الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد بيّنت سابقا أن المشترك اللفظي في القرآن الكريم، وضعت له مسمّيات أخرى، مثل الأشباه والنظائر، أو الوجوه والنظائر أو التصاريف، لأنه كما قدمت- لا نطلق على كلمات القرآن ألفاظا، لأن الألفاظ يرمى بها اللّسان، ويقذفها متى أراد، والقرآن الكريم لجلاله، وهيبته لا يرمى ولا يقذف، ولكن يقرأ ويتلى.
2 - منهج المبرّد في كتابه:
1 -
المبرد لم يلتزم بعنوان كتابه، لأنه بدأ كتابه بظاهرة الترادف الذي عبّر عنه بقوله: «اختلاف اللفظين والمعنى واحد وهذه ظاهرة أخرى تختلف عن ظاهرة المشترك اللفظيّ الذي سمّى كتابه به.
والدليل على ذلك قوله: «فأما اختلاف اللفظين، والمعنى واحد فقولك: «ظننت، وحسبت» و «قعدت، وجلست» و «ذراع وساعد» و «أنف ومرسن» .
وتناول مع هذا أيضا ظاهرة اختلاف اللّفظين، واختلاف المعنيين حيث قال: «فأما اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين فنحو قولك:
«ذهبت وجاء» و «قام وقعد» و «يد ورجل» و «رجل وفرس» ولم يكتف بهذا بل ضمّ ظاهرة أخرى متحدّثا عنها بالإضافة إلى ما سبق، وهي ظاهرة الأضداد، فحينما تناول كلمة «جلل» بين أنها تكون للصّغير إذ يقول: «وقولهم: أمر جلل كقوله:
* كلّ شىء ما خلا الله جلل* (1) أي صغير.
(1) في الأضداد للأصمعي: 9 أنشد لبيد:
كل شىء ما خلا الموت جلل* والفتى يسعى ويلهيه الأمل ولم أجده في الديوان.
وقال لبيد:
وأرى أربد قد فارقني* ومن الرّزء كثير وجلل (1) ثم بين أن معنى جلل قد يكون للتعظيم فيقول: «ويكون للتعظيم كقول جميل:
رسم دار وقفت في طلله* كدت أقضي الحياة من جلله (2) أي من عظمه في عيني» ويضيف إلى هذا قوله: «ومن ذلك الجون: الأسود، وهو الأكثر ويستدل على ذلك بينت لعمرو بن شأس، والجون: الأبيض، ويستدل ببيت من الرجز. (3)
ويتناول ظاهرة المشترك اللفظي الذي يحمل كتابه معناه بقوله: «وأمّا اتفاق اللفظين واختلاف المعنيين فنحو: وجدت شيئا: إذا أردت وجدان الضالّة، ووجدت على الرجل من الموجدة ووجدت زيدا كريما علمت» (4)
2 -
ومن منهجه أنه في تناوله للظواهر اللغوية التي يأتي بها يستدلّ بالشعر ليوضّح التّفسير اللغوي الذي يراه للكلمة التي
تعرّض لشرحها فالرجاء قد يخرج عن معناه اللّغوي الذي وضع له إلى معنى آخر وهو الخوف.
يقول المبرّد: ومن ذلك الرجاء يكون في معنى الخوف، ويستدل على ذلك بقول أبي ذؤيب:
(1) شرح ديوان لبيد: 197 بروايته:* ومن الأرزاء رزء ذو جلل*
(2)
ديوان جميل: 187، وانظر الأضاد لابن السّكيت:168. من «ثلاثة كتب في الأضداد وانظر الخصائص: 1/ 85، 3/ 150.
(3)
انظر: 47، 48.
(4)
انظر 47 - 48.
إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها* وخالفها في بيت نوب غوافل (1)
3 -
والمبرّد في كتابه يطالب بالدليل من يرى للكلمة معنى آخر غير المعنى الأصلي لها، فيقول:
4 -
ومن منهجه اللجوء إلى النحو والإعراب في تناوله الكثير من الظواهر اللغوية.
بيان ذلك أنه عند ما تناول كلمة: الظن «بأنها قد تأتي بمعناها اللغوي وهو الشّك، وقد تخرج عنه إلى معنى آخر، وهو اليقين نراه يرجع إلى التّخريج النّحوي، والتأويلات الإعرابية، والدليل على ذلك قوله:
وقوله تعالى: إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا (3) فهو الشك.
وللنحويين فيه قولان: أحدهما: أن تكون «إلّا» في غير موضعها فيكون التّقدير: إن نحن إلّا نظن ظنّا، لأن المصدر إذا وقع بعد فعله مستثنى لم تكن فيه فائدة إلّا أن يكون موصوفا أو زائدا على ما للفعل ولو قال قائل: ما ضربت إلّا ضربا لم يفد بقوله: «ضربا معنى لم يكن في «ضربت» فمن قال: «إلّا» في غير مرضعها فهو مثل: «ليس الطّيب إلّا المسك» مرفوعا، ولا وجه لهذا إلا على تقديم إلّا ليكون المعنى: ليس إلّا الطيب المسك، ليتحقق أنّ أصحّ الأشياء أن الطّيب المسك» واستدل المبّرد على ذلك بقول: الأعشى:
أحلّ الشّيب أثقاله* وما اغتره الشّيب إلّا اغترارا (4)
(1) انظر الأضداد للإصمعي: 24.
(2)
انظر: 52.
(3)
الجاثية: 32.
(4)
في الديوان: 82.* وما اعتره الشيب إلا اعترارا* بالعين، ومعنى اعتره: عرض له من شواهد ابن يعيش: 7/ 107.
والقول الآخر سطره المبّرد بقوله:
«وقوم يقولون: إن نظنّ إلا إنكم أيّها الداعون لنا تظنون أنّ الذي تدعونه إليه ظنّ منكم، وما نحن بمستيقنين أنكم على يقين» وعقب المبرّد على القولين بقوله: «وكلا القولين حسن، وأكثر التفسير على الأول، وقالوا في قوله:
* وما اغترّه الشيب إلا اغترارا* أي إلّا لاغتراره، ونصبه للمصدر الذي هو مضاف إليه والفعل للشيب كما أن «نظن» ناصبة للمصدر المضاف إلى ما يخاطبونه» (1)
5 -
ومن منهج المبرّد أنه يعتمد الحديث الشريف في ما يريد الاستدلال عليه، ففي قوله تعالى: عند ذكر السّحاب والغيث:
وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ (2)، وقال: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً (3) وقال عند ذكر العذاب: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (4) وبعد سرد عدّة آيات ذكرت فيها الرّيح في مقام العذاب عقب المبرّد على ذلك بقوله:
«هذا الذي ذكرنا مما هو للغيث أو العذاب ولأهل العناية فيه قولان:
قال بعضهم: لا تلقح السّحاب بريح واحدة، ولكن تبدأ ريح، وتقابلها أخرى، وكذا إن جرت ثلاث من الرّياح.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا هبت الرّيح يقول:
(1) انظر: 54 - 56.
(2)
الحجر: 22.
(3)
الروم: 48.
(4)
الحاقة: 6.
«اللهم اجعلها رياحا، ولا تجعلها ريحا» . (1)
6 -
والمبرّد خرج عن منهجه في كتابه الموقوف على ما اتفق لفظه واختلف معناه حيث يتناول ظاهرة لغوية أخرى ليس لها علاقة بموضوع كتابه، كما أنها ليس لها علاقة بظاهرة التّرادف أو التضادّ هذه الظاهرة هي ظاهرة المجاز مع العلم بأن كتابه صغير الحجم لا يتّسع لمثل هذه الظواهر المتعدّدة فمن قوله في «المجاز» ما نصه:
«قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ (2) الآية، وقال: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ (3) وقال: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا (4) وقال: وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (5) فليس لقائل أن يقول من أهل القبلة: إن الشياطين دخلوا في هذا الإرسال، ولا أن قوله: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ كقوله: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً، ولكن مجاز قوله: إنا أرسلنا الشّياطين على الكافرين أي خلينا بينهم وبينهم. كقول القائل: أرسلت حمارك على زرعي أي لم تحبسه، فسمّى التّخلية بالإرسال كقوله:
فأرسلها العراك ولم يذدها* ولم يشفق على نغص الدّخال (6) هذا لم يرسل الحمير لتعترك، ولكنه لم يحبسها.
وكذلك قولهم: أرسلت الأمر من يديك: إنما هو لم تلزمه» (7)
(1) انظر: 64 - 65.
(2)
مريم: 83.
(3)
نوح: 1.
(4)
المؤمنون: 44.
(5)
الصافات: 181.
(6)
اللبيد، انظر ديوانه: 86، وهو من شواهد الخزانة: 1/ 524 وابن يعيش: 2/ 62، وهمع الهوامع رقم:931.
(7)
انظر: 70.
6 -
وإلى جانب المجاز تحدّث عن ظواهر بلاغية من علم المعاني حيث وضع لها أبوابا، ومن هذه الأبواب:
قوله: «ومما جاء في القرآن على هيئتين في الاستفهام» (1) وباب: «المختصر في القرآن حيث يقول: «وفي القرآن مختصرات» (2) ويعني بهذه المختصرات إيجاز الحذف، وهو فن بلاغيّ وباب من أبواب علم المعاني.
على أية حال كانت نستطيع أن نقول: إن كتاب المبرّد كتاب لغوي نحويّ، بلاغي لم يتعرّض لظاهرة ما اتفق لفظه واختلف معناه من القرآن المجيد إلا مختلطة مع الظواهر التي أشرت إليها سابقا، ولذلك فإنّ كتابه لا يعتبر كتابا مستقلا في هذا الموضوع، ونكتفي بهذا القدر من الحديث عنه، وتكفينا من نماذجه النماذج التي سقتها من خلال منهجه.
(1) انظر: 73.
(2)
انظر: 77.