الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: فأمَّا (1) أن يكون لَهُ في كُل مسأَلَةٍ أن يُرَجَّحَ ويخْرُجَ عَنْ مَذْهَبِ مَنْ كان قلَّده، فالصَّحيحُ أنَّ عليه التزامَ مذهبِ إمامٍ مُعَيَّنٍ، ذَكرَهُ المنصورُ بالله، والشيخ الحسن، والشيخُ أحمد بن محمد، واحتجَّ لهم بوجوه.
أحدُها: بالإجماع وهو أنَّه لا يُعْلَمُ أحد مِنَ المقلِّدين يَتَردَّدُ بَيْنَ مذاهِبِ عُلمَاءِ الإِسلام المتقدِّمين منهُم والمتأخِّرين، ففي مسألة يقلِّدُ أبا بكرٍ، وفي أُخرى عمر، وفي ثالِثَةٍ ابنَ عبَّاس، وفي رابعة ابنَ مسعودٍ، وهَلُمَّ جَرَّاً، ولا منْ يكون مقلِّداً لطاووس، وعطاء، وللحَسَن، والشّعبي، ولابن المسيِّب، ولغيرهم مِمَّن وراءَهم، فقلَّد في كُلِّ مسألة إماماً في أبوابِ الفقهِ ومسائِلِهِ جميعاً، ولا مَنْ يكون حَنَفِيَّاً في مسألة، شافِعِيَّاً في أخرى، مالكيَّاً حنبليَّاً هادويَّاً ناصرِيَّاً في مسألة مسألة هذا ما وَقعَ ولا عُلِمَ به، ولو وقع في زماننا، لأنكرَهُ النَّاسُ.
أقول:
ضَعْفُ كلامِ السيِّدِ في هذا يتبيَّنُ بأنظار
.
النظر الأول: أنَّه مَنَعَ مِنْ جوازِ التَّرجيح للمقلِّدِ في كُلِّ مسألة
، وظنَّ أن المنصور، والشَّيخ الحَسَنَ منعا مِنْ ذلك لإيجابِهِمَا التزامَ مذهبِ إمامٍ مُعَيَّنٍ، وليس كما توهَّم السيدُ، فبينَ المسألتيْنِ فرقٌ واضحٌ، لَأنَّ المنصور عليه السلام إنَّما أوجب التزامَ مذهبِ الأعلمِ الأفضلِ، لَأنَّ الظَّنَّ بِصِحَّةِ قولهِ أقوى، قال المنصور (2) عليه السلام ما لفظه: ومتى اتَّفق أهل العلمِ والاجتهادِ في الفتوى، وَجَبَ على المستفتي قَبُولها بلا خلافٍ في ذلِكَ، وَإِن اختلفوا، وجبَ عليه عندَنا الاجتهادُ في أعلمِهِم وأديَنِهِمْ، وطلبُ الأمارَاتِ على ذلِكَ، لأنَّ ذلِكَ يُمْكِنُه وَهُو مُقَوٍّ لظنِّه، وقد تقرَّر وجوبُ
(1) في (ش): وإما.
(2)
في (ب): المنصور بالله.
طَلَبِ الظن الأقوى لِمَنْ يمكنُهُ العلمُ، وأنَّه لا يجوز العدولُ عنه إلى الظن الأضعفِ مع التَّمَكُّنِ منَ الظن الأقوى، إلى آخِرِ كلامِه عليه السلام.
ومَنْ نَظرَ في كلامِهِ هذا، ظهرَ لَه أنَّه أكثرُ مناسبةً لكلامي؛ لَأني تمسَّكْتُ بما نصَّ على وُجوبه من اتِّباع الظَّنُّ الأقوى، وتحريم العمل بالظن الضَّعيفِ، وأنا وافقتُ المنصورَ عليه السلام في المعنى، والسَّيِّدُ وافقه في الصُّورَةِ، وتوهَّم أنَّ الموافقَةَ في الصُّورَةِ أرجحُ مِنَ الموافَقَةِ في المعنى، وهذا غلط واضِحٌ، فإنَّ المُوافَقةَ الصُّوريَّة لم يَردِ التَّعبُّدُ بها إلا مُتابَعَةً للموافقةِ المعنَويَّة، والموافَقةُ المعنويَّةُ هي المقصودَةُ، ومثالُ ذلِك أنَّ الواحِدَ مِنَّا لو تزوَّج تِسْعَ نساءٍ على الجمع، لكانَ مُوافِقَاً للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم في الصُّورة، ولكنَّه لمَّا كانَ مُخالِفَاً في المعنى، حَرُمَ ذلِكَ، وكذلكَ المرأةُ لو سترت مِنَ السُّرَّةِ إلى الرُّكْبَة، وكَشَفَتْ ما عدا ذلك، لكانت موافقةً للنَّبِي عليه السلام في الصُورَة؛ لكِنها مخالِفَةٌ له في المعنى، وأمثالُ هذا كثيرةٌ (1)، وقد يغترُّ كثيرٌ مِنَ المقلِّدين بالصُّورة.
النَّظر الثاني: أنَّا نُبَيِّنُ أنَّ مذهبَ المنصُورِ بالله عليه السلام هوَ مَا ذكرنا بطريقة التَّخريج (2) الصَّحيحَةِ الواضِحَةِ التي نَصَّ على صِحَّتِها الأئِمَّةُ.
فنقول: قَدْ بَيَنَّا الدَّليلَ فيما تقدَّم، على أنَّ السَّامِعَ للحديثِ الصَّحيح مِنَ الثِّقة المُرْضِيِّ إنْ لم يَحْصُلْ لَهُ به ظَنٌ، لم يجب عليه التَّرجيحُ به، وإنْ حَصَلَ لَهُ مِنْه (3) ظَنٌّ راجِحٌ، وجب عليه العمَلُ به. وقد
(1) في (ش): كثير.
(2)
في (ش): الترجيح.
(3)
" منه " ساقطة من (ش).
نَصَّ المنصورُ بالله عليه السلام على أن العَمَلَ بالظن الرَّاجِحِ واجبٌ، والعمل بالظن الضَّعيفِ حرامٌ، فدلَّ على ما قلناهُ بعُمومِ قوله وظاهرِ لفظِه، والتَّخريج مِن العموم هو أرفَعُ درجاتِ التَّخريج وأصحُّها.
فإن قلتَ: عمومُ كلامِه يقتضىِ وُجوبَ الالتزام (1) أيضاً.
قُلْتُ: هذا لا يَصِحُّ لوجهين.
أحَدُهما: أنه مُعَلَّلٌ بعلَّةٍ تقتضي تخصيصَه في هذه المسألة، وتُوجبُ فسادَ التَّمسُّكِ به في هذه الصُّورة، والتخريجُ على هذه الصورَةِ لا يجوز.
الثاني: أنَّا لو سلَّمنا أنَّه عمومٌ سالِمٌ مِنْ هذه السَّائِبَةِ، لم يصحّ التَّخريج (2) منه مع وُجودِ العُموم الذي تمسكنا به، لأنَّهما تعارضا، وأحدُهما معلَّلٌ بِمَا يقتضي عدمَ التَّخصيص، والثاني غيرُ مُعَلَّلٍ، والمعلَّلُ أرجحُ، ومَع الرُّجحانِ لا يبقى ظَنٌ لمذهب العالِمِ، فلا يَحِلُّ نسبةُ المذهب إليه مِنْ غيرِ عِلْمٍ ولا ظَنٍّ، والله أعلمُ.
النظر الثالث: أنِّي أذهبُ إلى ما ذهب إليه المنصُورُ بالله عليه السلام مِنْ وُجوب التزامِ مذهبِ إمامٍ مُعَيَّنٍ في مسائِلِ الخلافِ متى غَلَبَ على ظَنِّ المقلِّدِ أنَّه أعلمُ وأورَعُ، ولا أرى خلافَ ذلِكَ، وليس قولي يناقِضُ هذِهِ الجُمْلَةَ؛ لَأنَّهَا عمومٌ معلَّلٌ بالرُّجحان، وخصِّصَت منها صورَة حَتَّى يظلَّ ذلِكَ الرُّجْحَان، بل حين انعكس، فصارَ الرَّاجِحُ مِنْ ذلِكَ
مرجوحاً، والقويُّ ضعيفاً، وتخصيصُ العموم ليس بمناقَضَةٍ، فبانَ لكَ بهذا أنِّي قد وافقتُ المنصورَ والجمهورَ أوَّلاً وآخِراً، ودُرْت مع الحق
(1) في (ب): التزام.
(2)
في (ب): " التحريم "، وهو خطأ.