الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان يفتتح خطبتي العيدين بالتكبير، وإنما روى ابن ماجه في ((سننه)) (2) عن سعد القرظ مؤذّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر التكبير بين أضعاف الخطبة، ويكثر التكبير في خطبتي العيدين.
وهذا لا يدل على أنه كان يفتتحها به. وقد اختلف النّاسُ في افتتاح خُطبة العيدين والاستسقاء، فقيل: يُفْتتحان بالتّكبير، وقيل: تفتتح خطبة الاستسقاء بالاستغفار، وقيل: يُفتتحان بالحمد. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وهو الصّواب (3) .
قلت: والحديث السّابق ضعيف، في إسناده رجل ضعيف، وهو (عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد المؤذّن) ، وآخر مجهول، وهو (سعد بن عمار) . فلا يجوز الاحتجاج به على سنية التكبير في أثناء الخطبة (4) . ومن أخطائهم أيضاً: جعلهم للعيد خطبتين، يفصلون بينهما بجلوس، وكل ما ورد في ذلك ضعيف.
قال النووي: لم يثبت في تكرير الخطبة شيء (5) .
[65] * أخطاء المصلّين في الجمع بين الصّلاتين في الحضر:
القاعدة العامة عند أهل السنّة والجماعة: أن تصلَّى كلُّ صلاةٍ في وقتها المخصوص المنصوص عليه في الأحاديث النبويّة، دون تقديم ولا تأخير، إلا لسبب من الأسباب المذكورة في
كتب الفقه، وقام الدّليل الشّرعي على اعتباره.
وعليه: فلا يجوز للمسلّم أن يقدّم الصّلاة ـ كلَّها أو بعضها ـ قبل دخول وقتها، لأن
ذلك من تعدّي حدود الله، والاستهزاء بآياته.
ومن الأخطاء في هذا الباب:
[1/65] ما يفعله الشّيعة ومذهبهم الثّابت عنهم:
جواز الجمع بين الصّلاتين: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، مطلقاً، أعني: سفراً وحضراً، لعذرٍ أو لغير عذر، جمع تقديم أو جمع تأخير، وتبعهم في مذهبهم هذا شيعتُهم في كلّ عصر ومصر، ولذا تراهم يجمعون غالباً بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في سفرهم وحضرهم، لعذر أو لغير عذر (1) !! هذا، وقد وقع بعضُهم في خلطٍ شديدٍ، فنقل عن جماعة من علماء السنّة، أنهم جوّزوا الجمع بين الصلاتين من غير عذر (2) !! نعم، يجوز الجمع بين الصّلاتين للحرج والمشقة، ما لم
يتّخذ عادة، على الراجح عند المحققين من العلماء (3) . وهذا مخالف لمذهب الشّيعة، القائلين
باشتراك أوقات كلّ صلاتين، وتختص الأولى منها بمقدار أدائها! من أول الوقت، وتختص الثانية بمقدار أربع ركعات! من آخره (4) .
ورحم الله الشوكاني، فإنه صوّر لنا حال أهل زمانه، وبيَّن الدافع من تقديم الصلاة عن وقتها عند جماعة من الجهّال، فقال:((وقد ابتلي زمننا من بين الأزمنة، وديارنا من بين ديار أهل الأرض؛ بقوم جهلوا الشّر ع، وشاركوا في بعض فروع الفقه، فوسّعوا دائرة الأوقات، وسوّغوا للعامّة أن يصلّوا في غير أوقات الصّلاة، فظنّوا أن فعل الصّلاة في غير أوقاتها شعبة من شعب التّشيع، وخصلة من خصال المحبة لأهل البيت، فضلّوا وأضلوا، وأهل البيت رحمهم الله براء من هذه المقالة، مصونون من القول بشيء منها)) (1) .
قلت: ذكر الحافظ الذّهبي رحمه الله أن سبب خروج القرّاء ـ وهم أهل القرآن والصّلاح
ـ بالعراق على الحجاج، لظلمه وتأخيره الصّلاة والجمع في الحضر (2) .
والظاهر أن جمعه دون عذر، وإلا فهو مشروع عند الجمهور، فأين مذهب أهل البيت، من القول السابق؟ ! حقاً إنهم منه براء.
وقال الشوكاني أيضاً: ((ولقد صارت الجماعات الآن تقام في جوامع صنعاء للعصر بعد الفراغ من صلاة الظّهر، وللعشاء في وقت المغرب، وصار غالبُ العوامّ لا يصلّي الظهر والعصر إلا عند اصفرار الشمس، فيا لله وللمسلمين من هذه الفواقر في الدّين)) (3) .
[2/65] وبهذه المناسبة لا بُدّ أن أُشير إلى أن جماعة من الفقهاء قد منعوا
الجمع بين الصلاتين في الحضر، وقد صنّف الشوكاني في نصرة هذا الرأي رسالة، أسماها ((تشنيف السمع بإبطال أدلة الجمع)) (4)، وقد اعتمد على زيادةٍ وردت في حديث ابن عباس:((جمع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر)) (5) .
وهذه الزّيادة هي ((أخّر الظّهر وعجّل العصر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء)) ، فقال: إن الجمع بين الصلاتين في الحضر جمع صوري أو جمع في الفعل، حيث تؤدّى الصلاة الأولى في آخر وقتها، والثّانية في أول وقتها، لا في الوقت.
وقد ضعّف غيرُ واحد من العلماء المحققين الجمع الصّوري، منهم:النّووي، وتعبقه
الشوكاني في ((نيل الأوطار)) : (3/265) وتبعه صديق حسن خان في ((فتح العلام)) : (1/195) فقالا: ((والعجب من النووي، كيف يضعّف هذا التّأويل ـ أي الجمع الصوري ـ
وغفل عن رواية النسائي ـ التي فيها الزّيادة السّابقة ـ والمطلق في رواية يحمل على المقيد، إذا كان في قصة واحدة كما في هذا)) (1) !!
قلت: والعجب من عجبها! فهذه الزّيادة مدرجة في الحديث عند النسائي، ووهم بعض
الرواة فيها، وهي في ((صحيح مسلم)) وغيره من كلام بعض الرواة على الاحتمال والظنّ،
وليست في متن الحديث (2) .
والصحيح، الذي عليه الدّليل الصّريح: مشروعية الجمع بين الصّلاتين في الحضر للعذر والحاجة، كما قدّمنا.
قال القاضي ابن العربي المالكي: ((لا يطمئنّ إلى الجمع ولا يفعله إلا جماعة مطمئنّة النّفوس بالسنّة كما لا يكع (2) عنه إلا أهل الجفاء والبداوة)) (3) .
وبعد بيان الفرق الجوهري بيننا ـ معشر أهل السنّة والجماعة ـ والشّيعة في مشروعية الجمع، والإِلماع إلى الرّد على مانعي الجمع في الحضر، نبيِّنُ أخطاء المصلّين، علماً بأن كثيراً منها أقوال مرجوحة لبعض الفقهاء، وقد استوفيتُ الآراء والرّد على المخالف منها للسنّة في كتابي ((الجمع بين الصّلاتين في الحضر بعذر المطر)) ، وسأكتفي هنا بالتّنبيه على الخطأ،
وبيان الأدلة.
* اشتراط نية الجمع عند تكبيرة الإِحرام أو قبل التحلّل من الصّلاة الأُولى.
[3/65] الصحيح عند المحققين من العلماء: أن نية الجمع تكفي بعد التحلل من الصّلاة الأُولى قبل الإِحرام بالثّانية.
وهذا مخالف لمن يشترط لمشروعية الجمع النّية عند تكبيرة الإحرام الأولى. أو قبل التحلل من الصلاة الأولى! وذلك لأن المجموعتين ـ عندهم ـ عبادة واحدة، فتجب لهما نيّة واحدة، قبل ـ أو في ـ الأولى منهما.
والظّاهر أن المجموعتين عبادتان مختلفتان، ولذلك يجوز الفصل اليسير بينهما، عند جمهور القائلين بمشروعيّة الجمع بين الصلاتين.
والجمع هو ضم الثانية إلى الأولى، فإذا تقدّمت النيّة على حالة الضّم،
حصل الغرض، وإلى هذا ذهب: المزني وخرّجه قولاً للشافعي (1) ، وبه قال بعض أصحاب الشافعي، وقوّاه
النووي (2) ، ورجَحه السّراج البُلْقيني، وتبعه تلميذه ابن حجر العسقلاني (3) .
وهذا ما رجّحه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى (4) . والأدلة على رجحان هذا الرأي ما يلي:
أولاً: لما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه لم يعلمهم أنه سيجمع قبل الدخول، بل لم يكونوا يعلمون أنه يجمع حتى يقضي الصّلاة الأولى، فعلم أن الجمع لا يفتقر إلى أن ينوي حين الشروع في الأولى.
قال ابن تيمية: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يصلي بأصحابه جمعاً وقصراً لم يكن يأمر أحداً منهم
بنية الجمع والقصر، بل خرج من المدينة إلى مكة يصلّي ركعتين من غير جمع، ثم صلى بهم الظهر بعرفة، ولم يعلمهم أنه يريد أن يصلي العصر بعدها، ثم صلى بهم العصر، ولم يكونوا نووا الجمع، وهذا جمع تقديم، وكذلك لما خرج من المدينة، صلّى بهم بذي الحليفة ركعتين، لم يأمرهم بنية القصر)) (5) .
وقال أيضاً: ((إن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج في خرج في حجّته، صلّى بهم الظّهر بالمدينة أربعاً، وصلّى
بهم العصر بذي الحليفة ركعتين، وخلفه أمم لا يحصي عددهم إلا الله، كلهم خرجوا يحجّون معه، وكثير منهم لا يعرف صلاة السفر، إما لحدوث عهده بالإسلام، أما لكونه لم يسافر بعد، لاسيّما النّساء، صلوا معه، ولم يأمرهم بنية القصر، وكذلك جمع بهم بعرفة، ولم يقل لهم: إني أريد أن أصلي العصر بعد الظهر، حين صلاها)) (6) .
وقال ابن حجر العسقلاني: ((ويقوّي ذلك: أنه عليه الصلاة والسلام جمع في غزوة تبوك
، ولم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه، ولو كان شرطاً لأعلمهم به)) (1) .
ثانياً: في ((الصحيحين)) : أنه صلى الله عليه وسلم لما صلّى إحدى صلاتي العشي، وسلّم في اثنتين، قال
له ذو اليدين: أقصرت الصّلاة أم نسيت؟ قال: لم أنس ولم تقصر. قال: بلى، قد نسيت. قال:
أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فأتمَّ الصّلاة (2) .
فلوا كان القصر لا يجوز إلا إذا نووه، لبيّن ذلك، ولكانوا يعلمون ذلك (3) ، والجمع مثل
القصر في هذا الجانب.
ثالثاً: ويستدلّ بهذا الحديث على جواز نية الجمع عند الإحرام بالثّانية من وجه آخر.
قال المزني رحمه الله تعالى. ((والقياس عندي إن سلّم ولم ينو الجمع، فجمع في قرب ما سلّم، بقدر ما لو أراد الجمع، كأن ذلك فصلاً قريباً بينهما، أن له الجمع، لأنه لا يكون جمع
الصّلاتين إلا وبينها انفصال، فكذلك كل جمع، وكذلك كل مَنْ سها، فسلّم من اثنين، فلم يطل فصل ما بينهما، أنه يتم كما أتمّ النبي صلى الله عليه وسلم وقد فصل، ولم يكن ذلك قطعاً لاتّصال الصّلاة في الحكم، فكذلك عندي: إيصال جمع الصّلاتين، أن لا يكون التّفريق بينهما إلا بمقدار مالا يطول)) (4) .
رابعاً: ولم يعلم عن أحد من الصّحابة والتّابعين لهم بإحسان أنه اشتراط نيةّ، لا في قصر ولا في جمع.
قال ابن تيمية: ((ولم ينقل قط أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أصحابه لا بنية قصر، ولا بنية
جمع، ولا كان خلفاؤه وأصحابه يأمرون بذلك مَنْ يصلّي خلفهم)) (5) .
يعلم مما تقدّم:
[4/65] خطأ مانعي المسبوق من الجمع، إن جاء للصّلاة، ولم يعلم أن الإمام سيجمع بين الصّلاتين أم لا، لأنه لم ينو الجمع عند تكبيرة الإحرام للصلاة الأولى، أو قبل التحلل منها وكذلك خطأ من يكتبون على لوحة تعلق على باب المسجد أو على مكان فيه، عبارة ((سيجمع الإمام)) أو نحوها كما رأيته في بعض المساجد، وكذلك اشتراط إعلام الإمام المأمومين الجمع، كقوله إذا نوى: الجمع بين الصلاتين! وكل ما مضى ينافي رخصة الجمع، التي
تتجلى فيها رحمة الله
سبحانه بخلفه، إذا أدخل اليسر عليهم فيها، ولكن يأبى نفرّ من النّاس إلا الحرج والتضييق والمشقة!!
* منع الجمع بين صلاتي الظهر والعصر في الحضر:
[5/65] ذهب بعض الفقهاء إلى مشروعية الجمع بين الصلاتين بين المغرب والعشاء فحسب، ومنعوه بين الظهر والعصر لعدم صحة قياسه عليهما، لما في المغرب والعشاء من المشقة لأجل الظّلمة والمطر، ولعدم صحة قياسه أيضاً على السفر لأن مشقته لأجل السير وفوات الرّفقة، وهو غير موجود فيه، وتعجّل بعضهم حين قال: لأن مستند الجمع لم يرد إلا في المغرب
والعشاء!! وذهب إلى مشروعية الجمع بين الظهر والعصر الإمام الشافعي، وعدّل الإمام مالكاً في تفريقه بين صلاة النّهار في ذلك وصلاة الليل، لأنه روى الحديث وتأوّله ـ أي خصص عمومه من جهة القياس ـ وذلك أنه قال في قول ابن عباس:((جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير خوف وسفر)) : أُرى (1) ذلك كان في المطر (2) .
فقال الشافعي: فلم يأخذ مالك بعموم الحديث ولا بتأويله ـ أعني: تخصيصه ـ بل ردَّ بعضه وتأوّل، وذلك شيء لا يجوز بإجماع، وذلك أنه لم يأخذ بقوله فيه ((جمع بين الظهر والعصر)) وأخذ بقوله:((والمغرب والعشاء)) وتأوّله (3) .
قال السبكي: ((مع تفسير مالك: يقتضي إباحة الجمع بين الظّهر والعصر وبين المغرب
والعشاء لضرورة المطر)) (4) .
وإذا ثبت هذا الجمع في حديث ابن عباس السابق، فلسنا بحاجةٍ إلى قياس، إذ لا اجتهاد في مورد النّص،كما هو مقرر عند الأصوليين.
واختار مشروعية الجمع بين الظهر والعصر في الحضر من الحنابلة: القاضي وأبو الخطاب وابن تيمية، ولم يذكر ابنُ هبيرة عن أحمد غيره، وجزم به في ((نهاية ابن رزين)) و ((نظمها)) و ((التسهيل)) وصححه في المذهب، وقدّمه في ((الخلاصة)) و ((إدراك الغاية)) و ((مسبوك الذهب)) و ((المستوعب)) و ((التلخيص)) و ((البلغة)) و ((خصال ابن البنا)) والطوفي في ((شرح الخرقي)) و ((الحاويين)) (1) .
* منع الجمع بين الصلاتين في الحضر إلا عند نزول المطر:
[6/65] نسمع كثيراً عند همّ الإمام بالجمع بين الصلاتين في الليالي الباردة من كثير من المصلّين، تلك العبارة التي يعتبرونها فبصلاً بين الحالات التي يشرع فيها الجمع ويمنع، وهي:((إذا كانت السماء منهلة، والأرض مبتلّة، جاز الجمع)) ففي هذه العبارة: حصر مشروعية الجمع في حالة نزول المطر.
واعتمد القائلون بهذا على رواية مالك عن أبي الزّبير المكي عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس أنه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا سفر.
قال مالك: أُرى ذلك كان في مطر (2) .
ولكن تابع مالكاً: زهير، وزاد:((بالمدينة. قال أبو الزبير: فسألت سعيداً: لم فعل ذلك؟ فقال: سألت ابن عباس كما سألتني؟ فقال: أردا أن لا يحرج أحداً من أُمته)) (3) . وتابع أبا الزّبير: حبيب بن أبي ثابت، إلا أنه قال:((مطر)) بدل ((سفر)) (4) .
وتابعه عمرو بن هرم عن سعيد بلفظ: أن ابن عباس جمع بين الظهر والعصر من شغل، وزعم ابن عباس أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الظهر والعصر جميعاً (1) .
ورواه قتادة قال: سمعت جابر بن زيد عن ابن عباس قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر قيل لابن عباس: وما أراد لذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أُمته (2) .
ورواه عن جابر بن زيد ـ وكنيته أبو الشعثاء ـ عمرو بن دينار مختصراً، بلفظ:((أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى بالمدينة سبعاً وثمانياً، الظهر والعصر، المغرب والعشاء)) (3) .
ورواية قتادة عن أبي الشّعثاء ترجّح رواية حبيب بن أبي ثابت، بلفظ (مطر) بدل (سفر) ولم تقع هذه الرواية للبيهقي، فرجّح رواية أبي الزّبير المخالفة لها بلفظ (سفر) برواية عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء هذه التي ليس فيها لفظ من اللفظين!! وتقديم رواية أبي الزبير على رواية حبيب بن أبي ثابت لا وجه له، فإن حبيباً من رجال الصحيحين، كما في ((الجمع بين رجال الصحيحين)) (1/97) فهو أحقّ بالتقديم من أبي الزبير، وأبو الزبير من أفراد مسلم، كما في ((تهذيب التهذيب)) :(9/390) .
وأيضاً فأبو الزبير اختلف عنه عن سعيد بن جبير في المتن، تارة يجعل ذلك في السفر، كما رواه عنه قرة موافقة لحديث أبي الزبير عن أبي الطفيل، وتارة يجعل ذلك في المدينة، كما رواه الأكثر ون عنه عن سعيد (4) .
وعلية: فالراجح رواية ((في غير خوف ولا مطر)) .
ويتأيّد ذلك برواية (المدينة) فإن هذا اللفظ معناه (في غير سفر) فذكر هذه العبارة مرة
أخرى، لا فائدة منها، بل هو تحصيل حاصل، بخلاف قوله (في غير مطر) ففيه تنبيه إلى معنى لا يستفاد إلا به، فتأمّل.
قال ابن تيمية:
((وقوله (بالمدينة) يدل على أنه لم يكن في السفر، فقوله (جمع بالمدينة من
غير خوف ولا مطر) أولى من أن يُقال: (من غير خوف ولاسفر)) ) (1) .
والظّاهر من سياق الحديث أن الجمع المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان في الحضر، وإلا لم يصح احتجاج ابن عباس به على الرجل، كما في رواية عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس بالبصرة يوماً بعد العصر، حتى غربت الشمس، وبدت النّجوم، وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة. قال: فجاءه رجل من بني تميم لا يفتر ولا ينثني: الصلاة الصلاة.
فقال ابن عباس: أتعلمني السنّة، لا أمّ لك؟! ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء، فأتيتُ أبا هريرة، فسألتُه، فصدّق مقالته (2) .
ويؤكّد ذلك أيضاً: جواب ابن عباس: ((أراد أن لا يحرج أحداً من أُمته)) ولو كان ثم مطر من أجله جمع بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذكره ابن عباس عن السبب الذي جمع بينهما، فلما لم يذكره، وأخبر بأنه أراد أن لا يحرج أُمته، دلّ على أن جمعه كان في غير حال المطر، وغير جائز دفع يقين ابن عباس مع حضوره، بشك مالك (3) .
وعليه: فيجوز الجمع من أجل المطر والخوف، لأن قول ابن عباس: جمع
من غير كذا ولا كذا، ليس نفياً منه للجمع بتلك الأسباب، بل إثبات منه، لأنه جمع بدونها، وإن كان قد جمع بها أيضاً، ولو لم ينقل إلينا أنه جمع بها، فجمعه بما هو دونها دليل على الجمع بها بطريق الأولى، فيدل ذلك على الجمع للخوف والمطر، وقد جمع بعرفة ومزدلفة من غير خوف ولا مطر (4) .
ولكن مشروعية الجمع بين الصلاتين ليست محصورةً في هذين العذرين، فهي تشمل الجمع للوحَل (1) والبرد والثلج والمرض والريح الشديدة، بل لمطلق العذر والحاجة، وهذا مذهب جماعة من المحققين ـ كما قدمنا ـ وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل.
قال ابن تيمية: ((وأوسع المذاهب في الجمع بين الصلاتين مذهب الإمام أحمد فإنه نص على أنه يجوز للحرج والشغل)) .
وقيّد هذا الشغل بكلام القاضي أبي يعلى، فقال رحمه الله: ((قال القاضي أبو يعلى وغيره
من أصحابنا: يعني إذا كان هناك شغل يبيح له ترك الجمعة والجماعة جاز له ذلك)) (2) .
ومنه: تعلم خطأ مَنْ يصرّون على فتح نوافذ المسجد فبل إحرام الإمام بالجمع بين الصلاتين، ليعلموا هل ينزل المطر أم لا، بناء على شرط بعض الفقهاء: أن الجمع لا يشرع إلا عند قيام المطر، وقت افتتاح الصّلاتين المجموعتين!! .
* منع مَنْ كان بيُته قريباً من المسجد من الجمع بين الصلاتين في الحضر.
[7/65] نصّ بعض أصحاب الشافعي أن الجمع بين الصلاتين في الحضر مخصوص لمن يصلّي في مسجد يأتيه من بُعْدٍ، ويتأذّى بالمطر من إتيانه، وأما من مشى إلى المسجد في كِنّ (3) ، أو كان المسجدُ في باب داره، فلا يصح الجمع لهم. واستثنوا من ذلك الإمام الراتب، لأنه يلزم من عدم إمامته تعطيل الجماعة (4) .
والصّواب: أنه يجوز ـ للإمام ولغير الإمام ـ الجمعُ في هذه الحالة.
سئل الإمام مالك عن القوم يكون بعضُهم قريبَ المنزل من المسجد، إذا خرج منه دخل إلى المسجد من ساعته، وإذا خرج من المسجد إلى منزله مثل ذلك، يدخل منزله مكانه، ومنهم البعيد المنزل من المسجد، أترى أن يجمعوا بين الصلاتين كلهم في المطر؟
فقال: ما رأيتُ الناس إذا جمعوا إلا القريب والبعيد، فهم سواء يجمعون. قيل: ماذا.
فقال: إذا جمعوا جمع القريب منهم والبعيد (5) .
قال محمد بن رشد، معقباً عليه: ((وهذا كما قال، لأن الجمع إذا جاز من أجل المشقة التي
تدخل على مَنْ بَعُد، دخل معهم مَنْ قَرُب، إذ لا يصح لهم أن ينفردوا دونهم، فيصلّوا كل صلاة
في وقتها جماعة، لما في ذلك من تفريق الجماعة، ولا أن يتركوا الصلاة في جماعة)) (1) .
وهذا مذهب الحنابلة، فقد نصوا على جواز الجمع لمن يصلّي في مسجد
طريقة تحت ساباط (2) ، أو بينه وبينه خطرات يسيرة، وهذا ظاهر كلام الإمام أحمد، قاله القاضي،لأن الرخصة العامة يستوي فيها حال وجود المشقة وعدمها، كالسفر، ولأنه قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المطر، وليس بين حجرته والمسجد شيء (3) .
وأجاب المانعون عن جمع النبي صلى الله عليه وسلم في بيوت أزواجه، وهي قريبة من المسجد: بأن بيوت أزواجه صلى الله عليه وسلم تسعة، وكانت مختلفة، منها بيت عائشة، بابه إلى المسجد، ومعظمها بخلاف ذلك، فلعلّه صلى الله عليه وسلم في حال جمعه لم يكن في بيت عائشة، وهذا ظاهر، فإن احتمال كونه صلى الله عليه وسلم في الباقي أظهر من كونه في بيت عائشة رضي الله عنها (4) .
وتعقب ابن حجر هذا الرأي، فقال:((وهذا يحتاج إلى نقل، وقد وجد النّقل بخلافه، ففي ((الموطاً)) عن الثقة عنده: أن الناس كانوا يدخلون حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، يصلّون فيها الجمعة، وكان المسجد يضيق عن أهله، وحجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليست من المسجد، ولكن أبوابها شارعة في المسجد)) (5) .
قلت: ويؤيّد كلام الحافظ ابن حجر حديثُ أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فزعاً، وقال:
((
…
من يوقظ أصحاب الحجرات)) (6) يريد أزواجه، وهو ظاهر.
ويرجّح ما ذهبنا إليه أيضاً:
أولاً: أن لازم شرط المشي إلى المسجد، والتأذي فيه، منع مَنْ خرج إليه قبل وجود العذر، كالمطر ونحوه. وهذا لم يقل به أحد من الفقهاء، فيما أعلم.
ثانياً: أن الإمام الشافعي قال: ((ويجمع من قليل المطر وكثيره، ولا يجمع إلا مَنْ خرج مِنْ بيته إلى المسجد، يجمع فيه، قرب المسجد أو كثر أهله أو قلوا أو بعدوا، ولا يجمع أحد في بيته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في المسجد، والمصلّي في بيته مخالف المصلي في المسجد)) (1) .
فهذا النص مخالف لما عليه أصحابه، وهو نصه في ((الإملاء)) أيضاً (2) .
ثالثاً: الأصل في العبادات أن يجتمع المصلّون عليها ولا يتفرّقوا، حتى قال بعضهم: ((والجمع هو الأصل في العبادات، فمتى حصلت العبادة، ولم يحصل معها الجمع، فإنما هو عدم
صدق، أو مرض في القلب، أو بدعة، أو عدم أدب، أو عجب ورياء، أو كبر)) (3) .
وفي منع القريبين من المسجد من الجمع، تفريق للعبادة، وعدم اجتماع عليها، ويقع بعضهم في جنس هذا الغلط في صور أخرى حال الجمع بين الصّلاتين، أذكر منها صورتين:
* الجمع بعد جمع الإمام الراتب:
[8/65] يتأخر فريق من المصلّين عن صلاة الجماعة، وعند حضورهم المسجد، وعلمهم بأن الإمام قد جمع بين الصلاتين، فيجتمعون ليجمعوا بعد جمع الإمام الراتب.
وقد سبق أن ذكرنا في مبحث ((جماع أخطاء المصلّين في المسجد وصلاة الجماعة)) خطأ صلاة الجماعة الثانية، وما قلناه هناك، يُقال هنا، إلا أنا نضيف هنا نصوص العلماء في هذا الخطأ، فنقول، وعلى الله الاعتماد والتّكلان:
قال الشيخ علي العدوي: ((والحاصل أنه إذا وجدهم فرغوا، فلا يجوز أن يجمع لنفسه، ولا مع جماعة بإمام، لأن فيه إعادة جماعة بعد الرّاتب، فلو جمعوا فلا إعادة عليهم)) (4) .
وقال الدسوقي: ((اعلم أنه إذا وجدهم فرغوا من صلاة العشاء، فكما لا يجوز له أن يجمع لنفسه، لا يجوز له أن يجمع مع جماعة أخرى في ذلك المسجد، لما فيه من إعادة جماعة بعد الراتب، فلو جمعوا فلا إعادة عليهم)) (5) .
وقال الونشريسي: سألت الشيخ أبا عبد الله محمد بن قاسم القوري رحمه الله عن جماعةٍ
جمعت في مسجدٍ بعد جمع إمامه الراتب، هل جمعهما صحيح؟
فأجابني ما نصُّهُ: الجمع صحيح، ولا خلل فيه، ولا موجب إعادة، وغاية ما يُقال: الكراهة على المشهور (1) .
وهذا مقتضى مذهب المانعين للجماعة الثانية، وهو مذهب الجمهور، كما قدمنا.
* المكث في المسجد حتى دخول وقت الصلاة الثانية وصلاة الناس ـ الذين لم يجمعوا ـ جماعة، وعدم القيام للصلاة معهم بحجّة الجمع بين الصّلاتين.
[9/65] يجمع بعضُ المصلّين بين الصَّلاتين، ويمكثون في المسجد، حتى يدخل وقتُ الصّلاة الثانية، ويُنادى لها، ويجتمع المصلّون ـ الذين لم يجمعوا مع الإمام الراتب ـ ويصلّون جماعة، وهم جلوس، يتحدّثون، ولا يقومون لصلاة الجماعة معهم، ولئن سألتهم: لم لا تصلّون؟ قالوا: جمعنا مع الإمام!! وهذا الصِّنف من المصلّين، يقع في ثلاثة أخطاء:
الأوّل: التشويش على المصلين.
الثاني: عدم الانصراف من المسجد بعد انتهاء الجمع بين الصّلاتين.
الثالث: تركهم الصّلاة جماعة.
وقد صح عن يزيد بن الأسود: أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو غلام شاب، فلما صلّى، فإذا رجلان لم يصلّيا في ناحية المسجد، فدعا بهما، فجيء بهما ترعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصلّيا معنا؟ قالا: قد صلّينا في رحالنا. فقال: لا تفعلوا، إذا صلّى أحدًكم في رحله، ثم أدرك الإمام ولم يصلّ، فليصلّ معه، فإنّها له نافلة (2) .
[10/65] وبعضهم يضيف خطأ آخر إلى الأخطاء السابقة، إذ يقوم وينصرف