الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثقافة الشرق ثقافة الغرب:
معركة بين فيلكس فارس وإسماعيل أدهم:
هذه معركة أدبية من أضخم المعارك التي دارت حول الثقافة العربية وهل هي شرقية أم غربية؟ بدأها توفيق الحكيم بمقال في الأهرام عنوانه "هل يوجد اليوم شرق؟ " ورد عليه فيلكس فارس بما كان قد أورده من قبل في مناظرة مع إسماعيل أدهم أحمد.
ثم بدأت المساجلة بين فيلكس وأدهم واتسع نطاقها وشمل كل ما يتصل بفنون الثقافة والعلم والموسيقى وظهر الاختلاف واضحا بين مفاهيم الكاتبين، أحدهما مسيحي عربي يؤمن بثقافة العرب ويدافع عن كيان الأمة العربية أن تنمحي في الصورة الغربية، والآخر مصري تركي مسلم يؤمن بمفاهيم الغرب وآراء المستشرقين المتعصبين في العرب وفي عقلنا وتراثنا ويزدري كل مقدراتنا ويحتقر مقومات تفكيرنا، بينما يقف فيلكس فارس موقف الإيمان البصير بتراثنا وكياننا العربي ومدافعا عن هذا التراث بحرارة قوامها العلم والرأي النقي المتسامح غير المتعصب.
وتعد هذه المناظرة خلاصة النظريتين اللتين تصارعتا في عالمنا العربي خلال هذه الفترة.
هل يوجد اليوم شرق؟ توفيق الحكيم "الأهرام 13 مايو 1938":
قال "إذا لم يكن لنا قدرة على خلق حضارة شرقية فلنفعل ما فعلت تركيا وننخرط بكل بساطة في سلك الأمم الأوروبية".
فيلكس فارس "الرسالة" 6 يونيه 1938:
إن الأستاذ توفيق الحكيم لا يجهل أننا إذا عجزنا عن خلق الحضارة الشرقية وعن إحيائها بتعبير أصح، فإن انخراطنا في سلك الأمم الأوروبية لا يوصلنا إلى الهدف الذي تتجه إليه الأمة التركية ولما تصل إليه، فإن بين الفطرة التركية والفطرة العربية من الفروق ما لا يصح معه أن يتخذ العرب الترك قدوة
لذلك لا أحسبني مخطئا إذا ذهبت إلى أن الأستاذ الحكيم لم يخير العرب بين حضارتين إلا ليثبت لهم أن في أعماق قلوبهم شرقا لا حياة لهم إلا بالاتجاه إليه واستجلائه وراء ظلمات الأحقاب.
وذكر أنه كان قد ناظر إسماعيل أدهم حول موضوع "أمن الخير لمصر أن تأخذ الحضارة العربية؟ " وهذا هو تفصيل رأيه:
أولا: "التفريق بين الثقافة والعلم" إن العلم مشاع لكل الأمم ولكل الأفراد فهم يتفقون فيه على ما بينهم من اختلاف بعيد في نظرات الحياة، وفي حين أن الثقافة مستقرة في الشعور فهي "دماع في قلب" لا قانون لها لأنها راسخة في الفطرة، والفطرة في الفرد، كما هي في الأمم ميزة خاصة في الذوق، واستعداد خاص لفهم الحياة والتمتع بها، فإذا كان العقل رائدا لبلوغ الحاجة فليست الفطرة إلا القوة الممتعة للإنسان بتلك الحاجة بعد الظفر بها، وكما أن لكل فرد ثقافته التي تتجلى فطرته فيها، هكذا لكل أمة ثقافتها المستقرة في فطرتها، فلا ريب إذًا في أن سعادة الفرد والمجموع وشقاء كل منهما يتوقفان على ملاءمة الحياة أو عدم ملاءمتها لما فطرا عليه، وسواء أكان المرء مخيرًا أم مسيرا في إرادته وأعماله فإنه على الحالين غير مخير في ذوقه في الحياة وفي لذته وألمه منها، فكل فرد خالفت طريقة حياته ما استقر من الحوافز في فطرته يفقد الشعور التام بتلك الحياة ويتعرض للسقوط في المعترك، وهكذا الأمم إذا خدعت نفسها وسارت في حياتها على ما يؤلم فطرتها فإنها تفقد قوة الارتقاء بذاتها فتميت شخصيتها دون أن تتدفق إلى الأنبعات في شخصية تستعيرها من سواها.
ثانيا: "بين الحضارة الآلية والحضارة الذهنية":
إن الخلاف الذي ينشأ بين باحثي مسألة الشرق والغرب إنما ينشأ من عدم التفريق بين المدنية الآلية والمدنية الأدبية.
التغريب الشامل:
2-
إجابات إسماعيل أدهم على آراء فيلكس فارس:
"أدهم": إن الشرق روحه الذي يستوحيه أبناؤه نزولا على فطرتهم وللغرب منطقه الذي يستنير به أفراده نزولا على وحي مشاعرهم.
"ف": العلم مشاع بين كل الأمم وما اخترع الغرب المنطق ولا هو أوجد التفكير العلمي لنعترف له بثقافة قوامها التفكير ينفرد بها بين ما على الأرض من الشعوب.
"أدهم": إن الحياة العلمية التي يحياها المصري الآن تجري على غرار ما كان بحياة أسلافه الفراعنة.
"ف": أنا لا أرى في حياة المصريين اليوم أثرًا من الحضارة الفرعونية لا في الحياة العلمية ولا في الحياة الأدبية، كما لا أرى شيئا من حضارة الفينيقيين في حضارة أهل سوريا ولبنان، وما تبقى من هذه الحضارات المستغرقة في القدم إلا أهرام ومعابد وأعمدة وقصور وقبور.
"أدهم": وجوب تلقيح الذهنية المصرية بثقافة غريبة تبث فيها النشاط وتدفع بالأمة إلى الحياة.
"ف": إن السبب الذي يراه الناظر موجبا لهذا الانحراف إلى ثقافة
الغرب فقائم على اعتقاده بأن الثقافة العربية ذاتية تدفع بالإنسان إلى الذهاب مع الخيال، فردية تذهب بالفرد إلى الانعزال عن المجتمع في حين أن ثقافة الغرب أو ذهنيته تستجل حقائق الحياة بالتفكير الفلسفي والبحث العلمي.
"أدهم": إن المدنية الغربية مستمدة من الثقافة الأوروبية العلمية في حين أن الشرق العربي يتوه ذاهبا وراء خياله.
"ف": إن الأمر ليس كذلك، وإليكم البرهان، فهو يقول إن عصرنا عصر العلم.
ولقد بدأ ذلك العصر بثورة نفر من رجال القرن السادس عشر على العقلية القديمة التي تبحث عن علل الأولى فسيروا سنن الطبيعة وأقاموا عليها المدينة مستمدة من الذهنية الآرية.
إذ إن أصحابنا الآريين كانوا يغطون في نومهم ولم تراود أحلامهم الآلهة التي خلقتها عقلية التعاون فيهم فبلغ عدد هؤلاء الآلهة الثمانية، آلاف من الأساطير التي يراها الناظر غنية بالرمز والفن، وما هي في نظر الشرقي العربي إلا دلالة فقر مدقع في التفكير وجموح في خيال لم يدرك شيئا من الوحدة التي تقوم حقائق الأشياء عليها.
وفي هذه الأثناء كانت الحضارة العربية تحتضن العلوم القديمة وهي ممثلة بأرسطو في الاستقراء وبأفلاطون في القياسات، وما كانت هذه العلوم في ذلك العصر إلا في طور التدرج الأولي فاستولى عليها التفكير العربي لا ليدفعها إلى الارتقاء فحسب، بل ليستنبط ويعدل ويوجد.
ومما يجدر ذكره هو أن العرب حين اقتبسوا من تراث اليونان ما
يعززون به تفكيرهم العلمي ولم تستهوهم الثقافة اليونانية ولا حضارتهم الأدبية إذ أحسوا بما بين الحضارة التي كانت تمخض في شعورهم وتقديرهم للحياة وبين حضارة اليونان الاجتماعية من مهاو سحيقة فأعرضوا عن شعورهم وموسيقاهم ونظم إحيائهم، لذلك لا تجد في شعر العرب شيئا من إبهام بيندار وأوريبين وهيوس، وهذا الأخير بقي مجهولا حتى ترجمة البستاني في أوائل هذا القرن، وقد برز العرب في تقدمهم في علوم الآلات وتوازن السوائل ونظريات الضوء والإبصار والهندسة وعلم الهيئة فوضعوا علم الكيمياء واكتشفوا أجهزة للتقطير وأوجدوا الأسطرلاب ووضعوا جداول الأوزان النوعية والأرياح الفلكية. وهم واضعوا علم الجبر والأرقام. وما كاد ينقضي القرن الثامن الميلادي حتى كان هارون الرشيد يسير شوطًا بعيدًا في مضمار الرقي ليسلم إلى المأمون سنة 813 المدينة التي أصبحت عاصمة العلم الكبرى في ذلك الزمان.
ويذكر التاريخ أن هارون الرشيد كان أرسل إلى شارلمان ساعة تدل على الزمان بحركة من الشريط المربوط فأفزعت حركتها هذا الملك حتى أمر بكسرها.
أبعد هذا يصح لقائل أن يقول إن رسالة الشرق روح وشعور فقط وأن رسالة الغرب عقل ومنطق؟
إن مناظري قد ضيق عدسة منظاره، وحدق على مجال من الزمان لا يزيد على قرن ونصف قرن متطلعا إلى الرقي العلمي في طوره الأخير فخيل له أن الغرب قد أوجد وأبدع وأكمل بعقليته الآرية، ثم التفت إلى الشرق العربي وهو خارج محطما من عبودية نيف وأربعة قرون فحسب أن السامية العربية هي ما لمحه من عدسة منظاره.
"أدهم": إن هناك تجربة نجحت إذ كانت الدولة العثمانية تمتد حتى الدانوب وتعيش على غرار شرقي فكانت منبعا للفساد في العالم فلما استقلت عنها المجر ورومانيا والبلغار واليونان اليوغسلاف فأخذوا بمدنية الغرب تقدموا.
"ف": إن الدولة العثمانية التي "عاشت على غرار شرقي" إنما كانت آرية في روحها وما تسنى لها طوال حكمها الذي سحب أذياله قرونا أن تدغم فيه العنصر العربي السامي أو تندغم فيه فارتفعت عليه ولم تتمكن من الارتفاع به بالرغم من اعتناقها دينه المبين.
وليت الدولة العثمانية بعد أن بنت سلطانها على السطوة عرفت أن تحتفظ به بالعمل على ترقية الشعوب المستظلة بعلمها، ليتها لم تكتف بالمظاهر، معرضة عن الصفات العليا التي أنار الخلفاء الأقدمون بها وجه الأرض وأقاموا عليها أروع حضارة عرفها التاريخ، إذن لما كانت الشعوب التي ذكرها المناظر لتتنفس الصعداء بزوال كابوس الدولة العثمانية عنها، وما كان اليونان والبلغار وسواهم مرهقين متقهقرين لاتخاذهم الثقافة العربية فإنهم ما عرفوها وما عملوا بها.
ما يقوله المناظر عن أن اليابان نهضت بالمدنية الغربية بعد أن أعرضت عن منطق الحياة الشرقية ففيه حقيقة كبرى تقدم برهانا على نظريته؛ فإن اليابان لم تزل متمسكة بثقافتها كل التمسك وفي ذلك سر ارتقائها، فهي لم تأخذ من الغرب إلا الآلة والآلة فقط. وما الآلة إلا نتاج العلم العملي الوضعي الذي رافق الإنسانية منذ اكتشف أول مكتشف شرارة النار في كهفه.
وليس للهندسة والكيمياء وعلوم الأحياء وسواها طابع قومي1.
1 الرسالة 6 يونيه 1938.
تحدث أدهم عن الثقافة الغربية والذهنية الآرية.
"ف": ما تلك النظرية إلا توهم اتخذته نحو "جينو" وأتباعه إذ قالوا بتفوق السلالة الآرية على سائر الأرض لتفردهم بشكل خاص في جماجمهم وبنوع خاص في شعرهم، وبلون فارق في جلودهم، فادعوا أن هذا الشكل دون سواه من بني الإنسان يملك صفاء الذهن وقوة الاختراع والعبقرية بأنواعها، غير أن الاستقرار قد اضطر دهاقنة علماء الأحياء إلى الاعتراف بفساد هذه النظرية بعد أن رأوا أن الجماجم التي ينطح بها الآريون السحاب إنما يحمل مثلها أقزام أفريقيا الوسطى.
"أدهم": إذا أخذنا بما اكتشفه العرب من علم يمكننا التحكم بمقدراتنا فإننا نستطيع أن نغير عقليتنا لنقيس طرائف الغرب التي توصلنا إلى خير النتائج.
"ف": لماذا يجب أن تعمل الشعوب العربية على تغيير عقليتها وإنكار فطراتها وحوافزها التي تكونت من أعظم حوادث التاريخ طوال ألوف السنين ما دامت هذه العقلية نفسها قد أنارت الدنيا بعلومها وآدابها واكتسحت الغرب كله بروحانيتها وشرائعها؟
"أدهم": متى أصلحت روحانية الشرق النفوس ما دام العالم هو بشروره لم يتغير؟
"ف": نحن نقول إن روحانية الشرق هي التي أسقطت ألوف الآلهة في الغرب عن عروشها، وإن الشعوب الآرية بدون استثناء أي عنصر منها إنما اهتدت إلى الحق والجمال في منشأ حضارتها بتفكير الشرق ووحيه وإلهامه.
فإذا نحن رجعنا بالذكر إلى حضارة أوربا الوثنية التي بنيت على خرافات الأساطير لا يسعنا بعد ذلك أن ننكر الواقع ونقول بأن الإنسان كان سيهتدي دون أن يهدى.
"أدهم": قال الدكتور باتروفيل: بأنهم سيصلحون بالعلم من البشر ما عجزت الأديان عن إصلاحه منذ ألوف السنين.
"ف": إن العقلية الآرية المعززة بالعلم والثقافة العالية ستقطع دابر الإجرام بوسيلة علمية هي تعقيم المجرمين.
وأنا أحد أبناء هذه الأمة العربية التي يدعى الآريون قصورها في ميدان التفكير، أنا على ما أنا عليه من ضيق الاطلاع وفي قومي من رجال العلم من لا يشق لهم غبار، أستنير بعقليتي السامية وبإيماني العربي المكين فأقول لعلماء الغرب: لقد ضللتم وأقول بخاصة إلى الدكتور باتروفيل إنه مغرور بعلمه وإنه لا يداوي من العلة إلا أعراضها. إن الغرب يرى تكاثر عدد المجانين والبلهاء والمجرمين في شعوبه فلا يبحث من منشأ العلة ليداويها بل يعمد إلى تعقيم ضحايا مدنيته وثقافته ظنا منه أن هناك بعض الأسر المصابة بداء وراثي وأنه إذا قضى على تناسلها خنقت العلة من منشأتها!.
أما فرويد فنظريته صحيحة في هذه الأمراض النفسية التي تفتك فتكا ذريعا في أبناء المدينة الغربية، وما كانت مثل هذه الأمراض لتعيب أبناء بلادنا في العصور الماضية إلا في القليل النادر لأن الذهنية الشرقية لم تحارب الغريزة الجنسية بل اعتبرتها جزءا من إيمانها. وما التبتل إلا بدعة طرأت على تعاليم عيسى فاحتضنها الغرب وجعلها على ما هي والشرق منها براء.
"أدهم": أراد أن يثبت لنا أن الموسيقى الغربية خير من موسيقى
الشرق وحجته العلمية في ذلك أن الغناء الإفرنجي غني بما فيه من طباق بين عدة أصوات.
"ف": ونحن إذا صرفنا النظر عن الغرائز المستقرة في العقل والتي يصدر عنها الفن الخاص بكل أمة وبحثنا الموسيقى من وجهة علمية استقرائية نجد أن الموسيقى العربية أصدق تعبيرًا للطبيعة وأدق تصويرًا للمشاعر بعديد نغماتها في الصوت المنفرد. فإن الموسيقى العربية تمثل في نغماتها السبع الأساسية ألوان الطيف يتفرع منها ما يزيد على السبعين نغمة تخضع مرنة ناعمة للعاطفة فتظهر خفاياها كصورة اختطفت عن الأصل بجميع أنوارها وظلالها.
إن الموسيقى الغربية رست على الطباق أو المطاوعة فكان لا بد لها من كبت النيران الدقيقة المتمردة على الطباق ومن الاكتفاء بنغمات معدودات هي محل ثروتها. أما الموسيقى العربية فإنها هتاف عميق من النفس منفردة تجاه الوحدة المتجلية في مستلهمات الشرق دينا وفنا. فهي وإن نقصها الطباق لعدم ملاءمته لحريتها ودقة نبراتها لا تزال في دور انحطاطها اليوم، أغنى بأوزانها ونغماتها من الموسيقى الغربية الغنية بالصخب والفقيرة بالتنوع المنفرد.
يمكنني أن أؤكد أن الفن الغربي على ما بذل فيه من جهود لا يرتكز على أساس من الموسيقى الطبيعية التي تتجلى بكل روعتها في الإنشاد العربي المفرد. ولو أن رجال الفن عندنا أدركوا هذه الحقيقة وانصرفوا إلى شرقية موسيقانا على أساسها دون أن يستهويهم ما يتوهمونه رائعا في الموسيقى الغربية لكانوا ينتزعون من الطبيعة أروع موسيقاها ولكن أكثرهم كمن لديه ثروة يطبق خزانته عليها ليذهب مستجديا من الغرب كسرات تتخمه ولا تسد جوعه.
هل يظن الناظر الكريم أن تجربة التقليد شيء جديد لم يتضح لنا زيفه بعد. أفلا ترى في كل بلد من هذا الشرق العربي عددا من المتفرنسين والمتألمنين والمتأكلزين والمتروسين إلخ خرجوا عن الثقافة العربية وامتنع عليهم أن يتصفوا بالثقافات التي استهوتهم فأصبحوا لا الغرب يعرفهم ولا الشرق يعترف بانتمائهم إليه. وهناك ظاهرة غريبة نشأت من هذا التقليد وهي النعرة التي استحكمت بين هؤلاء المقلدين وهم أبناء البلد الواحد، فإنك لن تجد متفرنسًا يمكنه الاتفاق مع متألمن أو سواه من المستغربين.
ثم وصف مثل هؤلاء المستغربين فقال: إنما هو شخصية تائهة فقدت ذاتها ولقد يلمع مثل هذا الإنسان بالظفر والمجد ولكن أنوار السعادة تبقى منطفئة في عينيه.
ثم قال: إن كل أمة تحيا على غير ما تسوقها فطرتها إليها فهي أمة باكية بدموع صامتة هي أمة مستضعفة مستعبدة لا معنى لحياتها، وإذا كانت مدنية الغرب الحديثة ترى أن الارتقاء يقوم على العلم وحده، على الاستقرار دونا الاستلهام فإن للشرق العربي المتحفز للوثوب دستورا هو: اعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا واعمل لدنياك كأنك لا تموت أبدًا1.
3-
آراء فيلكس فارس؛ أمة لها كيانها ومقدراتها:
لخص فيلكس فارس آراءه فقال:
إن العرب عندما رقوا العلوم ونشروها وأوجدوا أهمها إنما عملوا بعقليتهم الشرقية العربية. وإننا لسنا بحاجة لتقليد الغربيين في أسلوب تفكيرهم لتجاربهم في مضمار العلوم. ومن العرب اليوم في أوربا وأميركا ومصر وسائر الأقطار العربية علماء في كل فن يفتخر العالم بأسره؛ غربه
وشرقه بسمة اطلاعهم وعبقريتهم وما بلغ هؤلاء الأعلام مقامهم إلا بعقليتهم العربية.
إن العلوم الرياضية مشاع بين البشر جميعهم فليس على الأرض سلالة خصها الله بالعلم دون سواها.
إن لكل شعب فطرته وهي ميزة خاصة في الذوق واختصاص في فهم الحياة والتمتع بها، وإن كل أمة تستبدل ثقافة غريبة بثقافتها إنما تؤلم فطرتها وتموت شخصيتها.
إن الأخذ بالعلم عن أي شعب لا يستلزم مطلقا اقتباس طرق حياته في الأسرة والمجتمع وتقليد ذوقه وسكناته وحركاته فإن العرب عندما احتضنوا العلوم الاستقرائية عن اليونان لم يأخذوا الفطرة اليونانية ولا ذوقها ولا معتقداتها كما أن أوربا عندما تلقت هذه العلوم عن العرب لم تتعرب بل بقي فيها كل شعب محتفظا بثقافته. هذا فضلا عن أن في الغرب ثقافات قد يراها من يحدجها من بعيد على شيء من التقارب غير أن من يدرسها عن كثب ليدهشه ما بينها من فروق تتناول صميم الذوق والعقيدة والشعور. فأي الثقافات يشار على الشرق بأن يتبع.
4-
بين الغرب والشرق:
جملة آراء إسماعيل أدهم في ثقافة الشرق وثقافة الغرب:
لكل شعب في العالم تراثه التقليدي الذي خرج به من ماضيه والذي يحف به حاضره ومصر لم تخرج عن كونها مجتمعًا استوحى روح الشرق عصورًا متطاولة.
الثقافة التي كونتها مصر بما ورثته عن أسلافها الفراعنة في أصول الفن
الفرعوني القديم، تمثل وحدة الحياة المعاشية في مصر إلى عهد الفراعنة إلى يومنا هذا.
أما الثقافة العقلية فهي فرعونية تكيفت تبعًا لها الثقافة العربية تكيفا يتلاءم وما تحتاج إليه الثقافة الفرعونية في عهد الحكم الروماني من ملابسات لتجازي فن الحياة في ذلك العصر، ومن هنا قامت أو قل استمدت اللغة العربية في مصر قدرتها على صوغ المعاني بما يتكافأ ومحيط مصر فكانت اللغة العامية في مصر وهي في الحقيقة الفرعونية الآخذة بأسباب التعرب.
لمصر ثقافتها التقليدية التي تباين ثقافة السوريين التقليدية أو ثقافة اللبنانيين التقليدية وما ينجح لمصر قد لا ينجح لغيرها.
لا أجد التفرقة بين العلم الوضعي والثقافة اعتباريا لأن الأولى نتيجة الثانية إن ثقافة اليوم من حيث إنها تتبع العلم لا يمكن تخليصها من آثار العلم والثقافة الأدبية يغزوها العلم بمنهجه الصارم ومنطقه فمن الخطأ أن نفرق بين الثقافة من حيث إنها نتيجة معاشية وأسلوب في الحياة وبين العلم ومنطقه وهو أداة اليوم للعيش والحياة.
إن الفرق بين الشرق والغرب ينحصر في هذا وحده:
الغرب يقيم الحياة على أساس إنساني ويترك للعلم أن ينظم الصلات بين البشر، والشرق يقيم الحياة على أساس غيبي ويترك للغيبيات تنظيم الصلات بين البشر والغرب يقيم حياته على أساس من التفكير في إيجاد التكافؤ بين حاجاته ومحيطه مستخدمًا في ذلك العلم.
والشرق يقيم حياته على أساس من التواكل:
قول مناظري: وما اخترع الغرب المنطق ولا أوجد التفكير العلمي. فذلك مجانب للحقائق المعروفة في التاريخ، من أن الإغريق هم أول من عرفوا المنطق وأوجدوا البحث وعنهم أخذ العالم المنطق.
هناك فرق أساسي في منطق التفكير بين الشرقي والغربي، وهذا الفرق ينحصر في الشرقي يبدأ بحثه من الوحدة المتجلية حوله فينتهي للخالق ومنه للطبيعة. بعكس الطبيعي الذي يبدأ بحثه من التغاير الذي يكتنفه فينتهي للطبيعة ومنها للخالق.
هذا الفرق المشهور في أن الشرقي يبدأ من عالم الغيب لينتهي للعالم المنظور بعكس الغربي الذي يبدأ من العالم المنظور لينتهي لعالم الغيب كان سببا لظهور اللاهوت عند الشرقيين والفلسفة عند الغربيين.
هذا التباين في نوع التفكير ذهب بالعقل الشرقي إلى الاعتقاد بأن العالم حادث، وأن الخالق مطلق التصرف في الكون منفصل عنه ومدبر له، وأنه السبب لكل ما يحدث والعلة الأولى والأخيرة لكل ما يكون وما سيكون.
بينما البحث على التغاير المشهود في السكون يدفع بالأخذ بأساليب الاستقراء والمشاهدة إلى جانب أسلوب الاستنتاج والنظر، وهذا كله ينتهي بالإنسان كما انتهى بمفكري الغرب إلى أن لكل حادثة سببا في الكون وأن للعالم وحدته وانسجامه.
والإنسان من حيث هو كائن في العالم المنظور فهو في نظر الشرق خاضع لإرادة عليا هي إرادة الخالق الحر، فهو الذي يقضي فيكون ويقدر فيحدث. وهذه فكرة القضاء والقدر عند الشرقيين.
أما نظر الغربي فالإنسان وإن كان يتبع في تصرفاته وسلوكه نواميس الحياة ويخضع لها. فإن في قدرة الإنسان تغيير المقدر له عن طريق معرفة النواميس المتحكمة في وجود العمل على إيجاد الملائمة بين حاجات الإنسان في الحياة ومطالبه في الوجود.
وخلاصة القول أن في الشرق استسلاما محضًا للغيب وفي الغرب نضالا محضًا مع قوى الغيب؟
الفرق بين منطق الغرب الإثباتي وروح الشرق الغيبي:
أن المنطق الغربي ينظر للحياة الإنسانية كما هي وعن طريق العقل وحده يحاول معرفة حقيقته وتنظيم الصلات بين أفراد المجموع البشري. بعكس الذهن الشرقي الذي يدخل عنصرا غيبيا في الحياة الإنسانية وعن طريق هذا العنصر الغيبي يحاول تفسير الحياة وتنظيم الصلات الإنسانية وإقامة العلاقات بين أفراد الهيئة الإنسانية.
الثقافة الغربية إنسانية، بعكس الثقافة الشرقية التي وقفت عند حدود المرحلة الثانية حيث يمتزج فيها العالم المنظور بعالم ما وراء المنظور.
مما يجدر ذكره أن العرب حين اقتبسوا من تراث اليونان ما يعززون به تفكيرهم العلمي لم تستهوهم الثقافة اليونانية ولا حضارتهم الأدبية إذ أحسوا ما بين الحضارة التي كانت تتمخض في شعورهم وتقديرهم للحياة وبين حضارة اليونان الاجتماعية عن مهاو سحقية فأعرضوا عن شعرهم وموسيقاهم ونظم اجتماعهم.
إن ثقافة العرب ذاتية وإن الثقافة موضوعية عند اليونان. لهذا لا نجد في الشعر العربي شعرًا قصصيًا ولا شعرًا تمثيليًا ولا شعرًا تصويريًا، لأن القصص والتمثيل والتصوير يستلزم الانسحاب من أفاق الذات إلى رحاب الموضوعية وليس هذا في مكنة الذهنية العربية.
قامت المدنية الرومانية على تراث الإغريق، غير أن المسيحية سرعان ما غزت روما وهبت عليها حاملة معها نزعات المنطق الآسيوي والروح الشرقية إلا أن الحضارة الرومانية ابتلعت المسيحية وامتصتها، وكان هذا الابتلاع والامتصاص بعض الخلاص لمنطق الغرب من روح النسك الآسيوية ثم طغت موجة العرب على الغرب، غير أن الغربيين نجحوا في وقف الموجة العربية
عندما تفاقم أمرها وكان نجاح شار مارتل عن العرب على نهر اللوار كنجاح الإغريق على الفرس في إنقاذ العقلية الغربية من طغيان روح النسك الآسيوية.
5-
رد فيلكس فارس على إسماعيل أدهم:
إن مصر1 لن تكون فرعونية في القرن العشرين إلا إذا تراجع الزمان القهقري طاويا معه كلمة الله التي جعلت قوم فرعون حديثا في تاريخ الشعوب.
أما أن تكون مصر ذات ثقافة خاصة تتميز بها عن سائر الأقطار العربية فذلك ما ننكره. لأن لشعوب سائر الأقطار العربية كلها جدودًا عاصروا الفرعونية وتركوا في التاريخ ذكرى حضارات لم يبق منها سوى أعمدة محطمة وهياكل متداعية.
إن في كل قطر من الأقطار العربية من المميزات الإقليمية ما لا ينكره أحد ولكنها أضعف من أن تسلخ هذه الشعوب عن ثقافة عامة شاملة لها في اللغة والموسيقى ونظام الأسرة وروح التشريع. وهذه المميزات العامة هي ما تقوم الحضارة الأدبية عليه في كل الأمم.
ليست اللغة العامة في مصر إلا كسائر اللغات العامية في الأقطار لغة أخذتها عصور الانحطاط، فإنك لو أغضيت عن اللهجات في كيفية الإلقاء، فإنك لا تجد إلا كلمات معدودات يختلف فيها النطق بين مصر وسوريا وبغداد.
أراد مناظري أن يجعل العلم والثقافة شيئا واحدًا فهو يقول بانبثاق الثقافة من العلوم الأصلية، ونحن لا نعلم ما هي العلاقة بين علم طبقات الأرض مثلا والمبادئ الأدبية التي يقوم عليها المجتمع.
1 الرسالة 18 يوليه 1938.
يقول المناظر: إن الفلسفة الإسلامية روحها يونانية ومتعلقها يوناني، لأن الفارابي وابن سينا وسواهما علقوا إرادة الخالق بقوانين الكون، ونرى أن فلسفة المفكرين ليست إسلامية ولا مسيحية.
إن المناظر يجد قصورا في عدم مجاراة العرب لليونان في آدابهم التي جعلت على قولي في رحاب الموضوعية خارجة عن رحاب الذات، ويذهب إلى القول بأن التحليل ليس من مكنة الذهنية العربية.
لا يا مناظري، إن الأديب العربي قد استوعب في ذهنيته كل ما جال في خاطره وفي الآفاق حوله.
إن الآداب صورة لثقافة الشعب وحياته، وقد أخذ أجدادنا العلوم عن اليونان لأن العلم مشاع كما سلمت، فهل كان حضارتنا الأدبية يونانية لتكون آدابه يونانية.
6-
بين الشرق والغرب، فيلكس فارس 1:
إن حضارة الأقوام التي ترغب إلينا أن نقتبسها إنما بنيت في تاريخها القديم كما بنيت في تاريخها الحديث على الاعتقاد بحياة أخرى.
أما حضارة أوربا الحديثة فقد قامت على ما نعلم بتعاليم عيسى وإذا كان قد بقي فيها شيء من الرحمة فهي من آثار موعظة هذا الناصري على جبل من جبال الشرق. وإذا كان قد هب فيها بعد انتصار شار مارثل من دعوا إلى إصلاح المسيحية فما كان صوت هؤلاء المصلحين إلا صدى للصوت الذي دوى في صحراء العرب منذ ثلاثة عشر قرنا.
إن الدكتور أدهم يريد أن يميز بين عقلية الشرقي وعقلية الغربي فيقول
1 العدة 624 من الرسالة سنة 1938.
إن الأولى مستسلمة "محضًا" للقضاء والقدر تخضع للغيب والثانية تناضل نضالا "محضا" ضد الغيب.
أما أن يكون الشرقي هذا المستسلم الضعيف فمما يكذبه التاريخ، تاريخ المسيحية وتاريخ الإسلام على السواء؛ فما كان المسيحيون الأولون ليتجنبوا حتى بين أشداق الأسود، وما كان المسلمون إلا مجاهدين بالجهادين، توكلوا فما تواكلوا، وسلموا أمرهم لله فما استسلموا لزعازع الحياة بل أرغموها ليسيطروا
عليها بمكارم الأخلاق.
أما قول الناظر بأن العقلية الغربية تناضل ضد الغيب فقول فيه جنوح في التعبير، ولا نعتقد أن الدكتور أدهم يقصد الغيب بل أسرار المادة وما يكمن فيها من تفاعل لأن الغرب إنما هو من هذه الإنسانية التي وحدت قواها فوقفت واجمة أمام نظام الكون وسر الحياة والموت.
ليس هناك عقلان، عقل للغرب، وعقل للشرق في ميادين الاستقراء غير أن هناك فطرة أو ثقافة تختلف بين شعب وشعب. وقد أراد المناظر أن ينكر استقلال الثقافة الأدبية عن العلم الوضعي فأسماها روحا كأن يمحو أثرها باستبدال أممها.
لتكن الثقافة روحا كما يريد الدكتور أدهم، فلماذا يطلب أن يلفظ أبناء الشرق روحهم لتتقمص روح الغرب حضارتهم.
أليس من غرائب المنطق أن يقول المناظر بفرعونية مصر وبتمردها على العروبة نفيا وثلاثة عشر قرنا ثم يطلب منها أن تتفرنج بين عشية وضحاها.
ما هي الفائدة التي يرجوها المناظر لمصر إذا أنكرت إيمانها وفسدت لغتها وتغنت على الأنغام الإفرنجية التي تتنافر مع ذوقها وحتى مع مخارج ألفاظها.
لا يظنن مفكر أننا نقصد بالحضارة العربية هذه الحالة الراهنة التي أوصلتنا إليها قرون من الولايات والعبودية وأرهقتها حتى تنكر لنا أنفسنا. لقد طغت على مجتمعنا في معتقداته، وفي نظم أسرته وفي آدابه وفي حكوماته دخيلات من متخلفات جميع العصور وجميع الأمم.
إنني مازلت معتقدًا منذ قدر لي أن أعتلي المنابر أن هذه البلاد العربية مستودع لأشرف الثقافات ومكمن لأسمى المواهب، فالأقوام المنتشرة في جزيرة العرب وفلسطين وسوريا ولبنان ووادي الفرات ووادي النيل وعلى الشوطئ الشرقية للبحر المتوسط وشواطئ البحر الأحمر تدفعها حضارات الغرب والعالم الجديد بطابع التواكل والخمول.
7-
بين الغرب والشرق، الدكتور إسماعيل أحمد أدهم:
قلت1 للأستاذ فيلكس فارس: إن لكل أمة في العالم روحها التي تحتضن تراثها التقليدي، وعن طريق تحليل تراث مصر التقليدي انتهينا إلى أنها فرعونية آخذة بأسباب العربية لتجاري فن الحياة في ذلك العصر الذي طغت فيه العربية على كل شيء: وكانت مركزا للجذب الاجتماعي في الشرق الأدنى.
وبينما الفروق الأساسية بين ما سميناه ذهنية للغرب وذهنية للشرق، وقلنا أن نزعة الذهن الغربي يقينية ونزعة العقلية الشرقية غيبية واستدللنا على هذه الحقيقة من حقائق التاريخ.
ولهذا قلنا أنه من الصعوبة بمكان أن تأخذ مصر الثقافة العربية وهي محتفظة بثقافتها التقليدية وأساسها الإيمان بالغيب.
1 العدد 270 الرسالة 1938.
يقول الأديب النابغة فيلكس فارس: الثقافة راسخة في الفطرة والفطرة في الفرد كما هي في الأمم ميزة خاصة في الذوق واختصاص في فهم الحياة والتمتع بها، فإذا كان العقل رائدًا لبلوغ الحاجة فليست الفطرة إلا القوة المتمتعة في الإنسان بتلك الحاجة بعد بلوغه إياها.
ونحن نفرق بين الثقافة والفطرة، بين تراث الشعب الذي يخرج به من ماضيه انسلالا على مدى الدهور والأعوام وبين الفطرة من حيث هي روح الأمة التي تحتضن تراثها. فتراث مصر الفرعونية التي أسلمته لمصر الإسلامية فاختلطت نتيجة لذلك الفرعونية والعربية فكان من ذلك ما سعيناه لمصر من ثقافة تقليدية شيء والروح المصرية شيء آخر إلا أن هذا لا يمنع من أن ترسخ الثقافة التقليدية وتصبح وكأنها من صميم فطرة الشعب. وانسلاخ الشعب عن ثقافته التقليدية، وإن كان لها رجة في صميم الفطرة والروح، إلا أنها لا تعني انسلاخ الشعب من روحه وفطرته. وما ثقافة الشعب وتراثه إلا أثر وقوع الفطرة والروح تحت تأثير ظروف ومؤثرات تجد طريقها للمحيط الاجتماعي والبيئة الطبيعية للشعب وبيان ذلك أن الروح المصرية تحتفظ بذاتيتها منصبة في قوالب شتى، فهي في قالب في العصر الفرعوني وهي في قالب في العصر الإسلامي، وجماع هذه القوالب المختلفة يكافئ الحالات المتابينة التي يتضمنها المحيط اجتماعيا وطبيعيا، وإنكار هذا معناه أن الروح المصرية تغيرت من العصر الفرعوني إلى صورة أخرى في العصر الإسلامي فما الذي يمنع أن تتغير إلى صورة أخرى في العصر الحديث.
وإذا يكون من الممكن لمصر أن تتجرد من ثقافتها التقليدية وتستبدل مثلا بدينها آخر وبلغتها لغة أخرى كما حدث ذلك في عهد الفتح العربي ومع ذلك تحتفظ بروحها وفطرتها لأن ما ستأخذه الروح من القوالب سيكون من
طريق الوقوع تحت تأثير عوامل ومؤثرات وجدت طريقها للمحيط الاجتماعي والطبيعي.
على هذا الوجه فقط يمكن تعليل تفسير القالب للروح المصرية والذي تكون نتيجة لوقوع الروح المصرية تحت تأثير الثقافة العربية. وعندما يقوم أنصار الثقافة الغربية بدعوة إلى مدينة الغرب يثور عليهم أنصار الثقافة العربية قائلين إن معنى ذلك ضياع الروح المصرية والقومية، مع أن الروح شيء ثابت والثقافة شيء عرضي يتقوم بالروح وفطرة الشعب.
8-
الغرب والشرق 1:
يرى الأستاذ فيلكس فارس رجحانا لطابع الشرق الغيبي على قالب ثقافة الغرب الإثباتية. ومرد هذا الرجحان اعتقاده بقانون الرجعى وبأن لهذا الشرق من كيانه نافذة يتطلع منها إلى الحياة، هي نافذة فطرته الموروثة فمنها يستقبل النور.
وفطرة الشرق الموروثة على زعمه قائمة على الإيمان بالعنف ونحن نرى ما يعبر عنه بالفطرة الموروثة هو التراث الشعبي لهذا والثقافة التقليدية له، وهو شيء كما قلنا غير فطرة الشرق وروحه لأن الفطرة شيء مجرد يظهر في تاريخ الشعب وفي ثقافاته المتعاقبة.
إذًا من الخطأ من الناحية العلمية أن فطرة شعوب الشرق هي الحالة الغيبية والصحيح أن يقول أن طابع ثقافة الشرق التقليدية هو غيبي.
حين أراد المناظر الفاضل أن يرد على القول بوجود أصل فرعوني في
1 مجلة الرسالة 23 سبتمبر 1938.
ثقافة مصر التقليدية تعسف إلى حد أن خرج على الأوليات المعروفة من حقائق اجتماع وعلم تكون الشعوب.
كما هنالك تقاليد بقيت من العهد الفرعوني وتسربت إلى الدين الإسلامي في مصر ولونته بلون محلي. أما أن الدين يعمل على اقتلاعها لخير المجتمع وسلامته فليس ذلك من شأن الباحث السوي.
قلنا: إن لمصر ثقافتها التقليدية التي تميزت بها عن جيرانها من بلدان الشرق العربي، غير أن المناظر وإن اعترف معنا بأن للمميزات الإقليمية أثرًا على ثقافة الأمم اعتبر أن لكل أمم الشرق العربي ثقافة عامة شاملة.
غير أن هذا الاعتراض في غير محله لأن اعتباره أن لأمم الشرق العربي ثقافة عامة شاملة إن كانت صحيحة إلى حد ما فهذه تتلون وتأخذ طابعا من كل بلد من بلدان الشرق العربي، فمظهرها في سوريا غير مظهرها في العراق، وهي في العراق غيرها في مصر، وفي مصر غيرها في الحجاز.
وهم المناظر الفاضل أننا نهزل حين قلنا أن العامية في مصر هي العربية الآخذة بأسباب الفرعونية، إننا نعني بالفرعونية وحدة عقلية أو معاشية متمشية في ثقافة المصريين التقليدية حتى العهد الفرعوني، فإذا قلنا أن العامية هي العربية الآخذة بأسباب الفرعونية فإنما نعني أنها تأخذ طابعا مصريا خاصا بها.
سيأتي ذلك اليوم قريبا وسنقول العقلية اليقينية في الشرق والمنطق الإثباتي في العالم العربي نتيجة لتغلب الاتجاه الغربي على هذا الشرق بحكم كون الغرب مركز الجذب الاجتماعي في عصرنا، إذًا فلسنا نحن في حاجة إلى الانتقال إلى الغرب لاكتساب عقلية يقينية كما يقول المناظر إنما كل ما نحن في حاجة إليه أن نقوي الاتجاه نحو الغرب فتكون العقلية اليقينية أخذت بطريقها إلى الشرق.
9-
الرد الختامي لفيلكس فارس:
درج1 الكتاب على تقرير عقلية للشرق وأخرى للغرب، ذهب بعضهم إلى أبعد من هذا مقررًا طبيعة كل من هاتين العقلين، وأن الواحدة منهما لا تقبل إلا المظهر الفلاني ولا تتلون إلا بلون خاص. وهم بقياسهم المظاهر الفكرية لهذه العقليات قد طبقوا هذا القياس نفسه على الشعوب فناضلت بسبب ذلك.
وعنده أن عقلية العرب العلمية ترجع للغرب لأنهم أخذوا أصولها عن فلاسفة اليونان. أما روحانيتهم فهي للشرق لأن الشرق منبع الأديان وكل ما فيها روحاني الطبيعة والمظهر.
وسبب هذا التباين الذي اعتبره أساسيا أن العقلية الشرقية ابتدأت بالاعتقاد بالخالق ثم انتهت بالطبيعة والعقلية الغربية بدأت بالطبيعة وانتهت إلى الخالق.
وانتهى2 الكاتب إلى أن الجانب العلمي من الثقافة الإسلامية نتيجة الأخذ بأساليب الفكر اليوناني ولماذا لا يكون هذا الجانب نتجية للأخذ بأساليب الدين الإسلامي وتعاليمه.
{وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا} .
"ثم عرض آيات القرآن التي لم تدخل عن طريق العاطفة بل عن طريق العقل" ألا تعتبر هذه الدعوة أساسا علميا لأن استعمال العقل في التفكير في مخلوقات الله هو الأسلوب العلمي بعينه.
1 الرسالة 17 أكتوبر 1938.
2 الرسالة 24 أكتوبر 1938.
أفيكون اليونان أصحاب الفضل في ذلك فيأخذ عنهم فلاسفة المسلمين هذا الجانب العلمي أم يكون الدين الإسلامي هو الأصل الأول.
يقول أدهم: "إن شارل مارتل أنقذ العقلية الغربية من العقلية الشرقية حين كانت تغزو أوربا على يد العرب".
ولو قال هذا الكلام أحد من الغرب لعذرناه فطبيعة الإنسان كثيرًا ما تغالط نفسها فتنكر الفضل على مستحقه.
حقيقة صد شار مارتل تيار العرب. ماذا منع عن أوربا؟ منع روح النسك، والعرب لم يعرفوا بذلك لا في الشرق ولا في الغرب؛ أم أنه صد عن أوربا سبعة قرون من ينابيع الفكر والعلم والثقافة؟ وهذا ما أقر به علماء الغرب ومؤرخوهم قبل أن ينكره أحد من الشرق والغرب.
سلوا مؤرخي النهضة الأوروبية واستفتوا عن أثر الأندلس في تلك النهضة، ألم تكن جامعاتها وحلقاتها قبلة للطلاب من كل ركن من أوربا، فلماذا تأثروا بالعلم ولم يتأثروا بالنسك؟ أفيكون مارتل بعد هذا قد أنقذ العقلية الجرمانية؟ وهي كما يعلمها طلبة التاريخ من العقلية الشرقية يأتي بها العرب أم يكون مارتل قد أنقذ الجهل من العلم قرونًا1.
1 استمرت هذه المعركة على صفحات الرسالة من يونيه 1938 إلى أكتوبر 1938.