الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[47] * التشديد في التخلّف عن الجماعة:
[1/47] عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد هممتُ أن آمر فتيتي أن يجمعوا حزم الحطب، ثم آمر بالصلاة، فتقام، ثم أحرق على أقوامٍ لا يشهدون الصَّلاة (2) .
قال ابن القيم: ((ولم يكن ليحرق مرتكب صغيرة، فتركُ الصّلاة في الجماعة هو من الكبائر)) .
وقد منع قومٌ الاستدلال بهذا الحديث على وجوب الجماعة، ونتعرض بإيجاز لشبههم ونَردّها. أما تركه صلى الله عليه وسلم التحريق بعد همّه به.
فإن في ((المسند)) وغيره زيادة في الحديث، بيَّنَتْ المانع الذي منعه صلى الله عليه وسلم، وهي: ((لولا ما في البيوت من النّساء والذريّة لأمرت أن تقام الصّلاة
…
)) .
فبيّن صلى الله عليه وسلم أنه إنما منعه من ذلك: مَنْ فيها مِنْ النّساء والذرية، فإنهم لا يجب عليهم شهود الصلاة، وفي تحريق البيوت قتل مَنْ لا يجوز قتله، وكان ذلك بمنزلة إقامة الحدّ على الحبلى، وقد قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم
مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (3) .
ومن حمل ذلك على ترك شهود الجمعة:
فسياق الحديث يبيّن ضعفه، حيث ذكر صلاة العشاء والفجر، ثم أتبع ذلك بهمّه بتحريق من لم يشهد الصّلاة.
وأما مَنْ حمل العقوبة على النّفاق، لا على ترك الصّلاة، فقوله ضعيف لأوجه:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يقتل المنافقين على الأمور الباطنة، وإنما يعاقبهم على ما يظهر منهم من ترك واجب، أو فعل محرم، فلولا أن في ذلك ترك واجب لما همّ بحرقهم.
الثاني: أنه رتب العقوبة على ترك شهود الصلاة،فيجب ربط الحكم في السبب الذي ذكره.
الثالث: أن ذلك حجة على وجوبها أيضاً، كما ثبت في ((صحيح مسلم)) وغيره عن عبد الله بن مسعود أنه قال:((من سره أن يلقى الله غداً مسلماً، فليصلّ هذه الصّلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيّه سنن الهدى، وإن هذه الصلوات الخمس في المساجد التي ينادى بهن من سنن الهدى، وإنكم لو صلّيتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلّف في بيته، لتركتم سنّة نبيكم، ولو تركتم سنّة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النّفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصّف)) (1) .
فقد أخبر عبد الله بن مسعود أنه لم يكن يتخلّف عنها إلا منافق معلوم النّفاق، وهذا دليل على استقرار وجوبها عند المؤمنين، ولم يعلموا ذلك إلا من جهة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو كانت عندهم مستحبّة كقيام الليل والتطوعات التي مع الفرائض، وصلاة الضحى، ونحو ذلك، كان منهم من يفعلها، ومنهم من لا يفعلها مع إيمانه، كما قال له الأعرابي:((والله لا أزيد على ذلك، ولا أنقص منه)) فقال: ((أفلح إن صدق)) .
ومعلوم أن كل أمر لا يتخلف عنه إلا منافق، كان واجباً على الأعيان. كخروجهم إلى غزوة تبوك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به المسلمين جميعاً، لم يأذن لأحدٍ في التخلّف، إلا من ذكر أن له عذراً، فأذن له لأجل عذره (2) .
ويؤكد وجوب صلاة الجماعة: ما رواه مسلم في ((صحيحه)) انّ رجلاً أعمى قال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يرخّص له، فلما ولّى دعاه فقال: هل تسمع النّداء؟ قال نعم. قال: فأجب (3) .
والأمر المطلق للوجوب، فكيف إذا صرح صاحب الشرع بأنه لا رخصة للعبد في التخلّف عنه لضرير، شاسع الدار (4) ، ((ليس له قائد يقوده إلى المسجد، بل وفي طريقه الأشجار والأحجار كما في بعض الروايات الصحيحة في الحديث، فهل هناك حكم اجتمع فيه مثل هذه القرائن المؤكّدة للوجوب، ومع ذلك يقال: هو ليس بواجب؟!)) (5)
ومن أدلة الوجوب: قوله تعالى:
{وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} (1) وذلك من وجهين:
أحدهما: أنه أمرهم بصلاة الجماعة معه في حال الخوف، وذلك دليل على وجوبها حال الخوف، وهو يدل بطريق الأولى على وجوبها حال الأمن.
الثّاني: أنه سنّ صلاة الخوف جماعة، وسوّغ فيها ما لا يجوز لغير عذر، كاستدبار القبلة، والعمل الكثير، فإنه لا يجوز لغير عذر بالاتفاق، وكذلك مفارقة الإمام قبل السلام عند الجمهور، وكذلك التخلّف عن متابعة الإمام كما يتخلّف الصف المؤخر بعد ركوعه مع الإمام إذا كان العدو أمامهم.
وهذه الأمور مما تبطل الصلاة بها لو فعلت لغير عذر، فلو لم تكن الجماعةُ واجبةً بل مستحبّة، لكان قد التزم فعل محظور مبطل للصلاة، وتُرِكَت المتابعة الواجبة في الصلاة لأجل فعل مستحب! مع أنه قد كان من الممكن أن يصلّوا وحداناً صلاة تامة، فعلم أنها واجبة (2) .
واعلم أنه لا ينافي القول بالوجوب ما تفيده بعض الأحاديث من صحة صلاة المنفرد التي تفيد أن صلاة المنفرد صحيحة، حيث جعلت له درجة واحدة، لأن هذا لا ينافي الوجوب الذي من طبيعته أن يكون أجره مضاعفاً على أجر ما ليس بواجب، كما هو واضح (3) .
قال ابن القيم في الرد على هذا الاستدلال: ((التفضيل لا يستلزم براءة الذّمة من كل وجه، سواء كان مطلقاً أم مقيداً، فإن التفضيل يحصل مع مناقضة المفضل للمفضّل عليه من كل وجه، كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} (4)
وقوله تعالى: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} (5) وهو كثير.
فكون صلاة الفذّ جزءاً واحداً من سبعة وعشرين جزءاً من صلاة الجميع، لا يستلزم إسقاط فرض الجماعة، ولزوم كونها ندباً بوجهٍ من الوجوه، وغايتها أن يتأدّى الواجب بهما، وبينهما من الفضل ما بينهما، فإن الرجلين يكون مقامُهما في الصّفّ واحداً، وبين صلاتهما في الفضل كما بين السماء والأرض)) (1) .
ولعل القارىء يجد في بعض ما ذكرناه من أدلة على وجوب صلاة الجماعة، ودفعنا للشُبَهِ على هذا الحكم، بيانَ عظم الخطر عليه في التخلّف عنها، وأن يقلع عن الصلاة في البيت متوجّهاً إلى المسجد، ((والواجب على أئمة المساجد أن ينصحوا المتخلّفين ويذكرهم ويحذرهم غضب الله وعقابه)) (2) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((من اعتقد أنّ الصّلاة في بيته أفضل من صلاة الجماعة في مسجد المسلمين، فهو ضال مبتدع، باتّفاق المسلمين. فإن صلاة الجماعة إما فرض على الأعيان، وإما على الكفاية، واللازم من الكتاب والسنّة أنّها واجبة على الأعيان)) (3) .
((واعلم أخي المصلّي ـ بصّرك الله بالحقّ ـ أن للشيطان طرقاً كثيراً لصدّك عن الصّلاة، وعن مناجاة ربّك، فأوّل الطّرق ترك الجماعة، ويليه ترك التسبيح عقب الصلاة، ويليه ترك الصلاة كما شاهدنا.
فكيف تسوغ لنفسك ـ بربك ـ ترك أجر سبع وعشرين درجة، والاكتفاء بدرجةٍ واحدةٍ؟! أبَلَغَ بك أن استغنيتَ عن الأجر والحسنات!! إن للحسنات سوقاً كبيراً
غداً عند ربّ العالمين.
فتدبّر هذا واعقله، ولا يغرنّك كثرة المتقاعسين، الذين عقد الشّيطان عليهم، فلا يقومون لصلاة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان، يقومون إليها كسالى،فحذار أن يجرّك الشيطان لصفّه.
واعلم أن السكينة لا تدرك في البيت، وإنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر، ألست منهم أنت؟ !.
واعلم أنه جاء في ((صحيح البخاري)) : ((أن من غدا إلى المسجد أو راح، أعدّ الله له نزلاً في الجنة كلما غدا أو راح، فهل استغنيت عن هذا؟؟ وفي هذا بيان لمن وفّق للخير، وهدي إليه)) (4) .
والعجب من قول بعضهم: ((لا تتم مروءةُ الرَّجل حتى يترك الصّلاة في الجماعة!! وتعقب هذه المقولة الخاطئة الإمام الذهبي، فقال في ((السير)) : (7 /72) : ((قلت: لعن الله هذه المروءَةَ، ما هي إلا الحُمْقُ والكِبْر، كيلا يُزاحِمًه السُّوْقة! وكذلك تَجِدُ رؤساء وعُلماء يُصلّون في جماعةٍ في غير صَفّ، أو تُبْسَطُ له
سَجَّادةٌ كبيرة حتى لا يلتصق به مُسلم. فإنا لله!)) .
وتجدر الإشارة ـ في الختام ـ إلى بيان ضعف بعض الأحاديث التي يتداولها كثير من الدّعاة، الذين كرسوا جهْدهم في حثّ النّاس على الصّلاة، وتذكيرهم بها ـ جزاهم الله خيراً ـ ولكن فاتهم تمحيص الصحيح، وفصله عن الضعيف، منها:
[2/47]((إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد، فاشهدوا له بالإيمان)) .
وهو من طريق دَرَّاج أبي السَّمْح عن أبي الهيثم عن أبي سعيد.
ودراج هذا، قال الحافظ فيه في ((التقريب)) :(1/235) : ((صدوق في حديثه عن أبي الهيثم ضعف)) .
ولذلك تعقّب الذّهبيُّ الحاكم، بقوله:((قلت: درّاج كثير المناكير)) (1) .
[3/47] ومنها: الدّعاء بالمغفرة عند الدخول إلى المسجد، وهو مع أنه منقطع كما بيّنه مخرّجُه التّرمذي، فإن الدّعاء بـ ((اللهم اغفر لي ذنبي)) تفرّد بذكره في الحديث ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف. وقد تابعه على رواية أصل الحديث ـ وفيه الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الدخول إلى المسجد فحسب ـ إسماعيل بن عليّة، وهو ثقة جليل، ولكنه لم يذكر فيه هذا الدّعاء، فدلّ ذلك كله على أنه لا يصح فيه، وأنه منكر.
ولذلك فإني أرى أنه لا يشرع التزامه مع الأدعية الصحيحة، ولا إيراده فيها، ولاسيما مع القطع بأنه من السنة! فتأمل (2) .
[4/47] ومنها: ((جنّبوا مساجدكم صبيانكم)) وهذا حديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال البزّار فيه: لا أصل له (3) .
وبنى كثير من العوام عليه: اعتقاد منع دخول الصّبيان بيوت الله عز وجل!!
سئل الإمام مالك رحمه الله عن الرّجل يأتي بالصّبي إلى المسجد،
أيستحب ذلك؟ قال: إن كان قد بلغ موضع الأدب، وعرف ذلك، ولا يعبث في المسجد، فلا أرى بأساً، وإن كان صغيراً، لا يقرّ فيه، فلا أحبّ ذلك.
قال ابن رشد: ((المعنى في هذه المسألة مكشوف، لا يفتقر إلى بيان، إذ لا إشكال في إباحة دخول الولد إلى المساجد، قال الله عز وجل: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ....} (1) .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصّبي في الصّلاة، فيتجوّز في الصّلاة، مخافة أن تفتن أمّه (2) .
وإلا فالكراهة في إدخالهم فيه، إذا كانوا لا يقرّون فيه ويعبثون، لأن المسجد ليس موضع العبث واللعب، وبالله التوفيق)) (3) .
هذا، وقد شهدتُ خطر هذا الحديث الواهي عندما رأيتُ بعض العامة من الجهلة يطردون النّاشئة من بيوت الله محتجّين بهذا الحديث، فينفّرونهم من الدين، على حين تفتح المؤسسات التبشيرية صدرها وذراعيها لأبناء المسلمين مع أبنائهم.
[5/47] ومنها: قصة ثعلبة بن حاطب، التي يزعم واضعها ـ قبحه الله ـ أنه كان ملازماً للمسجد، حتى سمّي (حمامة المسجد) ، ومن ثم أغراه كثرة ماله، المتمثل بالغنم، على ترك صلاة الجمعة، ومن ثم الجماعة، ومن ثم على منع الزكاة، ثم تذكر، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم تائباً، فلم يقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر وعمر!! وتتردد هذه القصة على ألسنة الكثيرين من الخطباء والوعّاظ، من غير أن
يتنبهوا أنهم يحكمون بنفاق صحابي جليل شهد بدراً، ومن غير أن يتفطنوا إلى أنهم ينسفون مبدأ
إسلامياً عظيماً، وهو إجبار مانعي الزكاة على دفعها، حتى لو أدى ذلك إلى حربهم (4) .
ورحم الله ابن حزم، فإنه قال في هذه القصة: ((فلا يخلو ثعلبة من أن يكون مسلماً،
ففرض على أبي بكر وعمر قبض زكاته، ولا بُدّ، ولا فسحة في ذلك. وإن كان كافراً، فلا يقرّ في جزيرة العرب، فسقط هذا الأثر بلا شك.
وفي رواية: معان بن رفاعة والقاسم بن عبد الرحمن وعلي بن يزيد وهو أبو عبد الملك الألهاني، وكلهم ضعفاء)) (1)