الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالثَّانِي: تَنْزِيلُهُ إلَى خَلْقِهِ.
وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، وَبَيَّنَّا مَقَالَاتِ أَهْلِ الْأَرْضِ كُلِّهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ.
وَمَا دَخَلَ فِي ذَلِكَ مِنْ الِاشْتِبَاهِ، وَمَأْخَذَ كُلِّ طَائِفَةٍ.
وَمَعْنَى قَوْلِ السَّلَفِ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَأَنَّهُمْ قَصَدُوا بِهِ إبْطَالَ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَقُمْ بِذَاتِهِ كَلَامٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ: كَلَامُ اللَّهِ مِنْ اللَّهِ لَيْسَ بِبَائِنٍ مِنْهُ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى السُّنَّةِ؛ هَلْ يَتَعَلَّقُ الْكَلَامُ بِمَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ أَمْ لَا؛ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ: لَمْ يَزَلْ اللَّهُ مُتَكَلِّمًا إذَا شَاءَ، وَإِنَّ قَوْلَ السَّلَفِ: مِنْهُ بَدَأَ لَمْ يُرِيدُوا أَنَّهُ فَارَقَ ذَاتَه وَحَلَّ فِي غَيْرِهِ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُفَارِقَ ذَاتَ اللَّهِ كَلَامُهُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ صِفَاتِهِ، بَلْ قَالُوا مِنْهُ بَدَأَ أَيْ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، رَدًّا عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ الَّذِينَ قَالُوا: بَدَأَ مِنْ الْمَخْلُوقِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ.
وَقَوْلُهُمْ " إلَيْهِ يَعُودُ " أَيْ عِلْمُهُ، فَلَا يَبْقَى فِي الْمَصَاحِفِ مِنْهُ حَرْفٌ؛ وَلَا فِي الصُّدُورِ مِنْهُ آيَةٌ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا جَوَابُ مَسَائِلِ السَّائِلِ.
[فَصْلٌ قَوْلُ الْقَائِلِ أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ]
فَصْلٌ وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: أَنْتُمْ تَعْتَقِدُونَ أَنَّ مُوسَى سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ مِنْهُ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ. وَتَقُولُونَ إنَّ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ كَلَامُ اللَّهِ حَقِيقَةً، وَتَسْمَعُونَهُ مِنْ وَسَائِطَ بِأَصْوَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ ذَلِكَ.
فَيُقَالُ لَهُ: بَيْنَ هَذَا وَهَذَا مِنْ الْفَرْقِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ الْقِدَمِ وَالْفَرْقِ فَإِنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يُمَيِّزُ بَيْنَ سَمَاعِ كَلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ كَسَمَاعِ الصَّحَابَةِ مِنْهُ، وَبَيْنَ سَمَاعِهِ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِينَ عَنْهُ كَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَكُلِّ مَنْ يَسْمَعُ كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَ شِعْرَ حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الشُّعَرَاءِ مِنْهُ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَمَنْ سَمِعَهُ مِنْ الرُّوَاةِ عَنْهُ؛ يَعْلَمُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، وَهُوَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ شِعْرُ حَسَّانَ لَا شِعْرُ غَيْرِهِ، وَالْإِنْسَانُ إذَا تَعَلَّمَ شِعْرَ غَيْرِهِ، فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّاعِرَ أَنْشَأَ مَعَانِيَهُ وَنَظَمَ حُرُوفَهُ بِالْأَصْوَاتِ الْمُقَطَّعَةِ يَرْوِيهِ بِحَرَكَةِ نَفْسِهِ وَأَصْوَاتِ نَفْسِهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفَرْقُ مَعْقُولًا فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ، بَيْنَ
سَمَاعِ الْكَلَامِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ بِهِ ابْتِدَاءً، وَسَمَاعِهِ بِوَاسِطَةِ الرَّاوِي عَنْهُ أَوْ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ.
فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ ذَلِكَ فِي سَمَاعِ كَلَامِ اللَّهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَسْمُوعَ مِنْ الْقُرَّاءِ هُوَ صَوْتُ الرَّبِّ، فَهُوَ إلَى تَأْدِيبِ الْمَجَانِين أَقْرَبُ مِنْهُ إلَى خِطَابِ الْعُقَلَاءِ، وَكَذَلِكَ مَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الصَّوْتَ قَدِيمٌ، وَأَنَّ الْمُرَادَ قَدِيمٌ، فَهَذَا لَا يَقُولُهُ ذُو حِسٍّ سَلِيمٍ، بَلْ مَا بُيِّنَ لِوَحْيِ الْمُصْحَفِ كَلَامُ اللَّهِ، وَكَلَامُ اللَّهِ ثَابِتٌ فِي مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، لَا كَلَامُ غَيْرِهِ، فَمَنْ قَالَ إنَّ الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ بَلْ كَلَامَ غَيْرِهِ فَهُوَ مُلْحِدٌ مَارِقٌ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ فَارَقَ ذَاتَه، وَانْتَقَلَ إلَى غَيْرِهِ، كَمَا كُتِبَ فِي الْمَصَاحِفِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ، فَهُوَ أَيْضًا مَارِقٌ، بَلْ كَلَامُ الْمَخْلُوقِينَ يُكْتَبُ فِي الْأَوْرَاقِ وَهُوَ لَمْ يُفَارِقْ ذَوَاتَهمْ.
فَكَيْفَ لَا يُعْقَلُ مِثْلُ هَذَا فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالشُّبْهَةُ تَنْشَأُ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُطْلَقِ مِنْ الْكَلَامِ وَالْمُقَيَّدِ.
مِثَالُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ رَأَيْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْهِلَالَ إذَا رَآهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ الْمُطْلَقَةُ؛ وَقَدْ يَرَاهُ فِي مَاءٍ أَوْ مِرْآةٍ؛ فَهَذِهِ رُؤْيَةٌ مُقَيَّدَةٌ؛ فَإِذَا أَطْلَقَ قَوْلَهُ رَأَيْته، أَوْ مَا رَأَيْته، حُمِلَ عَلَى مَفْهُومِ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ، وَإِذَا قَالَ لَقَدْ رَأَيْت الشَّمْسَ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ، فَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحٌ مَعَ التَّقْيِيدِ، وَاللَّفْظُ يَخْتَلِفُ مَعْنَاهُ بِالْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ، فَإِذَا وَصَلَ بِالْكَلَامِ مَا يُغَيِّرُ مَعْنَاهُ كَالشَّرْطِ وَالِاسْتِثْنَاءِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ التَّخْصِيصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ، كَقَوْلِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا، كَانَ هَذَا الْمَجْمُوعُ دَالًّا عَلَى تِسْعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً بِطُرُقِ الْحَقِيقَةِ عِنْدَ جَمَاهِيرِ النَّاسِ.
وَمَنْ قَالَ: إنَّ هَذَا مَجَازٌ فَقَدْ غَلِطَ؛ فَإِنَّ هَذَا الْمَجْمُوعَ لَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ؛ وَمَا يُقْرَنُ بِاللَّفْظِ مِنْ الْقَرَائِنِ اللَّفْظِيَّةِ الْمَوْضُوعَةِ هِيَ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ.
وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الْكَلَامُ مَعَهَا مَعْنَيَيْنِ.
وَلَا يَجُوزُ نَفْيُ مَفْهُومِهِمَا، بِخِلَافِ اسْتِعْمَالِ نَفْيِ الْأَسَدِ فِي الرَّجُلِ الشُّجَاعِ مَعَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ هَذَا اللَّفْظُ حَقِيقَةٌ.
وَهَذَا مَجَازٌ.
نِزَاعٌ لَفْظِيٌّ. وَهُوَ مُسْتَنَدُ مَنْ أَنْكَرَ الْمَجَازَ فِي اللُّغَةِ وَفِي الْقُرْآنِ.
وَلَمْ يَنْطِقْ بِهَذَا أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ.
وَلَمْ يُعْرَفْ لَفْظُ الْمَجَازِ فِي كَلَامِ أَحَدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ إلَّا فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
فَإِنَّ فِيمَا كَتَبَهُ مِنْ الرَّدِّ عَلَى الزَّنَادِقَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ هَذَا مِنْ مَجَازِ الْقُرْآنِ.
وَأَوَّلُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مُطْلَقًا أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى فِي كِتَابِهِ الَّذِي صَنَّفَهُ فِي مَجَازِ الْقُرْآنِ.
ثُمَّ إنَّ هَذَا كَانَ مَعْنَاهُ عِنْدَ الْأَوَّلِينَ مِمَّا يَجُوزُ فِي اللُّغَةِ وَيَسُوغُ فَهُوَ مُشْتَقٌّ عِنْدَهُمْ مِنْ الْجَوَازِ كَمَا يَقُولُ الْفُقَهَاءُ " عَقْدٌ لَازِمٌ " وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ جَعَلَهُ مِنْ الْجَوَازِ الَّذِي هُوَ الْعُبُورُ مِنْ مَعْنَى الْمَجَازِ.
ثُمَّ إنَّهُ لَا رَيْبَ أَنَّ الْمَجَازَ قَدْ يَشِيعُ وَيَشْتَهِرُ حَتَّى يَصِيرَ الْمَقْصُودَ، فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: رَأَيْت الشَّمْسَ أَوْ الْقَمَرَ أَوْ الْهِلَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فِي الْمَاءِ وَالْمِرْآةِ، فَالْعُقَلَاءُ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الرُّؤْيَةِ، وَبَيْنَ رُؤْيَةِ ذَلِكَ بِلَا وَاسِطَةٍ، وَإِذَا قَالَ قَائِلٌ: مَا رَأَى ذَلِكَ بَلْ رَأَى مِثَالَهُ أَوْ خَيَالَهُ أَوْ الشُّعَاعَ الْمُنْعَكِسَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ هَذَا مَانِعًا لِمَا يَعْلَمُهُ النَّاسُ وَيَقُولُونَهُ مِنْ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْمِرْآةِ، وَهَذِهِ الرُّؤْيَةُ فِي الْمَاءِ أَوْ الْمِرْآةِ حَقِيقَةٌ مُقَيَّدَةٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:«مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي حَقًّا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي» .
هُوَ كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم رَآهُ حَقًّا، فَمَنْ قَالَ رَآهُ فِي الْمَنَامِ حَقًّا فَقَدْ أَخْطَأَ، وَمَنْ قَالَ إنَّ رُؤْيَتَهُ فِي الْيَقِظَةِ بِلَا وَاسِطَةٍ كَالرُّؤْيَةِ الْمُقَيَّدَةِ فِي النَّوْمِ فَقَدْ أَخْطَأَ، وَلِهَذَا يَكُونُ لِهَذِهِ تَأْوِيلٌ وَتَعْبِيرٌ دُونَ تِلْكَ.
وَكَذَلِكَ مَا سَمِعَهُ مِنْهُ مِنْ الْكَلَامِ فِي الْمَنَامِ هُوَ سَمَاعٌ مِنْهُ فِي الْمَنَامِ.
وَلَيْسَ هَذَا كَالسَّمَاعِ مِنْهُ فِي الْيَقِظَةِ، وَقَدْ يَرَى الرَّائِي الْمَنَامَ أَشْخَاصًا وَيُخَاطِبُونَهُ، وَالْمَرْئِيُّونَ لَا شُعُورَ لَهُمْ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا رَأَى أَمْثَالَهُمْ، وَلَكِنْ يُقَالُ رَآهُمْ فِي الْمَنَامِ حَقِيقَةً، فَيَحْتَرِزُ بِذَلِكَ عَنْ الرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ حَدِيثُ النَّفْسِ، فَإِنَّ الرُّؤْيَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: رُؤْيَا بُشْرَى مِنْ اللَّهِ، وَرُؤْيَا تَحْزِينٍ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَرُؤْيَا مِمَّا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فِي الْيَقِظَةِ فَيَرَاهُ فِي الْمَنَامِ.
وَقَدْ ثَبَتَ هَذَا التَّقْسِيمُ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَتِلْكَ الرُّؤْيَا يَظْهَرُ لِكُلٍّ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْيَقِظَةِ مَا لَا يَظْهَرُ فِي غَيْرِهَا، فَكَمَا أَنَّ الرُّؤْيَةَ تَكُونُ مُطْلَقَةً، وَتَكُونُ بِوَاسِطَةِ الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ الْمَرْئِيَّ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمِرْآةِ، فَإِذَا كَانَتْ كَبِيرَةً مُسْتَدِيرَةً رَأَى كَذَلِكَ، فَذَلِكَ فِي السَّمَاعِ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ غَيْرِهِ مِنْهُ، وَمَنْ سَمِعَهُ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ، فَفِي الْمَوْضِعَيْنِ
الْمَقْصُودُ سَمَاعُ كَلَامِهِ، كَمَا أَنَّ هُنَاكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ يَقْصِدُونَهُ، لَكِنْ إذَا كَانَ بِوَاسِطَةٍ اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ الْوَاسِطَةِ، فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَصْوَاتِ الْمُبَلِّغِينَ كَمَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَرَايَا.
قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] ، فَجَعَلَ التَّكْلِيمَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ الْوَحْيُ الْمُجَرَّدُ، وَالتَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَمَا كُلِّمَ مُوسَى عليه السلام، وَالتَّكْلِيمُ بِوَاسِطَةِ إرْسَالِ الرَّسُولِ، كَمَا كُلِّمَ الرُّسُلُ بِإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ، وَكَمَا نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُنَافِقِينَ بِإِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ، وَنَهَاهُمْ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ وَأَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ الْقُرْآنِ فَأَمْرُهُ وَنَهْيُهُ وَإِخْبَارُهُ بِوَاسِطَةٍ الرَّسُولِ، فَهَذَا الْمَعْنَى أَوْجَبَ الشُّبْهَةَ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ، وَيُخْبِرُ عَنْ رَبِّهِ، وَيَحْكِي عَنْ رَبِّهِ، فَهَذَا يَذْكُرُ مَا يَذْكُرُهُ عَنْ رَبِّهِ مِنْ كَلَامِهِ الَّذِي قَالَهُ رَاوِيًا حَاكِيًا عَنْهُ.
فَلَوْ قَالَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ حِكَايَةٌ إنَّ مُحَمَّدًا حَكَاهُ عَنْ اللَّهِ كَمَا يُقَالُ بَلَّغَهُ عَنْ اللَّهِ وَأَدَّاهُ عَنْ اللَّهِ لَكَانَ قَدْ قَصَدَ مَعْنًى صَحِيحًا، لَكِنْ يَقْصِدُونَ مَا يَقْصِدُهُ الْقَائِلُ بِقَوْلِهِ: فُلَانٌ يَحْكِي فُلَانًا أَيْ يَفْعَلُ مِثْلَ فِعْلِهِ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَكَلَّمُ بِمِثْلِ كَلَامِ اللَّهِ، فَهَذَا بَاطِلٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] .
وَنُكْتَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْحَقِيقَةِ الْمَقْصُودَةِ لَا بِالْوَسَائِلِ الْمَطْلُوبَةِ لِغَيْرِهَا، فَلَمَّا كَانَ مَقْصُودُ الرَّائِي أَنْ يَرَى الْوَجْهَ مَثَلًا فَرَآهُ بِالْمِرْآةِ حَصَلَ مَقْصُودُهُ، وَقَالَ رَأَيْت الْوَجْهَ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ انْعِكَاسِ الشُّعَاعِ فِي الْمِرْآةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يَسْمَعَ الْقَوْلَ الَّذِي قَالَهُ غَيْرُهُ أَلَّفَ أَلْفَاظَهُ وَقَصَدَ مَعَانِيَهُ، فَإِذَا سَمِعَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَإِنْ كَانَ سَمَاعُهُ مِنْ غَيْرِهِ هُوَ بِوَاسِطَةِ صَوْتِ ذَلِكَ الْغَيْرِ بِاخْتِلَافِ الصَّائِتَيْنِ وَالْقُلُوبِ، وَإِنَّمَا أُشِيرَ إلَى الْمَقْصُودِ لَا إلَى مَا ظَهَرَ بِهِ الْمَقْصُودُ، كَمَا فِي الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى، فَإِنَّ الْقَائِلَ إذَا قَالَ: جَاءَ زَيْدٌ وَذَهَبَ عَمْرٌو لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ الْإِخْبَارَ بِالْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانُ هُوَ لَفْظُ زَيْدٍ وَلَفْظُ عَمْرٍو وَإِلَّا كَانَ مُبْطِلًا، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ الْقَائِلُ هَذَا
كَلَامُ اللَّهِ، وَكَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَالْمَقْصُودُ بِوَاسِطَةِ حَرَكَةِ التَّالِي وَصَوْتِهِ، فَمَنْ ظَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ صَوْتُ الْقَارِئِ وَحَرَكَتُهُ كَانَ مُبْطِلًا.
وَلِهَذَا لَمَّا قَرَأَ أَبُو طَالِبٍ الْمَكِّيُّ عَلَى الْإِمَامِ أَحْمَدَ رضي الله عنه: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، وَسَأَلَهُ هَلْ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ وَهَلْ هُوَ مَخْلُوقٌ؟ فَأَجَابَهُ: كَلَامُ اللَّهِ وَهُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
وَنَقَلَ عَنْهُ أَبُو طَالِبٍ خَطَأً مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
فَاسْتَدْعَاهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَقَالَ: أَنَا قُلْت لَك لَفْظِي بِالْقُرْآنِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنْ قَرَأْت عَلَيْك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَقُلْت لَك هَذَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ، فَقُلْت: نَعَمْ.
قَالَ: فَلِمَ تَحْكِي عَنِّي مَا لَمْ أَقُلْ؟ لَا تَقُلْ هَذَا.
فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَقُلْهُ عَالِمٌ.
وَقِصَّتُهُ مَشْهُورَةٌ حَكَاهَا عَبْدُ اللَّهِ، وَصَالِحٌ، وَحَنْبَلٌ، وَالْمَرْوَزِيُّ، وَثَوْبَانُ.
وَبَسَطَهَا الْخَلَّالُ فِي كِتَابِ السُّنَّةِ، وَصَنَّفَ الْمَرْوَزِيِّ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ مُصَنَّفًا ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ الْأَئِمَّةِ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَحْمَدُ مِنْ أَحْسَنِ الْكَلَامِ وَأَدَقِّهِ فَإِنَّ الْإِشَارَةَ إذَا أُطْلِقَتْ انْصَرَفَتْ إلَى الْمَقْصُودِ.
وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ.
لَا مَا وَصَلَ بِهِ إلَيْنَا مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ.
فَإِذَا قِيلَ لَفْظِي جَعَلَ نَفْسَ الْوَسَائِطِ غَيْرَ مَخْلُوقَةٍ.
وَهَذَا بَاطِلٌ كَمَا أَنْ رَأَى رَاءٍ فِي مِرْآةٍ فَقَالَ أَكْرَمَ اللَّهُ هَذَا الْوَجْهَ وَحَيَّاهُ أَوْ قَبَّحَهُ كَانَ دُعَاؤُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَوْجُودِ فِي الْحَقِيقَةِ الَّذِي رَأَى بِوَاسِطَةِ الْمِرْآةِ لَا عَلَى الشُّعَاعِ الْمُنْعَكِسِ فِيهَا، وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى الْقَمَرَ فِي الْمَاءِ فَقَالَ قَدْ أَبْدَرَ، فَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ الْقَمَرُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ لَا خَيَالُهُ وَكَذَلِكَ مَنْ سَمِعَهُ يَذْكُرُ رَجُلًا فَقَالَ هَذَا رَجُلٌ صَالِحٌ أَوْ رَجُلٌ فَاسِقٌ، عُلِمَ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ هُوَ الشَّخْصُ الْمُسَمَّى بِالِاسْمِ، لَا نَفْسُ الصَّوْتِ الْمَسْمُوعِ مِنْ النَّاطِقِ، فَلَوْ قَالَ: هَذَا الصَّوْتُ أَوْ صَوْتُ فُلَانٍ صَالِحٌ أَوْ فَاسِقٌ فَسَدَ الْمَعْنَى.
وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، كَرَجُلٍ ضَرَبَ رَجُلًا وَعَلَيْهِ فَرْوَةٌ فَأَوْجَعَهُ بِالضَّرْبِ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَضْرِبْنِي، فَقَالَ: أَنَا مَا أَضْرِبُك وَإِنَّمَا أَضْرِبُ الْفَرْوَةَ، فَقَالَ: إنَّمَا الضَّرْبُ يَقَعُ عَلَيَّ، فَقَالَ: هَكَذَا إذَا قُلْت لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، فَالْخَلْقُ إنَّمَا يَقَعُ عَلَى الْقُرْآنِ.
يَقُولُ: كَمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالضَّرْبِ بَدَنُك.
وَاللِّبَاسَ وَاسِطَةٌ.
فَهَكَذَا الْمَقْصُودُ
بِالتِّلَاوَةِ كَلَامُ اللَّهِ.
وَصَوْتُك وَاسِطَةٌ، فَإِذَا قُلْت " مَخْلُوقٌ " وَقَعَ ذَلِكَ عَلَى الْمَقْصُودِ.
كَمَا إذَا سَمِعْت قَائِلًا يَذْكُرُ رَجُلًا فَقُلْت أَنَا أُحِبُّ هَذَا، وَأَنَا أَبْغَضُ هَذَا، انْصَرَفَ الْكَلَامُ إلَى الْمُسَمَّى الْمَقْصُودِ بِالِاسْمِ، لَا إلَى الصَّوْتِ الذَّاكِرِ، وَلِهَذَا قَالَ الْأَئِمَّةُ: الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.
كَيْفَمَا تَصَرَّفَ، خِلَافُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ.
فَإِنَّهُ مَنْ نَفَى عَنْهَا الْخَلْقَ كَانَ مُبْتَدِعًا ضَالًّا.
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: يَقُولُونَ: إنَّ الْقُرْآنَ صِفَتُهُ.
وَإِنَّ صِفَاتِ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ.
فَإِنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ، فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ.
وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ وَالِاتِّحَادِيَّةَ.
وَإِنْ قُلْتُمْ غَيْرَ ذَلِكَ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا.
فَمَنْ تَبَيَّنَ لَهُ مَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ سَهُلَ عَلَيْهِ الْجَوَابُ عَنْ هَذَا وَأَمْثَالِهِ.
فَإِنَّ مَنْشَأَ الشُّبْهَةِ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ هَذَا كَلَامُ اللَّهِ، يَجْعَلُ أَحْكَامَهُ وَاحِدَةً سَوَاءٌ كَانَ كَلَامُهُ مَسْمُوعًا مِنْهُ أَوْ كَلَامُهُ مُبَلَّغًا عَنْهُ، وَمِنْ هُنَا ضَلَّتْ طَوَائِفُ مِنْ النَّاسِ.
طَائِفَةٌ قَالَتْ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ، وَهَذَا حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مَخْلُوقَةٌ، وَكَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقٌ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ هَذَا مَخْلُوقٌ، وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَهَذَا لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ: هَذَا كَلَامُ اللَّهِ، وَكَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَهَذَا أَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا، فَأَلْفَاظُنَا وَتِلَاوَتُنَا غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ.
وَمَنْشَأُ ضَلَالِ الْجَمِيعِ مِنْ عَدَمِ الْفَرْقِ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي هَذَا، وَأَنْتَ تَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ تَسْمَعُهُ مِنْ قَائِلِهِ فَتَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ صِدْقٌ وَحَقٌّ وَصَوَابٌ وَكَلَامٌ حَكِيمٌ، وَكَذَلِكَ إذَا سَمِعْتَهُ مِنْ نَاقِلِهِ تَقُولُ هَذَا الْكَلَامُ صِدْقٌ وَحَقٌّ وَصَوَابٌ، وَهُوَ كَلَامٌ حَكِيمٌ، فَالْمُشَارُ إلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَاحِدٌ، وَتَقُولُ أَيْضًا: إنَّ هَذَا صَوْتٌ حَسَنٌ، وَهَذَا كَلَامٌ مِنْ وَسَطِ الْقَلْبِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَا لَيْسَ هُوَ الْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَاكَ: بَلْ أَشَارَ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا مِنْ صَوْتِهِ وَقَلْبِهِ.
وَإِذَا كُتِبَ الْكَلَامُ صَفْحَتَيْنِ كَالْمُصْحَفَيْنِ تَقُولُ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا هَذَا قُرْآنٌ كَرِيمٌ، وَهَذَا كِتَابٌ مَجِيدٌ، وَهَذَا كَلَامٌ، فَالْمُشَارُ إلَيْهِ وَاحِدٌ، ثُمَّ تَقُولُ: هَذَا خَطٌّ حَسَنٌ، وَهَذَا قَلَمُ النَّسْخِ أَوْ الثُّلُثُ، وَهَذَا الْخَطُّ أَحْمَرُ أَوْ أَصْفَرُ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ هُنَا مَا يَخْتَصُّ بِهِ كُلٌّ مِنْ الْمُصْحَفَيْنِ عَنْ الْآخَرِ، فَإِذَا مَيَّزَ الْإِنْسَانُ فِي الْمُشَارِ إلَيْهِ بِهَذَا وَهَذَا، تَبَيَّنَ الْمُتَّفِقُ
وَالْمُفْتَرِقِ، وَعُلِمَ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا بِهِ وَصَلَ إلَيْنَا مِنْ حَرَكَاتِ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتِهِمْ.
وَمَنْ قَالَ: هَذَا مَخْلُوقٌ، وَأَشَارَ بِهِ إلَى مُجَرَّدِ صَوْتِ الْعَبْدِ وَحَرَكَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي هَذَا حُجَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَفْسَهُ حُرُوفَهُ وَمَعَانِيَهُ الَّذِي تَعَلَّمَ هَذَا الْقَارِئُ مِنْ غَيْرِهِ وَبَلَغَهُ بِحَرَكَتِهِ وَصَوْتِهِ مَخْلُوقٌ مَنْ اعْتَقَدَ ذَلِكَ فَقَدْ أَخْطَأَ وَضَلَّ.
وَيُقَالُ لِهَذَا: هَذَا الْكَلَامُ الَّذِي أَشَرْت إلَيْهِ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ هَذَا الْقَارِئُ فَهَبْ أَنَّ الْقَارِئَ لَمْ يُخْلَقْ، وَلَا وُجِدَتْ لَا أَفْعَالُهُ وَلَا أَصْوَاتُهُ فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ أَنَّ الْكَلَامَ نَفْسَهُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَهُ يَعْدَمُ بِعَدَمِهِ، وَيَحْدُثُ بِحُدُوثِهِ، فَإِشَارَتُهُ بِالْخَلْقِ إنْ كَانَ إلَى مَا يَخْتَصُّ بِهِ هَذَا الْقَارِئُ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَصْوَاتِهِ، فَالْقُرْآنُ غَنِيٌّ عَنْ هَذَا الْقَارِئِ، وَمَوْجُودٌ قَبْلَهُ فَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ هَذَا عَدَمُهُ: وَإِنْ كَانَتْ إلَى الْكَلَامِ الَّذِي يَتَعَلَّمُهُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَهَذَا هُوَ الْكَلَامُ الْمُنَزَّلُ مِنْ اللَّهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ وَبَلَّغَهُ مُحَمَّدٌ لِأُمَّتِهِ، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ الَّذِي تَكَلَّمَ بِهِ، وَذَلِكَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَخْلُوقًا لَكَانَ كَلَامًا لِمَحَلِّهِ الَّذِي خُلِقَ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ كَلَامًا لِلَّهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ سُبْحَانَهُ إذَا خَلَقَ كَلَامًا كَانَ كَلَامُهُ كَانَ مَا نَطَقَ بِهِ كُلُّ نَاطِقٍ كَلَامَهُ، مِثْلُ تَسْبِيحِ الْجِبَالِ وَشَهَادَةِ الْجُلُودِ، بَلْ كُلَّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحُلُولِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ:
وَكُلُّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُهُ
…
سَوَاءٌ عَلَيْنَا نَثُرْهُ وَنِظَامُهُ
وَمَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ، إمَّا أَنْ يَجْعَلَ كُلَّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامَهُ، وَبَيْنَ أَنْ يَجْعَلَهُ غَيْرَ مُتَكَلِّمٍ بِشَيْءٍ أَصْلًا، فَيَجْعَلُ الْعِبَادَ الْمُتَكَلِّمِينَ أَكْمَلَ مِنْهُ، وَشَبَّهَهُ بِالْأَصْنَامِ وَالْجَامِدَاتِ وَالْمَوَاتِ، كَالْعِجْلِ الَّذِي لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يُهْدِيهِمْ سَبِيلًا، فَيَكُونُ قَدْ فَرَّ عَنْ إثْبَاتِ صِفَاتٍ وَشَبَّهَهُ بِالْجَامِدِ وَالْمَوَاتِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ، وَعَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ، وَهَذَا الَّذِي فِي الْمُصْحَفِ هُوَ عَيْنُ كَلَامِ اللَّهِ، وَنَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ، وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ، هَذِهِ مَفْهُومُهَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِي نَظَرِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَلَامُهُ لَا كَلَامُ غَيْرِهِ، وَأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِيهِ وَلَا نُقْصَانَ، فَإِنَّ مَنْ يَنْقُلُ كَلَامَ غَيْرِهِ وَيَكْتُبُهُ فِي كِتَابٍ قَدْ يَزِيدُ فِيهِ وَيَنْقُصُ، كَمَا جَرَتْ عَادَةُ النَّاسِ
فِي كَثِيرٍ مِنْ مُكَاتَبَاتِ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهَا، فَإِذَا جَاءَ كِتَابُ السُّلْطَانِ فَقِيلَ هَذَا الَّذِي فِيهِ كَلَامُ السُّلْطَانِ بِعَيْنِهِ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ، يَعْنِي لَمْ يَزِدْ فِيهِ الْكَاتِبُ وَلَا نَقَصَ، وَكَذَلِكَ مَنْ نَقَلَ كَلَامَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ تَصْنِيفِهِ، قِيلَ هَذَا الْكَلَامُ كَلَامُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ، يَعْنِي لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:«نَضَرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ» .
فَقَوْلُهُ: فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، لَمْ يُرِدْ أَنْ يُبَلِّغَهُ بِحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ الَّتِي سَمِعَهُ بِهَا، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنَّهُ يَأْتِي بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ، لَا يَزِيدُ فِيهِ وَلَا يَنْقُصُ، فَيَكُونُ قَدْ بَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَالْمُسْتَمِعُ لَهُ مِنْ الْمُبَلِّغِ يَسْمَعُهُ كَمَا قَالَهُ صلى الله عليه وسلم وَيَكُونُ قَدْ سَمِعَ كَلَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَهُ.
وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ: " وَهَذَا كَلَامُهُ بِعَيْنِهِ ".
وَهَذَا نَفْسُ كَلَامِهِ؛ لَا يُرِيدُونَ أَنَّ هَذَا هُوَ أَصْوَاتُهُ وَحَرَكَاتُهُ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَلَا يَخْطِرُ بِبَالِ عَاقِلٍ ابْتِدَاءً، وَلَكِنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ يُلْجِئُ أَصْحَابَهُ إلَى الْقَرْمَطَةِ فِي السَّمْعِيَّاتِ وَالسَّفْسَطِيَّةِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ.
وَلَوْ تُرِكَ النَّاسُ عَلَى فِطْرَتِهِمْ لَكَانَتْ صَحِيحَةً سَلِيمَةً، فَإِنَّ مَنْ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ سُمِعَ مِنْهُ وَنُقِلَ عَنْهُ أَوْ كَتَبَهُ فِي كِتَابٍ، لَا يَقُولُ الْعَاقِلُ إنَّ مَا قَامَ بِالْمُتَكَلِّمِ مِنْ الْمَعَانِي الَّتِي فِي قَلْبِهِ وَالْأَلْفَاظِ الْقَائِمَةِ بِلِسَانِهِ، فَارَقَتْهُ وَانْتَقَلَتْ إلَى الْمُسْتَمِعِ وَالْمُبَلَّغِ عَنْهُ، وَلَا فَارَقَتْهُ وَحَلَّتْ فِي الْوَرَقِ، بَلْ وَلَا يَقُولُ إنَّ نَفْسَ مَا قَامَ مِنْ الْمَعَانِي وَالْأَلْفَاظِ هُوَ نَفْسُ الْمُرَادِ الَّذِي فِي الْوَرَقِ، بَلْ وَلَا يَقُولُ إنَّ نَفْسَ أَلْفَاظِهِ الَّتِي هِيَ أَصْوَاتُهُ هِيَ أَصْوَاتُ الْمُبَلَّغِ عَنْهُ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا ظَاهِرَةٌ لَا يَقُولُهَا عَاقِلٌ فِي كَلَامِ الْمَخْلُوقِ إذَا سَمِعَ وَبَلَّغَ وَتُكْتَبُ فِي كِتَابٍ، فَكَيْفَ يُقَالُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ اللَّهِ الَّذِي سُمِعَ مِنْهُ وَبُلِّغَ عَنْهُ، أَوْ كَتَبَهُ سُبْحَانَهُ كَمَا كُتِبَ فِي التَّوْرَاةِ لِمُوسَى، وَكَمَا كُتِبَ الْقُرْآنُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، يَكُونُ كَمَا كُتِبَ فِي مَصَاحِفِهِمْ.
وَإِذَا كَانَ مَنْ سَمِعَ كَلَامَ مَخْلُوقٍ فَبَلَّغَهُ عَنْهُ بِلَفْظِهِ وَمَعْنَاهُ، بَلْ شِعْرَ مَخْلُوقٍ، كَمَا
يُبَلَّغُ شِعْرُ حَسَّانَ وَابْنِ رَوَاحَةَ وَلَبِيدً وَأَمْثَالِهِمْ مِنْ الشُّعَرَاءِ، وَيَقُولُ النَّاسُ: هَذَا شِعْرُ حَسَّانَ بِعَيْنِهِ، وَهَذَا هُوَ شِعْرُ حَسَّانَ.
وَهَذَا شِعْرُ لَبِيدٍ بِعَيْنِهِ كَقَوْلِهِ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلٌ
وَمَعَ هَذَا فَيَعْلَمُ كُلُّ عَاقِلٍ أَنَّ رُوَاةَ الشِّعْرِ وَمُنْشِدِيهِ لَمْ يَسْلُبُوا الشُّعَرَاءَ نَفْسَ صِفَاتِهِمْ حِينَ حَلَّتْ، بَلْ وَلَا عَيْنَ مَا قَامَ بِأُولَئِكَ مِنْ صِفَاتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ كَأَصْوَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ حَلَّتْ بِالرُّوَاةِ وَالْمُنْشِدِينَ، فَكَيْفَ يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ صِفَاتِ الْبَارِي: كَلَامَهُ أَوْ غَيْرَ كَلَامِهِ فَارَقَ ذَاتَه، وَحَلَّ فِي مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّ مَا قَامَ بِالْمَخْلُوقِ مِنْ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ كَحَرَكَاتِهِ وَأَصْوَاتِهِ هِيَ صِفَاتُ الْبَارِي حَلَّتْ فِيهِ، وَهُمْ لَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَخْلُوقِ.
بَلْ يُمَثِّلُونَ الْعِلْمَ بِنُورِ السِّرَاجِ يُقْتَبَسُ مِنْ الْمُتَعَلِّمِ، وَلَا يَنْقُصُ مَا عِنْدَ الْعَالِمِ كَمَا يَقْتَبِسُ الْمُقْتَبِسُ ضَوْءَ السِّرَاجِ.
فَيُحْدِثُ اللَّهُ لَهُ ضَوْءًا، كَمَا يَقُولُ إنَّ الْهَوَى يَنْقَلِبُ نَارًا بِمُجَاوَرَةِ الْفَتِيلَةِ لِلْمِصْبَاحِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَتَغَيَّرَ تِلْكَ النَّارُ الَّتِي فِي الْمِصْبَاحِ.
وَالْمُقْرِئُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُعَلِّمُ الْعِلْمَ وَلَمْ يُنْقِصْ مِمَّا عِنْدَهُ شَيْءٌ.
بَلْ يَصِيرُ عِنْدَ الْمُتَعَلِّمِ مِثْلَ مَا عِنْدَهُ.
وَلِهَذَا يُقَالُ: فُلَانٌ يَنْقُلُ عِلْمَ فُلَانٍ وَيَنْقُلُ كَلَامَهُ، وَيُقَالُ الْعِلْمُ الَّذِي كَانَ عِنْدَ فُلَانٍ صَارَ إلَى فُلَانٍ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.
كَمَا يُقَالُ نَقَلْت مَا فِي الْكِتَابِ، وَنَسَخْت مَا فِي الْكِتَابِ، أَوْ نَقَلْت الْكِتَابَ وَنَسَخْته.
وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ إلَّا نَفْسَ الْحُرُوفِ الَّتِي فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ عَدِمَتْ مِنْهُ وَحَلَّتْ فِي الثَّانِي.
بَلْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ مِنْ الْكُتُبِ وَنَقْلِهَا مِنْ جِنْسِ نَقْلِ الْعِلْمِ وَالْكَلَامِ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِأَنْ يَجْعَلَ فِي الثَّانِي مِثْلَ مَا فِي الْأَوَّلِ، فَيَبْقَى الْمَقْصُودُ بِالْأَوَّلِ مَنْقُولًا مَنْسُوخًا، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْأَوَّلُ.
بِخِلَافِ نَقْلِ الْأَجْسَامِ وَتَوَابِعِهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ إذَا نُقِلَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ زَالَ عَنْ الْأَوَّلِ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ لَهَا وُجُودٌ فِي أَنْفُسِهَا، وَهُوَ وُجُودُهَا الْعَيْنِيُّ.
أَوَّلُهَا ثُبُوتُهَا فِي الْعِلْمِ ثُمَّ فِي اللَّفْظِ الْمُطَابِقِ لِلْعِلْمِ، ثُمَّ فِي الْخَطِّ.
وَهَذَا الَّذِي يُقَالُ وُجُودٌ فِي الْأَعْيَانِ.
وَوُجُودٌ فِي الْأَذْهَانِ.
وَوُجُودٌ فِي اللِّسَانِ.
وَوُجُودٌ فِي الْبَيَانِ، وَوُجُودٌ عَيْنِيٌّ.
وَوُجُودٌ عِلْمِيٌّ.
وَلَفْظِيٌّ وَرَسْمِيٌّ.
وَلِهَذَا افْتَتَحَ اللَّهُ كِتَابَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]{خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2]{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} [العلق: 3]{الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4]{عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5]
، فَذَكَرَ الْخَلْقَ عُمُومًا وَخُصُوصًا.
وَذَكَرَ التَّعْلِيمَ عُمُومًا وَخُصُوصًا.
فَالْخَطُّ يُطَابِقُ اللَّفْظَ.
وَاللَّفْظُ يُطَابِقُ الْعِلْمَ.
وَالْعِلْمُ يُطَابِقُ الْمَعْلُومَ.
وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ غَلِطَ فَظَنَّ أَنَّ الْقُرْآنَ فِي الْمُصْحَفِ كَالْأَعْيَانِ فِي الْوَرَقِ فَظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77]{فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78]
، كَقَوْلِهِ {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعراف: 157] فَجَعَلَ إثْبَاتَ الْقُرْآنِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ اللَّهِ فِي الْمَصَاحِفِ.
كَإِثْبَاتِ الرَّسُولِ فِي الْمَصَاحِفِ وَهَذَا غَلَطٌ وَكَإِثْبَاتِ اسْمِ الرَّسُولِ، هَذَا كَلَامٌ.
وَهَذَا كَلَامٌ.
وَأَمَّا إثْبَاتُ اسْمِ الرَّسُولِ فَهَذَا كَإِثْبَاتِ الْأَعْمَالِ أَوْ كَإِثْبَاتِ الْقُرْآنِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ.
قَالَ تَعَالَى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] .
فَثُبُوتُ الْأَعْمَالِ فِي الزُّبُرِ.
وَثُبُوتُ الْقُرْآنِ فِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ.
هُوَ مِثْلُ كَوْنِ الرَّسُولِ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ.
وَلِهَذَا مَثَّلَ سُبْحَانَهُ بِلَفْظِ الزُّبُرِ، وَالْكُتُبُ زُبُرٌ، يُقَالُ زَبَرْت الْكِتَابَ إذَا كَتَبْته وَالزَّبُورُ بِمَعْنَى الْمَزْبُورِ أَيْ: الْمَكْتُوبِ، فَالْقُرْآنُ نَفْسُهُ لَيْسَ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَكِنْ ذِكْرُهُ، كَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ عِنْدَهُمْ، وَلَكِنْ ذِكْرُهُ، فَثُبُوتُ الرَّسُولِ فِي كُتُبِهِمْ كَثُبُوتِ الْقُرْآنِ فِي كُتُبِهِمْ، بِخِلَافِ ثُبُوتِ الْقُرْآنِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَفِي الْمَصَاحِفِ، فَإِنَّ نَفْسَ الْقُرْآنِ أَثْبَتُ فِيهَا، فَمَنْ جَعَلَ هَذَا مِثْلَ هَذَا كَانَ ضَلَالُهُ بَيِّنًا، وَهَذَا مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ نَفْسَ الْمَوْجُودَاتِ وَصِفَاتِهَا إذَا انْتَقَلَتْ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ حَلَّتْ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ الثَّانِي، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِهَا وَالْخَبَرُ عَنْهَا فَيَأْخُذُهُ الثَّانِي عَنْ الْأَوَّلِ، مَعَ بَقَائِهِ فِي الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي عِنْدَ الثَّانِي هُوَ نَظِيرُ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْعِلْمَيْنِ وَاحِدٌ فِي نَفْسِهِ صَارَتْ وِحْدَةُ الْمَقْصُودِ تُوجِبُ وِحْدَةَ التَّابِعِ لَهُ، وَالدَّلِيلَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ غَرَضٌ فِي تَعَدُّدِ التَّابِعِ كَمَا فِي الِاسْمِ مَعَ الْمُسَمَّى، فَإِنَّ اسْمَ الشَّخْصِ وَإِنْ ذَكَرَهُ
أُنَاسٌ مُتَعَدِّدُونَ، وَدَعَا بِهِ أُنَاسٌ مُتَعَدِّدُونَ، فَالنَّاسُ يَقُولُونَ إنَّهُ اسْمٌ وَاحِدٌ لِمُسَمًّى، فَإِذَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَقَالَ ذَلِكَ هَذَا الْمُؤَذِّنُ، وَهَذَا الْمُؤَذِّنُ، وَقَالَهُ غَيْرُ الْمُؤَذِّنِ، فَالنَّاسُ يَقُولُونَ إنَّ هَذَا الْمَكْتُوبَ هُوَ اسْمُ اللَّهِ وَاسْمُ رَسُولِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُسَمَّى هُوَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَإِذَا قَالَ:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]، وَقَالَ:{ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ} [هود: 41] وَقَالَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] .
وَقَالَ: (بِسْمِ اللَّهِ) فَفِي الْجَمِيعِ الْمَذْكُورُ هُوَ اسْمُ اللَّهِ وَإِنْ تَعَدَّدَ الذِّكْرُ وَالذَّاكِرُ، فَالْخَبَرُ الْوَاحِدُ مِنْ الْمُخْبِرِ الْوَاحِدِ مِنْ مُخْبِرِهِ، وَالْأَمْرُ الْوَاحِدُ بِالْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ الْوَاحِدِ، بِمَنْزِلَةِ الِاسْمِ الْوَاحِدِ لِمُسَمَّاهُ، هَذَا فِي الْمُؤَلَّفِ نَظِيرُ هَذَا فِي الْمُفْرَدِ، وَهَذَا هُوَ وَاحِدٌ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ، وَبِاعْتِبَارِ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ وَإِنْ تَعَدَّدَ مَنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ الِاسْمَ وَالْخَبَرَ، وَتَعَدَّدَتْ حَرَكَاتُهُمْ وَأَصْوَاتُهُمْ وَسَائِرُ صِفَاتِهِمْ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنْ قُلْتُمْ إنَّ هَذَا نَفْسُ كَلَامِ اللَّهِ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ، وَأَنْتُمْ تُكَفِّرُونَ الْحُلُولِيَّةَ وَالِاتِّحَادِيَّةَ.
فَهَذَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ، مِثَالُ رَجُلٍ ادَّعَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَحِلُّ بِذَاتِهِ فِي بَدَنِ الَّذِي يَقْرَأُ حَدِيثَهُ فَأَنْكَرَ النَّاسُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَالُوا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا يَحِلُّ فِي بَدَنِ غَيْرِهِ فَقَالَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ إنَّ الْمُحَدِّثَ يَقْرَأُ كَلَامَهُ، وَإِنَّ مَا يَقْرَؤُهُ هُوَ كَلَامُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا قُلْتُمْ ذَلِكَ فَقَدْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِي غَايَةِ الْفَسَادِ، وَالنَّاسُ مُتَّفِقُونَ عَلَى إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّ كَلَامَ زَيْدٍ فِي هَذَا الْكَلَامِ، وَهَذَا الَّذِي سَمِعْنَاهُ كَلَامُ زَيْدٍ، وَلَا يَسْتَجِيزُ الْعَاقِلُ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ فِي هَذَا الْمُتَكَلَّمِ أَوْ فِي هَذَا الْوَرَقِ.
وَقَدْ نَطَقَتْ النُّصُوصُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي الصُّدُورِ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ فَلَهْوُ أَشَدُّ تَعَلُّقًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ فِي عَقْلِهَا» .
وَقَوْلِهِ: «الْجَوْفُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ كَالْبَيْتِ الْخَرِبِ» وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا عِنْدَ عَاقِلٍ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ: اللَّهُ فِي صُدُورِنَا وَأَجْوَافِنَا، وَلِهَذَا لَمَّا ابْتَدَعَ شَخْصٌ يُقَالُ لَهُ الصُّورِيُّ بِأَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ فِي صُدُورِنَا، فَقَدْ قَالَ بِقَوْلِ النَّصَارَى، فَقِيلَ لِأَحْمَدَ:
قَدْ جَاءَتْ جَهْمِيَّةٌ رَابِعَةٌ إلَى جَهْمِيَّةِ الْخَلْقِيَّةِ وَاللَّفْظِيَّةِ وَالْوَاقِفِيَّةِ وَهَذِهِ الْوَاقِفَةُ، اشْتَدَّ نَكِيرُهُ لِذَلِكَ وَقَالَ: هَذَا أَعْظَمُ مِنْ الْجَهْمِيَّةِ.
وَهُوَ كَمَا قَالَ: فَإِنَّ الْجَهْمِيَّةَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ أَنْ يُقَالَ: الْقُرْآنُ فِي الصُّدُورِ، وَلَا يُشَبِّهُ هَذَا بِقَوْلِ النَّصَارَى بِالْحُلُولِ إلَّا مَنْ هُوَ فِي غَايَةِ الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ، فَإِنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ الْأَبُ وَالِابْنُ وَرُوحُ الْقُدُسِ إلَهٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّ الْكَلِمَةَ الَّتِي هِيَ اللَّاهُوتُ تَدَرَّعَتْ النَّاسُوتَ وَهُوَ عِنْدَهُمْ إلَهٌ يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ، وَلِهَذَا كَانُوا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، وَيَقُولُونَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَلِهَذَا كَانُوا مُتَنَاقِضِينَ، فَإِنَّ الَّذِي تَدَرَّعَ الْمَسِيحَ كَانَ هُوَ الْإِلَهُ الْجَامِعُ لِلْأَقَانِيمِ، فَهُوَ الْأَبُ نَفْسُهُ وَإِنْ كَانَ هُوَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ، فَالصِّفَةُ لَا تَخْلُقُ وَلَا تَرْزُقُ، وَلَيْسَتْ إلَهًا، وَالْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ إلَهٌ.
وَلَوْ قَالَ النَّصَارَى: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي صَدْرِ الْمَسِيحِ.
كَمَا هُوَ فِي صُدُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِمْ مَا يُنْكَرُ.
فَالْحُلُولِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ بِهَذَا الِاسْمِ مَنْ يَقُولُ بِحُلُولِ اللَّهِ فِي الْبَشَرِ كَمَا قَالَتْ النَّصَارَى وَالْغَالِبَةُ مِنْ الرَّافِضَةِ.
وَغُلَاةُ أَتْبَاعِ الْمَشَايِخِ يَقُولُونَ بِحُلُولِهِ فِي شَيْءٍ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّةُ إنَّهُ بِذَاتِهِ فِي كُلِّ مَكَان.
وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ فِي مَخْلُوقَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ ذَاتِهِ.
وَلَا فِي ذَاتِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ بِاتِّحَادِهِ بِالْمَسِيحِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ قَالَ بِاتِّحَادِهِ بِالْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا.
أَوْ قَالَ وُجُودُ الْمَخْلُوقَاتِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ.
فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِي قُلُوبِ أَنْبِيَائِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَإِنَّ الرُّسُلَ بَلَّغَتْ كَلَامَ اللَّهِ وَاَلَّذِي بَلَّغَتْهُ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ.
وَإِنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّحِيفَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
فَهَذَا لَا يُسَمَّى حُلُولًا.
وَمَنْ سَمَّاهُ حُلُولًا لَمْ يَكُنْ بِتَسْمِيَتِهِ لِذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْحَقِيقَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَقْتَضِي مُفَارَقَةَ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ لَهُ وَانْتِقَالَهَا إلَى غَيْرِهِ، فَكَيْفَ صِفَةُ الْخَالِقِ تبارك وتعالى.
وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِيهِ شُبْهَةُ الْحُلُولِ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي إثْبَاتِ لَفْظِ الْحُلُولِ وَنَفْيِهِ عَنْهُ.
هَلْ يُقَالُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ.
أَوْ حَالٌّ فِي الصُّدُورِ.
وَهَلْ يُقَالُ كَلَامُ النَّاسِ الْمَكْتُوبُ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ أَوْ حَالٌّ فِي قُلُوبِ حَافِظِيهِ.
فَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ نَفَتْ الْحُلُولَ كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَمْثَالِهِ وَقَالُوا ظَهَرَ كَلَامُ اللَّهِ فِي هَذَا.
وَلَا نَقُولُ حَلَّ.
لِأَنَّ حُلُولَ صِفَةِ الْخَالِقِ فِي الْمَخْلُوقِ أَوْ حُلُولَ الْقَدِيمِ فِي الْمُحْدَثِ مُمْتَنِعٌ.
وَطَائِفَةٌ أَطْلَقَتْ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ حَالٌّ فِي الْمُصْحَفِ كَأَبِي إسْمَاعِيلَ الْأَنْصَارِيِّ الْهَرَوِيِّ الْمُلَقَّبِ بِشَيْخِ الْإِسْلَامِ
وَقَالُوا لَيْسَ هَذَا هُوَ الْحُلُولُ الْمَحْذُورُ الَّذِي نَفَيْنَاهُ، بَلْ نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الصَّحِيفَةِ.
وَلَا يُقَالُ بِأَنَّ اللَّهَ فِي الصَّحِيفَةِ أَوْ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ، كَذَلِكَ نُطْلِقُ الْقَوْلَ بِأَنَّ كَلَامَهُ حَالٌّ فِي ذَلِكَ دُونَ حُلُولِ ذَاتِهِ، وَطَائِفَةٌ قَالَتْ كَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي مُوسَى وَغَيْرِهِ قَالُوا لَا نُطْلِقُ الْحُلُولَ نَفْيًا وَلَا إثْبَاتًا.
لِأَنَّ إثْبَاتَ ذَلِكَ يُوهِمُ انْتِقَالَ صِفَةِ الرَّبِّ إلَى الْمَخْلُوقَاتِ.
وَنَفْيَ ذَلِكَ يُوهِمُ نَفْيَ نُزُولِ الْقُرْآنِ إلَى الْخَلْقِ.
فَنُطْلِقُ مَا أَطْلَقَتْهُ النُّصُوصُ.
وَنُمْسِكُ عَمَّا فِي إطْلَاقِهِ مَحْذُورٌ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْإِجْمَالِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: إنْ قُلْتُمْ بِالْحُلُولِ قُلْتُمْ بِمَقَالَتِنَا.
فَجَوَابُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَقَالَةَ الْمُنْكَرَةَ هُنَا تَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ فَإِذَا زَالَتْ لَمْ يَبْقَ مُنْكَرًا.
أَحَدُهَا: مَنْ يَقُولُ إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ اللَّهُ بِهِ.
وَإِنَّمَا أَحْدَثَهُ غَيْرُ اللَّهِ كَجِبْرِيلَ وَمُحَمَّدٍ.
وَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ فِي غَيْرِهِ.
الثَّانِي: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا.
هُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْخَبَرُ، وَإِنَّ الْكُتُبَ الْإِلَهِيَّةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَاتِ لَا بِاخْتِلَافِ الْمَعَانِي.
فَيُجْعَلُ مَعْنَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَاحِدًا.
وَكَذَلِكَ مَعْنَى آيَةِ الدِّينِ وَآيَةِ الْكُرْسِيِّ.
كَمَنْ يَقُولُ إنَّ مَعَانِي أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى مَعْنًى وَاحِدٌ فَمَعْنَى الْعَلِيمِ وَالْقَدِيرِ وَالرَّحِيمِ وَالْحَلِيمِ مَعْنًى وَاحِدٌ.
فَهَذَا اتِّحَادٌ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَآيَاتِهِ.
الثَّالِثُ: قَوْلُ مَنْ يَقُولُ إنَّ مَا بَلَّغَهُ الرُّسُلُ عَنْ اللَّهِ مِنْ الْمَعْنَى وَالْأَلْفَاظِ لَيْسَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ.
بَلْ كَلَامُ التَّالِينَ لَا كَلَامُ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ بَاطِلَةٌ بِأَيِّ عِبَارَةٍ عَبَّرَ عَنْهَا.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ.
نَقَلَهُ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّهُ تَارَةً يُسْمَعُ مِنْ اللَّهِ.
وَتَارَةً مِنْ رُسُلِهِ.
وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ تَصَرَّفَ وَكَلَامُ اللَّهِ حَيْثُ يُتَكَلَّمُ.
لَمْ يَخْلُقْهُ فِي غَيْرِهِ.
وَلَا يَكُونُ كَلَامُ اللَّهِ مَخْلُوقًا وَلَوْ قَرَأَهُ النَّاسُ وَكَتَبُوهُ وَسَمِعُوهُ، وَمَنْ قَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ وَأَصْوَاتَهُمْ وَسَائِرَ صِفَاتِهِمْ مَخْلُوقَةٌ، فَهَذَا لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، وَإِذَا نَفَى الْحُلُولَ وَأَرَادَ بِهِ أَنَّ صِفَةَ الْمَوْصُوفِ لَا تُفَارِقُهُ وَتَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ فَقَدْ أَصَابَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، لَكِنَّ عَلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُؤْمِنَ أَنَّ الْقُرْآنَ الْعَرَبِيَّ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ هُوَ وَلَا شَيْءٌ مِنْهُ كَلَامًا لِغَيْرِهِ، وَلَكِنْ بَلَّغَتْهُ عَنْهُ رُسُلُهُ، وَإِذَا كَانَ كَلَامُ الْمَخْلُوقِ يُبَلَّغُ عَنْهُ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ