الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمُبَلِّغِ عَنْهُ، كَانَ ظُهُورُ هَذَا الْفَرْقِ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ مِنْ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ أَوْضَحَ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْإِطْنَابِ.
وَقَدْ بَيَّنَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ كَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَالْبُخَارِيِّ صَاحِبِ الصَّحِيحِ فِي كِتَابِهِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ صَوْتِ اللَّهِ الْمَسْمُوعِ مِنْهُ؛ وَصَوْتِ الْعِبَادِ بِالْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مَا لَا يُخَالِفُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَهْلِ الْعُقُولِ وَالدِّينِ.
[فَصْلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ]
فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] .
فَهَذَا قَدْ ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعَيْنِ.
فَقَالَ فِي الْحَاقَّةِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40]{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41]{وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 42] .
فَالرَّسُولُ هُنَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ فِي التَّكْوِيرِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19]{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20]{مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21]{وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ - وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 22 - 23] .
فَالرَّسُولُ هُنَا جِبْرِيلُ فَأَضَافَهُ إلَى الرَّسُولِ مِنْ الْبَشَرِ تَارَةً، وَإِلَى الرَّسُولِ مِنْ الْمَلَائِكَةِ تَارَةً، بِاسْمِ الرَّسُولِ، وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ لَقَوْلُ مَلَكٍ، وَلَا نَبِيٍّ، لِأَنَّ لَفْظَ الرَّسُولِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ مُبَلِّغٌ عَنْ غَيْرِهِ، لَيْسَ مِنْ عِنْدِهِ:{وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]، فَكَانَ قَوْلُهُ:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ} [الحاقة: 40] بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَتَبْلِيغُ رَسُولٍ، أَوْ مُبَلَّغٌ مِنْ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَنْشَأَهُ أَوْ أَحْدَثَهُ أَوْ أَنْشَأَ شَيْئًا مِنْهُ أَوْ أَحْدَثَهُ رَسُولٌ كَرِيمٌ، إذْ لَوْ كَانَ مُنْشِئًا لَمْ يَكُنْ رَسُولًا فِيمَا أَنْشَأَهُ وَابْتَدَأَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إلَى الْقُرْآنِ مُطْلَقًا.
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ أَحَدُ الرَّسُولَيْنِ أَنْشَأَ حُرُوفَهُ وَنَظَمَهُ؛ امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ الْآخَرُ هُوَ الْمُنْشِئُ الْمُؤَلِّفُ لَهَا؛ فَبَطَلَ أَنْ تَكُونَ إضَافَتُهُ إلَى الرَّسُولِ هُنَا لِأَجْلِ إحْدَاثِ لَفْظِهِ وَنَظْمِهِ.
وَلَوْ جَازَ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ هُنَا لِأَجْلِ إحْدَاثِ الرَّسُولِ لَهُ أَوْ لِشَيْءٍ مِنْهُ لَجَازَ أَنْ نَقُولَ إنَّهُ قَوْلُ الْبَشَرِ، وَهَذَا قَوْلُ الْوَحِيدِ الَّذِي أَصْلَاهُ اللَّهُ سَقَرَ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَالْوَحِيدُ جَعَلَ الْجَمِيعَ قَوْلَ الْبَشَرِ، وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ الْكَلَامَ الْعَرَبِيَّ قَوْلُ الْبَشَرِ؛ وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ.
فَيُقَالُ لَهُمْ: هَذَا نِصْفُ قَوْلِ الْوَحِيدِ - ثُمَّ هَذَا بَاطِلٌ مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى، وَهُوَ أَنَّ مَعَانِيَ هَذَا النَّظْمِ مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، وَأَنْتُمْ تَجْعَلُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مَعْنًى وَاحِدًا هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ وَالِاسْتِخْبَارُ، وَتَجْعَلُونَ ذَلِكَ الْمَعْنَى إذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ كَانَ قُرْآنًا، وَإِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ كَانَ تَوْرَاةً، وَإِذَا عُبِّرَ عَنْهُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ كَانَ إنْجِيلًا، وَهَذَا مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ الْعَقْلِ وَالدِّينِ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ إذَا عَرَّبْنَاهَا لَمْ يَكُنْ مَعْنَاهَا مَعْنَى الْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنَ إذَا تَرْجَمْنَاهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ لَمْ يَكُنْ تَوْرَاةً.
وَأَيْضًا فَإِنَّ مَعْنَى آيَةِ الْكُرْسِيِّ، لَيْسَ هُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ، وَإِنَّمَا يَشْتَرِكَانِ فِي مُسَمَّى الْكَلَامِ، وَمُسَمَّى كَلَامِ اللَّهِ كَمَا يَشْتَرِكُ الْأَعْيَانُ فِي مُسَمَّى النَّوْعِ.
فَهَذَا الْكَلَامُ وَهَذَا الْكَلَامُ كُلُّهُ يَشْتَرِكُ فِي أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ اشْتِرَاكَ الْأَشْخَاصِ فِي أَنْوَاعِهَا، كَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ وَهَذَا الْإِنْسَانَ يَشْتَرِكُونَ فِي مُسَمَّى الْإِنْسَانِ، وَلَيْسَ فِي الْخَارِجِ شَخْصٌ بِعَيْنِهِ هُوَ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا - وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي الْخَارِجِ كَلَامٌ وَاحِدٌ هُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَهُوَ مَعْنَى آيَةِ الدَّيْنِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ.
وَمَنْ خَالَفَ هَذَا كَانَ فِي مُخَالَفَتِهِ لِصَرِيحِ الْعُقُولِ مِنْ جِنْسِ مَنْ قَالَ: إنَّ أَصْوَاتَ الْعِبَادِ وَأَفْعَالَهُمْ قَدِيمَةٌ أَزَلِيَّةٌ؛ فَاضْرِبْ بِكَلَامِ الْبِدْعَتَيْنِ رَأْسَ قَائِلِهِمَا؛ وَالْزَمْ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.
وَبِسَبَبِ هَاتَيْنِ الْبِدْعَتَيْنِ الْحَمْقَاوَيْنِ ثَارَتْ الْفِتَنُ، وَعَظُمَتْ الْأَحْزَابُ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْ أَصْحَابِ الْقَوْلَيْنِ قَدْ يُقَرِّرُونَهُمَا بِمَا قَدْ يَلْبَسُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ، كَمَا قَرَّرَ مَنْ قَالَ إنَّ الصَّوْتَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ بَعْضَهُ قَدِيمٌ وَأَنَّ الْقَدِيمَ ظَهَرَ فِي الْمُحْدَثِ مِنْ غَيْرِ حُلُولٍ فِيهِ.
وَأَمَّا أَفْعَالُ الْعِبَادِ فَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُ إنَّهَا قَدِيمَةٌ، خَيْرُهَا وَشَرُّهَا، وَفَسَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّ الشَّرْعَ قَدِيمٌ، وَالْقَدِيمَ قَدِيمٌ وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ مُقَدَّرَةٌ، وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الشَّرْعِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ، وَالْمَشْرُوعِ الَّذِي هُوَ الْمَأْمُورُ بِهِ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَلَمْ يُفَرِّقْ
بَيْنَ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ عِلْمُ اللَّهِ وَكَلَامُهُ، وَبَيْنَ الْقَدَرِ الَّذِي هُوَ مَخْلُوقَاتُهُ.
وَالْعُقَلَاءُ كُلُّهُمْ يَعْلَمُونَ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّ الْأَمْرَ وَالْخَبَرَ نَوْعَانِ لِلْكَلَامِ لَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، لَيْسَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ صِفَاتٌ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ.
فَمَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَالْخَبَرَ صِفَاتٍ لِلْكَلَامِ لَا أَنْوَاعًا لَهُ فَقَدْ خَالَفَ الضَّرُورَةَ، إذْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ، وَالْوَاحِدِ بِالْعَيْنِ، فَإِنَّ انْقِسَامَ الْمَوْجُودِ إلَى الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ، وَالْوَاجِبِ وَالْمُمْكِنِ، وَالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، وَالْقَائِمِ بِنَفْسِهِ، وَالْقَائِمِ بِغَيْرِهِ، كَانْقِسَامِ الْكَلَامِ إلَى الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ، أَوْ إلَى الْإِنْشَاءِ وَالْإِخْبَارِ، أَوْ إلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْخَبَرِ.
فَمَنْ قَالَ: الْكَلَامُ مَعْنًى وَاحِدٌ هُوَ الْأَمْرُ وَالْخَبَرُ، فَهُوَ كَمَنْ قَالَ الْمَوْجُودُ وَاحِدٌ، هُوَ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ، أَوْ الْوَاجِبُ وَالْمُمْكِنُ، وَكَمَا أَنَّ حَقِيقَةَ هَذَا تَؤَوَّلُ إلَى تَعْطِيلِ الْخَالِقِ، فَحَقِيقَةُ هَذَا تَؤَوَّلُ إلَى تَعْطِيلِ كَلَامِهِ وَتَكْلِيمِهِ.
وَهَذَا حَقِيقَةُ قَوْلِ فِرْعَوْنَ الَّذِي أَنْكَرَ الْخَالِقَ وَتَكْلِيمَهُ لِمُوسَى، وَلِهَذَا آلَ الْأَمْرُ بِمُحَقِّقِ هَؤُلَاءِ إلَى تَعْظِيمِ فِرْعَوْنَ وَتَوَلِّيهِ وَتَصْدِيقِهِ فِي قَوْلِهِ:{فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] بَلْ إلَى تَعْظِيمِهِ عَلَى مُوسَى، وَإِلَى الِاسْتِحْقَارِ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ لِمُوسَى، كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَأَيْضًا: فَيُقَالُ مَا يَقُولُ فِي كَلَامِ كُلِّ مُتَكَلِّمٍ إذَا نَقَلَهُ عَنْهُ غَيْرُهُ، كَمَا قَدْ يُنْقَلُ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّعَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ، وَيُسْمَعُ مِنْ الرُّوَاةِ أَوْ الْمُبَلِّغِينَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْمُبَلِّغِ بِصَوْتِ الْمُبَلِّغِ، هُوَ كَلَامُ الْمُبَلِّغِ أَوْ كَلَامُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ؟ فَإِنْ قَالَ كَلَامُ الْمُبَلِّغِ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كَلَامًا لِكُلِّ مَنْ سُمِعَ مِنْهُ، فَيَكُونُ الْقُرْآنُ الْمَسْمُوعُ كَلَامَ أَلْفِ أَلْفِ قَارِئٍ، لَا كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ:«إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» .
كَلَامَ كُلِّ مَنْ رَوَاهُ لَا كَلَامَ الرَّسُولِ، وَحِينَئِذٍ لَا فَضِيلَةَ لِلْقُرْآنِ فِي:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] فَإِنَّهُ عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ قَوْلُ كُلِّ مُنَافِقٍ قَرَأَهُ، وَالْقُرْآنُ يَقْرَؤُهُ
الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْأُتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا. وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ، وَلَا رِيحَ لَهَا» .
عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا يَكُونُ الْقُرْآنُ قَوْلَ بَشَرٍ وَاحِدٍ، بَلْ قَوْلَ أَلْفِ أَلْفِ بَشَرٍ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَفَسَادُ هَذَا فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَاضِحٌ، وَإِنْ قَالَ كَلَامَ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ عُلِمَ أَنَّ الرَّسُولَ الْمُبَلِّغَ الْقُرْآنُ لَيْسَ كَلَامَهُ، وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الرَّسُولُ قَدْ يُقَالُ إنَّهُ شَيْطَانٌ بَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ تَبْلِيغُ مَلَكٍ كَرِيمٍ، لَا تَبْلِيغُ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، وَلِهَذَا قَالَ:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19]{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20]، إلَى قَوْلِهِ {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 25] وَبَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الرَّسُولَ الْبَشَرِيَّ الَّذِي صَحِبْنَاهُ وَسَمِعْنَاهُ مِنْهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ مُتَّهَمٍ.
ذَكَرَهُ بِاسْمِ الصَّاحِبِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ النِّعْمَةِ بِهِ عَلَيْنَا إذْ كَمَا لَا نُطِيقُ أَنْ نَتَلَقَّى إلَّا عَمَّنْ صَحِبْنَاهُ، وَكَانَ مِنْ جِنْسِنَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 128] .
وَقَالَ: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9]، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1]{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم: 2] ، وَبَيَّنَ أَنَّ الرَّسُولَ الَّذِي مِنْ أَنْفُسِنَا وَالرَّسُولَ الْمَلَكِيَّ أَنَّهُمَا مُبَلِّغَانِ، فَكَانَ هَذَا فِي تَحْقِيقِ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ.
فَلَمَّا كَانَ الرَّسُولُ الْبَشَرِيُّ يُقَالُ إنَّهُ مَجْنُونٌ أَوْ مُفْتَرٍ، نَزَّهَهُ عَنْ هَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى، قَالَ:
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40]{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41]{وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ - تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الحاقة: 42 - 43] .
وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ بَلَّغَهُ وَأَدَّاهُ، لَا لِأَنَّهُ أَحْدَثَهُ وَأَنْشَأَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ:{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ - نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 192 - 193]، فَجَمَعَ بَيْنَ قَوْلِهِ:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] .
وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 192] ، وَالضَّمِيرَانِ عَائِدَانِ إلَى وَاحِدٍ، فَلَوْ كَانَ الرَّسُولُ أَحْدَثَهُ وَأَنْشَأَهُ لَمْ يَكُنْ تَنْزِيلًا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بَلْ كَانَ يَكُونُ تَنْزِيلًا مِنْ الرَّسُولِ.
وَمَنْ جَعَلَ الضَّمِيرَ عَائِدًا فِي هَذَا إلَى غَيْرِ مَا يَعُودُ إلَيْهِ الضَّمِيرُ الْآخَرُ، مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي اخْتِلَافَ الضَّمِيرَيْنِ وَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، فَقُلْ لَهُ: هَذَا الَّذِي نَقْرَؤُهُ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِبَارَةِ الَّتِي أَحْدَثَهَا الرَّسُولُ الْمَلَكُ، أَوْ الْبَشَرُ عَلَى زَعْمِك، أَمْ هُوَ نَفْسُ تِلْكَ الْعِبَارَةِ.
فَإِنْ جَعَلْتَ هَذَا عِبَارَةً عَنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ جَازَ أَنْ تَكُونَ عِبَارَةُ جِبْرِيلَ أَوْ الرَّسُولِ عِبَارَةً عَنْ عِبَارَةِ اللَّهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَبْقَى النِّزَاعُ لَفْظِيًّا، فَإِنَّهُ مَتَى قَالَ إنَّ مُحَمَّدًا سَمِعَهُ مِنْ جِبْرِيلَ جَمِيعَهُ وَجِبْرِيلُ سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ جَمِيعَهُ، وَالْمُسْلِمُونَ سَمِعُوهُ مِنْ الرَّسُولِ جَمِيعًا فَقَدْ قَالَ الْحَقَّ، وَبَعْدَ هَذَا فَقَوْلُهُ عِبَارَةٌ لِأَجْلِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ التَّبْلِيغِ وَالْمُبَلِّغِ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ.
وَإِنْ قُلْت: لَيْسَ هَذَا عِبَارَةً عَنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ، بَلْ هُوَ نَفْسُ تِلْكَ الْعِبَارَةِ.
فَقَدْ جَعَلْتَ مَا يُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلِّغِ هُوَ بِعَيْنِهِ كَمَا يُسْمَعُ مِنْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ.
إذْ جَعَلْتَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ هِيَ بِعَيْنِهَا عِبَارَةَ جِبْرِيلَ.
فَحِينَئِذٍ هَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ قَوْلِكَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَصْلَ الْقَوْلِ بِالْعِبَارَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كِلَابٍ هُوَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ فِي الْإِسْلَامِ إنَّ مَعْنَى الْقُرْآنِ كَلَامُ اللَّهِ. وَحُرُوفَهُ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ.
فَأَخَذَ بِنِصْفِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَنِصْفِ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ إلَى إثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى وَخَالَفَ الْمُعْتَزِلَةَ.
وَأَثْبَتَ الْعُلُوَّ لِلَّهِ عَلَى الْعَرْشِ وَمُبَايَنَتَهُ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَقَرَّرَ ذَلِكَ تَقْرِيرًا
هُوَ أَكْمَلُ مِنْ تَقْرِيرِ أَتْبَاعِهِ بَعْدُ.
وَكَانَ النَّاسُ قَدْ تَكَلَّمُوا فِيمَنْ بَلَّغَ كَلَامَ غَيْرِهِ.
هَلْ يُقَالُ لَهُ حِكَايَةٌ عَنْهُ أَمْ لَا.
وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ قَالُوا هُوَ حِكَايَةٌ عَنْهُ.
فَقَالَ ابْنُ كِلَابٍ: الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ حِكَايَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ.
لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ.
فَجَاءَ بَعْدَهُ أَبُو الْحَسَنِ فَسَلَكَ مَسْلَكَهُ فِي إثْبَاتِ أَكْثَرِ الصِّفَاتِ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ أَيْضًا.
وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: إنَّ هَذَا حِكَايَةٌ، وَقَالَ: الْحِكَايَةُ إنَّمَا تَكُونُ مِثْلَ الْمَحْكِيِّ؛ فَهَذَا يُنَاسِبُ قَوْلَ الْمُعْتَزِلَةِ، وَإِنَّمَا يُنَاسِبُ قَوْلَنَا أَنْ نَقُولَ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ كَلَامِ اللَّهِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْعِبَارَةِ.
فَأَنْكَرَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةُ عَلَيْهِمْ عِدَّةَ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُمْ إنَّ الْمَعْنَى كَلَامُ اللَّهِ، وَإِنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ، وَكَانَتْ الْمُعْتَزِلَةُ تَقُولُ، هُوَ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ.
فَقَالَ هَؤُلَاءِ هُوَ مَخْلُوقٌ وَلَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ، لِأَنَّ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلٍّ عَادَ حُكْمُهَا عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ، فَإِذَا قَامَ الْكَلَامُ بِمَحَلٍّ كَانَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، كَمَا أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ إذَا قَامَا بِمَحَلٍّ، كَانَ هُوَ الْعَالِمُ الْقَادِرُ، وَكَذَلِكَ الْحَرَكَةُ، وَهَذَا مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ خَلَقَهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ.
قَالُوا لَهُمْ: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْكَلَامُ كَلَامَ ذَلِكَ الْجِسْمِ الَّذِي خَلَقَهُ فِيهِ، فَكَانَتْ الشَّجَرَةُ هِيَ الْقَائِلَةُ إنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ أَئِمَّةُ الْكِلَابِيَّةِ: إنْ كَانَ الْقُرْآنُ الْعَرَبِيُّ مَخْلُوقًا فَلَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ " فَقَالَ طَائِفَةٌ مِنْ مُتَأَخِّرِيهِمْ، بَلْ نَقُولُ الْكَلَامُ مَقُولٌ بِالِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْنَى الْمُجَرَّدِ، وَبَيْنَ الْحُرُوفِ الْمَنْظُومَةِ، فَقَالَ لَهُمْ الْمُحَقِّقُونَ، فَهَذَا يُبْطِلُ أَصْلَ حُجَّتِكُمْ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ، فَإِنَّكُمْ لَمَّا سَلَّمْتُمْ أَنَّ مَا هُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً لَا يُمْكِنُ قِيَامُهُ بِغَيْرِهِ، أَمْكَنَ لِلْمُعْتَزِلَةِ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ كَلَامُهُ إلَّا مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ.
الثَّانِي: قَوْلُهُمْ: إنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ، وَهُوَ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُقَلَاءِ: هَذَا الَّذِي قَالُوهُ مَعْلُومُ الْفَسَادِ بِالضَّرُورَةِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ مَا نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ، وَمَا بَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ لِأُمَّتِهِ مِنْ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ؛ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ. وَمَسْأَلَةُ الْقُرْآنِ لَهَا طَرَفَانِ: أَحَدُهُمَا: تَكَلَّمَ اللَّهُ بِهِ، وَهُوَ أَعْظَمُ الطَّرَفَيْنِ.