الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من المسجد عند سماعه الأذان للصلاة الثانية، وقد أشرنا إلى هذا الخطأ في مبحث سابق.
والمقرر عند الفقهاء: لو جمع بين الصلاتين، فرأى النّاس يصلّون الثّانية في وقتها، وهو مارّ، فإنه لا تلزمه إعادة الصّلاة معهم، ولا يدخل المسجد وليرجع، فإنه بدخوله يوجب على
نفسه أن يتعمّد الصّلاة مع الإمام، وإلا يلحقه النهي الوارد في الحديث السابق (1) ، والله أعلم.
[66] * أخطاء المصلّين في صلاتهم في السّفر:
تتعدّد أخطاء المصلّين في صلاتهم في السّفر، وذلك من خلال تركهم الجمع والقصر المشروعين في حقّهم، ووضع شروطٍ للأخذ بهما، لم يقم عليها دليلّ ولا شبهُ دليل، وسنتعرّض لشبههم هذه، فنقول:
* ترك القصر والجمع بين الصّلاتين في السفر.
[1/66] يصلّي بعضُهم في السّفر خمس صلوات في خمسة أوقات دون قصر، وهؤلاء يتركون سنّة النبي صلى الله عليه وسلم في فعلهم هذا، إذ الثّابت عنه القصر والجمع بين الصلاتين (2) .
وبعضهم يترك ذلك لشُبهٍ قامت في ذهنه! من مثل: أن القصر لا يجوز إلا في حالة الخوف! أو: أن القصر أو الجمع لا يجوز إلا في سفر الطّاعة، كالحج. وهذا لا نصيب له من الصّحة، ولا حظّ له من حيث الأدلة، بل قامت الأدلة على خلافه، ولهذا: فلا معوّل عليه عند أهل العلم.
قال الشّنقيطي: ((أجمع العلماء على مشروعية قصر الرباعيّة في السفر، خلافاً لمن شذّ،
وقال: لا قصر إلا في خوف! ومن قال: لا قصر إلا في سفر طاعة خاصّة، فإنها أقوال لا معوّل عليها عند أهل العلم (3) .
أو: أن السفر الآن يتم في الطّائرات والسيّارات والقطارات، ولا مشقة فيها، بخلاف السفر قديماً!
أو: أن المسافر يقتضي عمله السّفر الدّائم! قال السيد سابق: ((ويستوي في ذلك: السّفر في الطّائرة، أو القاطرة، كما يستوي سفر الطّاعة
وغيره.
ومن كان عمله يقتضي السفر دائما، مثل الملاح والمكاري، فإنه يرخص له القصر والفطر، لأنه مسافر حقيقة)) (1) .
أسوق هذا لأني وجدتُ وسمعتُ من بعض مشايخ هذا الزّمان! صرف الأحكام المتعلّقة
بالسفر أو بعضها، عن العمل بها، بحجّة أن السفر يتم الآن بواسطة المراكب الحديثة، من طائرات وغيرها، وما هذا بحجّة يجب المصير إليها، وإنما هو الرأي، والعياذ بالله.
ونسي هؤلاء أن تشريع الله سبحانه وتعالى لكل زمان ومكان، وحتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها، وأن الذي يقيد ويخصص هو الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكم أحببتُ أن يقرأ هؤلاء قول الله تبارك وتعالى:{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (2) .
فهذا ربنا ـ سبحانه ـ يخبرنا أنه يخلق مالا نعلم من مركوبات، غير الموجودة في زمن الوحي: طائرات، وقاطرات، وسيارات، وغيرها.
فعجباً لهؤلاء! أليست هذه من خلق الله؟ أم أن الله لا يعلم أنها كائنة؟! حاشا وكلا، وربنا ـ سبحانه ـ لم يخبرنا أنه عند وجود غير هذه المركوبات التي سمّى لنا في الآية، تلغي أحكام السفر أو تقديها أو تخصصها.
فأحكم السفر إذن باقية كما هي على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم (3) .
وتعلم ـ أخي المصلّى ـ خطأ تارك القصر في السفر، حين تعلم أن حكم القصر فيه الوجوب، وإليه ذهب الحنفية، وروي عن علي بن أبي طالب وعمر رضي الله عنهما كما في ((نيل الأوطار)) (4) ونسبه الخطابي لمذهب أكثر علماء السلف، وفقهاء الأمصار، ولعمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس وعمر بن عبد
العزيز والحسن وقتادة.
وقال: قال حماد بن أبي سليمان: يعيد مَنْ صلّى في السّفر أربعاً.
وقال مالك بن أنس: يعيد ما دام في الوقت (1) .
والأدلة على وجوب القصر كثيرة، أقتصر منها على حديث واحد:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: فرض الله الصّلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأُقِرَّت صلاةُ السّفر، وزيد في صلاة الحضر (2) .
قال الصنعاني معقباً على هذا الحديث: ((في هذا الحديث: دليل على وجوب القصر في السفر، لأن ((فرضت)) بمعنى: وجبت، ووجوبه مذهب الهادوية والحنفية وغيرهم)) (3) .
وردّ على القائلين بالرخصة أقوالهم وحججهم، وكذلك فعل الشوكاني، وقال مقرراً ما ذكرناه:((وقد لاح من مجموع ما ذكرنا رجحان القول بالوجوب)) (4)
وقال معلقاً على حديث عائشة: ((فمن زاد فيها، كمن زاد على أربع في صلاة الحضر، ولا يصح التعلّق بما
روي عنها أنها كانت تتم، فإن ذلك لا تقوم به الحجة، بل الحجة في روايتها لا في رأيها)) (5) .
وذهب إلى الوجوب من قبلهما: شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، رحمها الله تعالى (6) .
[2/66] ومنهم مَنْ يشترط مسافةً معيّنةً للسّفر حتى يشرع القصر والجمع فيه، وقد اختلف العلماءُ في المسافة اختلافاً كثيراً جداً، على نحو عشرين قولاً، والصحيح عند المحققين من أهل العلم: أن ما كان سفراً في عرف النّاس، فهو السفر الذي علّق به الشّارع الحكم، وهذا أليق بيسر الإسلام، فإن تكليف الناس بالقصر في سفر محدود بيوم أو بثلاثة أيام وغيرها من التحديدات، يستلزم تكليفهم بمعرفة مسافات الطّرق التي قد يطرقونها، وهذا مما لا يستطيع أكثر الناس، لا سيما إذا كانت مما لم تطرق من قبل (1) .
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ((أقوى الأقوال فيما يظهر لي حجة، هو قول مَنْ قال:
إن كل ما يسمى سفراً ولو قصيراً، تقصير فيه الصّلاة، لإطلاق السّفر في النّصوص)) (2) .
والتقدير بابُهُ التُوقيف، فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، سيما وليس له أصل يردّ إليه، ولا نظير يقاس عليه.
والحاصل: أنّ الجمع مشروعٌ لكلّ مسافر سفراً معتبراً في العرف، سواء طال أم قصر،
ومقصدنا بـ ((العرف)) الذي كان في زمن الوحي. قال الصنعاني: ((وينبغي أن يراد بالمعتاد ما كان في عصر النبوّة)) . وعليه: تعلم خطأ مَنْ يمنع المسافر عبر الحدود من دولة إلى أخرى من القصر إلا إنْ كان معه ((جواز سفر)) ، لأن العرف السفر به، وهو لم يفعل!! فإلى الله المشتكى (3) .
[3/66] ومن الجدير بالذّكر: أن القصر مبدؤه من بعد الخروج من البلدة، وهو مذهب الجمهور من العلماء.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ((يبتدىء المسافر القصر، إذا جاوز بيوت بلده، بأن خرج من البلد كله، ولا يقصر في بيته إذا نوى السفر، ولا في وسط البلد، وهذا هو قول جمهور العلماء، منهم الأئمة الأربعة، وأكثر فقهاء الأمصار، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قصر بذي الخليفة. وعن مالك: أنه إذا كان في البلد بساتين مسكونة، أن حكمها حكم البلد، فلا يقصر حتى يجاوزها.
واستدل الجمهور على أنه لا يقصر إلا إذا خرج من البلد، بأن القصر مشروط بالضّرب في الأرض، ومَنْ لم يخرج من البلد لم يضرب في الأرض)) (4) .
وقال النووي: ((وأما ابتداء القصر، فيجوز من حين يفارق بنيان بلده، أو خيام قومه، إن كان من أهل الخيام، هذا جملة القول فيه، وتفصيله مشهور في كتب الفقه، هذا مذهبنا، ومذهب العلماء كافّة، إلا رواية ضعيفة عن مالك: أنه لا يقصر حتى يجاوز ثلاثة أميال. وحكى عن عطاء وجماعة من أصحاب ابن مسعود: أنه إذا أراد السفر قصر قبل خروجه.
وعن مجاهد: أنه لا يقصر في يوم خروجه حتى يدخل الليل. وهذه الروايات كلّها منابذة للسنّة وإجماع السّلف والخلف)) (1) .
والأدلة كثيرة ومتضافرة على القول الذي نصره النووي، والنظر في الردّ على قول مَنْ قال: إذا خرج نهاراً لم يقصر إلى الليل، في ((نيل الأوطار)) :(3/251) .
وانظر الأدلة على ما نصره النووي في: ((صحيح البخاري)) : ((باب يقصر إذا خرج من موضعه)) (2) و ((أضواء البيان)) : (1/371) و ((إرواء الغليل)) : رقم (563) و ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) : رقم (163) و ((المحلى)) : (5/2) .
والخلاصة: أن القصر يبدأ من الخروج من البلد ومفارقة بنيان مكان الإقامة، من قرية، أو مدينة، أو خيام، ولا يوجب الأمر ـ كما وجدت عليه بعضَ إخواننا ـ أن يكون الخروجُ عن كلّ بنيان يصادفه في طريق سفره، ولو امتدً إلى آلاف الأميال، والله تعالى أعلم (3) .
نعم، لو كانت قريتان متدانيتان، فاتًصل بناء إحِداهما بالأُخرى فهما كالواحدة، وإن لم يتصل فلكل قرية حكم نفسها (4) ، وبمجرد خروجه عنها ـ إن كانت بلدتَه ـ فله القصر، وإن واجهه في الطريق مجموعة قرى متّصلة أو منفصلة.
والاعتبار بالنيّة لا بالفعل، فلو خرج يقصد سفراً بعيداً، فقصر الصّلاة، ثم بدا له فرجع، كان ما صلاه ماضياً صحيحاً، ولا يقصر في رجوعه إلا أن تكون مسافةُ الرجوع مبيحة بنفسها، نصّ أحمد على هذا، ولو خرج طالباً لعبد آبق (هارب) ونحوه، لا يعلم أين هو، أو منتجعاً غيثاً (كلأ) ، متى وجده أقام أو رجع، أو سائحاً في الأرض، لا يقصد مكاناً، لم يُبَح له القصر، وإن سار أياماً (5) .
ويقلع المسافر عن الجمع والقصر مجرد دخوله بلدته.
عن علي بن ربيعة قال: خرجنا مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه متوجّهين ها هنا،
وأشار بيده إلى الشّام، فصلّى ركعتين ركعتين، حتى إذا رجعنا ونظرنا إلى الكوفة، حضرت الصّلاةُ، فقالوا: يا أمير المؤمنين هذه الكوفة، نُتمُّ الصّلاة؟ . قال: لا، حتى ندخلها (1) .
ومعنى قوله: ((لا، حتى ندخلها)) أي: لا نزال نقصر حتى ندخلها، فإنا ما لم ندخلها في حكم المسافرين (2) .
ويقصر المسافر الصّلاة ما دام غائباً عن بلده الذي اتّخذه موطناً، وفي نيته الرجوع إليه، سواء أكان شاخصاً سائراً أم أقام في بلد آخر مدة معلومة لديه، ما لم يتخذه موطناً، أو لم يكن يعلم المدّة، وفي نفسه يقول: اليوم أخرج، غداً أخرج (3) .