وروح بن عبادة، وابن أبي عدي، فإذا أخرج من حديث هؤلاء انتقى منه ما توافقوا عليه
…
واحتج به الباقون.
(1)
قال أحمد: أتيناه قبل المئتين، وهو صحيح البصر، ومن سمع منه بعدما ذهب بصره، فهو ضعيف السماع، وقال أيضاً: من سمع منه بعدما عمي، فليس بشيء، وما كان في كتبه، فهو صحيح، وما ليس في كتبه، فإنه كان يُلقن فيتلقن. وقال النسائي: فيه نظر لمن كتب عنه بأخرة، كتبوا عنه أحاديث مناكير.
قلت: وممن سَمِعَ منه بأخرة: إبراهيم بن منصور الرمادي، وأحمد بن محمد بن شبويه، وإسحاق بن إبراهيم الدبري، ومحمد بن حماد الطِّهراني.
قال إبراهيم الحربي: مات عبد الرزاق وللدبري ست أو سبع سنين، وكذا قال الذهبي: اعتنى به أبوه، فأسمعه من عبد الرزاق تصانيفه وله سبع سنين، ونحوه قول ابن عدي: إنه استصغر فيه، وقال ابن الصلاح: وقد وجدت فيما روي عن الطبراني، عن الدبري، عن عبد الرزاق أحاديث استنكرتها جداً، فأحلت أمرها على ذلك، فإن سماع الدبري متأخر جداً. ومع ذلك فقد احتج به وأبو عوانة في " صحيحه ".
قلت: حديث عبد الرزاق عند الشيخين من جهة إسحاق بن راهويه، وإسحاق بن منصور الكوسج، ومحمود بن غيلان، عنه.
وعند البخاري فقط من جهة علي بن المديني، وإسحاق بن إبراهيم بن نصر السعدي، وعبد الله بن محمد المسندي، ومحمد بن يحيى الذهلي، ويحيى بن جعفر البيكندي، ويحيى بن موسى البلخي الملقب خت عنه.
وعند مسلم فقط من جهة أحمد بن حنبل، وأحمد بن يوسف السلمي، وحجاج بن يوسف الشاعر، والحسن بن علي الخلال، وسلمة بن شبيب، وعبد بن حميد، وعمرو بن محمد الناقد، ومحمد بن رافع، ومحمد بن مهران، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر العَدَني، وعبد الرحمن بن بشر بن الحكم. انظر " التقييد والإيضاح " ص 407 - 408، و" التبصرة والتذكرة " 3/ 270، و" الباعث الحثيث " ص 152، و" فتح المغيث " 3/ 376 - 377، و" هدي الساري " ص 419 - 420، و" الكواكب النيرات " ص 281. =
الاحتجاج في الصَّحيحَيْن بما أُخِذَ عنهم قَبْلَ ذلِكَ.
الرابع: أن يعلو (1) بالشَّخْصِ الضَّعيفِ إسنادُه، وهو عِنْدَهُ مِنْ
رواية الثِّقَات [نازِل]، فيقتصِرُ على العالي، ولا يُطَوِّل (2) بإضافةِ النَّازل
مُكْتَفِيَاً بمعرِفَةِ أَهْلِ الشَّأْنِ [في] ذلك، وهذا العُذْر (3) قد رَوينَاهُ عنه
تَنْصِيصَاً، وَهُوَ خلافُ حالِهِ فيما رواه عَنِ الثِّقاتِ أوَّلاً، ثُمَّ أتبعهم بِمَنْ (4)
دونَهُم متابَعَةً، وكأنَّ ذلِكَ وَقَعَ منه بحسبِ حُصولِ باعثِ النَّشاط وغيبته،
روينا عَنْ سعيد بن عمرو أنَّه حضر أبا زرعة، وذكر " صحيح مسلم "
= وكذا كان العقيلي يصحح روايته، وأدخلها في الصحيح الذي ألفه، وأكثر عنه الطبراني، وقال الحاكم: قلت للدارقطني: أيدخل في الصحيح؟ قال: أي والله.
قال الحافظ العراقي وغيره: وكأن من احتج به لم يبالِ بتغير عبد الرزاق لكونه إنما حدثه من كتبه لا من حفظه. ونحوه قول ابن كثير: من يكون اعتماده في حديثه على حفظه وضبطه ينبغي الاحتراز من اختلاطه إذا طعن في السن، وأما إذا كان الاعتماد على كتابه وضبطه، فلا.
وقال الحافظ ابن حجر: المناكير الواقعة في حديث الدبري إنما سببها أنَّه سمع من عبد الرزاق بعد اختلاطه، فما يوجد من حديث الدبري عن عبد الرزاق في مصنفات عبد الرزاق، فلا يلحق الدبري منه تبعة إلا إن صحف وحرَّف، وقد جمع القاضي محمد بن أحمد بن مفرج القرطبي الحروف التي أخطأ فيها الدبري، وصحفها في " مصنف عبد الرزاق "، وإنما الكلام في الأحاديث التي عند الدبري في غير التصانيف، فهي التي فيها المناكير، وذلك لأجل سماعه منه في حال اختلاطه.
فهذه النقول تدل دلالة واضحة على أن تغير عبد الرزاق بعد العمى لا يؤثر في مصنفاته، لأنها دونت قبل أن يتغير، وسماع الدبري اعتماده على الكتاب لا على الحفظ. وقد ذهل عن هذا من ينتحل صناعة الحديث في عصرنا، فضعف حديثاًً أخرجه عبد الرزاق في " مصنفه "، وحجته في ذلك أنَّه لا يدري هل حدَّث به عبد الرزاق قبل التغير أم لا!!
(1)
تحرفت في الأصول إلى: " يعلق "، والتصويب من " شرح مسلم " للنووي، و" صيانة صحيح مسلم " لابن الصلاح.
(2)
في الأصول: " يكون "، والتصويب من " شرح مسلم " و" صيانة صحيح مسلم ".
(3)
في (ج): " القدر "، وليس بشيء.
(4)
في (أ) و (ج): " لمن "، ولفظ ابن الصلاح: وهو على خلاف حاله فيما رواه أولاً عن الثقات، ثم أتبعه بالمتابعة عمن هو دونهم.
وإنكار (1) أبي زُرعة عليه روايَتَهُ عَنْ أسباط بن (2) نَصْر، وقطنُ بن نُسَيْر (3)، وأحمد بن عيسى المصري (4) إلى قوله، فقال: إنَّما أدخلتُ من حديث أسباطَ وقَطنٍ وأحمد ما قد رواه الثِّقَاتُ عَنْ شُيوخهم، إلَاّ أنَّه رُبَّما وَقعَ (5) إليَّ عنهم (6) بارتَفاعٍ، ويكون عندي برِوَايةٍ أوثقَ منهم بنُزُولٍ، فأَقْتصِرُ عَلَى ذلِكَ، وأصلُ الحديث معروف مِنْ رِوَايَة الثِّقَاتِ إلى قوله: فَهذا مَقامٌ وَعِرٌ، وقد مهدتُهُ بواضحٍ مِنَ القَوْل لم أَرَهُ مجتمعاً في مؤلَّفٍ وللهِ الحَمْدُ، انتهى كلام النَّواوي.
وفيه ما يَدُلُّ على أنَّهُ لا يعترض على حُفَّاظ الحديث إذا رَوَوْا حديثاً
(1) في (ب): و" أنكر"، وليس بشيء.
(2)
ساقطة من (ب). وأسباط بن نصر هو أبو يوسف الهَمْدَاني، ويقال: أبو نصر، قال الحافظ: صدوق، كثير الخطأ، يُغرب، روى له البخاري في " الأدب المفرد "، ومسلم في " صحيحه "، وأصحاب السنن الأربعة. وانظر " تهذيب الكمال " 2/ 357 - 359 طبع مؤسسة الرسالة.
(3)
" نُسَير " بضم النون، وفتح السين، وسكون الباء، وقد تحرف في الأصول إلى "بشر". قال الحافظ في " التقريب ": قطن بن نُسير أبو عباد البصري العُبَري الذراع: صدوق يخطىء (م د س).
(4)
قال الحافظ في " هدى الساري " ص 387: أحمد بن عيسى التستري المصري: عاب أبو زرعة على مسلم تخريج حديثه، ولم يبين سبب ذلك، وقد احتج به النسائي مع تعنته، وقال الخطيب: لم أر لمن تكلم فيه حجة توجب ترك الاحتجاج بحديثه. قلت (القائل ابن حجر): وقع التصريح به في " صحيح البخاري " في رواية أبي ذر الهروي، وذلك في ثلاثة مواضع: أحدها: حديثه عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة: إن أول شيء بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم الطواف. وقد تابعه عليه عنده أصبغ، عن ابن وهب. ثانيها: حديثه عن ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه في المواقيت مقروناً بسفيان بن عيينة، عن الزهري. وثالثها: هذا الإسناد في الإهلال من ذي الحليفة بمتابعة ابن المبارك، عن يونس. وقد أخرج مسلم الحديثين الأخيرين عن حرملة، عن ابن وهب، فما أخرج له البخاري شيئاً تفرد به. ووقع في البخاري عدة مواضع غير هذه يقول فيها: حدثنا أحمد عن ابن وهب، ولا ينسبه
…
(5)
في (أ) و (ب) و (ج): " رفع "، وهو خطأ.
(6)
في (ب): منهم.
عَنْ بعض الضُّعفاء، وادَّعَوا صِحتَهُ حَتَّى يُعْلَمَ أنَّه لا جابرَ لِذلكَ الضَّعْفِ مِن الشَّواهد والمتَابَعَاتِ، ومعرِفَة هذا عزيزةٌ لا تَحْصُلُ إلَاّ للمَهَرةِ مِنَ الحُفَّاطِ، وأهْلِ الدِّرْيَةِ التَّامَّةِ بهذا الفَنِّ.
وقد رُئيَ عِنْدَ بَعْضِ (1) الحُفَّاظِ الجزءُ النَّيِّفُ والعشرون من مسند أبي بكر، فقيل له: ما هذا، وأحاديثُ أبي بكرٍ الصِّحاحُ لا تزيد على خمسين، أو لا تكون خمسين حديثاًً؟ فقال: إنَّ الحديث يكونُ معي مِنْ مئَةِ طريقٍ، أو كما قال.
ولقد صنَّف الحافظُ العلامةُ محمد بنُ جريرٍ الطبري (2) كتاباً في طرق حديث الطير (3) في فضائل علي عليه السلام لمَّا سمع رجلاً يقول: إنه
(1) ساقطه من (ش).
(2)
هو الإمام العلم الحافظ المجتهد المتفنن أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير الطبري من أهل آمل طبرستان، صاحب التصانيف البديعة السائرة، المتوفى سنة 310 هـ.
قال الخطيب البغدادي: كان أحد أئمة العلماء، يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسنن وطرقها، صحيحها وسقيمها، وناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقوال الصحابة والتابعين، عارفاً بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في أخبار الأمم وتاريخهم، وله كتاب التفسير لم يصنف مثله، وكتاب سماه " تهذيب الآثار " لم أر سواه في معناه، ولكنه لم يتمه، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء، وتفرد بمسائل حفظت عنه.
قلت: وكتاب " تهذيب الآثار " طبع منه ثلاثة أجزاء بتحقيق الأستاذ الكبير شيخ العربية في هذا العصر محمود محمد شاكر، حفظه الله ورعاه، وأمدَّ في حياته ليتم تحقيق ما تبقى من أجزاء من " جامع البيان " للإمام الطبري، وهو -كما يقول أخوه العلامة المحدث أحمد شاكر رحمه الله في مقدمة الجزء الأول- فيما أعلم خيرُ من يستطيع أن يحمل هذا العبءَ، وأن يقوم بهذا العمل حقَّ القيام أو قريباً من ذلك، لا أعرف أحداً غيره له أهلاً. وانظر ترجمة الطبري في " السير " 14/ 267 - 282.
(3)
هذا وهم من المؤلف رحمه الله والصواب: حديث غديرخم، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه:" من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه " =
ضعيف. قال الذَّهبيُّ: وقفتُ علَى هذا الكتاب، فاندهشتُ لكثرَةِ ما فيه مِنَ الطُّرُقِ.
ومِن الغَرَائِب (1) في هذا المعنى أنَّ كثيراً منْ أهلِ الحديث يعتقد في حديث " الأعمالُ بالنِّيَّاتِ "(2) أنَّهُ حديث غريبٌ ما رواه إلَاّ عمر بن الخطاب، مِمَّن نصَّ على ذلك: الحافظ أبو بكر أحمدُ بنُ عمرو (3) البزَّار (4) في " مسنده "، فإنَّه ذكر أنه لا يَصِحُّ إلا مِنْ حديث عُمرَ.
قال حافظُ العصر ابنُ حجر: وكأنَّه أراد بهذا اللَّفظِ والسَياقِ، وإلا
= كما في " تذكرة الحفاظ " 2/ 713، و" السير " 14/ 277، ولفظ الأخير: قلت: جمع طرق حديث غديرخم في أربعة أجزاء، رأيت شطره، فبهرني سعة رواياته، وجزمت بوقوع ذلك. وقد تقدم تخريج الحديث في 1/ 369 - 370.
وأما حديث الطير فلا يصح. روى الذهبي في " السير " في ترجمة الحاكم 17/ 168 من طريق أبي نعيم الحداد، سمعت الحسن بن أحمد السمرقندي الحافظ، سمعت أبا عبد الرحمن الشاذياخي الحاكم يقول: كنا في مجلس السَّيِّد أبي الحسن، فسئل أبو عبد الله الحاكم عن حديث الطير، فقال: لا يصح، ولو صح لما كان أحد أفضل من علي بعد النبي صلى الله عليه وسلم قال الذهبي: فهذه حكاية قوية، فما باله (يعني الحاكم) أخرج حديث الطير في " المستدرك ".
(1)
في (ش): الغرب.
(2)
متفق عليه من حديث عمر، وقد خرجته في أكثر من موضع.
(3)
تحرف في (أ) و (ج) و (ش) إلى " عمر "، وجاء في (ب): عبد.
(4)
هو الشيخ الإمام الحافظ الكبير أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري البزار، صاحب " المسند " الكبير الذي تكلم على أسانيده، المتوفى سنة 292 هـ في الرملة، ولم يطبع مسنده، ومنه أجزاء في المكتبات العامة، وقد نشرت مؤسسة الرسالة " زوائده على الكتب الستة " للحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المتوفى سنة 807 هـ في أربعة مجلدات، بتحقيق الشيخ العلامة حبيب الرحمن الأعظمي. انظر ترجمة البزار في " السير " 13/ 554 - 557، وانظر آثاره في " تاريخ التراث " لسزكين 1/ 316.
فائدة حديثية: قال الحافظ ابن حجر في " النكت " 2/ 708: من مظان الأحاديث الأفراد مسند أي بكر البزار، فإنه أكثر فيه من إيراد ذلك وبيانه، وتبعه أبو القاسم الطبراني في " المعجم الأوسط "، ثم الدارقطني في كتاب الأفراد، وهو ينبىء عن اطلاع بالغ، ويقع عليهم التعقبُ فيه كثيراً بحسب اتساع الباع وضيقه، أو الاستحضار وعدمه.
وأعجب من ذلك أن يكون المتابع عند ذلك الحافظ نفسه، فقد تتبع العلامة مغلطاي =
فقد روينا معناهُ من حديثِ أنسٍ، وعُبَادةَ بنِ الصَّامِتِ، وأبي ذَرٍّ، وأبي الدَرْداء، وأبي أُمَامَة، وصُهَيْب، وسهل بنِ سعدٍ، والنَّوَّاس بن سمعان، وغيرهم، وروينا بلفظِ حديثِ عُمَرَ مِنْ حديثِ عليِّ بن أبي طالب، وأبي سعيد الخُدري، وأبي هريرة، وأنس، وابن مسعود. انتهى، لكن مِن وجوهٍ ضعيفةٍ، قاله ابن حجر في " علوم الحديث "(1).
= على الطبراني ذلك في جزء مفرد.
وإنما يحسن الجزم بالإيراد عليهم حيث لا يختلف السياق، أو حيث يكون المتابع ممن يعتبر به لاحتمال أن يريدوا شيئاً من ذلك لإطلاقهم، والذي يرد على الطبراني، ثم الدارقطني من ذلك أقوى مما يرد على البزار، لأن البزار حيث يحكم بالتفرد إنما ينفي علمه، فيقول: لا نعلمه يروى عن فلان إلا من حديث فلان، وأما غيره، فيعبر بقوله: لم يروه عن فلان إلا فلان، وهو وإن كان يلحق بعبارة البزار على تأويل، فالظاهر من الإطلاق خلافه.
(1)
لم أجد هذا الذي نقله عن الحافظ، لا في " النكت "، ولا في " شرح النخبة "، وإليك نصه في " الفتح " 1/ 11: ثم إن هذا الحديث متفق على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ، ووهم من زعم أنَّه في " الموطأ " مغتراً بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك (قلت: وهم الحافظ رحمه الله في هذا التوهيم، فقد أخرجه مالك في " الموطأ " برقم (983) برواية محمد بن الحسن، وهو فيه أيضاًً برواية القعنبي، رواه عنه البغوي في (شرح السنة (1)) وقال أبو جعفر الطبري: قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردوداً لكونه فرداً، لأنَّه لا يروى عن عمر إلا من رواية علقمة، ولا عن علقمة إلا من رواية محمد بن إبراهيم، ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيى بن سعيد، وهو كما قال، فإنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد، وتفرد به من فوقه، وبذلك جزم الترمذي، والنسائي، والبزار، وابن السكن، وحمزة بن محمد الكتاني، وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنَّه لا يعرف إلا بهذا الإسناد، وهو كما قال، لكن بقيدين، أحدهما: الصحة، لأنَّه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني، وأبو القاسم ابن مندة، وغيرهما. ثانيهما: السياق، لأنَّه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية، كحديث عائشة، وأم سلمة عند مسلم:" يبعثون على نياتهم "، وحديث ابن عباس:" ولكن جهاد ونية "، وحديث أبي موسى:" من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " متفق عليهما، وحديث ابن مسعود:" رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته " أخرجه أحمد، وحديث عبادة:"من غزا وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى" أخرجه النسائي، إلى غير ذلك مما يتعسر حصره. وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أن حديث عمر متواتر إلا إن حمل على التواتر المعنوي فيحتمل، نعم قد تواتر عن يحيى بن سعيد
…
فبهذا لا يقطعُ على راوي الحديثِ أنَّه يعتقدُ عَدَالَةَ بعضِ الضُّعفاء إذا صحَّحَ حديثَ بعضِهم، ولكن لا نقول أيضاً بِصحَّة الحديثِ قطعاً إذا علمنا بجِرْحِ الرَّاوي له، وَلَمْ نعلمْ ما يَجْبُرُهُ مِنَ المتابعاتِ، بل نقول: إنَّ هذه المسألة مَحَلُّ نَظَرٍ، والذي يقوى عندي وجوبُ العَمَلِ بذلِكَ، لأنَّ القَدْحَ بذلِكَ مُحْتَمَلٌ، والثِّقَةُ العَارِفُ إذا قال: إنَّ الحديثَ صحيحٌ عنده، وجَزَمَ بذلِكَ، وَجَبَ قَبولُهُ بالَأدِلَّةِ العقليَّة والسَّمْعِيَّة الدالَّةِ على قَبُولِ خَبَر الوَاحِدِ، ولم يَكُنْ ذلِك تقليداً له، إلَاّ أَنْ يَظُنَّ أو يجوز أنَّه بنى دعواه لذلكَ على اجتهادٍ، ولو كان مُجَرَّدُ الاحتمال المرجوح يَقْدَحُ، لطرحنا جميعَ أحاديثِ الثِّقات لاحتمالِ الوَهْمِ والخطأ في الرواية بالمعنى، بلِ احْتِمال تَعَمُّدِ الكَذِبِ.
نعم، الظَّاهِرُ أنَّ البخاري ومسلماً بَنَيَا على شروط الحديث المعتبَرَة عند جُمهورِ أَهْلِ هذا الشَّأنِ إلَاّ في المواضِعِ التي استثناها الحُفَّاظُ، وهي ما انْتُقِدَ عليهما.
قلت: ومجموعُه يكونُ في موضعين.
الأول: ما ثَبَتَ عن بعض الحُفَّاط أنه خالفهما، أو أحدَهُما في صِحَّتِه.
والثاني: ما كان متعارضَاً، لا بُدَّ مِنْ ضَعْفِ إحدى الرِّوايتين، ويدخل في الَأوَّلِ ما اختلفا فيه، وما جاءَ بِغَيْرِ صريحِ السَّماعِ منْ رِوَايَةِ المدلِّسين، وإنَّما أخرجا هذا الجنس بحسب اجتهادهما وتحرِّيهما، لأنَّ تَرْكَهُ كُلَّهُ مفسدهٌ بينَةٌ، إذ كان الغالبُ علَى الظنِّ صِحة أكثرِهِ، ورُبمَا اطلعنا على شواهِدَ وتوابعَ تُوجبُ تخريج ما أخرجا منه، لكِنَّ ذلِكَ على طريقَةِ الاجتهاد منهما، ولا يَجِبُ، بَلْ لا يجوزُ للمجتهدِ أنْ يُقَلِّدَ أحداً فيما
يجتَهِدُ فيه، وانْ كانا أهلاً للتَّقلِيدِ رحمهما الله، فطلبُ العِلْمِ غيرُ طَلَبِ التَّقليدِ، ولكُلِّ مَقامٍ مَقَالٌ.
وقد ذكر ابن حجر في مقدمة " شرح البخاري " مما انتقد عليه مئة حديث وعشرة أحاديث غير عنعنة مَنْ يُدَلِّسُ، ولم يستقْصِ ذلك (1).
قال: والضَّابِطُ في ذلِكَ أنَّ ما صححهُ أئِمَّتُنا، فهو صحيحُ، وما رَدُّوه أو طَعَنوا في رُواته مردود (2)، مثل خَبَرِ الرُّؤية عَنْ قيسِ بن أبي حازم، عن جريرِ بن عبد الله (3)، وإنَّما كان ما ردُّوه وجرَّحوا رُوَاتِهِ مردُودَاً، ومن (4) جرَّحُوه مجْرُوحاً لوجهين:
أحدهما: أنَّ أئِمَّتنَا عُدُولٌ لِصِحةِ اعتقادِهِم، واستقامَةِ أعمالهمْ، والقطعُ أنَّهُ إذا جرَحَ الراويَ جَمَاعةٌ عُدُولٌ، فإن جَرْحَهُم مقبولٌ، لأنَّ الجارجَ يُقَدَّم (5) علَى المُعَدِّل.
(1) انظر " المقدمة " ص 348 - 383.
(2)
" مردود " سقطت من (أ) و (ب) و (ج)، وقد ألحقت في (ش)، وكتب بجانبها:" صح ".
(3)
أخرجه أحمد 4/ 360 و362 و365، والبخاري (554) و (573) و (4851) و (7434) و (7435) و (7436)، ومسلم (633)، وأبو داود (4729)، والترمذي (2675)، وابن ماجه (177)، والحميدي (799)، والطبراني (2224) و (2225) و (2226) و (2227) و (2228) و (2229) و (2232) و (2233) و (2234) و (2235) و (2236) و (2237) و (2288) و (2292)، وابن مندة في " الإيمان "(791) و (792) و (793) و (794) و (795) و (796) و (797) و (798) و (799) و (800) و (801) و (815)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 168 و169، واللالكائي (825) و (826) و (827) و (829)، وابن أبي عاصم في " السنة "(443) و (444) و (445) و (446) و (447) و (448) و (449) و (450) و (451)، والآجري ص 257 - 259.
(4)
في (ب): أو من.
(5)
في (ش): مقدَّم.
الثاني: أنَّها إذا تعارَضَتْ رِوَايةُ العَدْل الَّذي لَيْسَ على بِدْعةٍ، وروايةُ المبتدعِ، قُدِّمَتْ رِوَايَة العَدْلِ الذي ليس على بِدْعةٍ، وهذا مُجْمَعٌ عليه.
أقول: الجوابُ عَلَى هذا مِنْ وَجْهَيْن.
الأوَّلُ: إمَّا أنْ يريدَ ما أَجْمَعُوا على رَدِّهِ إجماعاً مَعْلُوماً، فهو مردودٌ مثل خبَرِ الفَاسِقِ والكَافِرِ المُصَرِّحين، أو يريدَ أنَّ ما اختلفوا فيه فهُوَ مردودُ، مِثْلُ خبَرِ أهْلِ التَّأويلِ على تسليم أنَّهُمْ لَمْ يُجْمعُوا على قَبُولهِم.
القسم الأول: مسلمٌ؛ لأنَّ إجماعهمُ المعلومَ عليهم السلام عندنا حجَّةٌ، وقولَهم إلى الحق أوضحُ مَحجةٍ، ولكنَّا لم نخالِفْ في هذا، فإنَّا نَرُدُّ منْ رَدُّوا، و (1) نُجَرِّحُ منْ جَرَّحُوا، وتحت هذا الجنس نوعان:
أحدُهما: ما قطعوا بَرِدِّهِ لثُبوت جَرْحِ التَّصريح في راويه (2).
وثانيهما: ما قطعوا بردِّهِ أو تأويلِه لمخالَفَةِ دلالةِ العُقولِ الضَّرورِيَّة، أوِ القاطِعةِ المُجْمَعِ عليهما إن صحَّ الإجماعُ القاطِعُ، وصحَّ القطعُ في غير الضَّروريات ونتائجها، وكلا النَّوعين عندي مردودٌ مرذولٌ غيرُ صحيح ولا مقبولٍ، وقد بيَّنتُ هذا في كتابي " المبتدا " الذي أجابه السيد بنَصٍّ لا يحتملُ التَّأويل، ولم أَزَلْ بِحمدِ اللهِ مُتمسَّكاً بأهلِ البَيْتِ عليهم السلام سرَّاً وجهراً، مُفْتَنَّاً في إظهار عقيدتي في ذلِكَ نظماً ونثراً، فَمِنْ قولي قديماً في ذلِكَ:
إنْ كانَ حُبِّي (3) حَدِيثَ المُصْطفي زَلَلاً
…
مِنِّي فما الذَّنْبُ إلَاّ مِنْ مُصَنِّفِهِ
(1) الواو ساقطة من (ب).
(2)
في (ش): رواته.
(3)
في (ش): حب.
وَإِنْ يكُنْ حبهُ دِيناً (1) لمعْتَرِفٍ
…
فَذاكَ هَمِّي وديني (2) في تعَرُّفهِ
وَمَذْهَبِي مذْهَبُ الحق اليقينِ، فَمَا
…
تَحَوَّلَ الحَالُ إلا مِنْ تَشَوُّفِهِ
وذاكَ مذْهَبُ أَهْلِ البَيْتِ إنَّهُمُ
…
نَصُّوا بِتَصْوِيبِ كُلٍّ في تَصَرُّفهِ
نصُّوا بتصويبِ كُلٍّ في الفُروع، فَمَا
…
لوْمُ الذي لامَ إلَاّ مِنْ تَعَسُّفِهِ
فَمَا قَفَوْتُ سِوَى أعْلامِ مَنْهَجِه
…
ولا تَلَوْتُ سِوَى آياتِ مُصْحَفِهِ
أمَّا الأصولُ، فَقَوْلي فيه قوْلُهُمُ
…
لا يبْتَغِي القلْبُ حَيْفاً عنْ (3) تَحَنُّفِهِ
ففِي المَجَازاتِ أَمْضي نَحْوَ مَعْلَمِهِ
…
وفي المَحَارَاتِ أَبْقَى وَسْط مَوْقِفهِ
فإنْ سَعيتُ فسعْيي حَوْلَ (4) كَعْبَتِه
…
وإنْ وَقَفْتُ، فَفِي وَادي مُعَرَّفِهِ
وحقِّ حُبي لهُ إني به (5) كَلِفٌ
…
يُغنيني الطَّبعُ فيه عن تكلُّفِهِ
هذا الَّذي كَثُرَ العُذَّال فيه فما
…
تعجَّبَ القَلْبُ إلَاّ مِنْ معنِّفِهِ
ما الذَّنْبُ إلَاّ وقوفي بين أظهرهِمْ
…
كالماءِ مَا الَأجْنُ إلَاّ مِنْ تَوَقُفِهِ
والمنْدلُ الرَّطبُ في أوطانه حَطَبٌ
…
واستقْر صرفَ اللَّيالي في تصَرُّفهِ
يستأْهِلُ القلبُ ما يلقاه ما بَقِيَتْ
…
له علائِقُ تُغريه (6) بمألفِهِ (7)
وَمِنْ قولي في هذا المعنى:
لامَنِي الأهْلُ والأحِبّةُ طُرَّاً
…
لاعتزالي مَجَالِسَ التَّدْرِيسِ
أَشْفَقُوا أَنْ أكونَ فَارَقْتُهَا مِنْ
…
رغْبَةٍ عنْ دُرُوسِ عِلْمِ الرُّسُوسِ
قلت: لا تَعْذِلُوا، فَمَا ذاكَ مِنِّي
…
رَغْبَةً عَنْ عُلُومِ تِلْك الدُّرُوسِ
(1) في (ش): ذنباً.
(2)
في (ش): ذنبي.
(3)
في (ش): من.
(4)
في (ب): نحو.
(5)
في (ب): له.
(6)
في (ش): توليع.
(7)
تقدمت هذه الأبيات في مقدمة العلامة الأكوع 1/ 68.
هِيْ ريَاضُ الجِنَانِ مِنْ غيْرِ شَكٍّ
…
وسَنَاها يُزْري بِنُورِ الشُّمُوسِ
غيرَ أنَّ الريَاضَ مَأوَى الَأفاعِي
…
وجِوارُ الحيَّات غَيْرُ أَنِيسِ
حَبَّذا العِلْمُ لو أَمنْتُ وصاحَبْـ
…
ـتُ إمَاماً في العلْمِ كالْقَامُوسِ
غيرَ أنِّي خبرْتُ كلَّ جَلِيسٍ
…
فوجَدْتُ الكتَابَ خَيْرَ جليسِ
فَدَعُوني فَقَدْ رضِيتُ كِتابي
…
عِوَضَاً لي عنْ أُنْسِ كُلِّ أَنِيسِ
ولمَّا لَمْ أَسْلمْ مِنَ القيلِ والقال بعدَ الفِرَارِ والاعتزال، أعجبني أن أَصلَ هذهِ الأبيات بقولِ مَنْ قال:
لِوْ تُرِكْنَا وذاك كُنّا ظَفِرْنا
…
مِنْ أمانيِّنا بِعِلْقِ نفِيسِ
غيرَ أنَّ الزَّمَانَ -أَعْني بَنيهِ-
…
حَسَدُونا على حيَاةِ النُّفُوسِ (1)
وَمِنْ قولي في ذلِكَ وَهُو في الكتابِ الذي تعرض السيدُ أيَّدهُ اللهُ لجوابه:
وأُحِبُّ (2) آلَ محَمَّدٍ نفسي الفِدَا
…
لَهُمُ فما آحَدٌ كآل مُحَمَّدِ
هُمْ بابُ حطَّةَ والسَّفِينَةُ والهُدى
…
فِيهِم وَهُمْ للظَّالِمينَ بِمَرْصَدِ
وَهُمُ النُّجُومُ لخيِّرٍ مُتعبِّدٍ
…
وهُمُ الرُّجُوم لِكُلِّ مَنْ لمْ يَعْبُدِ (3)
(1) الأبيات في " ترجيح أساليب القرآن " ص 54 للمؤلف، وزاد فيه: وهذان البيتان زادهما قائلهما على قول بعض العارفين:
إن صحبنا الملوك تاهُوا علينا
…
واستَبدُّوا بالرأيِ دونَ الجليسِ
أَوْ صحبنا التِّجَار عُدْنا إلى اللو
…
مِ وصِرنا إلى حسابِ الفُلوس
فَلَزمْنا البيوتَ نستعملُ الحِبـ
…
ـر ونطلي به وجوه الطُّروس
ونناجي العلوم في كل فنِّ
…
عِوضاً عن منادمات الكؤوس
وقنعنا بما به قَسمَ الـ
…
ـهُ ولم نكترث بهمٍّ وبوسي
(2)
في (ج): " وحب "، وهو خطأ.
(3)
البيت ساقط من (ب).
وَهُمُ الَأمَانُ لِكل مَنْ تَحْت السمَا
…
وجزاءُ أَحْمَد وُدُّهُمْ فَتَوَدَّدِ
والقومُ والفرقانُ فاعرف قَدْرَهُم
…
ثقلانِ للثَقَلَيْن نصُّ مُحَمد
وكفَى لَهُمْ شَرَفَاً ومجْداً باذِخَاً
…
شرعُ الصَلَاةِ لهُمْ بِكُلِّ تَشَهدِ
وَلَهُمْ فضَائِلُ لَسْتُ أُحْصِي عَدهَا
…
منْ رامَ عد الشُهْبِ لَمْ تَتَعَددِ
ديني كأهلِ البيْتِ دِينَاً قيمَاً
…
مُتَنَزِّهَاً عَنْ كُلِّ مُعْتَقَدٍ رَدِي (1)
ولي في ذلك أبياتٌ قد فاتتني، لكِنِّي أحفظُ منها قولي:
ها إنَّها حَدَّثَتْ أُمُو
…
رٌ عُمِّيَتْ فيها المَعالِمْ
فالجَاهِلُ السَّفْسَافُ في
…
أَمْشاجِها بالظَّن راجمْ
لكِنني لا أَرْتضِي
…
إلَّا مَقالات الفَوَاطِمْ
لا سِيَّما عَلَاّمَتَيْ
…
ساداتنَا يحيى وقاسمْ
ولي في هذا المنظومُ والمنثورُ (2) ما لا يتَّسِعُ لهُ هذا المسطورُ، ولكنَّهُ قد فاتني؛ لَأنَي لَمْ أتوهَّمْ أنَّني أحتاج إلى الاستشهادِ بِهِ، ولا ظَنَنْتُ أَنِّي أُتَّهَمُ بِبُغض المذهب وأهلِه، لأنِّي في جميع أحوالي أعطرُ بذكرِهم صُدُورَ المحافِل، وأُزَيَنُ بالَثَّناء عليهم وُجُوهَ الرسائل، فالعجب منْ توجيهِ السيِّد إليَّ التَّعريف بأنَّ ما رَدُّوه فهو مَرْدودٌ، كأنِّي خرجتُ مِنْ وَرَاءِ السَّدِّ المسدودِ، يا هذا، إنَّ النَّاسَ قَدْ عَرَفُوا ما عَرَفْت، فخلِّ الِإفراطَ في التَّشْنِيع، وحُلَّ رِبَاطَ التَّسْمِيعِ:
(1) تقدمت الأبيات ضمن قصيدة مطولة في مقدمة العلامة الأكوع ص 32 - 37. وفيها يقول بعد البيت " وكفى لهم شرفاً .... ":
سَنُّوا مُتابعة النبيَّ ولم يكنْ
…
لهم غرامٌ بالمذاهبِ عن يدِ
قد خالَفُوا آباءهم جهْراً ولم
…
يتقَيَّدوا إلا بسُنَّةِ أحمدِ
(2)
في (ب): المنظوم المنثور.
جَاءَ شَقِيقٌ عَارِضَاً رُمْحَهُ
…
إنَّ بني عَمِّك فيهم رِمَاح (1)
القسم الثاني: المتشابه: ما اختلفوا في ردِّه، مثل خبرِ المتأوِّلين على تسليم عَدَمِ إجماعهم على قَبُولهم، فَهذا مِمَّا ليس للسَيدِ أنْ يقول: إنَّه مردود؛ لأنَّ هذا خلافُ إجماعهم على كُلِّ تقدير، أمَّا إنْ قَدَّرنا أنَّهم أجمعوا على قَبُوله، فلا شَكَّ أنَّ المردودَ هُوَ قَوْلُ منْ رَدَّ عليهم، وشذَّ عنهم، ولم يَرْجِعْ إليهم، وأما إن قدَّرنا أنَّه لم يصحَّ لَهُمْ إجماعُ في ذلِكَ، فلا شَكَّ أنَّ المخالفَ في ذلِكَ غَيْرُ مُنْكرٍ على القائل، ولا مُجَرِّحٍ في رَدِّ تلك الأحاديث على من اعتقد صِحتَها، وقد روى في تفسيره مِنْ ذلِكَ أحاديثَ، وحكم بصحَّتها، وجزمَ بنسبتها إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فقال في آخر تفسير (2) سورة الزمر في تفسير قوله تعالى:{وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] ما لفظه: جاء في الحَدِيثِ الصَّحِيح ما يُوافِقُ الآية، مِنْ ذلكَ؛ ما أخرجه البُخارِي ومسلمٌ منْ حديث أبي هريرة " يَقْبِضُ اللهُ الَأرْضَ يَوْم القِيَامةِ، ويَطْوِي السمَاءَ بِيَمِينهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أنَّا الملِكُ، أَيْن مُلُوكُ الَأرْضِ "(3).
(1) البيت لِحجْلِ بن نضلة أحد بني عمرو، بن عبد قيس، بن معن بن أعصر، في " البيان والتبيين " 3/ 340. و" المؤتلف والمختلف " ص 82، و" دلائل الإعجاز " ص 326. وقد استشهد به أهل البلاغة لتنزيل غير المنكر للشيء منزلة المنكر له إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار.
(2)
في (ب): في تفسير آخر.
(3)
أخرجه البخاري (7382)، ومسلم (2148)، وابن خزيمة في " التوحيد " ص 71 من طريق يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري (4812)، وابن خزيمة ص 71 من طريق عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. وفيه " السماوات ".
وأخرجه البخاري (7413)، والدارمي 2/ 325، وابن خزيمة ص 71، وابن أبي عاصم (549) من طريق أبي اليمان الحكم بن نافع، عن شعيب بن أبي حمزة، عن =
وأخرجا مِنْ حديثِ ابنِ عُمَرَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يَطْوِي الله عز وجل السَماواتِ يَوْمَ القيامَةِ، ثُمَّ يَأْخُذُهُنَ بِيَدِه اليُمْنَى "(1). وهذا مثلُ الآية على التَّمثيل والتَّخييل. انتهى.
وقال قبلَ هذا: وقال ابن عباس: الَأرْضُ والسماوات كلُّها بِيَمِينِهِ.
وقال سعيد بن جبير: السَّماوات قَبْضَة، والأرْض قَبْضَةٌ. انتهى بحروفه. وفيه التَّصْريحُ بتصحيحِ البخاريِّ ومسلمٍ، إذ لا طريقَ لَهُ إلى تَصْحِيحِ هذِهِ الأخبار إلَاّ ذلِكَ، لتصريحه (2) بتعذُّر معرفة (3) ذلِكَ في عَصْرِه، وفيه الرِّواية عَنْ أبي هريرة، وتصحيحه حديثَه، وفيه تصحيحُ مثل هذا منَ المتشابه، وقد وَهِمَ في إيهامِهِ أنَّ الرِّوايَةَ " يطْوِي السمَاءَ " مِنْ دون جَمعٍ، فإنَّ الرِّوايَة " السماوات " رواه البخاري في التفسير، وفي التَّوحيد (4)، ذكره المزِّيُّ في ترجمة عبد الرحمان بن خالد، عنِ الزُّهري،
= الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وأخرجه البخاري (6519) من طريق محمد بن مقاتل، عن عبد الله بن المبارك، عن يونس، عن أبي سلمة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة.
ونقل ابن خزيمة في " التوحيد " ص 71 عن محمد بن يحيى الذهلي أن الحديثين محفوظان يعني عن سعيد وأبي سلمة.
قال الحافظ في " الفتح " 13/ 367: وصنيع البخاري يقتضي ذلك، وإن كان الذي تقتضيه القواعد ترجيح رواية شعيب لكثرة من تابعه، لكن يونس كان من خواص الزهري الملازمين له.
(1)
أخرجه بهذا اللفظ مسلم (3788)، وأبو داود (4732)، وابن أبي عاصم (547) من طرق عن عمر بن حمزة، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر.
وأخرجه البخاري (7412) من طريق عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، بلفظ:" إن الله يقبض يوم القيامة الأرض وتكون السماوات بيمينه " وانظر " الفتح " 13/ 397 - 398.
(2)
في (ش): للتصريح.
(3)
ساقطة من (ب).
(4)
في الأصول: " ومالك في التوحيد "، وهو خطأ، فالحديث لم يروه مالك، =
عن أبي سلمة، عن أبي هُريرةَ، وابنِ الأثير في " جامعه "(1)، وقصَّر في ترك رِوَايَةِ ابنِ مسعود، وابنِ عباس، ورواية ابن مسعودِ في البخاري ومسلم (2)، وابن عباس في " الترمذي "(3)، وقال: حسنٌ غريبٌ
= والصواب حذف " مالك " كما في " تحفة الأشراف " للمزي 11/ 34 الذي نقل عنه المؤلف رحمه الله، ونصه فيه: حديث " ويقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماوات بيمينه " الحديث البخاري في التفسير (4812) عن سعيد بن عفير، عن الليث، عن عبد الرحمن بن خالد، به، وفي التوحيد (7413) تعليقاً عقيب حديث يونس بن يزيد، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة.
(1)
2/ 342، لكن جاء فيه " السماء " على الإفراد، وهو خطأ من الناسخ، فإن الحديث باللفظ الذي ذكره ابن الأثير، ونسبه للبخاري في " جامع الأصول " جاء في البخاري بلفظ الجمع كما قال المؤلف.
وابن الأثير هذا: هو الإمام مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري ثم الموصلي المتوفى سنة 606 هـ، وكتابه " جامع الأصول " كتاب فذ في بابه، جمع فيه أحاديث الأصول الستة المعتمدة عند الفقهاء والمحدثين:" موطأ مالك "، و" صحيح البخاري "، و" صحيح مسلم "، و" سنن أبي داود "، و" جامع الترمذي "، و" سنن النسائي ". واعتمد في النقل من كتابي البخاري ومسلم على " الجمع بين الصحيحين " لأبي عبد الله الحميدي، وأما باقي الكتب الأربعة، فقد نقلها من الأصول التي قرأها وسمعها، وعلى نسخ أخرى غير مسموعة له. وقد عوَّل في المحافظة على ألفاظ البخاري ومسلم أكثر من غيرهما من باقي الأئمة، اللهم إلا أن يكون في غيرهما زيادة أو بيان أو بسط، فإنه يذكرها كما يتتبع الزيادات من جميع الأمهات، ويضيفها إلى مواطنها.
وقد طبع في مصر والشام، والطبعة الشامية تمتاز عن الطبعة المصرية بتحقيق النص وتخريج الأحاديث وصنع الفهارس.
(2)
أخرجه البخاري (4811) و (7414) و (7415) و (7451) و (7513)، ومسلم (2786). وهو في " مسند أحمد " 1/ 429 و457، و" سنن الترمذي "(3238) و (3239)، وفي " السنة " لابن أبي عاصم (549)، و" التوحيد " لابن خزيمة ص 76 - 77، و" الشريعة " للآجري ص 318، و" جامع البيان " للطبري 24/ 27، و" الأسماء والصفات " للبيهقي ص 334.
(3)
أخرجه الترمذي (3240) من حديث محمد بن الصلت، عن أبي كدينة، عن عطاء ابن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس. وفي قوله:" حسن غريب صحيح " نظر، فإن عطاء بن السائب كان قد اختلط، وراويه عنه -وهو أبو كدينة يحيى بن المهلب البجلي- لم =
صحيحٌ، والمعنى متقاربٌ، ورواية البخاري " السماوات " في التفسير أولى من رواية " السَّماء " في التوحيد، لأنها زيادةٌ ومطابقة للقرآن ولسائِرِ الأحاديث الصَّحيحَة.
ونسب المِزِّي رواية " السماوات " بالجمع في حديث أبي هريرة إلى البخاري ومسلم معاً في ترجمة يونس، عن الزهري، عن ابن المُسيِّبِ، عن أبي هريرة، من " الأطراف "(1) وفيه تسامح، والذي في " البخاري ":" السماوات " في التفسير، وهي روايةُ عبد الرحمان بن خالد عن الزُّهري، والأخرى روايةُ يونس بن يزيد عنه في التوحيد والرِّقاق معاً، وليونس منكراتٌ دونَ عبدِ الرحمان، ويدلُّ على وهم يونس عن الزُّهري في هذا الحديث، أنَّه رواه عنه عن (2) ابن المسيب عن أبي هريرة، وعبد الرحمان بن خالد بن مسافر رواه عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال البخارِيُّ: وكذلك رواه شعيب، والزبيدي، وإسحاق بن يحيى.
وقد كان يونُس يَغْلَطُ فيما يرويه مِن حفظه فدلَّ على أنَّ رِوَايَةَ عبد الرحمان: " السماوات " أصحُّ؛ لموافقَةِ القُرْآن وسائرِ الأخبارِ، ولظُهُورِ عدمِ حفظِ يونس هذا الحديث خُصُوصاً.
الوجه الثاني: مِنَ الجواب أنَّ كَلامَ السيدِ حُجَّةٌ عليه لا له؛ لأنَّا قد
= يذكروه فيمن روى عنه قبل الاختلاط.
وأخرجه الطبري 24/ 18، وابن خزيمة ص 78، وابن أبي عاصم (545) من طريق محمد بن الصلت، به.
(1)
10/ 61 - 62.
(2)
ساقطة من (ش).
بيَّنَّا فيما تقدم أنهم قد أجمعوا على صِحة الرجُوعِ إلى هذِهِ الكُتب، وأن ذلك قد شاع فيما بينهم منْ غيْر نكيرٍ، وهذا إجماعُ ظَنَيٌّ سكوتي، وقد كنتُ علَّقْتُ إشكالاتٍ ترد على السَّيِّد في كلامهِ في هذا الموضِع وغيره في هذه المسألة، ثم إنَّي ترجَّح لي الاختصارُ وذكْر ما تَمسُّ إليه الحاجة.
قال: لأن روايتهم لا تخلو مِنْ ضعفٍ، وإنما تُقْبل عنْد عدم المعارِضِ (1).
أقول: هذا قَصْرٌ للعدالَةِ على الأئِمَّة عليهم السلام، وهذا غُلُوٌّ لم يُسْبَقِ السَيِّدُ إليه (2)، ولو كان ما ذكره صحيحاًً، لوجَبَ في الشُّهودِ أن يكونوا أئمةً، وهذا يؤدِّي إلى وجوب أربَعَةِ أئِمَّة في شهادة الزِّنى (3)، وإمامَيْنِ في الشهادة على الأموال.
فإن قال: هذا تشنيعٌ لم يَقْصِدْه.
قلت: فلْيحْفَظْ لِسَانَه عمَّا يقتضي ذلِكَ، ويتنكَّبْ عن هذِهِ المسالِكِ، فإنَّ الواجبَ على العاقلِ أن يَزُمَّ لِسَانه، وَيزِنَ كلامَهُ، وقَدِ اشتمل كلامُه على ثلاثِ دعاوي:
إحداها: ما تقدَّمَ منْ قصر العدالَةِ على الأئمَّةِ.
الدعوى الثَّانية: أنَّ الضَّعْفَ لا يَدْخُلُ في حديث الأئِمَّة، والجوابُ عليه أنَّ حديث الأئِمَّة مشحونٌ بحديثِ مَنْ ضعفتَ (4)، فلَزِمَ أن يدْخُلَه الضَّعيف بالضَّرورة والمقدِّمتان (5) ضرورِيَّتان عنْدَ البَحْث.
(1) في (ش): التعارض.
(2)
ساقطة من (ب).
(3)
في (ش): في الشهادة على الزنى.
(4)
في (ش): ضعف.
(5)
في (ب): " المقدمتان " بدون واو.
الدعوى الثالثة: أنَّ الضعيفَ مقبولٌ عنْدَ عَدَمِ المعارِض، وهذا مُجرَّدُ دَعوى مِنْ غيرِ دليل، وهو مكثرٍ مِنْ أمثال هذا، حتى كِدتُ لا أستنكرُهُ منه.
قال: لأنَّها روايةٌ عَمَّنْ لا تُعْلَمُ عدالَتُه ولا نزاهَتُه عَنْ فِسْقِ التَّأويلِ.
أقول: هذه دعوى على الأمَّةِ بالجهلِ بذلكَ، وهي غيرُ مقبولَةٍ، فإن ادَّعى أنَّهُ جاهِلٌ بذلِكَ، ولم يَدَّعِ ذلكَ على غيرِه، فهذا مُسَلمٌ ولا يَضُرُّ تسليمُه، وقد تقدَّم منه مثلُ هذا في المسأَلَه الأولى، وتقدَّم الجوابُ عليه، فخذهُ مِن هناك.
قال: هذا إذا كان النَّاظِرُ في الحديث مجتهداً، أمَّا إذا كان غير بالِغٍ رُتْبَةَ الاجتهاد، فليس له أن يُرَجِّح بهذا الحديثِ قولاً، ويجعَلَهُ مختارَهُ، وإنْ كان الخبرُ نَصَّاً في ظاهِرِ الحال، لأنَّ التَّرجيحَ بالخبر إنَّما يكونُ بعد معْرِفَةِ كَوْنهِ صحيحاًًعنِ الرَّسُولِ، ولا يكونُ صحيحاً حتى يكونَ رَاوِيهِ عَدْلاً، والعدالَةُ غيرُ حاصلَةٍ كما سنذكره.
أقول: هذا الكلام كلُه (1) قِشْرٌ ليس فيه لُبابٌ، ومجرَّدُ دعوى لا تفْتَقِرُ إلى جوابٍ، لأنَّه بناه على دعْوى عدَمِ العدالةِ وجعل الاستدلالَ عليها حَوَالَة، فالواجبُ (2) تأخيرُ الجوَابِ حتَّى يأتيَ ما وعد به منَ الدّلالَةِ.
قال: ولأنه لا يُرجّحُ بالخَبرِ حتَّى يعلمَ أنَّه غيرُ (3) منسوخ، ولا مُخَصص، ولا مُعارَضٍ بمَا هُوَ أقوى مِنْ إجماعٍ أو غَيْرِهِ.
أقول: هذا الذي ذكره لا يجبُ على المجتهدِ عنْدَ أحدٍ مِن أهلِ
(1) ساقطة من (ب).
(2)
في (ش): فالجواب.
(3)
ساقطة من (ب).
البيت عليهم السلام، ولا عِنْدَ أحدٍ من جماهيرِ أهل (1) الإسلام، وهو مذهبٌ شاذٌّ مهجورٌ، قَدْ رَدَّ عليه العلماء الجمهور، وقد مَرَّ تقريرُ الدليل على بُطلانه، وأنه لا سبيلَ إلى العلم بعدم الناسخ والمُعارِض والمُخَصص، وإنما اختلَفَ العُلَماءُ في وُجُوب الظن لعدم تِلْك الأمور في حقِّ المجتهدِ فقط، ولا أعلمُ أن أحداً شرط ذلِكَ فيٍ ترجيح المُقَلِّدِ، ولا سبق السَّيِّد أحد إلى ذِكْر هذا، وإنما اختلفَ العُلَمَاءُ، هل يجب الترجيح على المقلدِ فيما يفيد الظَّن؟ ولم يختلفوا في جوازِ ذلِك وحسنه، وإنما اختلفوا في وجوبه معَ اتِّفاقهم على أنَّه زيادَةُ في التحري، فلا يخلو السيد إما أنْ يُقِرَّ بأن (2) الترجيح به يفيد الظن. أو لا إنْ قال: إنَّه لا يفيد الظن فذلك مدفوع، لأنَّ الظنَ يحْصُلُ بخبر الثقةِ منْ غيرِ تَوَقُّفٍ على العِلم بفقدِ المعارِض والنَاسخ والمخَصَصِ، ووجودُ (3) الظنّ عِنْد خَبَرِ الثِّقَةِ ضَرُورِي، ولو كان ظن مدلولِ الخبَر النبَوي يتوقفُ على ذلكَ، لتوقف (4) الظَنُّ على ذلِكَ في سائر الأخبار، فكانَ يجبُ إذا أَخْبَرَنَا ثقة بوقوعِ مَطرٍ، أو قُدُومِ غائِب، أو نفْعِ دَوَاءٍ، أَلَاّ نَظنَ صِحتهُ حَتَّى نَطْلُب المعَارِضَ والمُخَصِّصَ، بل يلزمُ إذا أفتى المفتي، ألَاّ تُقْبَلَ فتواهُ حتَّى نَطْلب معارِضَها مِنْ غَيْرِه، وكذلِكَ إذا سمعنا المؤذِّنَ أنا لا نَظُنُّ صدقَهُ، ولا نأْخُذ بخبَرِه حَتَّى نطلبَ المُعارِضَ، وكذلِكَ إذا شَهِدَ الشَّاهدانِ.
وإما أنْ يُسَلِّمَ السيِّدُ أن الظنُّ يحصُلُ بالخَبرِ الصحيح، فالدليل على وُجوبِ الترجيح به وجهان:
(1) ساقطة من (ب).
(2)
في (ب): أن.
(3)
في (ج): ووجوب.
(4)
في (ب): لتوقف على.
الوجهُ الأولُ: أنَّ مخالَفتَهُ قبل طَلبَ المعارِض وغيرِه تقتضي المضرَّة المظنونَة، ودفْعُها واجِبٌ، والطلَب يحتاجُ إلى مُهْلةٍ، ففي تلك المهلَةِ إمَّا أنْ يُوجبَ مخالفَتَهُ، أو يُوجبَ العَمَلَ به، الثاني: هُو المطلوبُ، والأول يقتضي تحريمَ دفعِ المضَرةِ المظنُونَةِ (1) عَنِ النَفْسِ، وهذا عكسُ المعقول، وقبيح بالضَّرُورة.
وبعد، فإن الدليل على وُجُوبِ العمل بخبرِ الواحد قائِم قَبْلَ الطلبِ لهذِه الأمور، وقبل الظنِّ لعدمها، كما هو قائِمٌ بَعْدَ ذلِكَ.
فإنْ قلتَ: فَهذا يقتضي عَدمَ إيجابِ البَحْثِ عَنِ المُعَارِضِ والنَّاسخِ والمخصِّصِ في حقِّ المجتهدِ.
قلت: هو كذلِكَ، وفي المسأَلةِ خلافٌ مشهورٌ، وظاهرُ حديثِ معاذٍ يقتضي عدَم إيجابِ الطَّلَبِ، وقد مَرَّ كلام الشيخ أبي الحسين في ذلك حين ذكرتُ حديث معاذٍ (2)، والاستدلال به على أنَّ الإحاطَةَ بالأخبار لا تجبُ على المجتهد، وذلِك في المسألة الأولى، فإنْ دل الدليل على تخصيص المجتَهِدِ بِوُجُوبِ الطلَبِ، فهو خاصٌّ به، وإن لَمْ يدُل دليل على ذلِكَ، فالمسألَةُ نَظَريَّةٌ ولا اعتراضَ فيها على مَنِ (3) اختارَ أحدَ المذهَبَيْنِ.
قال: ولأن الترجيح بالأخبار اجتهاد؛ لَأنَّه يَفْتقِرُ إلى أصعبِ عُلُومِ الاجتهادِ، وهو معرِفَةُ الناسخِ والمنسوخ وغيرِ ذلِكَ، والفَرْضُ أنَّ هذا الناظِرَ مقلدٌ.
أقول: هذا الاحتجاج ضعيف بمَرَّةٍ، لأنَّه لا رابطَةَ عقلية بَيْنَ
(1)" المظنونة " ساقطة من (ب).
(2)
انظر 1/ 258.
(3)
في (ب): ما.