الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَلَامَهُ حُرُوفُهُ وَمَعَانِيهِ وَمَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِهِ لَمْ تُفَارِقْ ذَاتَه فَالْعِلْمُ بِمِثْلِ هَذَا مِنْ كَلَامِ اللَّهِ أَوْلَى وَأَظْهَرُ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
[مَسْأَلَةٌ فِي رَجُلٍ قَالَ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا وَإِنَّمَا خَلَقَ الْكَلَامَ وَالصَّوْتَ فِي الشَّجَرَةِ]
1026 -
2 مَسْأَلَةٌ:
فِي رَجُلٍ قَالَ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسًى تَكْلِيمًا. وَإِنَّمَا خَلَقَ الْكَلَامَ وَالصَّوْتَ فِي الشَّجَرَةِ، وَمُوسَى عليه السلام سَمِعَ مِنْ الشَّجَرَةِ، لَا مِنْ اللَّهِ، وَإِنَّ اللَّهَ عز وجل لَمْ يُكَلِّمْ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا أَخَذَهُ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَهَلْ هُوَ عَلَى الصَّوَابِ أَمْ لَا؟
الْجَوَابُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَيْسَ هَذَا الصَّوَابَ، بَلْ هُوَ ضَالٌّ مُفْتَرٍ كَاذِبٌ بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا.
بَلْ هُوَ كَافِرٌ يَجِبُ أَنْ يُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَإِذَا قَالَ: لَا أُكَذِّبُ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] بَلْ أُقِرُّ بِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ حَقٌّ، لَكِنْ أَنْفِي مَعْنَاهُ وَحَقِيقَتَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ الْجَهْمِيَّةُ الَّذِينَ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ عَلَى أَنَّهُمْ مِنْ شَرِّ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ، حَتَّى أَخْرَجَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَنْ الِاثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً.
وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي الْإِسْلَامِ كَانَ يُقَالُ لَهُ: جَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ، فَضَحَّى بِهِ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ يَوْمَ أَضْحَى، فَإِنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ: ضَحُّوا أَيُّهَا النَّاسُ يَقْبَلْ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ، فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، إنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إبْرَاهِيمُ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى تَكْلِيمًا، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَعْدُ عُلُوًّا كَبِيرًا ثُمَّ نَزَلَ فَذَبَحَهُ وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ، فَشَكَرُوا ذَلِكَ.
وَأَخَذَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ عَنْهُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَقَتَلَهُ بِخُرَاسَانَ سَلَمَةُ بْنُ أَحْوَزَ، وَإِلَيْهِ نُسِبَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ الَّتِي تُسَمَّى مَقَالَةَ الْجَهْمِيَّةِ، وَهِيَ نَفْيُ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يُكَلِّمُ عِبَادَهُ وَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ، وَلَا حَيَاةٌ وَلَا قُدْرَةٌ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ وَيَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ.
وَوَافَقَ الْجَهْمَ عَلَى ذَلِكَ الْمُعْتَزِلَةُ أَصْحَابُ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدٍ، وَضَمُّوا إلَيْهَا أُخْرَى فِي الْقَدَرِ وَغَيْرِهِ لَكِنْ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى حَقِيقَةً، وَتَكَلَّمَ حَقِيقَةً،
لَكِنَّ حَقِيقَةَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ: إمَّا فِي شَجَرَةٍ وَإِمَّا فِي هَوَاءٍ وَإِمَّا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِذَاتِ اللَّهِ عِنْدَهُمْ كَلَامٌ، وَلَا عِلْمٌ، وَلَا قُدْرَةٌ، وَلَا رَحْمَةٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا حَيَاةٌ.
وَلَا شَيْءٌ مِنْ الصِّفَاتِ.
وَالْجَهْمِيَّةُ تَارَةً يَبُوحُونَ بِحَقِيقَةِ الْقَوْلِ فَتَقُولُ إنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَتَارَةً لَا يُظْهِرُونَ هَذَا اللَّفْظَ، لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّنَاعَةِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَيُقِرُّونَ بِاللَّفْظِ، وَلَكِنْ يَقُولُونَ بِأَنَّهُ خَلَقَ فِي غَيْرِهِ كَلَامًا، وَأَئِمَّةُ الدِّينِ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنْ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا؛ وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ لِلَّهِ عِلْمًا وَقُدْرَةً وَنَحْوَ ذَلِكَ وَنُصُوصُ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ مَشْهُورَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ، حَتَّى إنَّ أَبَا الْقَاسِمِ الطَّبَرِيَّ الْحَافِظَ لَمَّا ذَكَرَ فِي كِتَابِهِ فِي شَرْحِ أُصُولِ السُّنَّةِ مَقَالَاتِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي الْأُصُولِ، ذَكَرَ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَقَالَ هَؤُلَاءِ، خَمْسُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ نَفْسًا أَوْ أَكْثَرُ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَرَضِيِّينَ سِوَى الصَّحَابَةِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ وَمُضِيِّ السِّنِينَ وَالْأَعْوَامِ، وَفِيهِمْ نَحْوٌ مِنْ مِائَةِ إمَامٍ مِمَّنْ أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِهِمْ، وَتَذَهَّبُوا بِمَذَاهِبِهِمْ، وَلَوْ اشْتَغَلْت بِنَقْلِ قَوْلِ أَهْلِ الْحَدِيثِ لَبَلَغَتْ أَسْمَاؤُهُمْ أُلُوفًا، لَكِنِّي اخْتَصَرْت فَنَقَلْت عَنْ هَؤُلَاءِ عَصْرًا بَعْدَ عَصْرٍ.
لَا يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ مُنْكِرٌ، وَمَنْ أَنْكَرَ قَوْلَهُمْ اسْتَتَابُوهُ أَوْ أَمَرُوا بِقَتْلِهِ أَوْ نَفْيِهِ أَوْ حَبْسِهِ، قَالَ: وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ: جَعْدُ بْنُ دِرْهَمٍ فِي سَنَةِ نَيِّفٍ وَعِشْرِينَ وَمِائَةٍ ثُمَّ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ، فَأَمَّا جَعْدٌ فَقَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ، وَأَمَّا جَهْمٌ فَقُتِلَ بِمَرْوَ فِي خِلَافَةِ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
وَرُوِيَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه مِنْ وَجْهَيْنِ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ يَوْمَ صِفِّينَ حَكَّمْت رَجُلَيْنِ، فَقَالَ: مَا حَكَّمْت مَخْلُوقًا. مَا حَكَّمْت إلَّا الْقُرْآنَ.
وَعَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي جِنَازَةٍ، فَلَمَّا وُضِعَ الْمَيِّتُ فِي لَحْدِهِ قَامَ رَجُلٌ وَقَالَ: اللَّهُمَّ رَبَّ الْقُرْآنِ اغْفِرْ لِي، فَوَثَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَهْ الْقُرْآنُ مِنْهُ، وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: مَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ آيَةٍ يَمِينٌ، وَهَذَا ثَابِتٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ سَمِعْت عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ: أَدْرَكْت مَشَايِخَنَا وَالنَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، وَفِي لَفْظٍ يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ
كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَقَالَ حَرْبٌ الْكَرْمَانِيُّ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ يَعْنِي ابْنَ رَاهْوَيْهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: أَدْرَكْت النَّاسَ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً، أَدْرَكْت أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَنْ دُونَهُمْ يَقُولُونَ: اللَّهُ الْخَالِقُ، وَمَا سِوَاهُ مَخْلُوقٌ، إلَّا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، مِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ.
وَهَذَا قَدْ رَوَاهُ عَنْ ابْنِ عُيَيْنَةَ إِسْحَاقَ، وَإِسْحَاقَ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ عَنْهُ.
وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ أَنَّهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ الْقُرْآنِ أَخَالِقٌ هُوَ أَمْ مَخْلُوقٌ فَقَالَ: لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ، وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ وَخَلْقٍ مِنْ التَّابِعِينَ.
وَعَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ وَأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَكَلَامُ هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّةِ وَأَتْبَاعِهِمْ فِي كَثِيرٍ مَشْهُورٌ، بَلْ اشْتَهَرَ عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ تَكْفِيرُ مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَأَنَّهُ يُسْتَتَابُ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ، كَمَا ذَكَرُوا ذَلِكَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ.
وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ لِحَفْصٍ الْفَرْدِ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ ضِرَارِ بْنِ عَمْرٍو مِمَّنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَلَمَّا نَاظَرَ الشَّافِعِيَّ وَقَالَ لَهُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، قَالَ لَهُ الشَّافِعِيُّ كَفَرْت بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ، ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، قَالَ: كَانَ فِي كِتَابٍ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ حَضَرْت الشَّافِعِيَّ أَوْ حَدَّثَنِي أَبُو شُعَيْبٍ إلَّا أَنِّي أَعْلَمُ حَضَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ وَيُوسُفُ بْنُ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ، فَسَأَلَ حَفْصٌ: عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: مَا تَقُولُ فِي الْقُرْآنِ؟ فَأَبَى أَنْ يُجِيبَهُ، فَسَأَلَ، يُوسُفَ بْنَ عَمْرٍو فَلَمْ يُجِبْهُ، وَكِلَاهُمَا أَشَارَ إلَى الشَّافِعِيِّ فَسَأَلَ الشَّافِعِيَّ، فَاحْتَجَّ عَلَيْهِ وَطَالَتْ فِيهِ الْمُنَاظَرَةُ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ بِالْحُجَّةِ، بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَكَفَّرَ حَفْصًا الْفَرْدَ، قَالَ الرَّبِيعُ: فَلَقِيت حَفْصًا فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ هَذَا فَقَالَ: أَرَادَ الشَّافِعِيُّ قَتْلِي.
وَأَمَّا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ فَنُقِلَ عَنْهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ الرَّدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، وَاسْتَتَابَهُ، وَهَذَا الْمَشْهُورُ عَنْهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَصْحَابِهِ.
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ فِي الِاعْتِقَادِ الَّذِي قَالَ فِي
أَوَّلِهِ " ذِكْرُ بَيَانِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ " عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ أَبِي حَنِيفَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ، قَالَ فِيهِ: وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا، وَأَنْزَلَهُ عَلَى نَبِيِّهِ وَحْيًا، وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ، لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلَامِ الْبَرِّيَّةِ، فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلَامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ عَذَابَهُ، وَتَوَاعَدَهُ حَيْثُ قَالَ: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ سَقَرَ لِمَنْ قَالَ {إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25] عَلِمْنَا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ.
وَأَمَّا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فَكَلَامُهُ فِي مِثْلِ هَذَا مَشْهُورٌ مُتَوَاتِرٌ، وَهُوَ الَّذِي اشْتَهَرَ بِمِحْنَةِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْقَوْلَ بِإِنْكَارِ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَحَقَائِقِ أَسْمَائِهِ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ تَعْطِيلَ الْخَالِقِ سبحانه وتعالى، وَدَعَوْا النَّاسَ إلَى ذَلِكَ، وَعَاقَبُوا لِمَنْ لَمْ يُجِبْهُمْ إمَّا بِالْقَتْلِ، وَإِمَّا بِقَطْعِ الرِّزْقِ، وَإِمَّا بِالْعَزْلِ عَنْ الْوِلَايَةِ، وَإِمَّا بِالْحَبْسِ أَوْ الضَّرْبِ، وَكَفَّرُوا مَنْ خَالَفَهُمْ، فَثَبَّتَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِمَامَ أَحْمَدَ حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ بِهِ بَاطِلَهُمْ، وَنَصَرَ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ عَلَيْهِمْ، وَأَذَلَّهُمْ بَعْدَ الْعِزِّ، وَأَخْمَلَهُمْ بَعْدَ الشُّهْرَةِ، وَاشْتَهَرَ عِنْدَ خَوَاصِّ الْأُمَّةِ وَعَوَامِّهَا أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَإِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَنْ قَالَ إنَّهُ مَخْلُوقٌ فَقَدْ كَفَرَ.
وَأَمَّا إطْلَاقُ الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُكَلِّمْ مُوسَى، فَهَذِهِ مُنَاقِضَةٌ لِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَهَذَا بِلَا رَيْبٍ يُسْتَتَابُ؛ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ فَإِنَّهُ أَنْكَرَ نَصَّ الْقُرْآنِ؛ وَبِذَلِكَ أَفْتَى الْأَئِمَّةُ وَالسَّلَفُ فِي مِثْلِهِ؛ وَاَلَّذِي يَقُولُ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؛ هُوَ فِي الْمَعْنَى مُوَافِقٌ لَهُ فَلِذَلِكَ كَفَّرَهُ السَّلَفُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " خَلْقِ الْأَفْعَالِ " قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ قَالَ: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ مَنْ قَالَ {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} [طه: 14] مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَلَا يَنْبَغِي لِمَخْلُوقٍ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ، قَالَ: وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: لَا تَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّةُ إنَّهُ فِي الْأَرْضِ هَاهُنَا بَلْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ نَعْرِفُ رَبَّنَا؟ قَالَ: فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ. وَقَالَ:
مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ.
وَإِنَّا لَنَحْكِي كَلَامَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَحْكِيَ كَلَامَ الْجَهْمِيَّةِ قَالَ: وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ: أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ لِلَّهِ وَلَدًا أَكْفَرُ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يَتَكَلَّمُ.
قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي إدْرِيسَ يُسَمِّيهِمْ زَنَادِقَةُ الْعِرَاقِ، وَقِيلَ لَهُ: سَمِعْت أَحَدًا يَقُولُ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الزَّنَادِقَةُ.
قَالَ: وَقَالَ أَبُو الْوَلِيدِ: سَمِعْت يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ.
فَقَالَ: كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؟ كَيْفَ يَصْنَعُونَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} [طه: 14] قَالَ: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ: نَظَرْت فِي كَلَامِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوس، فَمَا رَأَيْت قَوْمًا أَضَلَّ فِي كُفْرِهِمْ مِنْهُمْ، وَإِنِّي لَأَسْتَجْهِلُ مَنْ لَا يُكَفِّرُهُمْ، إلَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ كُفْرَهُمْ.
قَالَ: وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُد الْهَاشِمِيُّ: مَنْ قَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ، وَإِنْ كَانَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقًا كَمَا زَعَمُوا فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى بِأَنْ يَخْلُدَ فِي النَّارِ إذْ قَالَ:{أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] وَزَعَمُوا أَنَّ هَذَا مَخْلُوقٌ، وَاَلَّذِي قَالَ:{إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] هَذَا أَيْضًا قَدْ ادَّعَى مَا ادَّعَى فِرْعَوْنُ فَلِمَ صَارَ فِرْعَوْنُ أَوْلَى أَنْ يَخْلُدَ فِي النَّارِ مِنْ هَذَا، وَكِلَاهُمَا عِنْدَهُ مَخْلُوقٌ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَبُو عُبَيْدٍ فَاسْتَحْسَنَهُ وَأَعْجَبَهُ.
وَمَعْنَى كَلَامِ هَؤُلَاءِ السَّلَفِ رضي الله عنهم أَنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، خَلَقَهُ فِي الشَّجَرَةِ أَوْ غَيْرِهَا كَمَا قَالَ هَذَا الْجَهْمِيُّ الْمُعْتَزِلِيُّ الْمَسْئُولُ عَنْهُ كَانَ حَقِيقَةُ قَوْلِهِ: إنَّ الشَّجَرَةَ هِيَ الَّتِي قَالَتْ لِمُوسَى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} [طه: 14] وَمَنْ قَالَ: إنَّ مَخْلُوقًا قَالَ ذَلِكَ، فَهَذَا الْمَخْلُوقُ عِنْدَهُ كَفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ:{أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24] كِلَاهُمَا مَخْلُوقٌ وَكِلَاهُمَا قَالَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ قَوْلُ فِرْعَوْنَ كُفْرًا فَقَوْلُ هَؤُلَاءِ أَيْضًا كُفْرٌ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ قَوْلَ هَؤُلَاءِ يَئُولُ إلَى قَوْلِ فِرْعَوْنَ
وَإِنْ كَانُوا لَا يَفْهَمُونَ ذَلِكَ، فَإِنَّ فِرْعَوْنَ كَذَّبَ مُوسَى فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّ رَبَّهُ هُوَ الْأَعْلَى، وَأَنَّهُ كَلَّمَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ - أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37] وَهُوَ قَدْ كَذَّبَ مُوسَى فِي أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ إذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ صَارَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ.
وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَضَلَالٌ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَنْطَقَ الْأَشْيَاءَ نُطْقًا مُعْتَادًا وَنُطْقًا خَارِجًا عَنْ الْمُعْتَادِ، قَالَ تَعَالَى:{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65] وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 20]{وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} [ص: 18] ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْحَصَى كَانَ يُسَبِّحُ فِي يَدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ الْحَجَرَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِنْ إنْطَاقِ الْجَمَادَاتِ.
فَلَوْ كَانَ إذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ كَانَ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ قَدْ كَلَّمَ مَنْ سَمِعَ هَذَا الْكَلَامَ، كَمَا كَلَّمَ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، فَكُلُّ نَاطِقٍ فَاَللَّهُ خَالِقٌ نُطْقَهُ وَكَلَامَهُ، فَلَوْ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِمَا خَلْفَهُ مِنْ الْكَلَامِ لَكَانَ كُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ، حَتَّى كَلَامِ إبْلِيسَ وَالْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ، وَهَذَا يَقُولُهُ غُلَاةُ الْجَهْمِيَّةِ كَابْنِ عَرَبِيٍّ وَأَمْثَالِهِ يَقُولُونَ:
وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ
…
سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
وَهَكَذَا أَشْبَاهُ هَؤُلَاءِ مِنْ غُلَاةِ الْمُشَبِّهَةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّينَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ يَجْعَلُونَ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ بِمَنْزِلَةِ كَلَامِ الْخَالِقِ، فَأُولَئِكَ يَجْعَلُونَ الْجَمِيعَ مَخْلُوقًا، وَأَنَّ الْجَمِيعَ كَلَامُ اللَّهِ،
وَهَؤُلَاءِ يَجْعَلُونَ الْجَمِيعَ كَلَامَ اللَّهِ، وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَلِهَذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ اتِّصَالٌ بَيْنَ شَيْخِ الْجَهْمِيَّةِ الْحُلُولِيَّةِ، وَشَيْخِ الْمُشَبِّهَةِ الْحُلُولِيَّةِ، وَبِسَبَبِ هَذِهِ الْبِدَعِ وَأَمْثَالِهَا مِنْ النَّكِرَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، سَلَّطَ اللَّهُ أَعْدَاءَ الدِّينِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41] .
وَأَيُّ مَعْرُوفٍ أَعْظَمُ مِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَأَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ؟ وَأَيُّ مُنْكَرٍ أَعْظَمُ مِنْ الْإِلْحَادِ فِي أَسْمَائِهِ وَآيَاتِهِ؟ الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يُقَالَ لِهَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ: مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ وَسَائِرِ الصِّفَاتِ، فَإِنَّمَا يَعُودُ حُكْمُهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ، لَا عَلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا خَلَقَ اللَّهُ فِي بَعْضِ الْأَجْسَامِ حَرَكَةً أَوْ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا أَوْ رِيحًا، كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَحَرِّكُ الْمُتَلَوِّنُ الْمُتَرَوِّحُ الْمَطْعُومُ، وَإِذَا خَلَقَ بِمَحَلٍّ حَيَاةً أَوْ عِلْمًا أَوْ قُدْرَةً أَوْ إرَادَةً أَوْ كَلَامًا، كَانَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ هُوَ الْحَيُّ الْعَالِمُ الْقَادِرُ الْمُرِيدُ الْمُتَكَلِّمُ، فَإِذَا خَلَقَ كَلَامًا فِي الشَّجَرَةِ أَوْ فِي غَيْرِهَا مِنْ الْأَجْسَامِ؛ كَانَ ذَلِكَ الْجِسْمُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِذَلِكَ الْكَلَامِ، كَمَا لَوْ خَلَقَ فِيهِ إرَادَةً وَحَيَاةً أَوْ عِلْمًا، وَلَا يَكُونُ اللَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ؛ كَمَا أَنَّهُ إذَا خَلَقَ فِيهِ حَيَاةً أَوْ قُدْرَةً أَوْ سَمْعًا أَوْ بَصَرًا فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ هُوَ الْحَيُّ بِهِ وَالْقَادِرُ بِهِ وَالسَّمِيعُ بِهِ؛ وَالْبَصِيرُ بِهِ؛ فَكَمَا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِفًا بِمَا خَلَقَهُ مِنْ الصِّفَاتِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ وَغَيْرِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ، فَلَا يَكُونُ هُوَ الْمُتَحَرِّكُ بِمَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ وَلَا الْمُصَوِّتُ بِمَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَصْوَاتِ، وَلَا سَمْعُهُ وَلَا بَصَرُهُ وَقُدْرَتُهُ مَا خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ مِنْ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْقُدْرَةِ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ كَلَامُهُ مَا خَلَقَهُ مَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْكَلَامِ، وَلَا يَكُونُ مُتَكَلِّمًا بِذَلِكَ الْكَلَامِ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ مِنْ مَعْنًى لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَإِنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ وَاسْمَ الْمَفْعُولِ وَالصِّفَةَ الْمُشَبَّهَةَ وَأَفْعَالَ التَّفْضِيلِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ مَعْنَاهَا دُونَ ثُبُوتِ مَعْنَى الْمَصْدَرِ الَّتِي هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْهُ، وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَحَرِّكٌ وَلَا مُتَكَلِّمٌ إلَّا بِحَرَكَةٍ وَكَلَامٍ، فَلَا يَكُونُ مُرِيدٌ إلَّا بِإِرَادَةٍ.
وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ عَالِمٌ إلَّا بِعِلْمٍ، وَلَا قَادِرٌ إلَّا بِقُدْرَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْمُشْتَقَّةُ مِنْ الْمَصْدَرِ إنَّمَا
يُسَمَّى بِهَا مَنْ قَامَ بِهِ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ، فَإِنَّهُ يُسَمَّى بِالْحَيِّ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَيَاةُ، وَبِالْمُتَحَرِّكِ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْحَرَكَةُ، وَبِالْعَالِمِ مَنْ قَامَ بِهِ الْعِلْمُ، وَبِالْقَادِرِ مَنْ قَامَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ.
فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ مُسَمَّى الْمَصْدَرِ فَيَمْتَنِعُ أَنْ يُسَمَّى بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَنَحْوِهِ مِنْ الصِّفَاتِ، وَهَذَا مَعْلُومٌ بِالِاعْتِبَارِ فِي جَمِيعِ النَّظَائِرِ، وَذَلِكَ أَنَّ اسْمَ الْفَاعِلِ وَنَحْوَهُ مِنْ الْمُشْتَقَّاتِ هُوَ مُرَكَّبٌ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ وَعَلَى الصِّفَةِ، وَالْمُرَكَّبُ يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُهُ بِدُونِ تَحَقُّقِ مُفْرَدَاتِهِ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقَّةِ، فَكَذَلِكَ فِي الْأَفْعَالِ، مِثْلُ تَكَلَّمَ وَكَلَّمَ وَيَتَكَلَّمُ وَيُكَلِّمُ، وَعَلِمَ وَيَعْلَمُ، وَسَمِعَ وَيَسْمَعُ، وَرَأَى وَيَرَى، وَنَحْوِ ذَلِكَ سَوَاءٌ قِيلَ إنَّ الْفِعْلَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمَصْدَرِ أَوْ الْمَصْدَرَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْفِعْلِ، لَا نِزَاعَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ فَاعِلَ الْفِعْلِ هُوَ فَاعِلُ الْمَصْدَرِ، فَإِذَا قِيلَ كَلَّمَ وَعَلِمَ أَوْ تَكَلَّمَ أَوْ تَعَلَّمَ، فَفَاعِلُ التَّكْلِيمِ وَالتَّعْلِيمِ هُوَ الْمُكَلِّمُ وَالْمُعَلِّمُ، وَكَذَلِكَ التَّعَلُّمُ وَالتَّكَلُّمُ، وَالْفَاعِلُ هُوَ الَّذِي قَامَ بِهِ الْمَصْدَرُ الَّذِي هُوَ التَّكْلِيمُ وَالتَّعْلِيمُ، وَالتَّكَلُّمُ وَالتَّعَلُّمُ، فَإِذَا قِيلَ تَكَلَّمَ فُلَانٌ، أَوْ كَلَّمَ فُلَانٌ فُلَانًا فَفُلَانٌ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ وَالْمُكَلِّمُ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وَقَوْلُهُ:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253] وَقَوْلُهُ: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143] يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُكَلِّمُ، فَكَمَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ: هُوَ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ، يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ كَلَّمَ بِكَلَامٍ قَائِمٍ بِغَيْرِهِ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُ الْجَهْمِيَّةَ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ كَلَامٍ خَلَقَهُ اللَّهُ كَلَامًا لَهُ، إذْ لَا مَعْنَى لِكَوْنِ الْقُرْآنِ كَلَامَ اللَّهِ إلَّا كَوْنُهُ خَلَقَهُ، وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ كَلَامًا وَلَوْ فِي غَيْرِهِ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِهِ عِنْدَهُمْ، وَلَيْسَ لِلْكَلَامِ عِنْدَهُمْ مَدْلُولٌ يَقُومُ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى لَوْ كَانَ مَدْلُولٌ قَائِمٌ يَدُلُّ لِكَوْنِهِ خَلَقَ صَوْتًا فِي مَحَلٍّ، وَالدَّلِيلُ يَجِبُ طَرْدُهُ.
فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ صَوْتٍ بِخَلْقِهِ لَهُ لِذَلِكَ، وَهُمْ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَكُونَ الصَّوْتُ الْمَخْلُوقُ عَلَى جَمِيعِ
الصِّفَاتِ، فَلَا يَبْقَى فَرْقٌ بَيْنَ الصَّوْتِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ عَلَى قَوْلِهِمْ، وَالصَّوْتُ الَّذِي لَيْسَ هُوَ بِكَلَامٍ.
الثَّانِي: أَنَّ الصِّفَةَ إذَا قَامَتْ بِمَحَلِّ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالْحَرَكَةِ عَادَ حُكْمُهُ إلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ، وَلَا يَعُودُ حُكْمُهُ إلَى غَيْرِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّ مُشْتَقَّ الْمَصْدَرِ مِنْهُ اسْمُ الْفَاعِلِ وَالصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يُشْتَقُّ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ بَيِّنٌ، وَهُوَ مَا يُبَيِّنُ قَوْلَ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ إنَّ مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ خَلَقَ كَلَامًا فِي غَيْرِهِ، لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ التَّكَلُّمِ عَائِدًا إلَى ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا إلَى اللَّهِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ وَكَّدَ تَكْلِيمَ مُوسَى بِالْمَصْدَرِ فَقَالَ: (تَكْلِيمًا) قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ: التَّوْكِيدُ بِالْمَصْدَرِ يَنْفِي الْمَجَازَ.
لِئَلَّا يُظَنَّ أَنَّهُ أَرْسَلَ غَيْرَهُ، مِمَّنْ لَمْ يُكَلِّمْهُ، وَقَالَ:{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا} [الشورى: 51] الْآيَةَ فَكَانَ تَكْلِيمُ مُوسَى مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَقَالَ: {يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144] وَقَالَ: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] إلَى قَوْلِهِ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] ، وَالْوَحْيُ هُوَ مَا نَزَّلَهُ عَلَى قُلُوبِ الْأَنْبِيَاءِ بِلَا وَاسِطَةٍ، فَلَوْ كَانَ تَكْلِيمُهُ لِمُوسَى إنَّمَا هُوَ صَوْتٌ خَلَقَهُ فِي الْهَوَاءِ لَكَانَ وَحْيُ الْأَنْبِيَاءِ أَفْضَلَ مِنْهُ، لِأَنَّ أُولَئِكَ عَرَفُوا الْمَعْنَى الْمَقْصُودَ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَمُوسَى إنَّمَا عَرَفَهُ بِوَاسِطَةٍ، وَلِهَذَا كَانَ غُلَاةُ الْجَهْمِيَّةِ مِنْ الِاتِّحَادِيَّةِ وَنَحْوِهِمْ يَدَّعُونَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ الْإِلْهَامِ أَفْضَلُ مِمَّا حَصَلَ لِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْكُفْرِ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَمَّا فَهِمَ السَّلَفُ حَقِيقَةَ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ الرِّسَالَةِ، فَإِنَّ الرُّسُلَ إنَّمَا بُعِثُوا لِيُبَلِّغُوا كَلَامَ اللَّهِ، بَلْ يَقْتَضِي تَعْطِيلَ التَّوْحِيدِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا حَيَاةٌ هُوَ كَالْمَوَاتِ، بَلْ مَنْ لَا يَقُومُ بِهِ الصِّفَاتُ فَهُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ، إذْ ذَاتٌ لَا صِفَةَ لَهَا إنَّمَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهَا فِي الذِّهْنِ لَا فِي الْخَارِجِ كَتَقْدِيرِ وُجُودٍ مُطْلَقٍ
لَا يَتَعَيَّنُ وَلَا يَتَخَصَّصُ.
فَكَانَ قَوْلُ هَؤُلَاءِ مُضَاهِيًا لِقَوْلِ الْمُتَفَلْسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ وُجُودَ الرَّبِّ وُجُودًا مُطْلَقًا بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا صِفَةَ لَهُ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُطْلَقَ بِشَرْطِ الْإِطْلَاقِ لَا يُوجَدُ إلَّا فِي الذِّهْنِ.
وَهَؤُلَاءِ الدَّهْرِيَّةُ يُنْكِرُونَ أَيْضًا حَقِيقَةَ تَكْلِيمِهِ لِمُوسَى، وَيَقُولُونَ إنَّمَا هُوَ فَيْضٌ فَاضَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ.
وَهَكَذَا يَقُولُونَ فِي الْوَحْيِ إلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقُرْآنَ قَوْلُ الْبَشَرِ، لَكِنَّهُ صَدَرَ عَنْ نَفْسٍ صَافِيَةٍ شَرِيفَةٍ، وَإِذَا كَانَ الْمُعْتَزِلَةُ خَيْرًا مِنْ هَؤُلَاءِ، وَقَدْ كَفَّرَ السَّلَفُ مَنْ يَقُولُ بِقَوْلِهِمْ، فَكَيْفَ هَؤُلَاءِ؟ وَكَلَامُ السَّلَفِ وَالْأُمَّةِ فِي مِثْلِ هَؤُلَاءِ لَا يُحْصَى، قَالَ حَرْبُ بْنُ إسْمَاعِيلُ الْكَرْمَانِيُّ: سَمِعْت إِسْحَاقَ بْنَ رَاهْوَيْهِ يَقُولُ: لَيْسَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتِلَافٌ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ.
وَكَيْفَ يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ الرَّبِّ عَزَّ ذِكْرُهُ مَخْلُوقًا.
وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالُوا لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا عِلْمُ اللَّهِ وَقُدْرَتُهُ وَمَشِيئَتُهُ مَخْلُوقَةٌ.
فَإِنْ قَالُوا ذَلِكَ لَزِمَهُمْ أَنْ يَقُولُوا كَانَ اللَّهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ وَلَا عِلْمَ وَلَا قُدْرَةَ وَلَا مَشِيئَةَ.
وَهُوَ الْكُفْرُ الْمَحْضُ الْوَاضِحُ.
لَمْ يَزَلْ اللَّهُ عَالِمًا مُتَكَلِّمًا لَهُ الْمَشِيئَةُ وَالْقُدْرَةُ فِي خَلْقِهِ.
وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ.
فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَافِرٌ.
وَقَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ شَيْئًا مِنْ اللَّهِ مَخْلُوقٌ.
فَقِيلَ لَهُ مِنْ أَيْنَ قُلْت هَذَا؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] وَلَا يَكُونُ مِنْ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ.
وَهَذَا الْقَوْلُ قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ.
لَيْسَ بِبَائِنٍ مِنْهُ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ مِنْهُ بَدَأَ وَمِنْهُ خَرَجَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ.
كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إنَّكُمْ لَنْ تَرْجِعُوا إلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِمَّا خَرَجَ مِنْهُ» .
يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَبِي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه لِأَصْحَابِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ لَمَّا سَمِعَ قُرْآنَ
مُسَيْلِمَةَ: " وَيْحَكُمْ أَيْنَ يَذْهَبُ بِعُقُولِكُمْ، إنَّ هَذَا كَلَامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ آنٍ "، أَيْ مِنْ رَبٍّ.
وَلَيْسَ مَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ إنَّهُ مِنْهُ خَرَجَ وَمِنْهُ بَدَأَ: أَنَّهُ فَارَقَ ذَاتَه وَحَلَّ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ كَلَامَ الْمَخْلُوقِ إذَا تَكَلَّمَ بِهِ لَا يُفَارِقُ ذَاتَه وَيَحِلُّ بِغَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ كَلَامَ اللَّهِ قَالَ تَعَالَى:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلا كَذِبًا} [الكهف: 5] فَقَدْ أَخْبَرَ أَنَّ الْكَلِمَةَ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ تُفَارِقْ ذَاتَهمْ.
وَأَيْضًا فَالصِّفَةُ لَا تُفَارِقُ الْمَوْصُوفَ وَتَحِلُّ بِغَيْرِهِ، لَا صِفَةُ الْخَالِقِ وَلَا صِفَةُ الْمَخْلُوقِ، وَالنَّاسُ إذَا سَمِعُوا كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بَلَّغُوهُ عَنْهُ، كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي بَلَّغُوهُ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ بَلَّغُوهُ بِحَرَكَاتِهِمْ وَأَصْوَاتِهِمْ، فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ فَالْكَلَامُ كَلَامُ الْبَارِي، وَالصَّوْتُ صَوْتُ الْقَارِئِ، قَالَ تَعَالَى:{وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] .
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» .
وَلَكِنَّ مَقْصُودَ السَّلَفِ الرَّدُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ خَلَقَهُ اللَّهُ فِي غَيْرِهِ فَيَكُونُ قَدْ ابْتَدَأَ وَخَرَجَ مِنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ الَّذِي خَلَقَ فِيهِ لَا مِنْ اللَّهِ، كَمَا يَقُولُونَ كَلَامُهُ لِمُوسَى خَرَجَ مِنْ الشَّجَرَةِ، فَبَيَّنَ السَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ أَنَّ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّهِ بَدَأَ وَخَرَجَ، وَذَكَرُوا قَوْلَهُ:{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] .
فَأَخْبَرَ أَنَّ الْقَوْلَ مِنْهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ، " وَمِنْ " هِيَ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَجْرُورُ بِهَا عَيْنًا يَقُومُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ صِفَةً لِلَّهِ كَقَوْلِهِ:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] ، وَقَوْلُهُ فِي الْمَسِيحِ رُوحٌ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا يَقُومُ بِالْأَعْيَانِ كَقَوْلِهِ:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53] .
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَجْرُورُ بِهَا صِفَةً وَلَمْ يُذْكَرْ لَهَا مَحَلٌّ كَانَ صِفَةً لِلَّهِ كَقَوْلِهِ: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} [السجدة: 13] ، وَلِذَلِكَ قَدْ أَخْبَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ الْقُرْآنِ نَزَلَ مِنْهُ، وَأَنَّهُ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ مِنْهُ، رَدَّ عَلَى هَذَا الْمُبْتَدِعِ الْمُفْتَرِي وَأَمْثَالِهِ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى:{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 114] .
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102] .
وَرُوحُ الْقُدُسِ هُوَ جِبْرِيلُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ - عَلَى قَلْبِكَ} [الشعراء: 193 - 194] وَقَالَ: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 97]، وَقَالَ هُنَا:{نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ} [النحل: 102] ، فَبَيَّنَ أَنَّ جِبْرِيلَ نَزَّلَهُ مِنْ اللَّهِ لَا مِنْ هَوَاهُ وَلَا مِنْ لَوْحٍ وَلَا مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ سَائِرُ آيَاتِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1] .
وَقَوْلِهِ: {حم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر: 1 - 2]، وَقَوْلِهِ:{حم - تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1 - 2]، وَقَوْلِهِ:{الم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة: 1 - 2] وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] .
فَقَدْ بَيَّنَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ اللَّهِ، فَمَنْ قَالَ إنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ بَعْضِ
الْمَخْلُوقَاتِ كَاللَّوْحِ أَوْ الْهَوَاءِ فَهُوَ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ، مُكَذِّبٌ لِكِتَابِ اللَّهِ، مُتَّبِعٌ لِغَيْرِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ.
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنَ مَا نَزَّلَهُ مِنْهُ، وَمَا نَزَّلَهُ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالْمَطَرِ بِأَنَّهُ قَالَ:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [الرعد: 17] ، فَذَكَرَ الْمَطَرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَزَّلَهُ مِنْ السَّمَاءِ، وَالْقُرْآنُ أَخْبَرَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْهُ، وَأَخْبَرَ بِتَنْزِيلٍ مُطْلَقٍ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ:{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25] لِأَنَّ الْحَدِيدَ يَنْزِلُ مِنْ رُءُوسِ الْجِبَالِ لَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ، وَكَذَلِكَ أَنْزَلَ الْحَيَوَانَ، فَإِنَّ الذَّكَرَ يُنْزِلُ الْمَاءَ فِي الْإِنَاثِ، فَلَمْ يَقُلْ فِيهِ مِنْ السَّمَاءِ.
وَلَوْ كَانَ جِبْرِيلُ أَخَذَ الْقُرْآنَ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَكَانَ الْيَهُودُ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ لِمُوسَى التَّوْرَاةَ وَأَنْزَلَهَا مَكْتُوبَةً، فَيَكُونُ بَنُو إسْرَائِيلَ قَدْ قَرَءُوا الْأَلْوَاحَ الَّتِي كَتَبَهَا اللَّهُ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهُ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَمُحَمَّدٌ أَخَذَهُ عَنْ جِبْرِيلَ عَنْ اللَّوْحِ،، فَيَكُونُ بَنُو إسْرَائِيلَ بِمَنْزِلَةِ جِبْرِيلَ، وَتَكُونُ مَنْزِلَةُ بَنِي إسْرَائِيلَ أَرْفَعَ مِنْ مَنْزِلَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ الْجَهْمِيَّةِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ مِنْ فَضَائِلِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، وَأَنَّهُ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ تِلَاوَةً لَا كِتَابَةً، وَفَرَّقَهُ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِ ذَلِكَ فَقَالَ:{وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلا} [الإسراء: 106] وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا} [الفرقان: 32] .
ثُمَّ إنْ كَانَ جِبْرِيلُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنْ اللَّهِ، وَإِنَّمَا وَجَدَهُ مَكْتُوبًا، كَانَتْ الْعِبَارَةُ عِبَارَةَ جِبْرِيلَ، وَكَانَ الْقُرْآنُ كَلَامَ جِبْرِيلَ، تَرْجَمَ بِهِ عَنْ اللَّهِ، كَمَا يُتَرْجَمُ عَنْ الْأَخْرَسِ الَّذِي كَتَبَ كَلَامًا وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، وَهَذَا خِلَافُ دِينِ الْمُسْلِمِينَ.
وَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19]{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] قِيلَ لَهُ: فَقَدْ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى:
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40]{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ} [الحاقة: 41]{وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 42] ، فَالرَّسُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جِبْرِيلُ، وَالرَّسُولُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى مُحَمَّدٌ.
فَلَوْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّ الرَّسُولَ أَحْدَثَ عِبَارَتَهُ لَتَنَاقَضَ الْخَبَرَانِ.
فَعُلِمَ أَنَّهُ أَضَافَهُ إلَيْهِ إضَافَةَ تَبْلِيغٍ لَا إضَافَةَ إحْدَاثٍ، وَلِهَذَا قَالَ:{لَقَوْلُ رَسُولٍ} [الحاقة: 40] ، وَلَمْ يَقُلْ مَلَكٍ وَلَا نَبِيٍّ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَهُ، كَمَا قَالَ:{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْمَوْسِمِ وَيَقُولُ:«أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلُنِي إلَى قَوْمِهِ لِأُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي. فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي» .
وَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {الم} [الروم: 1]{غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم: 2] خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ. فَقَالُوا: هَذَا كَلَامُك أَمْ كَلَامُ صَاحِبِك؟ فَقَالَ: لَيْسَ بِكَلَامِي وَلَا كَلَامِ صَاحِبِي. وَلَكِنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ.
وَإِنْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2]، قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الْآيَةُ حُجَّةٌ عَلَيْك.
فَإِنَّهُ لَمَّا قَالَ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] عُلِمَ أَنَّ الذِّكْرَ مِنْهُ مُحْدَثٌ.
وَمِنْهُ مَا لَيْسَ بِمُحْدَثٍ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إذَا وُصِفَتْ مَيَّزَتْهَا بَيْنَ الْمَوْصُوفِ وَغَيْرِهِ.
كَمَا لَوْ قَالَ: مَا يَأْتِينِي مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمٍ إلَّا أَكْرَمْته.
وَمَا آكُلُ إلَّا طَعَامًا حَلَالًا وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُحْدَثَ فِي الْآيَةِ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقُ الَّذِي يَقُولُهُ الْجَهْمِيُّ.
وَلَكِنَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ جَدِيدًا.
فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ يُنَزِّلُ الْقُرْآنَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.
فَالْمُنَزَّلُ أَوَّلًا هُوَ قَدِيمٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُنَزَّلِ آخِرًا.
وَكُلُّ مَا تَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ قَدِيمٌ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ.
كَمَا قَالَ: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] وَقَالَ: