الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَالَ: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] وَقَالَ: {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} [القمر: 53] .
وَالْأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ، وَمَنْ قَالَ هِيَ سَبْعَةَ عَشَرَ فَهُوَ قَوْلٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَمَنْ قَالَ إنَّهَا مُبْهَمَةٌ وَغَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَإِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهَا، وَمَنْ قَالَ إنَّهُ مَا تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِالنَّارِ قَدْ يُقَالُ إنَّ فِيهِ تَقْصِيرًا إذْ الْوَعِيدُ قَدْ يَكُونُ بِالنَّارِ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهَا، وَقَدْ يُقَالُ إنَّ كُلَّ وَعِيدٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْتَلْزِمَ الْوَعِيدَ بِالنَّارِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ إنَّهَا كُلُّ ذَنْبٍ فِيهِ وَعِيدٌ فَهَذَا يَنْدَرِجُ فِيمَا ذَكَرَهُ السَّلَفُ، فَإِنَّ كُلَّ ذَنْبٍ فِيهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا فَفِيهِ وَعِيدٌ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ، فَإِنَّ الزِّنَا، وَالسَّرِقَةَ وَشُرْبَ الْخَمْرِ، وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فِيهَا وَعِيدٌ، كَمَنْ قَالَ إنَّ الْكَبِيرَةَ مَا فِيهَا وَعِيدٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ مَنْ أَوْقَعَ الْعُقُودَ الْمُحَرَّمَةَ ثُمَّ تَابَ]
1052 -
28 سُئِلَ الشَّيْخُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ: مَنْ أَوْقَعَ الْعُقُودَ الْمُحَرَّمَةَ ثُمَّ تَابَ مَا الْحُكْمُ فِيهِ؟ فَأَجَابَ، بِقَوْلِهِ رضي الله عنه: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الرِّبَا: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] وَقَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا فِي مَوْضِعِهِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ الْخُلْعَ وَالطَّلَاقَ فَقَالَ فِي الْخُلْعِ:{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229] إلَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231] .
وَقَالَ تَعَالَى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا - فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 1 - 2]{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] .
فَالطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ كَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، وَفِي طُهْرٍ قَدْ أَصَابَهَا فِيهِ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَكَالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ تَعَدٍّ لِحُدُودِ اللَّهِ وَفَاعِلُهُ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَالظَّالِمُ لِنَفْسِهِ إذَا تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ:{وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110] فَهُوَ إذَا اسْتَغْفَرَهُ غَفَرَ لَهُ وَرَحِمَهُ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ الْمُتَّقِينَ فَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] .
وَاَلَّذِينَ أَلْزَمَهُمْ عُمَرُ وَمَنْ وَافَقَهُ بِالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ كَانُوا عَالِمِينَ بِالتَّحْرِيمِ وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ فَلَمْ يَنْتَهُوا فَلَمْ يَكُونُوا مِنْ الْمُتَّقِينَ، فَهُمْ ظَالِمُونَ لِتَعَدِّيهِمْ مُسْتَحَقُّونَ لِلْعُقُوبَةِ، وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِبَعْضِ الْمُسْتَفْتِينَ: إنَّ عَمَّك لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَلَوْ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، وَهَذَا إنَّمَا يُقَالُ لِمَنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَفَعَلَهُ، فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالتَّحْرِيمِ لَا يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، وَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا إذَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مُحَرَّمٌ وَتَابَ مِنْ عَوْدِهِ إلَيْهِ وَالْتَزَمَ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ.
وَاَلَّذِينَ كَانَ النَّبِيُّ
يَجْعَلُ ثَلَاثَتَهُمْ وَاحِدَةً فِي حَيَاتِهِ كَانُوا يَتُوبُونَ فَيَصِيرُونَ مُتَّقِينَ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ الظَّالِمُ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] فَحَصَرَ الظُّلْمَ فِيمَنْ لَمْ يَتُبْ، فَمَنْ تَابَ
لَيْسَ بِظَالِمٍ فَلَا يُجْعَلُ مُتَعَدِّيًا لِحُدُودِ اللَّهِ بَلْ وُجُودُ قَوْلِهِ كَعَدَمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَهُوَ مَحَلُّ اجْتِهَادٍ.
فَعُمَرُ عَاقَبَهُمْ بِالْإِلْزَامِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَحْلِيلٌ فَكَانُوا لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ النِّسَاءَ يَحْرُمْنَ عَلَيْهِمْ لَا يَقَعُونَ بِالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ، فَانْكَفُّوا بِذَلِكَ عَنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ.
فَإِذَا صَارُوا يُوقِعُونَ الطَّلَاقَ الْمُحَرَّمَ ثُمَّ يَرُدُّونَ النِّسَاءَ بِالتَّحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ صَارُوا يَفْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ مَرَّتَيْنِ وَيَتَعَدَّوْنَ حُدُودَ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، بَلْ ثَلَاثًا بَلْ أَرْبَعًا؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الْأَوَّلَ كَانَ تَعَدِّيًا لِحُدُودِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ نِكَاحُ الْمُحَلِّلِ لَهَا وَوَطْؤُهُ لَهَا قَدْ صَارَ بِذَلِكَ مَلْعُونًا هُوَ وَالزَّوْجُ الْأَوَّلُ، فَقَدْ تَعَدَّيَا لِحُدُودِ اللَّهِ، هَذَا مَرَّةً أُخْرَى وَذَاكَ مَرَّةً، وَالْمَرْأَةُ وَوَلِيُّهَا لَمَّا عَلِمَا بِذَلِكَ وَفَعَلَاهُ كَانَا مُتَعَدِّيَيْنِ لِحُدُودِ اللَّهِ، فَلَمْ يَحْصُلْ بِالِالْتِزَامِ فِي هَذِهِ الْحَالِ انْكِفَافٌ عَنْ تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ بَلْ زَادَ التَّعَدِّي لِحُدُودِ اللَّهِ، فَتَرْكُ إلْزَامِهِمَا بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَا ظَالِمَيْنِ غَيْرَ تَائِبَيْنِ خَيْرٌ مِنْ إلْزَامِهِمْ فَذَلِكَ الزِّنَا يَعُودُ إلَى تَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَاَلَّذِي اسْتَفْتَى ابْنَ عَبَّاسٍ وَنَحْوَهُ، لَوْ قِيلَ لَهُ تُبْ لَتَابَ وَلِذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُفْتِي أَحْيَانَا بِتَرْكِ اللُّزُومِ كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ عِكْرِمَةَ وَغَيْرُهُ، وَعُمَرُ مَا كَانَ يَجْعَلُ الْخَلِيَّةَ وَالْبَرِيَّةَ إلَّا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً، وَلَمَّا قَالَ عُمَرُ {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66] وَإِذَا كَانَ الْإِلْزَامُ عَامًّا ظَاهِرًا كَانَ تَخْصِيصُ الْبَعْضِ بِالْإِعَانَةِ نَقْضًا لِذَلِكَ وَلَمْ يَوْثُقْ بِتَوْبَةٍ.
فَالْمَرَاتِبُ أَرْبَعَةٌ: أَمَّا إذَا كَانُوا يَتَّقُونَ اللَّهَ وَيَتُوبُونَ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ تَرْكَ الْإِلْزَامِ كَمَا كَانَ فِي عَهْدِ النَّبِيِّ
وَأَبِي بَكْرٍ خَيْرٌ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَنْتَهُونَ إلَّا بِالْإِلْزَامِ فَيَنْتَهُونَ حِينَئِذٍ، وَلَا يُوقِعُونَ الْمُحَرَّمَ، وَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى تَحْلِيلٍ، فَهَذَا هُوَ الدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي فَعَلَهَا فِيهِمْ عُمَرُ، وَالثَّالِثَةُ أَنْ يَحْتَاجُوا إلَى التَّحْلِيلِ الْمُحَرَّمِ فَهُنَا تَرْكُ الْإِلْزَامِ خَيْرٌ، وَالرَّابِعَةُ أَنَّهُمْ لَا يَنْتَهُونَ بَلْ يُوقِعُونَ الْمُحَرَّمَ وَيَلْزَمُونَهُ بِلَا تَحْلِيلٍ، فَهُنَا لَيْسَ فِي إلْزَامِهِمْ بِهِ فَائِدَةٌ إلَّا إصْرٌ وَإِغْلَالٌ لَمْ يُوجَبْ لَهُمْ تَقْوَى اللَّهِ وَحِفْظُ حُدُودِهِ، بَلْ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ نِسَاؤُهُمْ وَخَرِبَتْ دِيَارُهُمْ فَقَطْ، وَالشَّارِعُ لَمْ يُشَرِّعْ مَا يُوجِبُ حُرْمَةَ النِّسَاءِ، وَتَخْرِيبَ الدِّيَارِ، بَلْ تَرْكُ إلْزَامِهِمْ بِذَلِكَ أَقَلُّ فَسَادًا وَإِنْ كَانُوا أَذْنَبُوا فَهُمْ مُذْنِبُونَ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ، لَكِنَّ تَخْرِيبَ الدِّيَارِ أَكْثَرُ فَسَادًا، وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَأَمَّا تَرْكُ الْإِلْزَامِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ ذَنْبٌ
بِقَوْلِهِ فَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ، وَهَذَا أَقَلُّ فَسَادًا مِنْ الْفَسَادِ الَّذِي قَصَدَ الشَّارِعُ دَفْعَهُ وَمَنْعَهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ.
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَسَادُهُ رَاجِحٌ عَلَى صَلَاحِهِ، فَلَا يُشَرِّعُ الْتِزَامَ الْفَسَادِ مَنْ يُشَرِّعُ دَفْعَهُ وَمَنْعَهُ.
وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ كُلَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَحَرَّمَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَأَبَاحَهُ فِي حَالٍ أُخْرَى، فَإِنَّ الْحَرَامَ لَا يَكُونُ صَحِيحًا نَافِذًا كَالْحَلَالِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحَلَالِ، وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ كَمَا يَحْصُلُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ النَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَجُمْهُورِهِمْ.
وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْأَشْعَرِيَّةِ يُخَالِفُ فِي هَذَا لَمَّا ظَنَّ أَنَّ بَعْضَ مَا نَهَى عَنْهُ لَيْسَ بِفَاسِدٍ: كَالطَّلَاقِ الْمُحَرَّمِ، وَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالُوا: لَوْ كَانَ النَّهْيُ مُوجِبًا لِلْفَسَادِ لَزِمَ انْتِقَاضُ هَذِهِ الْعِلَّةِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَسَادَ حَصَلَ بِسَبَبٍ آخَرَ غَيْرِ مُطْلَقِ النَّهْيِ.
وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مِنْ أَئِمَّةِ الْفِقْهِ الْعَارِفِينَ بِتَفْصِيلِ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ، فَقِيلَ لَهُمْ: بِأَيِّ شَيْءٍ يُعْرَفُ أَنَّ الْعِبَادَةَ فَاسِدَةٌ وَالْعَقْدَ فَاسِدٌ؟ قَالُوا: بِأَنْ يَقُولَ الشَّارِعُ هَذَا صَحِيحٌ وَهَذَا فَسَادٌ، وَأَمَّا هَذَا فَشَرْطُهُ فِي صِحَّتِهِ كَذَا وَكَذَا فَإِذَا وُجِدَ الْمَانِعُ انْتَفَتْ الصِّحَّةُ.
وَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ فِي الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ الْوَاقِعَةِ، وَهِيَ الْأَدِلَّةُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَدِلَّةً عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، بَلْ يَتَكَلَّمُونَ فِي أُمُورٍ يُقَدِّرُونَهَا فِي أَذْهَانِهِمْ أَنَّهَا إذَا وَقَعَتْ هَلْ يُسْتَدَلُّ بِهَا أَمْ لَا يُسْتَدَلُّ، وَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَلِهَذَا لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِمَا يُقَدِّرُونَهُ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ الْمُفَضَّلَةِ عَلَى الْأَحْكَامِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا نَفْسَ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ الْوَاقِعَةِ بَلْ قَدَّرُوا أَشْيَاءَ قَدْ لَا تَقَعُ وَأَشْيَاءَ ظَنُّوا أَنَّهَا مِنْ جِنْسِ كَلَامِ شَارِعٍ، وَهَذَا مِنْ هَذَا الْبَابِ.
فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَدُلَّ النَّاسَ قَطُّ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ الَّتِي ذَكَرُوهَا، وَلَا يُوجَدُ فِي كَلَامِهِ شُرُوطُ الْبَيْعِ، أَوْ النِّكَاحِ، كَذَا، وَكَذَا، وَلَا هَذِهِ الْعِبَادَةُ، أَوْ الْعَقْدُ صَحِيحٌ؛ أَوْ لَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا جَعَلُوهُ دَلِيلًا عَلَى الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، بَلْ هَذِهِ كُلُّهَا عِبَارَاتٌ أَحْدَثَهَا مَنْ أَحْدَثَهَا مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ وَالْكَلَامِ.
وَإِنَّمَا الشَّارِعُ دَلَّ النَّاسَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، بِقَوْلِهِ فِي عُقُودٍ هَذَا لَا يَصْلُحُ فَيُقَالُ الصَّلَاحُ الْمُضَادُّ لِلْفَسَادِ، فَإِذَا قَالَ لَا يَصْلُحُ عُلِمَ أَنَّهُ فَاسِدٌ، كَمَا قَالَ فِي بَيْعِ مُدَّيْنِ بِمُدٍّ تَمْرًا لَا يَصْلُحُ.
وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَسَائِرُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَحْتَجُّونَ عَلَى فَسَادِ الْعُقُودِ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ، كَمَا احْتَجُّوا عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِالنَّهْيِ الْمَذْكُورِ فِي الْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ عَلَى فَسَادِ عَقْدِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ التَّحْرِيمَ فِيهَا تَعَارَضَ فِيهَا نَصَّانِ فَتَوَقَّفَ، وَقِيلَ: إنَّ بَعْضَهُمْ أَبَاحَ الْجَمْعَ، وَكَذَا نِكَاحُ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا اسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادٍ بِقَوْلِهِ:{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] .
وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ اسْتَدَلُّوا عَلَى فَسَادِ نِكَاحِ الشِّغَارِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ، وَكَذَلِكَ عُقُودُ الرِّبَا وَغَيْرِهَا.
وَأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ مِنْ الْفَسَادِ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاحِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَيُحِبُّ الصَّلَاحَ، فَلَا يَنْهَى عَمَّا يُحِبُّهُ وَإِنَّمَا يَنْهَى عَمَّا لَا يُحِبُّهُ، فَعَلِمُوا أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَاسِدٌ لَيْسَ بِصَلَاحٍ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ فَمَصْلَحَةٌ مَرْجُوحَةٌ بِمَفْسَدَتِهِ.
وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ مَقْصُودَ الشَّرْعِ رَفْعُ الْفَسَادِ وَمَنْعُهُ لَا إيقَاعُهُ وَالْإِلْزَامُ بِهِ، فَلَوْ أَلْزَمُوا بِمُوجِبِ الْعُقُودِ الْمُحَرَّمَةِ لَكَانُوا مُفْسِدِينَ غَيْرَ مُصْلِحِينَ وَاَللَّهُ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ، وقَوْله تَعَالَى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} [البقرة: 11] .
أَيْ لَا تَعْمَلُوا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ مُفْسِدٌ وَالْمُحَرَّمَاتُ مَعْصِيَةُ اللَّهِ فَالشَّارِعُ يَنْهَى عَنْهَا لِيَمْنَعَ الْفَسَادَ وَيَدْفَعَهُ.
وَلَا يُوجَدُ قَطُّ فِي شَيْءٍ مِنْ صُوَرِ النَّهْيِ صُورَةٌ ثَبَتَتْ فِيهَا الصِّحَّةُ بِنَصٍّ وَلَا إجْمَاعٍ، فَالطَّلَاقُ الْمُحَرَّمُ، وَالصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ فِيهَا نِزَاعٌ، وَلَيْسَ عَلَى الصِّحَّةِ نَصٌّ يَجِبُ اتِّبَاعُهُ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ الْمُحْتَجِّ بِهِمَا حُجَّةٌ.
لَكِنْ مِنْ الْبُيُوعِ مَا نُهِيَ عَنْهَا لِمَا فِيهَا مِنْ ظُلْمِ أَحَدِهِمَا لِلْآخَرِ: كَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ، وَالْمَعِيبِ، وَتَلَقِّي السِّلَعِ، وَالنَّجْشِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْبُيُوعَ لَمْ يَجْعَلْهَا الشَّارِعُ لَازِمَةً كَالْبُيُوعِ الْحَلَالِ، بَلْ جَعَلَهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ وَالْخِيرَةُ فِيهَا إلَى الْمَظْلُومِ إنْ شَاءَ أَبْطَلَهَا وَإِنْ
شَاءَ أَجَازَهَا فَإِنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ لَهُ، وَالشَّارِعُ لَمْ يَنْهَ عَنْهَا لِحَقٍّ مُخْتَصٍّ بِاَللَّهِ كَمَا نَهَى عَنْ الْفَوَاحِشِ، بَلْ هَذِهِ إذَا عَلِمَ الْمَظْلُومُ بِالْحَالِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ مِثْلُ أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَيْبِ وَالتَّدْلِيسِ وَالتَّصْرِيَةِ، وَيَعْلَمَ السِّعْرَ إذَا كَانَ قَادِمًا بِالسِّلْعَةِ وَيَرْضَى بِأَنْ يَغْبِنَهُ الْمُتَلَقِّي جَازَ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ بَعْدَ الْعَقْدِ إنْ رَضِيَ أَجَازَ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ كَانَ لَهُ الْفَسْخُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ غَيْرَ لَازِمٍ بَلْ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ، إنْ شَاءَ أَجَازَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي مِثْلِ بَيْعِ الْمَعِيبِ مِمَّا فِيهِ الرِّضَا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ مِنْ الْعَيْبِ فَإِذَا فُقِدَ الشَّرْطُ بَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ، فَهُوَ لَازِمٌ إنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ، وَغَيْرُ لَازِمٍ إنْ كَانَ عَلَى صِفَةٍ، وَأَمَّا إذَا كَانَ غَيْرَ لَازِمٍ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى رِضَا الْمُجِيزِ فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ بِوَقْفِ الْعُقُودِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَغَيْرِهِمَا، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِ أَحْمَدَ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقُدَمَاءِ مِنْ أَصْحَابِهِ: كَالْخِرَقِيِّ، وَغَيْرِهِ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
إذْ الْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ يَحْسِبُ طَائِفَةٌ مِنْ النَّاسِ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا نُهِيَ عَنْهُ، ثُمَّ تَقُولُ طَائِفَةٌ: وَلَيْسَ بِفَاسِدٍ فَالنَّهْيُ لَا يَجِبُ أَنْ يَقْتَضِيَ الْفَسَادَ، وَتَقُولُ طَائِفَةٌ: بَلْ هَذَا فَاسِدٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَفْسَدَ بَيْعَ النَّجْشِ إذَا نَجَشَ الْبَائِعُ أَوْ وَاطَأَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْسَدَ نِكَاحَ الْخَاطِبِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَبَيْعَهُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَفْسَدَ بَيْعَ الْمَعِيبِ الْمُدَلَّسِ فَلَمَّا عُورِضَ بِالْمُصَرَّاةِ تَوَقَّفَ، وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ نِكَاحَ الْخَاطِبِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ مُطْلَقًا، وَبَيْعَ النَّجْشِ بِلَا خِيَارٍ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ لَمْ يَكُنْ النَّهْيُ فِيهِ لِحَقِّ اللَّهِ كَنِكَاحِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَالْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَبَيْعِ الرِّبَا، بَلْ لِحَقِّ الْإِنْسَانِ، بِحَيْثُ لَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ صَاحِبَ السِّلْعَةِ يَنْجُشُ وَرَضِيَ بِذَلِكَ جَازَ، وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ يَنْجُشُ، وَكَذَلِكَ الْمَخْطُوبَةُ مَتَى أَذِنَ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ فِيهَا جَازَ.
وَلَمَّا كَانَ النَّهْيُ هُنَا لِحَقِّ الْآدَمِيِّ لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّارِعُ صَحِيحًا لَازِمًا كَالْحَلَالِ، بَلْ أَثْبَتَ حَقَّ الْمَظْلُومِ وَسَلَّطَهُ عَلَى الْخِيَارِ، فَإِنْ شَاءَ أَمْضَى وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ، فَالْمُشْتَرِي مَعَ النَّجْشِ إنْ شَاءَ رَدَّ الْمَبِيعَ، فَحَصَلَ بِهَذَا مَقْصُودُهُ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ إذَا عَلِمَ بِالنَّجَشِ.
فَأَمَّا كَوْنُهُ فَاسِدًا مَرْدُودًا، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ فَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، وَكَذَلِكَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ، وَالْمُدَلِّسِ، وَالْمُصَرَّاةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمَخْطُوبَةُ إنْ شَاءَ الْخَاطِبُ أَنْ يَفْسَخَ نِكَاحَ
هَذَا الْمُتَعَدِّي عَلَيْهِ وَيَتَزَوَّجَهَا بِرِضَاهَا فَلَهُ ذَلِكَ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَ نِكَاحَهُ فَلَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ إذَا اخْتَارَ فَسْخَ نِكَاحِهِ عَادَ الْأَمْرُ إلَى مَا كَانَ فَإِنْ شَاءَتْ نَكَحَتْهُ، وَإِنْ شَاءَتْ لَمْ تَنْكِحْهُ، إذْ مَقْصُودُهُ حَصَلَ بِفَسْخِ نِكَاحِ الْخَاطِبِ، وَإِذَا قَالَ: هُوَ غَيَّرَ قَلْبَ الْمَرْأَةِ عَلَيَّ، قِيلَ: إنْ شِئْت عَاقَبْنَاهُ عَلَى هَذَا بِأَنْ نَمْنَعَهُ مِنْ نِكَاحِهَا فَيَكُونُ هَذَا قِصَاصًا لِظُلْمِهِ إيَّاكَ، وَإِنْ شِئْتَ عَفَوْتَ عَنْهُ فَأَنْفَذْنَا نِكَاحَهُ.
وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالذَّبْحُ بِآلَةٍ مَغْصُوبَةٍ، وَطَبْخُ الطَّعَامِ بِحَطَبٍ مَغْصُوبٍ، وَتَسْخِينُ الْمَاءِ بِحَطَبٍ مَغْصُوبٍ، كُلُّ هَذَا إنَّمَا حُرِّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ ظُلْمِ الْإِنْسَانِ.
وَذَلِكَ يَزُولُ بِإِعْطَاءِ الْمَظْلُومِ حَقَّهُ فَإِذَا أَعْطَاهُ بَدَلَ مَا أَخَذَهُ مِنْ مَنْفَعَةِ مَالِهِ أَوْ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ فَأَعْطَاهُ كِرَاءَ الدَّارِ وَثَمَنَ الْحَطَبِ وَتَابَ هُوَ إلَى اللَّهِ مِنْ فِعْلِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْعَبْدِ وَصَارَتْ صَلَاتُهُ كَالصَّلَاةِ فِي مَكَان مُبَاحٍ، وَالطَّعَامِ بِوُقُودٍ مُبَاحٍ، وَالذَّبْحِ بِسِكِّينٍ مُبَاحَةٍ.
وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ لِصَاحِبِ السِّكِّينِ أُجْرَةُ ذَبْحِهِ وَلَا تَحْرُمُ الشَّاةُ كُلُّهَا، وَكَانَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أُجْرَةُ دَارِهِ لَا تُحْبَطُ صَلَاتُهُ كُلُّهَا لِأَجْلِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وَهَذَا إذَا أَكَلَ الطَّعَامَ وَلَمْ يُوَفِّهِ ثَمَنَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ طَعَامًا لِغَيْرِهِ فِيهِ شَرِكَةٌ لَيْسَ فِعْلُهُ حَرَامًا، وَلَا هُوَ حَلَالًا مَحْضًا فَإِنَّ نَضْجَ الطَّعَامِ لِصَاحِبِ الْوُقُودِ فِيهِ شَرِكَةٌ، وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ يَبْقَى عَلَيْهِ اسْمُ الظُّلْمِ يَنْقُصُ مِنْ صَلَاتِهِ بِقَدْرِهِ فَلَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ كَبَرَاءَةِ مَنْ صَلَّى صَلَاةً تَامَّةً وَلَا يُعَاقَبُ كَعُقُوبَةِ مَنْ لَمْ يُصَلِّ بَلْ يُعَاقَبُ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ، وَكَذَلِكَ آكِلُ الطَّعَامِ يُعَاقَبُ عَلَى قَدْرِ ذَنْبِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] .
وَإِنَّمَا قِيلَ فِي الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ، وَبِالْمَكَانِ كَذَلِكَ: بِالْإِعَادَةِ بِخِلَافِ هَذَا لِأَنَّهُ هُنَاكَ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ إلَّا بِالْإِعَادَةِ، وَهُنَا يُمْكِنُهُ ذَاكَ بِإِرْضَائِهِ الْمَظْلُومَ وَلَكِنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ الْحَرِيرِ هِيَ مِنْ ذَلِكَ الْقِسْمِ، الْحَقُّ فِيهَا لِلَّهِ، لَكِنْ نُهِيَ عَنْ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَطْ، فَقَدْ تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي مِثْلِ هَذَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: النَّهْيُ هُنَا لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ.
وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي
الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ، وَالطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ، وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، فَإِنَّهُ إنْ عَنَى بِذَلِكَ أَنَّ نَفْسَ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنًى يُوجِبُ النَّهْيَ فَهَذَا بَاطِلٌ، فَإِنَّ نَفْسَ الْبَيْعِ اشْتَمَلَ عَلَى تَعْطِيلِ الصَّلَاةِ وَنَفْسَ الصَّلَاةِ اشْتَمَلَتْ عَلَى الظُّلْمِ وَالْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَوْجَبَ النَّهْيَ، كَمَا اشْتَمَلَتْ الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ عَلَى مُلَابَسَةِ الْخَبِيثِ، وَإِنْ أَرَادُوا بِذَلِكَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَخْتَصُّ بِالصَّلَاةِ، بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، فَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّ الْبَيْعَ وَقْتَ النِّدَاءِ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ إلَّا لِكَوْنِهِ شَاغِلًا عَنْ الصَّلَاةِ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي غَيْرِ الْبَيْعِ لَا يَخْتَصُّ بِالْبَيْعِ، لَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَجِيءُ فِي طَلَاقِ الْحَائِضِ فَإِنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مَعْنًى مُشْتَرَكٌ، وَهُمْ يَقُولُونَ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِإِطَالَةِ الْعِدَّةِ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ الطَّلَاقِ، فَيُقَالُ: وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ كَذَلِكَ إنَّمَا نُهِيَ عَنْهَا لِإِفْضَائِهِ إلَى فَسَادٍ خَارِجٍ عَنْهَا، فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نُهِيَ عَنْهُ لِإِفْضَائِهِ إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَالْقَطِيعَةُ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ النِّكَاحِ، وَالْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ حُرِّمَا وَجُعِلَا رِجْسًا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَقْضِي إلَى الصَّدِّ عَنْ الصَّلَاةِ وَإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَهُوَ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنْ الْخَمْرِ، وَالرِّبَا وَالْمَيْسِرُ حُرِّمَا لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إلَى أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ نَفْسِ عَقْدِ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ.
فَكُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَعْنًى فِيهِ يُوجِبُ النَّهْيَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْهَى عَنْ شَيْءٍ لَا لِمَعْنًى فِيهِ أَصْلًا بَلْ لِمَعْنًى أَجْنَبِيٍّ عَنْهُ فَإِنَّ هَذَا مِنْ جِنْسِ عُقُوبَةِ الْإِنْسَانِ بِذَنْبِ غَيْرِهِ وَالشَّرْعُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ فَكَمَا لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى فِي الْعُمَّالِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَعْمَالِ، لَكِنَّ فِي الْأَشْيَاءِ مَا يُنْهَى عَنْهُ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ فَهُوَ مُجَرَّدٌ عَنْ الذَّرِيعَةِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ كَالنَّهْيِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ اشْتَمَلَ عَلَى مَفْسَدَةِ الْإِفْضَاءِ إلَى التَّشَبُّهِ بِالْمُشْرِكِينَ وَهَذَا مَعْنًى فِيهِ.
ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ النَّهْيَ قَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَقَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ مَنْ قَالَ: إنَّهُ قَدْ يَكُونُ لِوَصْفٍ فِي الْفِعْلِ لَا فِي أَصْلِهِ فَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ كَالنَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمَيْ الْعِيدَيْنِ.
قَالُوا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِوَصْفِ الْعِيدَيْنِ لَا لِجِنْسِ الصَّوْمِ، فَإِذَا صَامَ صَحَّ لِأَنَّهُ سَمَّاهُ صَوْمًا فَيُقَالُ لَهُمْ: وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ فِي أَيَّامِ الْحَيْضِ.
وَكَذَلِكَ
الصَّلَاةُ بِلَا طَهَارَةٍ وَإِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ جِنْسُهُ مَشْرُوعٌ.
وَإِنَّمَا النَّهْيُ لِوَصْفٍ خَاصٍّ وَهُوَ الْحَيْضُ وَالْحَدَثُ وَاسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَلَا يُعْرَفُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا فَرْقٌ مَعْقُولٌ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الشَّرْعِ.
فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ: الْحَيْضُ وَالْحَدَثُ صِفَةٌ فِي الْحَائِضِ وَالْمُحْدِثِ، وَذَلِكَ صِفَةٌ فِي الزَّمَانِ.
قِيلَ: وَالصِّفَةُ فِي مَحَلِّ الْفِعْلِ زَمَانِهِ وَمَكَانِهِ كَالصِّفَةِ فِي فَاعِلِهِ فَإِنَّهُ لَوْ وَقَفَ فِي عَرَفَةَ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا أَوْ فِي غَيْرِ عَرَفَةَ لَمْ يَصِحَّ وَهُوَ صِفَةٌ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ.
وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى الْجِمَارَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ مِنًى أَوْ فِي غَيْرِ مِنًى وَهُوَ صِفَةٌ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَاسْتِقْبَالُ غَيْرِ الْقِبْلَةِ هُوَ الصِّفَةُ فِي الْجِهَةِ لَا فِيهِ وَلَا يَجُوزُ.
وَلَوْ صَامَ بِاللَّيْلِ لَمْ يَصِحَّ وَإِنْ كَانَ هَذَا زَمَانًا، فَإِذَا قِيلَ: اللَّيْلُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا.
قِيلَ: وَيَوْمُ الْعِيدِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا كَمَا أَنَّ زَمَانَ الْحَيْضِ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلصَّوْمِ شَرْعًا، فَالْفَرْقُ بَيْنَ فِعْلَيْنِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَرْقًا شَرْعِيًّا فَيَكُونُ مَعْقُولًا.
وَيَكُونُ الشَّارِعُ قَدْ جَعَلَهُ مُؤَثِّرًا فِي الْحُكْمِ.
فَحَيْثُ عُلِّقَ بِهِ الْحِلُّ أَوْ الْحُرْمَةُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ، وَكَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يَتَكَلَّمُ بِفُرُوقٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَلَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الشَّرْعِ وَلِهَذَا يَقُولُونَ فِي الْقِيَاسِ: إنَّهُ قَدْ يُمْنَعُ فِي الْوَصْفِ لَا فِي الْأَصْلِ أَوْ الشَّرْعِ أَوْ يُمْنَعُ تَأْثِيرُهُ فِي الْأَصْلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ يَذْكُرُ وَصْفًا يَجْمَعُ بِهِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْوَصْفُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا، بَلْ قَدْ يَكُونُ مَنْفِيًّا عَنْهُمَا أَوْ عَنْ أَحَدِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْفَرْقُ قَدْ يُفَرِّقُ بِوَصْفٍ يَدَّعِي انْتِقَاضَهُ بِإِحْدَى الصُّورَتَيْنِ لَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِهَا بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأُخْرَى كَقَوْلِهِمْ النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَذَلِكَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ أَوْ ذَاكَ لِمَعْنًى فِي وَصْفِهِ دُونَ أَصْلِهِ.
وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ النَّهْيُ لِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِالْعِبَادَةِ وَالْعَقْدِ.
وَقَدْ يَكُونُ لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا كَمَا يُنْهَى الْمُحْرِمُ عَمَّا يَخْتَصُّ بِالْإِحْرَامِ مِثْلُ حَلْقِ الرَّأْسِ، وَلُبْسِ الْعِمَامَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الثِّيَابِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، وَيُنْهَى عَنْ نِكَاحِ امْرَأَتِهِ، وَيُنْهَى عَنْ صَيْدِ الْبَرِّ، وَيُنْهَى مَعَ ذَلِكَ عَنْ الزِّنَا، وَعَنْ ظُلْمِ النَّاسِ فِيمَا مَلَكُوهُ مِنْ الصَّيْدِ.
وَحِينَئِذٍ فَالنَّهْيُ لِمَعْنًى مُشْتَرَكٍ أَعْظَمُ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا مَمْلُوكًا وَجَبَ
عَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِحَقِّ اللَّهِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ بَدَلُهُ لِحَقِّ الْمَالِكِ، وَلَوْ زَنَى لَأَفْسَدَ إحْرَامَهُ كَمَا يُفْسِدُهُ بِنِكَاحِ امْرَأَتِهِ وَلَاسْتَحَقَّ حَدَّ الزِّنَا مَعَ ذَلِكَ.
وَعَلَى هَذَا فَمَنْ لَبِسَ فِي الصَّلَاةِ مَا يَحْرُمُ فِيهَا وَفِي غَيْرِهَا كَالثِّيَابِ الَّتِي فِيهَا خُيَلَاءُ، وَفَخْرٌ: كَالْمُسْبَلَةِ، وَالْحَرِيرِ، كَانَ أَحَقَّ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ مِنْ الثَّوْبِ النَّجِسِ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي فِي السُّنَنِ:«إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ صَلَاةَ مُسْبِلٍ» وَالثَّوْبُ النَّجِسُ فِيهِ نِزَاعٌ.
وَفِي قَدْرِ النَّجَاسَةِ نِزَاعٌ، وَالصَّلَاةُ فِي الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بَعْدَ النِّدَاءِ إذَا كَانَ قَدْ نُهِيَ عَنْهُ وَغَيْرُهُ مُشْغِلُ عَنْ الْجُمُعَةِ كَانَ ذَلِكَ أَوْكَدَ فِي النَّهْيِ، وَكُلُّ مُشْتَغِلٍ عَنْهَا فَهُوَ شَرٌّ وَفَسَادٌ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَالْمِلْكُ الْحَاصِلُ بِذَلِكَ كَالْمِلْكِ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ إلَّا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَمُخَالَفَتِهِ: كَاَلَّذِي لَا يَحْصُلُ إلَّا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي، مِثْلُ: الْكُفْرِ، وَالسِّحْرِ، وَالْكِهَانَةِ، وَالْفَاحِشَةِ.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ: «حُلْوَانُ الْكَاهِنِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغْيِ خَبِيثٌ» فَإِذَا كُنْت لَا أَمْلِكُ السِّلْعَةَ إنْ لَمْ أَتْرُكْ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ كَانَ حُصُولُ الْمِلْكِ سَبَبَ تَرْكِ الصَّلَاةِ، كَمَا أَنَّ حُصُولَ الْحُلْوَانِ وَالْمَهْرِ بِالْكِهَانَةِ وَالْبِغَاءِ، وَكَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ: إنْ تَرَكْت الصَّلَاةَ الْيَوْمَ أَعْطَيْنَاك عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَإِنَّ مَا يَأْخُذُهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ خَبِيثٌ.
كَذَلِكَ مَا يَمْلِكُهُ بِالْمُعَاوَضَةِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ خَبِيثٌ،
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ كَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلًا وَكَانَ مَا يَأْخُذُهُ عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُهُ بِمِقْدَارِ الصَّلَاةِ خَبِيثٌ مَعَ أَنَّ جِنْسَ الْعَمَلِ بِالْأُجْرَةِ جَائِزٌ.
كَذَلِكَ جِنْسُ الْمُعَاوَضَةِ جَائِزٌ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَعَدَّى عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ، وَإِذَا حَصَلَ الْبَيْعُ فِي هَذَا الْوَقْتِ وَتَعَذَّرَ الرَّدُّ فَلَهُ نَظِيرُ ثَمَنِهِ الَّذِي أَدَّاهُ وَيَتَصَدَّقُ بِالرِّبْحِ وَالْبَائِعُ لَهُ نَظِيرُ سِلْعَتِهِ، وَيَتَصَدَّقُ بِرِبْحٍ إنْ كَانَ رَبِحَ، وَلَوْ تَرَاضَيَا بِذَلِكَ بَعْدَ الصَّلَاةِ لَمْ يَنْفَعْ.
فَإِنَّ النَّهْيَ هُنَا لِحَقِّ اللَّهِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ تَرَاضَيَا بِمَهْرِ الْبَغْيِ.
وَهُنَاكَ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ لَا يُعْطَى لِلزَّانِي، وَكَذَلِكَ فِي الْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا أَخَذَ صَاحِبُهُ مَنْفَعَةَ مُحَرَّمَةً فَلَا يُجْمَعُ لَهُ الْعِوَضُ وَالْمُعَوَّضُ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ إثْمًا مِنْ بَيْعِهِ فَإِذَا كَانَ لَا يَحِلُّ