الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وما إلى ذلك من الموبقات، التي يخجل الإِنسان من ذكرها، فضلاً عن ارتكابها.
قلت: وفي بعض البلاد شاهدتُ بعيني أن كثيراً من الرّجال يتخلّفون عن صلاة الجمعة إذا
كان عندهم عرس بحجّة الانشغال بإعداد الوليمة، ربما كان مَنَ المتخلّفين مِنْ هم أوتاد
المساجد، ولكن غلبت عليهم العادة!
فإلى أولئك المتهاونين، وإلى أولئك الذين فتنتهم الدّنيا بزينتها ورونقها (1) .
ورزقوا حظّاً من المال أو الجاه، نهدي هذه النصيحة الثمينة، ونذّكّرهم بما قدّمناه من أحاديث شريفة، ونقول لهم: لا تغترّوا بما آتاكم الله من صحةٍ وشباب، وقوة ومال، فاعرفوا قدر نعم الله عليكم، واشكروه حقّ الشكر.
وأدّوا فرائض الله، ولا تتهاونوا في أداء الصلوات وحافظوا على الجمع والجماعات، فإن الحساب عسير.
[58] * جملة من الأخطاء تفوّت على أصحابها ثواب الجمعة:
1.
عن أوس بن أوس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ غسَّل يومَ الجمعة واغتسل، وبكّر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإِمام، واستمع ولم يَلْغُ، كان له بكلّ خطوة أجر سنةٍ: صيامها وقيامها)) (3) .
2.
عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا كان يوم الجمعة، وقفت الملائكة على باب المسجد، يكتبون الأوّل فالأوّل. وَمَثلَ المُهَجِّر كمثل الذي يُهدِي بدنه، ثم كالذي يُهدِي بقرةً، ثم كبشاً، ثم دجاجة، ثم بيضة، - فإذا خرج الإمام طَوَوْا صُحُفَهم، يستمعون الذّكر)) (4) .
3.
عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اغتسل يوم الجمعة، وتطهَّر بما استطاع من طُهْرٍ، ثم ادّهن أو مسَّ من طيب، ثم راح، فلم يفرِّق بين اثنين، فصلّى ما كتب له، ثم إذا خرج الإِمام أنصت، غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)) (1) .
4.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة: أنصت ـ والإِمامُ يخطب ـ فقد لَغَوْتَ)) (2) .
وفي رواية: ((ومن لغا فلا جمعة له)) (3) .
أفادت هذه الأحاديث:
أن لصلاة الجمعة ثواباً عظيماً، فمن أوقعها بشروط وآدابها وسننها فله:
أولاً: بكل خطوة يمشيها من بيته إلى المسجد، أجر صيام سنة وقيامها بتمامها وكمالها.
ثانياً: ثواب مَنْ قدّم بدنةً (4)، وهي: الواحد من الإِبل، ذكراً كان أم أنثى، أو بقرة أو كبشاً، وهو: فحل الغنم، ووصف في بعض الروايات بأقرن، لأنه أكمل وأحسن صورة، أو دجاجة أو بيضة، وفق تكبيرهم للمسجد.
ثالثاً: غفران ذنوبه، الواقعة منه إلى الجمعة التي تليها، وزيادة ثلاثة أيام، كما في بعض الروايات.
رابعاً: كتابة الملائكة ـ غير الحفظة ـ ثواب صلاة الجمعة له في صحفهم.
وهذا ثواب العظيم، والفضل الجسيم، يفوت ـ هذه الأيام ـ كثيراً من الناس، إما بسبب كسلهم، أو جهلهم وبُعْدِهم عن سنّة نبيّهم عليه الصلاة والسلام، ويتمثّل ذلك في الحالات التالية:
[1/58] * ترك التبكير لصلاة الجمعة:
يسّن التبكير إلى ـ صلاة الجمعة، للحديث الأوّل والثاني السَّابقين. وهو مفاد الحديث الثّالث أيضاً، ففيه:((فصلى ما كتب له، ثم إذا خرج الإِمام أنصت....)) .
وكانت هذه عادة السلف الصالح، وعليه تحمل إطالة ابن عمر الصلاة قبل
الجمعة، فإنه تطوع مطلق، وهذا هو الأولى لمن جاء الجمعة، أن يشتغل بالصّلاة حتى يخرج الإِمام (1) .
وبيّن الحديث الأول: أن البكور للمسجد شرط لحصول ثواب الجمعة التَّام، وهو أن بكل خطوة يمشيها ثواب صيام سنة وقيامها.
وأن البكور يكون بالمشي للجمعة، ولهذا بوّب عليه النسائي والبيهقي وغيرهما:((فضل المشي إلى الجمعة)) . وأن المشي خير من الركوب، خصوصاً لصلاة الجمعة والعيدين.
قال الإمام أحمد كما في ((مسائل ابنه)) : رقم (472) : أستحب أن يذهبوا رجالة إلى العيدين والجمعة، وأن المبكر للجمعة يسن له أن يدنو من الإِمام، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:((احضروا الذّكر، وادنوا من الإِمام، فإن الرجل لا يزال يتباعد حتى يؤخّر في الجنة، وإن دخلها)) (2) .
والبكور للجمعة من عادة السّلف الصالح ـ رضوان الله عليهم ـ حتى قال أبو شامة: ((وكان يرى في القرن الأول بعد طلوع الفجر، الطرقات مملوءة من الناس، يمشون في السرج، ويزدحمون فيها إلى الجامع، كأيّام العيد، حتى اندرس
ذلك، فقيل: أوّل بدعة أحدثت في الإسلام، ترك البكور إلى الجامع)) (3) .
وقد أنكر الإِمام مالك ـ رحمه الله تعالى ـ التبكير إلى الجمعة في أوّل النّهار،وردّه ابن القيم، وقال: قال الشافعي: ولو بكر إليها بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس، كان حسناً.
وذكر الأثرم، قال: قيل لأحمد بن حنبل: كان مالك بن أنس يقول: لا ينبغي التهجير يوم الجمعة باكراً، فقال: هذا خلاف حديث النبي صلى الله عليه وسلم)) (4) .
فيستحب التبكير إلى صلاة الجمعة أول النهار، فالساعات الواردة في الحديث على هذا، من أول النهار، والمراد بها الساعات الفلكيّة، وعليه: من جاء في آخرها ومن جاء في أوّلها، مشتركان في تحصيل البدنة أو البقرة أو الكبش، ولكن بدنة الأول أكمل مِنْ بدنة مَنْ جاء في آخر
الساعة، وبدنة المتوسط متوسطة، والله أعلم (1) .
وكان السّلف الصالح يعاتبون أنفسهم عند تركهم التبكير أو قصورهم فيه.
دخل ابن مسعود بكرةً، فرأى ثلاثة نفر، قد سبقوه بالبكور، فاغتمّ لذلك، وجعل يقول لنفسه معاتباً إيّاها: رابع أربعة، وما رابع أربعة ببعيدٍ (2) .
فهذا حال ابن مسعود رضي الله عنه وهو مَن هو، يعاتب نفسه لسبق ثلاثة في التبكير للجمعة إيّاه، فما بالك في كثير من قومنا ـ إلا مَنْ رحم الله تعالى ـ لا يأتون إلا والإمام على المنبر، بل يأتي بعضهم مع الصلاة أو قبيلها بقليل (3) ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ((إذا خرج الإمام طَوَوْا ـ أي الملائكة ـ صحفهم، يستمعون الذكر)) .
وفي رواية لمسلم: ((فإذا جلس الإمام طووا الصحف، وجاءوا يستمعون الذّكر)) .
وكأن ابتداء طي الصحف، عند إبتداء خروج الإِمام، وانتهاءه بجلوسه على المنبر، وهو أول سماعهم للذكر، والمراد به ما في الخطبة من المواعظ وغيرها.
والمراد بطي الصحف: طي صحف الفضائل المتعلّقة بالمبادر إلى الجمعة دون غيرها من سماع الخطبة وإدراك الصّلاة والذّكر والدّعاء والخشوع ونحو ذلك، فإنه يكتبه الحافظان قطعاً (3) .
[2/58] * ترك الاغتسال والتزيّن والتطيّب والتسوّك لصلاة الجمعة:
قال ابن حجر معدّداً الفوائد المستنبطة من حديث أبي هريرة: ((من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرّب بدنة
…
الخ)) (4) .
ما نصه:
((وفي هذا الحديث من الفوائد: الحض على الاغتسال يوم الجمعة وفضله، وفضل التكبير إليه، وأن الفضل المذكور، إنما يحصل لمن جمعهما. وعليه يحمل ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل)) (1) .
ولم يقتصر ترك الغسل على فوات الثّواب المذكور عند بعض المحققين من العلماء، بل تعدّاه إلى الإِثم والحرمة.
فذهب جماعة من العلماء إلى القول بوجوب الغسل للجمعة، وكثير من الأحاديث الثابتة قاضية بهذا الرأي، وإليك طائفة منها:
1.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جاء أحدكم الجمعة فَلْيَغْتَسِلْ)) (2) .
ويدل هذا الحديث بمنطوقه على أن الغسل لصلاة الجمعة، وأن مَنْ فعله لغيرها لم يظفر بالمشروعيّة، سواء فعله في أوّل اليوم أم وسطه، أم في آخره.
ويؤيد هذا رواية ابن خزيمة وابن حبان وأبي عوانة مرفوعاً: ((من أتى الجمعة من الرّجال والنساء، فليغتسل)) .
زاد ابن خزيمة: ((ومن لم يأتها، فليس عليه غسل)) (3) .
2.
عن عمرو بن سُليم الأنصاري قال: أشهد على أبي سعيد قال: أشهد على رسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأنْ يَسْتَنَّ، وأن يَمَسَّ من طيبٍ إن وَجَدَه)) . قال عمرو: أما الغسل فواجب، وأما الاستنان والطِّيب، فالله أعلم، ولكن هكذا حُدّثت (4) .
وقوله: ((أن يستنّ)) أي يدلك أسنانه بالسّواك. وفي رواية لأبي نعيم في كتاب ((السّواك)) : السّواك واجب، وغسل الجمعة واجب على كلّ مسلم)) (1) .
وقد أكثر النّبيُّ صلى الله عليه وسلم على الأُمة في السّواك، وبالغ فيه، حتى عند وفاته وقبْض نفسه الكريمة صلى الله عليه وسلم، وبيّن أنّ السواك من أسباب حصولَ رِضا الرّب ـ سبحانه ـ به.
وأكَّد عليه يوم الجمعة، كما تقدّم.
وبهذه المناسبة أُنبِّهُ على فائدةٍ نفسيةٍ نقلها شيخُ الإِسلام ابن تيمية يحتاج لها كثيرٌ من الناس، عند استخدامهم السّواك هذه الأيام.
قال رحمه الله تعالى: ((الأفضل أن يستاك باليسرى، نصَّ عليه الإِمام أحمد في رواية ابن منصور الكوسج، ذكره عنه في ((مسائله)) ، وما علمنا أحداً من الأئمّة خالف في ذلك ، وذلك لأن الاستياك من باب إماطة الأذى ، فهو كالاستنثار والامتخاط، ونحو ذلك مما فيه إزالة الأذى ، وذلك باليسرى ، كما أن إزالة النجاسات ، كالاستجمار ونحوه باليسرى ، وإزالة الأذى ، ومستحبّها باليسرى)) (2) انتهى.
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث السّابق: ((وأن يَمَسّ طيباً إن وجده)) .
وفي رواية مسلم: ((ويَمَََس من الطيب ما يقدر عليه)) .
وفي رواية: ((ولو من طيب المرأة)) .
وفي هذه الروايات: التأكيد على استخدام الطيب لصلاة الجمعة ، من وجوه:
الأول: الاقتصار على المس ، وفيه الأخذ بالتخفيف ، وفيه تنبيه على الرّفق.
الثاني: تيسير الأمر في التطيب ، بأن يكون بأقل ما يمكن ، حتى إنه يجزىء مسه من غير تناول قدر ينقصه ، تحريضاً على امتثال الأمر فيه.
الثالث: في قوله ((ما يقدر عليه)) إرادة التأكيد، ليفعل ما أكنه، ويحتمل إرادة الكثرة، والأوّل أظهر.
الرابع: ويؤيّد ما ذكرتُه، رواية:((ولو من طيب المرأة)) لأنه يكره استعماله للرجل، وهو ما ظهر لونه، وخفي ريحه، فإباحته للرجل لأجل عدم وجود غيره، يدل على تأكد الأمر في
ذلك (1) .
وعُلّق غفران ما بين الجمعتين، في حديث سلمان الفارسي السابق على الاغتسال والادّهان
والتطيب وعدم التّفريق بين اثنين من المصلّين.
ويلتحق باستِنان والتطيّب: التزيّن بالباس.
قال ابن رشد: ((وآداب الجمعة ثلاثة: الطيب والسّواك واللباس الحسن، ولا خلاف فيه لورود الآثار بذلك)) (2) .
عن عبد الله بن سلام أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر يوم الجمعة: ((ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة، سوى ثوبي مهنته)) (3) .
ومن الأحاديث التي تدل على وجوب الغسل ليوم الجمعة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما:
أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجلٌ من المهاجرين الأوّلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فناداه عمر: أيَّةُ ساعةٍ هذه؟ قال: إني شُغلتُ فلم أنقلِبْ إلى أهلي، حتى سمعتُ التّأذينَ، فلم أزِدْ أن توضّأتُ.
فقال: والوضوء أيضاً؟ وقد علمتَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسلِ (4) .
فإنكار عمر على رأس المنبر في ذلك الجمع الحافل على مثل ذلك الصحابي الجليل، وتقرير جميع الحاضرين من الصحابة وغيرهم، لما وقع من ذلك الإِنكار،لهو من أعظم الأدلة القاضية بأن الوجوب كان معلوماً عند الصحابة، ولو كان الأمر عندهم على عدم الوجوب لما عوّل ذلك الصّحابي في الاعتذار على غيره. فأي تقرير مِنْ عمر ومَنْ حضر، بعد هذا الإنكار (5) ؟!
واستشكل جمهور العلماء وجوب غسل الجمعة، بقوله صلى الله عليه وسلم:
((من توضّأ يوم الجمعة، فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل)) (1)
وردّه ابن حزم، فقال:((لو صحت لم يكن فيها نص ولا دليل على أن غسل الجمعة ليس بواجب، وإنما فيها أن الوضوء نعم العمل، أن الغسل أفضل، وهذا لاشك فيه، وقد قال الله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ َهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم} (2)
فهل دلّ هذا اللفظ على أن الإيمان والتقوى ليس فرضاً؟!
حاشا لله من هذا ثم لو كان في جميع هذه الأحاديث نص أن غسل الجمعة ليس فرضاً لما كان في ذلك حجة، لأن ذلك يكون موافقاً لما كان عليه الأمر قبل قوله عليه الصلاة والسلام:
((غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)) و ((على كل مسلم)) وهذا القول منه عليه السلام، حكم زائل ناسخ للحالة الأولى، بيقين لاشك فيه، ولا يحل ترك الناسخ بيقين، والأخذ بالمنسوخ)) (3)
وقال ابن تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) : ((يستحب الغسل في ذلك اليوم ـ أي الجمعة ـ وعند جماعة يجب. ودليل وجوبه أقوى من دليل وجوب الوتر ، ومن الوضوء من مس النساء،ومن القهقهة، ومن الرّعاف، ومن الحجامة، ومن القيء، ومن دليل وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم)) (4) .
وجملة القول: أن الأحاديث المصرّحة بوجوب غسل الجمعة، فيها حكم زائد على الأحاديث المفيد لاستحبابه ، فلا تعارض بينها، والواجب الأخذ بما تضمن
الزيادة منها.
وراجع تفصيل هذا البحث في ((نيل الأوطار)) للشوكاني و ((المحلى)) لابن حزم (1) .
ومما مضى: تعلم تساهل أكثر النّاس بهذا الواجب يوم الجمعة، فقلَّ مَنْ يغتسل منهم لهذا اليوم، ومن اغتسل فيه فإنما هو للنظافة، لا لأنه من حق الجمعة، فالله المستعان (2) .
[3/58] * الكلام وعدم الاستماع لخطيب الجمعة:
مضى في حديث أوس: ((من غسَّل يوم الجمعة واغتسل، وبكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام، واستمع ولم يَلْغُ، كان له بكل خطوة أجر سنة: صيامها وقيامها)) (3) .
فقد يبكر المصلّي ويغتسل ويمشي ولا يركب، لكن لايدنو من الإمام، فتراه قد استروح مكاناً ما، فجلس فيه، ويكون بعيد عن الخطيب، وقد سبق قوله صلى الله عليه وسلم:((فإن الرجل لايزال يتباعد حتى يؤخّر في الجنة، وإنْ دخلها)) .
وبعض المبكّرين الذين يدنون من الإمام، قد يضيّعون على أنفسهم ثواب الجمعة، بفعلهم بعض الأمور جهلاً، ويظنون أنهم يحسنون صنعاً.
[4/58] فبعضهم يدور على المصلّين بشرب الماء، والإِمام يخطب.
قال الإِمام مالك: ((لا أحبّ لأحدٍ أن يشرب الماء يوم الجمعة، والإِمام يخطب، ولا يسقي
الماء، يدور به على الناس، والإِمام يخطب)) (4) .
وعلّق عليه ابن رشد بقوله: ((وهذا كما قال، لأنه لما كان حالُ الخطبة حالَ الصّلاة في الإنصات، وجب أن يكون حالها حال الصلاة في الأكل والشرب)) (5) .
قال ابن هانىء: قلت للإِمام أحمد: فترى أن يشرب ماء، والإِمام يخطب؟
قال: لا يشرب ماءً (6) .
ومن هذا الباب:
[5/58] ما شاهدتُه ـ من بعض سنوات ـ في بعض مساجد القرى، من الدّوران على الناس، يوم الجمعة، بصندوقٍ،لجمع التبرعات، والإمام يخطب.
[6/58] وقد يقبل الرجلان، فيدخلان المسجد، وهما يتحدّثان، الإمام يخطب. فيقعان في المحظور الوارد في حديث أبي هريرة:((إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة، أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت)) (1) .
والكلام والإمام يخطب لصلاة الجمعة يحبط الأجر، ويفوّت الثواب.
قال النضر بن شميل: معنى لغوت: خبت من الأجر. وقيل: بطلت فضيلة جمعتك، وقيل:
صارت جمعتك ظهراً (2) .
ويشهد للمعنى الأوّل والثاني:
1ـ عن أبي هريرة قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، إذ قال أبو ذر لأُبي بن كعب: متى أنزلت هذه السورة؟ فلم يجبه، فلما قضى صلاته، قال له: ما لك من صلاتك إلا ما لغوت، فأتى أبو ذرّ النّبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: صدق أُبيّ (3) .
2ـ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
يَحْضُر الجمعة ثلاثةُ نَفَر: رجل حضرها يلْغُو، وهو حظّه منها، ورجل حضرها يدعو، فهو رجل دعا الله، إنْ شاء أعطاه، وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصاتٍ وسكوت، ولم يتخطَّ رقبة مسلم، ولم يؤذِ أحداً، فهي كفّارة له إلى يوم الجمعة التي تليها، وزيارة ثلاثة أيام، وذلك أن الله ـ عزَّوجلَّ ـ يقول:{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (1) .
3 ـ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فمن دنا من الإمام، فأنصت أو استمع، ولم يلغ، كان له كفلان من الأجر، ومن نأى عنه، فاستمع وأنصت، ولم يلغ، كان له كفل من الأجر، ومن دنا من الإمام فلغا، ولم ينصت ولم يستمع، كان له كفلان من
الوزر، ومن نأى عنه فلغا ولم ينصت ولم يستمع كان عليه كفل من الوزر. ومن قال: صه، فقد تكلم، ومن تكلم فلا جمعة له)) (2) .
وفي رواية: ((ومن قال يوم الجمعة لصاحبه: صه، فقد لغا، ومن لغا فليس له في جمعته تلك شيء)) (3) .
وفي رواية: من حديث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من تكلم يوم الجمعة، والإمام يخطب، كان أجره من الجمعة، قبضة من التراب)) (4) .
ويشهد للمعنى الثّالث: عن عبد الله بن عمرو مرفوعا ً: ((ومن لغا أو تخطى كانت له ظهراً)) (5) .
قال ابن وهب أحد رواته: معناه: أجزأت عنه الصّلاة، وحرم فضيلة الجمعة (6) .
قلت: تبيّن من هذه الزيادة، أن الأقوال الثلاثة السابقة متقاربة المعنى، ولا خلاف بينها.
والنهي عن الكلام مأخوذ من حديث أبي هريرة بدلالة الموافقة، لأنه إذا جعل قوله:((أنصت)) مع كونه أمراً بمعروف، لغواً، فغيره من الكلام أولى أن يسمّى لغواً.
وقد وقع في ((مسند أحمد)) من رواية الأعرج عن أبي هريرة في آخر الحديث بعد قوله:
((فقد لغوت: عليك بنفسك)) .
واستدل به على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة، وبه قال الجمهور في حقّ مَنْ سمعها،
وكذا الحكم في حقّ مَنْ لا يسمعها عند الأكثر (1) .
ونقل ابن عبد البر الإجماع على وجوب الإِنصات على من سمع الخطبة، إلا عن قليل من التّابعين، ولفظه: ((لا خلاف علمتُه بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات للخطبة على مَنْ سمعها في الجمعة، وأنه غير جائز أن يقول لمن سمعه من الجهال يتكلم والإِمام يخطب: أنصت، ونحوها، أخذاً بهذا الحديث. وروي عن الشعبي وناس قليل أنهم كانوا يتكلّمون إلا في حين قراءة
الإمام في الخطبة خاصة، قال: وفعلهم في ذلك مردود عند أهل العلم، وأحسن أحوالهم، أن يقال: إنه لم يبلغهم الحديث)) (2) .
واستغربه الحافظ، بقوله:((قلت: للشافعي قولان مشهوران)) انتهى.
وهذا لفظ الإمام الشافعي في المسألة في ((الأم)) : ((واجب لكل مَنْ حضر الخطبة أن يستمع لها وينصت، ولا يتكلّم من حين يتكلّم الإمام حتى يفرغ من الخطبتين معاً.
ولا بأس أن يتكلّم، والإمام على المنبر، والمؤذّنون يؤذّنون، وبعد قطعهم، قبل كلام الإمام، فإذا ابتدأ في الكلام، لم أحب أن يتكلم، حتى يقطع الإمام الخطبة الآخرة، فإن قطع الآخرة، فلا بأس أن يتكلّم حتى يكبّر الإمامُ، وأحسن في الأدب، أن لا يتكلّم من حين يبتدىء الإمام الكلام، حتى يفرغ من الصلاة، وإن تكلم رجل، والإمام يخطب، لم أحب ذلك له، ولم يكن عليه إعادة الصّلاة)) (3) .
قلت: ولا يسلم من الإِثم، للأحاديث المتقدّمة، وهو أصح قولي أهل العلم، وبه قال مالك والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد (4) .
[7/58] والمراد بالإنصات: السكوت عن مكالمة الناس مطلقاً.
قال اللكنوي: ((قال ابن خزيمة: المراد بالإنصات: السكوت عن مكالمة الناس، دون ذكر الله.
وتعقّب: بأنه يلزم منه جواز القراءة والذّكر حال الخطبة، فالظّاهر: أن المراد: السكوت
مطلقا (1) ً.
ورخّص بعضُ أهل العلم بردّ السلام، وتشميت العاطس والإمام يخطب، وظاهر الحديث يمنعه.
وعند الشافعية ثلاثة وجوه، ذكرها النووي في ((المجموع)) :(4/524) وقال: ((الصحيح المنصوص تحريم تشميت العاطس، كردّ السلام)) .
قلت: ويتعيّن هذا إذا علمتَ أن قول القائل لصاحبه ((أنصت)) ـ وهو من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ، ومع ذلك فقد سمّاه النبي صلى الله عليه وسلم لغواً، وذلك باب ترجيح الأهم ـ وهو الإنصاتُ لموعظة الخطيب ـ على المهم ـ وهو الأمر بالمعروف أثناء الخطبة ـ، وإذا كان الأمر كذلك، فكل ما كان في رتبة الأمر بالمعروف: كتشميت العاطس، وردّ السلام، ومتابعة الخطيب على ذكر
الله، أو الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحو ذلك، فحكمه حكم الأمر بالمعروف، وما كان دونه في الرتبة فهو أولى بالمنع.
ويستفاد من حديث أوس السابق، الذي فيه:((ودنا من الإمام، وأستمع ولم يلغ)) انتباه زائد من المستمع للخطبة، فهو بكله وكلكله مع الخطيب مع الخطيب، يتابع ما يقول، ويفهم، دون غفلة أو تغافل. وإذا علمت هذا يتبين لك:
[8/58] * خطأ من ينام والإمام يخطب.
عن ابن عون عن ابن سيرين قال: كانوا يكرهون النّوم، والإمام يخطب، ويقولون فيه قولاً شديد. قال ابن عون: ثم لقيني بعد ذلك، فقال تدري ما يقولون؟ قال: يقولون: مَثَلهُم كمثل سريّة أخفقوا. ثم قال: هل تدري ما أخفقوا؟ لم تَغْنَمْ شيئاً (2) .
ويندب للمصلي إذا غلبه النعاس، وهو في مكان من المسجد، التحوّل منه إلى آخر.
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا نعس أحدكم في المسجد يوم الجمعة، فليتحوّل من مجلسه ذلك إلى غيره)) (3) .
وحكمة الأمر بالتحوّل: أن الحركة تذهب النّعاس، أو أن المكان الذي أصابه النوم فيه شيطان (1) !!
ولا يُقال: إن الانتقال وقت الخطبة، عمل منهي عنه، لما فيه من الاشتغال عن سماع الخطبة المأمور به، فلا يشمله الحديث. لأن انتقال النّاعس يؤدّي إلى ذهاب نعسه، فينتبه للخطبة، ولذلك أمره الشارع بالتحوّل.
[9/58] * خطأ من استدبر الإِمام والقبلة والإِمام يخطب.
قال ابن القيم في هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في خطبة الجمعة:) (وكان إذا خطب قائماً في الجمعة، استدار أصحابُه إليه بوجوههم، وكان وجهه صلى الله عليه وسلم قِبلَهم في وقت الخطبة)) (2) .
ويلاحظ أن بعض المصلّين يعتمدون على جدار أو عمود للمسجد، مستدبرين القبلة ووجه خطيب الجمعة، والعجب من هؤلاء!! فإن الشرع أذن للخطيب أن يستدبر القبلة،ليواجه المصلّين ويؤثر فيهم، ويأمرهم وينهاهم، وعلى الرغم من هذا،فإن هذا الصنف،لا ينظر إلى هذه الحكمة، ولا يلتفت إليها، وغالب هؤلاء لا ينتبهون للخطيب، ولا يدنون منه، لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم.
قال ابن حجر: ((ومِنْ لازمِ الاستقبال: استدبار الإمام القبلة، واغتفر لئلا يصير مستدبر القوم الذين يعظهم.
ومن حكمة استقبالهم للإمام: التهيّؤ لسماع كلامه، وسلوك الأدب معه في استماع كلامه، فإذا استقبله بوجهه، وأقبل عليه بجسده وبقلبه وحضور ذهنه، كان أدعى لتفهم موعظته وموافقته فيما شرع له القيام لأجله)) (3) .
قال الترمذي: ((والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم،يستحبّون استقبال الإمام إذا خطب)) (4) .
وهو قول الأئمة الأربعة وسفيان الثّوري والأوزاعي وإسحاق.
قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: يكون الإمام متباعداً، فإذا أردت أن أنحرف إليه، حوّلت وجهي عن القبلة. فقال، نعم، تنحرف إليه (1) .
وقال الصّنعاني في استقبال الناس الخطيب، مواجهين له:((أمر مستمر، وهو في حكم المجمع عليه، وجزم بوجوبه أبو الطيب من الشافعية)) (2) .
[10/58] * خطأ من يعبث بالحصى أو السبحة ونحوهما والإمام يخطب.
أطلق النبيُّ صلى الله عليه وسلم اللغو ـ وهو المطرح من القول وما ينبغي أن يلغى ـ على كلمة: ((أنصت)) التي يقولها المصلّي يوم الجمعة لأخيه المتكلّم، والإمام يخطب.
وأطلق اللغو على الفعل أيضاً، فقال صلى الله عليه وسلم:((مَنْ مَسَ الحصى فقد لغا)) (3) .
وذلك لأنه تشاغل به عن الخشوع، وحضور القلب.
ويلحق بمس الحصى، عبث بعض المصلّين وتشاغلهم بالسبحة، أو المفاتيح ونحوهما.
[11/58] * تخطي الرّقاب وإيذاء النّاس يوم الجمعة.
عُلِّق غفرانُ مابين الجمعتين من الذّنوب في حديث سلمان الفارسي السابق،
على مجموع خصال، منها: ((
…
ثم راح، فلم يفرّق بين اثنين)) (4) .
وفي حديث أبي سعيد: ((فلم يلغ، ولم يجهل، حتى ينصرف الإِمام)) (5) .
وبوّب عليه ابن خزيمة بقوله: ((باب فضل ترك الجهل يوم الجمعة من حين يأتي المرء
الجمعة إلى انقضاء الصلاة)) .
ويكون الجهل بعدّة أُمور، منها:
أولاً: التفرقة بين اثنين، ويتناول ذلك: القعود بينهما. وإخراج أحدهما والقعود مكانه.
ثانياً: تخطي رقاب المصلّين، ويكون ذلك ـ زيادة على التفرقة بين اثنين ـ برفع رجلي المتخطي على رؤوسهما أو أكتافهما، وربما تعلق ثيابهما بشيء مما برجليه.
ثالثاً: الإيذاء بالقول، كالشتم أو الغيبة أو الاستهزاء ونحوهما. بل يشمل الجهل:
رابعاً: مقاتلة الناس، ولو في أثناء طريقه للمسجد. فيطلب ممن دخل المسجد، ولم يجد مكاناً يجلس فيه، ألا يقيم غيره، ليجلس مكانه، بل يطلب التوسعة.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم ليُخالف إلى مقعده، فيقعد فيه، ولكن يقول: افسحوا)) (1) .
قال النووي: ((هذا النهي للتحريم، فمن سبق إلى موضع مباح في المسجد وغيره، يوم الجمعة أو غيره لصلاة أو غيرها، فهو أحق به، ويحرم على غيره إقامته لهذا الحديث)) (2) ..
ويطلب ممن دخل المسجد ألا يتخطّى الرّقاب.
وعن عبد الله بن يُسْر: أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال:((اجلسْ، فقد آذيت وآنيت (3)) ) (4) .
دل الحديث على حرمة تخطي الرّقاب يوم الجمعة، وظاهر التقييد بيوم الجمعة أن الحرمة مختصة به، ويحتمل أن التقييد به خرج مخرج الغالب، لكثرة