الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذَلِكَ عَنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَفِي ذَلِكَ آثَارٌ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كُتُبِ السُّنَنِ وَالْآثَارُ تَضِيقُ عَنْهَا هَذِهِ الْوَرَقَةُ.
وَبَيْنَ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ مُنَازَعَاتٌ وَدَقَائِقُ تَضِيقُ عَنْهَا هَذِهِ الْوَرَقَةُ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي مَوَاضِعَ، وَبَيَّنَّا حَقِيقَةَ كُلِّ قَوْلٍ، وَمَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّوَابُ فِي صَرِيحِ الْعُقُولِ وَصَحِيحِ الْمَنْقُولِ: لَكِنَّ هَؤُلَاءِ الطَّوَائِفَ كُلَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَضْلِيلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ.
وَالْأُمَّةُ مُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ قَالَ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
[مَسْأَلَةٌ فِي الْقَلْبِ وَأَنَّهُ خُلِقَ لِيُعْلَمَ بِهِ الْحَقُّ وَلْيُسْتَعْمَلْ فِيمَا خُلِقَ لَهُ]
1028 -
4 مَسْأَلَةٌ:
فِي الْقَلْبِ، وَأَنَّهُ خُلِقَ لِيُعْلَمَ بِهِ الْحَقُّ، وَلْيُسْتَعْمَلْ فِيمَا خُلِقَ لَهُ.
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ تَقِيُّ الدِّينِ أَبُو الْعَبَّاسِ أَحْمَدُ بْنُ تَيْمِيَّةَ الْحَرَّانِيُّ قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ وَنَوَّرَ ضَرِيحَهُ: إنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى خَلَقَ الْقَلْبَ لِلْإِنْسَانِ يَعْلَمُ بِهِ الْأَشْيَاءَ، كَمَا خَلَقَ الْعَيْنَ يَرَى بِهَا الْأَشْيَاءَ، وَالْأُذُنَ يَسْمَعُ بِهَا الْأَشْيَاءَ، وَكَمَا خَلَقَ سُبْحَانَهُ كُلَّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ لِأَمْرٍ مِنْ الْأُمُورِ، وَعَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ، فَالْيَدُ لِلْبَطْشِ، وَالرِّجْلُ لِلسَّعْيِ، وَاللِّسَانُ لِلنُّطْقِ، وَالْفَمُ لِلذَّوْقِ، وَالْأَنْفُ لِلشَّمِّ، وَالْجِلْدُ لِلْمَسِّ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، فَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْعُضْوَ فِيمَا خُلِقَ لَهُ وَأُعِدَّ مِنْ أَجْلِهِ، فَذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الْقَائِمُ، وَالْعَدْلُ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا وَصَلَاحًا لِذَلِكَ الْعُضْوِ وَلِرَبِّهِ وَلِلشَّيْءِ الَّذِي اُسْتُعْمِلَ فِيهِ، وَذَلِكَ الْإِنْسَانُ هُوَ الصَّالِحُ الَّذِي اسْتَقَامَ حَالُهُ وَأُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ.
وَإِذَا لَمْ يَسْتَعْمِلْ الْعُضْوَ فِي حَقِّهِ، بَلْ تَرَكَ بَطَّالًا، فَذَلِكَ خُسْرَانٌ، وَصَاحِبُهُ مَغْبُونٌ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَ فِي خِلَافِ مَا خُلِقَ لَهُ فَهُوَ الضَّلَالُ وَالْهَلَاكُ، وَصَاحِبُهُ مِنْ الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا.
ثُمَّ إنَّ سَيِّدَ الْأَعْضَاءِ وَرَأْسَهَا هُوَ الْقَلْبُ كَمَا سُمِّيَ قَلْبًا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ، وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ ثُمَّ أَشَارَ بِيَدِهِ إلَى صَدْرِهِ، وَقَالَ: أَلَا إنَّ التَّقْوَى هَاهُنَا، أَلَا إنَّ التَّقْوَى هَاهُنَا» .
وَإِذْ قَدْ خُلِقَ لِيُعْلَمَ بِهِ فَتَوَجُّهُهُ نَحْوَ الْأَشْيَاءِ ابْتِغَاءَ الْعِلْمِ بِهَا هُوَ الْفِكْرُ وَالنَّظَرُ، كَمَا أَنَّ إقْبَالَ الْأُذُنِ عَلَى الْكَلَامِ ابْتِغَاءَ سَمْعِهِ هُوَ الْإِصْغَاءُ وَالِاسْتِمَاعُ، وَانْصِرَافُ الطَّرَفِ إلَى الْأَشْيَاءِ طَلَبًا لِرُؤْيَتِهَا هُوَ النَّظَرُ، فَالْفِكْرُ لِلْقَلْبِ كَالْإِصْغَاءِ لِلْأُذُنِ إذَا سَمِعَتْ مَا أَصْغَتْ إلَيْهِ، وَمِثْلُهُ نَظَرُ الْعَيْنَيْنِ فِي شَيْءٍ، وَإِذَا عُلِمَ مَا نَظَرَ فِيهِ فَذَاكَ مَطْلُوبُهُ، كَمَا أَنَّ الْأُذُنَ إذَا سَمِعَتْ مَا أَصْغَتْ إلَيْهِ، أَوْ الْعَيْنَ إذَا أَبْصَرَتْ مَا نَظَرَتْ إلَيْهِ.
وَكَمْ مِنْ نَاظِرٍ مُفَكِّرٍ لَمْ يُحِبَّ الْعِلْمَ وَلَمْ يَنَلْهُ، كَمَا أَنَّهُ كَمْ مِنْ نَاظِرٍ إلَى الْهِلَالِ لَا يُبْصِرُهُ، وَمُسْتَمِعٍ إلَى صَوْتٍ لَا يَسْمَعُهُ، وَعَكْسُهُ مَنْ يُؤْتَى عِلْمًا بِشَيْءٍ لَمْ يَنْظُرْ فِيهِ، وَلَمْ تَسْبِقْ مِنْهُ سَابِقَةُ فِكْرٍ كَمَنْ فَاجَأَتْهُ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَيْهِ، أَوْ سَمِعَ قَوْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يُصْغِيَ إلَيْهِ.
وَذَلِكَ كُلُّهُ لِأَنَّ الْقَلْبَ بِنَفْسِهِ يَقْبَلُ الْعِلْمَ؛ وَإِنَّمَا الْأَمْرُ مَوْقُوفٌ عَلَى شَرَائِطَ وَاسْتِعْدَادٍ قَدْ يَكُونُ فِعْلًا مِنْ الْإِنْسَانِ فَيَكُونُ مَطْلُوبًا.
وَقَدْ يَأْتِي فَضْلًا مِنْ اللَّهِ فَيَكُونُ مَوْهُوبًا فَصَلَاحُ الْقَلْبِ وَحَقُّهُ.
وَاَلَّذِي خُلِقَ مِنْ أَجْلِهِ، هُوَ أَنْ يَعْقِلَ الْأَشْيَاءَ، لَا أَقُولُ أَنْ يَعْلَمَهَا، فَقَدْ يَعْلَمُ الشَّيْءَ مَنْ لَا يَكُونُ عَاقِلًا لَهُ.
بَلْ غَافِلًا عَنْهُ، مُلْغِيًا لَهُ، وَاَلَّذِي يَعْقِلُ الشَّيْءَ هُوَ الَّذِي يُقَيِّدُهُ وَيَضْبِطُهُ وَيَعِيهِ وَيُثْبِتُهُ فِي قَلْبِهِ، فَيَكُونُ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ غَنِيًّا، فَيُطَابِقُ عَمَلُهُ قَوْلَهُ، وَبَاطِنُهُ ظَاهِرَهُ.
وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي أُوتِيَ الْحِكْمَةَ: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] .
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُؤْتَى عِلْمًا، وَلَا يُؤْتَى حُكْمًا، وَإِنَّ شَدَّادَ بْنَ أَوْسٍ مِمَّنْ أُوتِيَ عِلْمًا وَحُكْمًا.
هَذَا مَعَ أَنَّ النَّاسَ مُتَبَايِنُونَ فِي نَفْسِ أَنْ يَعْقِلُوا الْأَشْيَاءَ مِنْ بَيْنِ كَامِلٍ وَنَاقِصٍ، وَفِيمَا يَعْقِلُونَهُ مِنْ بَيْنِ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ، وَجَلِيلٍ وَدَقِيقٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
ثُمَّ هَذِهِ الْأَعْضَاءُ الثَّلَاثَةُ هِيَ أُمَّهَاتُ مَا يُنَالُ بِهِ الْعِلْمُ.
يُدْرِكُ، أَعْنِي الْعِلْمَ الَّذِي يَمْتَازُ بِهِ الْبَشَرُ عَنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، دُونَ مَا يُشَارِكُهُ فِيهِ، مِنْ الشَّمِّ وَالذَّوْقِ وَاللَّمْسِ، وَهُنَا يُدْرِكُ بِهِ مَا يُحِبُّ وَيَكْرَهُ، وَمَا يُمَيِّزُ بِهِ مَنْ يُحْسِنُ إلَيْهَا وَيُسِيءُ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] وَقَالَ: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [السجدة: 9] وَقَالَ: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا} [الإسراء: 36] .
وَقَالَ: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً} [الأحقاف: 26] .
وَقَالَ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] .
وَقَالَ فِيمَا لِكُلِّ عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ مِنْ الْعَمَلِ وَالْقُوَّةِ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] .
ثُمَّ إنَّ الْعَيْنَ تَقْصُرُ عَنْ الْقَلْبِ وَالْأُذُنِ وَتُفَارِقُهُمَا فِي شَيْءٍ، وَهُوَ أَنَّهَا إنَّمَا تُرَى بِهَا الْأَشْيَاءُ الْحَاضِرَةُ وَالْأُمُورُ الْجِسْمَانِيَّةُ مِثْلُ الصُّوَرِ وَالْأَشْخَاصِ، فَأَمَّا الْقَلْبُ وَالْأُذُنُ فَيُعْلَمُ بِهِمَا مَا غَابَ عَنْ الْإِنْسَانِ، وَمَا لَا مَجَالَ لِلْبَصَرِ فِيهِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الرُّوحَانِيَّةِ وَالْمَعَالِمِ الْمَعْنَوِيَّةِ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَفْتَرِقَانِ، فَالْقَلْبُ يَعْقِلُ الْأَشْيَاءَ بِنَفْسِهِ إذَا كَانَ الْعِلْمُ بِهَا هُوَ غِذَاؤُهُ وَخَاصِّيَّتُهُ: أَمَّا الْأُذُنُ فَإِنَّهَا تَحْمِلُ الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْعِلْمِ إلَى الْقَلْبِ، فَهِيَ بِنَفْسِهَا إنَّمَا تَنَالُ الْقَوْلَ وَالْكَلَامَ، فَإِذَا وَصَلَ ذَلِكَ إلَى الْقَلْبِ أَخَذَ مِنْهُ مَا فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ، فَصَاحِبُ الْعِلْمِ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ هُوَ الْقَلْبُ.
وَإِنَّمَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ حَجَبَتُهُ تُوَصِّلُ إلَيْهِ مِنْ
الْأَخْبَارِ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَأْخُذَهُ بِنَفْسِهِ، حَتَّى إنَّ مَنْ فَقَدْ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّهُ يَفْقِدُ بِفَقْدِهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا كَانَ هُوَ الْوَاسِطَةُ فِيهِ.
فَالْأَصَمُّ لَا يَعْلَمُ مَا فِي الْكَلَامِ مِنْ الْعِلْمِ.
وَالضَّرِيرُ لَا يَدْرِي مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ الْأَشْخَاصُ مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ نَظَرَ إلَى الْأَشْيَاءِ بِغَيْرِ قَلْبٍ، أَوْ اسْتَمَعَ إلَى كَلِمَاتِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِغَيْرِ قَلْبٍ.
فَإِنَّهُ لَا يَعْقِلُ شَيْئًا.
فَمَدَارُ الْأَمْرِ عَلَى الْقَلْبِ.
وَعِنْدَ هَذَا تَسْتَبِينُ الْحِكْمَةُ فِي قَوْله تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج: 46] .
حَتَّى لَمْ يَذْكُرْ هُنَا الْعَيْنَ كَمَا فِي الْآيَاتِ السَّوَابِقِ.
فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ هُنَا فِي أُمُورٍ غَائِبَةٍ.
وَحِكْمَةٍ مَعْقُولَةٍ مِنْ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ.
لَا مَجَالَ لِنَظَرِ الْعَيْنِ فِيهَا.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} [الفرقان: 44]، وَتَتَبَيَّنُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] .
فَإِنَّ مَنْ يُؤْتَى الْحِكْمَةَ وَيَنْتَفِعُ بِالْعِلْمِ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ.
إمَّا رَجُلٌ رَأَى الْحَقَّ بِنَفْسِهِ فَقَبِلَهُ وَاتَّبَعَهُ وَلَمْ يَحْتَجْ إلَى مَنْ يَدْعُوهُ إلَيْهِ.
فَذَلِكَ صَاحِبُ الْقَلْبِ.
أَوْ رَجُلٌ لَمْ يَعْقِلْهُ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى مَنْ يُعَلِّمُهُ وَيُبَيِّنُ لَهُ وَيَعِظُهُ وَيُؤَدِّبُهُ.
فَهَذَا أَصْغَى فَأَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ.
أَيْ حَاضِرُ الْقَلْبِ لَيْسَ بِغَائِبِهِ كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ أَوُتَى الْعِلْمَ وَكَانَ لَهُ ذِكْرَى.
وَيُتَبَيَّنُ قَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} [يونس: 42]{وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} [يونس: 43] .
وَقَوْلُهُ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25] .
ثُمَّ إذَا كَانَ حَقُّ الْقَلْبِ أَنْ يَعْلَمَ الْحَقَّ، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ:
{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ} [يونس: 32] .
إذَا كَانَ كُلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ لَمْحَةُ نَاظِرٍ.
وَيُحَوَّلُ فِي لَفْتَةِ خَاطِرٍ.
فَاَللَّهُ رَبُّهُ وَمُنْشَئِهِ وَفَاطِرُهُ وَمُبْدِئُهُ؛ لَا يُحِيطُ عِلْمًا إلَّا بِمَا هُوَ مِنْ آيَاتِهِ الْبَيِّنَةِ فِي أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ.
وَأَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا لَبِيدٌ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ
مَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ إذَا نَظَرْت إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ وَجَدْتَهُ إلَى الْعَدَمِ مَا هُوَ فَقِيرٌ إلَى الْحَيِّ الْقَيُّومِ.
فَإِذَا نَظَرْت إلَيْهِ وَقَدْ تَوَلَّتْهُ يَدُ الْعِنَايَةِ بِتَقْدِيرِ مَنْ أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى.
رَأَيْته حِينَئِذٍ مَوْجُودًا مَكْسُوًّا حُلَلَ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ.
فَقَدْ اسْتَبَانَ الْقَلْبُ إنَّمَا خُلِقَ لِذِكْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ.
وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ: أَظُنُّهُ سُلَيْمَانُ الْخَوَّاصُ رحمه الله الذِّكْرُ لِلْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ لِلْجَسَدِ، فَكَمَا لَا يَجِدُ الْجَسَدُ لَذَّةَ الطَّعَامِ مَعَ السَّقَمِ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ لَا يَجِدُ حَلَاوَةَ الذِّكْرِ مَعَ حُبِّ الدُّنْيَا، أَوْ كَمَا قَالَ: فَإِذَا كَانَ الْقَلْبُ مَشْغُولًا بِاَللَّهِ عَاقِلًا لِلْحَقِّ، مُفَكِّرًا فِي الْعِلْمِ، فَقَدْ وُضِعَ مَوْضِعَهُ، كَمَا أَنَّ الْعَيْنَ إذَا صُرِفَتْ إلَى النَّظَرِ فِي الْأَشْيَاءِ فَقَدْ وُضِعَتْ فِي مَوْضِعِهَا.
أَمَّا إذَا لَمْ يُصْرَفْ إلَى الْعِلْمِ، وَلَمْ يُرْعَ فِيهِ الْحَقَّ، فَنَسِيَ رَبَّهُ، فَلَمْ يُوضَعْ فِي مَوْضِعٍ، بَلْ هُوَ ضَائِعٌ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يُقَالَ: قَدْ وُضِعَ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِ مَوْضِعِهِ، بَلْ لَمْ يُوضَعْ أَصْلًا، فَإِنَّ مَوْضِعَهُ هُوَ الْحَقُّ، وَمَا سِوَى الْحَقِّ بَاطِلٌ.
فَإِذَا لَمْ يُوضَعْ فِي الْحَقِّ لَمْ يَبْقَ إلَّا الْبَاطِلُ، وَالْبَاطِلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ أَصْلًا، وَمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ أَحْرَى إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعًا.
وَالْقَلْبُ هُوَ بِنَفْسِهِ لَا يَقْبَلُ إلَّا الْحَقَّ، فَإِذَا لَمْ يُوضَعْ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْبَلُ غَيْرَ مَا خُلِقَ لَهُ:{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الفتح: 23] وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَتْرُوكٍ مُخْلًى، فَإِنَّ مَنْ لَا يَزَالُ مِنْ أَوْدِيَةِ الْأَفْكَارِ وَأَقْطَارِ الْأَمَانِي، لَا يَكُونُ عَلَى الْحَالِ الَّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ مِنْ الْفَرَاغِ وَالتَّخَلِّي، فَقَدْ وُضِعَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، لَا مُطْلَقٍ وَلَا مُعَلَّقٍ، مَوْضُوعٌ لَا مَوْضِعَ لَهُ، وَهَذَا مِنْ الْعَجَبِ، فَسُبْحَانَ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
وَإِنَّمَا تَنْكَشِفُ لَهُ هَذِهِ الْحَالُ عِنْدَ رُجُوعِهِ إلَى الْحَقِّ: إمَّا فِي الدُّنْيَا عِنْدَ الْإِنَابَةِ أَوْ عِنْدَ الْمُنْقَلَبِ إلَى الْآخِرَةِ، فَيَرَى سُوءَ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَكَيْفَ كَانَ قَلْبُهُ ضَالًّا عَنْ الْحَقِّ، هَذَا إذَا صُرِفَ إلَيَّ الْبَاطِلِ.
فَأَمَّا لَوْ تُرِكَ وَحَالَتُهُ الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا فَارِغًا عَنْ كُلِّ ذِكْرٍ.
وَخَالِيًا مِنْ كُلِّ فِكْرٍ، لَقَدْ كَانَ يَقْبَلُ الْعِلْمَ الَّذِي لَا جَهْلَ فِيهِ، وَيَرَى الْحَقَّ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ.
فَيُؤْمِنُ بِرَبِّهِ وَيُنِيبُ إلَيْهِ.
فَإِنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ.
كَمَا تَنْتِجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ لَا تَحُسُّ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] .
وَإِنَّمَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَقِّ فِي غَالِبِ الْحَالِ، شُغْلُهُ بِغَيْرِهِ مِنْ فِتَنِ الدُّنْيَا، وَمَطَالِبِ الْجَسَدِ، وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ، فَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَالْعَيْنِ النَّاظِرَةِ إلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَرَى مَعَ ذَلِكَ الْهِلَالَ، أَوْ هُوَ يَمِيلُ إلَيْهِ فَيَصُدُّهُ عَنْ اتِّبَاعِ الْحَقِّ.
فَيَكُونُ كَالْعَيْنِ الَّتِي فِيهَا قَذًى لَا يُمَكِّنُهَا رُؤْيَةُ الْأَشْيَاءِ.
ثُمَّ الْهَوَى قَدْ يَعْرِضُ لَهُ قَبْلَ مَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَيَصُدُّهُ عَنْ النَّظَرِ فِيهِ.
فَلَا يَتَبَيَّنُ لَهُ الْحَقُّ كَمَا قِيلَ: «حُبُّك الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» فَيَبْقَى فِي ظُلْمَةِ الْأَفْكَارِ.
وَكَثِيرًا مَا يَكُونُ ذَلِكَ كِبْرًا يَمْنَعُهُ عَنْ أَنْ يَطْلُبَ الْحَقَّ: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 22] .
وَقَدْ يَعْرِضُ الْهَوَى بَعْدَ أَنْ عَرَفَ الْحَقَّ فَيَجْحَدُهُ وَيُعْرِضُ عَنْهُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ فِيهِمْ:
ثُمَّ الْقَلْبُ لِلْعِلْمِ كَالْإِنَاءِ لِلْمَاءِ، وَالْوِعَاءِ لِلْغُسْلِ وَالْوَادِي لِلسَّيْلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] الْآيَةَ.
وَفِي حَدِيثِ كُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، قَالَ:" الْقُلُوبُ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا ".
وَبَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ قَالَ: الْقُلُوبُ آنِيَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ فَأَحَبُّهَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرَقُّهَا وَأَصْفَاهَا.
وَهَذَا مَثَلٌ حَسَنٌ فَإِنَّ الْقَلْبَ إذَا كَانَ رَقِيقًا لَيِّنًا كَانَ قَبُولُهُ لِلْعِلْمِ سَهْلًا يَسِيرًا، وَرَسَخَ فِيهِ وَأَثَّرَ، وَإِنْ يَكُنْ قَاسِيًا غَلِيظًا يَكُنْ قَبُولُهُ لِلْعِلْمِ صَعْبًا عَسِيرًا.
وَلَا بُدَّ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ زَكِيًّا صَافِيًا سَلِيمًا حَتَّى يَزْكُوَ فِيهِ الْعِلْمُ، وَيُثْمِرَ ثَمَرًا طَيِّبًا وَإِلَّا فَلَوْ قَبِلَ الْعِلْمَ وَكَانَ فِيهِ كَدَرٌ وَخَبَثٌ أَفْسَدَ ذَلِكَ الْعِلْمَ، وَكَانَ كَالدَّغَلِ فِي الْمُزْدَرَعِ، إنْ لَمْ يَمْنَعْ الْحَبَّ مِنْ أَنْ يُنْبِتَ، مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَزْكُوَ وَيَطِيبَ، وَهَذَا بَيِّنٌ لِأُولِي الْأَبْصَارِ.
وَتَلْخِيصُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي الْحَقِّ فَلَهُ وَجْهَانِ: وَجْهٌ مُقْبِلٌ عَلَى الْحَقِّ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ لَهُ وِعَاءٌ وَإِنَاءٌ، لِأَنَّ ذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ مَا يُوعَى فِيهِ وَيُوضَعُ فِيهِ، وَهَذِهِ الصِّبْغَةُ وُجُودُ ثُبُوتٍ، وَوَجْهٌ مُعْرِضٌ عَنْ الْبَاطِلِ، وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ لَهُ زَكِيٌّ وَسَلِيمٌ وَطَاهِرٌ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الشَّرِّ وَالْخُبْثِ وَالدَّغَلِ وَهَذِهِ
الصِّبْغَةُ عَدَمٌ وَنَفْيٌ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ إذَا صُرِفَ إلَى الْبَاطِلِ فَلَهُ وَجْهَانِ: وَجْهُ الْوُجُودِ أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى الْبَاطِلِ مَشْغُولٌ بِهِ، وَوَجْهُ الْعَدَمِ أَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنْ الْحَقِّ غَيْرُ قَابِلٍ لَهُ.
وَهَذَا يُبَيِّنُ مِنْ الْبَيَانِ وَالْحُسْنِ وَالصِّدْقِ مَا فِي قَوْلِهِ:
إذَا مَا وَضَعْت الْقَلْبَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ
…
بِغَيْرِ إنَاءٍ فَهُوَ قَلْبٌ مُضَيَّعٌ
فَإِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ حَالَ مَنْ ضَيَّعَ قَلْبَهُ فَظَلَمَ نَفْسَهُ بِأَنْ اشْتَغَلَ بِالْبَاطِلِ، وَمَلَأَ بِهِ قَلْبَهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهِ مُتَّسَعٌ لِلْحَقِّ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى الْوُلُوجِ فِيهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ مِنْهُ فَوَصَفَ حَالَ هَذَا الْقَلْبِ بِوَجْهَيْهِ، وَنَعَتَهُ بِمَذْهَبَيْهِ، فَذَكَرَ أَوَّلًا وَصْفَ الْوُجُودِ مِنْهُ، فَقَالَ:
إذَا مَا وَضَعْت الْقَلْبَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ
، يَقُولُ إذَا شَغَلَتْهُ بِمَا لَمْ يُخْلَقْ لَهُ فَصَرَفْته إلَى الْبَاطِلِ حَتَّى صَارَ مَوْضُوعًا فِيهِ.
ثُمَّ الْبَاطِلُ عَلَى مَنْزِلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: تَشْغَلُ عَنْ الْحَقِّ وَلَا تُعَانِدُهُ، مِثْلُ الْأَفْكَارِ وَالْهُمُومِ الَّتِي مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِ النَّفْسِ.
وَالثَّانِيَةُ: تُعَانِدُ الْحَقَّ وَتَصُدُّ عَنْهُ، مِثْلُ الْآرَاءِ الْبَاطِلَةِ وَالْأَهْوَاءِ الْمُرْدِيَةِ مِنْ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالْبِدَعِ، وَشِبْهِ ذَلِكَ، بَلْ الْقَلْبُ لَمْ يُخْلَقْ إلَّا لِذِكْرِ اللَّهِ فَمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَيْسَ مَوْضِعًا لَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا وَوَصَفَ الْعَدَمَ مِنْهُ فَقَالَ: " بِغَيْرِ إنَاءٍ "، يَقُولُ: إذَا وَضَعْته بِغَيْرِ إنَاءٍ فَوَضَعْته وَلَا إنَاءَ مَعَك، كَمَا تَقُولُ حَضَرْت الْمَجْلِسَ بِلَا مِحْبَرَةٍ.
فَالْكَلِمَةُ حَالٌ مِنْ الْوَاضِعِ، لَا مِنْ الْمَوْضُوعِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَبَيَانُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ يَقُولُ إذَا مَا وَضَعْت قَلْبَك فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَاشْتَغَلَ بِالْبَاطِلِ وَلَمْ يَكُنْ مَعَك إنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْحَقُّ، وَيَتَنَزَّلُ إلَيْهِ الذِّكْرُ وَالْعِلْمُ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْقَلْبِ، فَقَلْبُك إذًا مُضَيَّعٌ، ضَيَّعْته مِنْ وَجْهَيْ التَّضْيِيعِ، وَإِنْ كَانَا مُتَّحِدَيْنِ مِنْ جِهَةِ أَنَّك وَضَعْته فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا إنَاءَ مَعَك يَكُونُ وِعَاءً لِحَقِّهِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْطَاهُ، كَمَا لَوْ قِيلَ، لِمَلِكٍ قَدْ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهْوِ: إذَا اشْتَغَلْت بِغَيْرِ الْمُمَاسَكَةِ وَلَيْسَ فِي الْمِلْكِ مَنْ يُدَبِّرُهُ فَهُوَ مِلْكٌ ضَائِعٌ، لَكِنْ هُنَا الْإِنَاءُ هُوَ الْقَلْبُ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَلْبَ لَا يَنُوبُ عَنْهُ غَيْرُهُ فِيمَا يَجِبُ أَنْ يَصْنَعَهُ:{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] .
وَإِنَّمَا خَرَجَ الْكَلَامُ فِي صُورَةِ اثْنَيْنِ بِذِكْرِ نَعْتَيْنِ لِشَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا جَاءَ نَحْوُهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ - مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} [آل عمران: 3 - 4] .
قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: هُوَ الْقُرْآنُ، فَرَّقَ فِيهِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ إذَا كَانَ لَهُ وَصْفَانِ كَبِيرَانِ فَهُوَ مَعَ وَصْفٍ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَهُوَ مَعَ الْوَصْفَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الِاثْنَيْنِ، حَتَّى لَوْ كَثُرَتْ صِفَاتُهُ لِتَنْزِلَ مَنْزِلَةَ أَشْخَاصٍ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يُحْسِنُ الْحِسَابَ وَالطِّبَّ بِمَنْزِلَةِ حَاسِبٍ وَطَبِيبٍ، وَالرَّجُلَ الَّذِي يُحْسِنُ النِّجَارَةَ وَالْبِنَاءَ بِمَنْزِلَةِ نَجَّارٍ وَبَنَّاءٍ، وَالْقَلْبُ لَمَّا كَانَ يَقْبَلُ الذِّكْرَ وَالْعِلْمَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِنَاءِ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْبَيْتِ الْإِنَاءَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ أَسْمَاءِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ رَقِيقًا وَصَافِيًا، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمُسْتَطْعِمُ الْمُسْتَعْطِي فِي مَنْزِلَةِ الْبَائِسِ الْفَقِيرِ، وَلَمَّا كَانَ يَنْصَرِفُ عَنْ الْبَاطِلِ فَهُوَ زَكِيٌّ وَسَلِيمٌ، فَكَأَنَّهُ اثْنَانِ وَلْيُتَبَيَّنْ فِي الصُّورَةِ أَنَّ الْإِنَاءَ غَيْرُ الْقَلْبِ فَهُوَ يَقُولُ:" إذَا مَا وَضَعْت قَلْبَك فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ "، وَهُوَ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الذِّكْرُ وَالْعِلْمُ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَك إنَاءٌ يُوضَعُ فِيهِ الْمَطْلُوبُ فَمِثْلُك مِثْلُ رَجُلٍ بَلَغَهُ أَنَّهُ يُفَرَّقُ عَلَى النَّاسِ طَعَامًا، وَكَانَ لَهُ زُبْدِيَّةٌ أَوْ سُكْرُجَةٌ، فَتَرَكَهَا ثُمَّ أَقْبَلَ يَطْلُبُ طَعَامًا، فَقِيلَ لَهُ هَاتِ إنَاءً نُعْطِك طَعَامًا، فَأَمَّا إذَا أَتَيْت وَقَدْ وَضَعْت زُبْدِيَّتَك مَثَلًا فِي الْبَيْتِ، وَلَيْسَ مَعَك إنَاءٌ نُعْطِيك فِيهِ شَيْئًا، رَجَعْت بِخُفَّيْ حُنَيْنٍ.
وَإِذَا تَأَمَّلَ مَنْ لَهُ بَصَرٌ بِأَسَالِيبِ الْبَيَانِ وَتَصَارِيفِ اللِّسَانِ، وَجَدَ مَوْقِعَ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ وَالْحِكْمَةِ كِلَيْهِمَا مَوْقِعًا حَسَنًا بَلِيغًا، فَإِنَّ نَقِيضَ هَذِهِ الْحَالِ الْمَذْكُورَةِ أَنْ يَكُونَ الْقَلْبُ مُقْبِلًا عَلَى الْحَقِّ وَالْعِلْمِ وَالذِّكْرِ، مُعْرِضًا عَنْ ذِكْرِ غَيْرِ ذَلِكَ وَتِلْكَ هِيَ الْحَنِيفِيَّةُ دِينُ إبْرَاهِيمَ عليه السلام، فَإِنَّ الْحَنَفَ هُوَ الْمَيْلُ عَنْ الشَّيْءِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى آخَرَ، فَالدِّينُ الْحَنِيفُ هُوَ الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَاهُ، وَهُوَ الْإِخْلَاصُ الَّذِي تَرْجَمَته كَلِمَةُ الْحَقِّ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ.
اللَّهُمَّ ثَبِّتْنَا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.
هَذَا آخِرُ مَا