الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معركة الترجمة: بين منصور فهمي وطه حسين
هذه إحدى المعارك الأدبية المبكرة، جرت عام 1921 حينما عرض الدكتور منصور فهمي في جريدة الأهرام لقصة "سيرانو دي برجراك" التي عربها مصطفى لطفي المنفلوطي فأعلن إعجابه بترجمتها العربية الجميلة.
غير أن الدكتور طه الذي كان قد أوغل قبل ذلك بسنوات في نقد كتاب "النظرات" للمنفلوطي، كتب في الأهرام يرد على منصور فهمي ويعارض رأيه في ترجمة القصة الفرنسية ويرى أسلوب المنفلوطي بالاتهامات.
ثم دارت مساجلة بين منصور فهمي وطه حسين حول الأسلوب والمضمون وطريقة الترجمة وتعد هذه المساجلة من أولى معارك الترجمة من الأدب الأوروبي.
1-
رواية1 الشاعر "سيرانو دي برجراك" منصور فهمي:
قل للذين لا تذهب أنظارهم إلى ما وراء الأدب العربي أن لغيرنا من الأمم أدبا بليغا راقيا نكسب من حسنه لأدبنا إذا ما أردنا أن نأخذ عن حسناته، قل للذين قصروا تشبيهاتهم على التشبيهات العربية والكنايات.
وقيدوا عواطفهم بالأساليب العربية أن لغيرنا أساليب من ذهب وعواطف من رقة وصفاء ويحق علينا أن نتبادل معهم عواطفنا ونزوج أساليبنا من أساليبهم حتى تتجدد اللغة وتنمو وتكثر العواطف في قلوبنا وتنتشر.
ثم قال: إن المعرب اقتحم سبيلا وعرًا في قصة سيرانو إذ في بلاغة الأصل الفرنسية وصناعاتها اللفظية واصطلاحاتها ما ليس في الطاقة نقله.
على أنه لا ينبغي أن تكون صعوبة النقل عقبة في سبيل التعريب وربما تجمد الجرأة في اقتحام الصعاب ولا سيما وقد أنعم الله على المنفلوطي بقلم بليغ وأدب موفور، فلو أن تعريبه لا يؤدي لنا صورة كاملة من تلك البلاغة
1 الأهرام 19 يوليو 1921.
الفرنسية الفائقة إلا أنه يؤدي لنا صورة حية بقلم عربي مبين وتؤدي بعض أجزائها على أحسن مثال في البلاغ.
2-
طه حسين 1:
بيني وبين المنفلوطي خصومة أدبية قديمة كونت لي فيه رأيا قديمًا لم أوفق بعد إلى أن أتحول عنها، وهذه الخصومة نفسها هي التي حملتني على أن لا أعرض لكتاب "الشاعر" بخير ولا بشر مع أن لي فيه رأيا قبل ظهوره.
منعتني هذه الخصومة من أن أعرض لهذا الكتاب بخير أو شر، فأنا أعلم أن النقد لم يصل بعد في مصر من الحرية إلى حيث يمكن أن يتناسى فيه الأحقاد والثارات.
قال: إن مؤلف سيرانو قد وضع قصة تمثيلية شعرية أو جمال هذه القصة رهين بالشعر من جهة، وبالأسلوب التمثيلي من جهة أخرى ثم بالبلاغة الفرنسية نفسها.
فإلى أي حد يباح للمترجم أن يحول قصة من التمثيل إلى الفن القصصي الخالص، أليس هذا مسخا للكتاب، وجناية على المؤلف.
لا أطالب المنفلوطي بأن يترجم الكتاب شعرًا كما ألف شعرًا فقد لا يكون ذلك ميسورًا، ولكني لا أستطيع أن أتجاوز عن تحويل التمثيل إلى قصص فهذا مسخ لا يرضاه إلا الذين لا يقدورن الفن قدره.
إن لكل لغة جمالا ليس إلى نقله إلى لغة أخرى من سبيل، فمن المستحيل أن يتذوق هذا الجمال في لغة غير اللغة الفرنسية، ومع ذلك
1 الأهرام 10 يوليو سنة 1921.
فقد يتجاوز للمترجم عن هذا التصور فهو غير مكلف أن يحقق المستحيل.
إلى أي حد يباح للمترجم أن يتصرف فيما يترجمه بالمسخ والتشويه. أي الأمرين أجدر بالغبن؛ أن نترجم قصصا فيه من القصور المحقق في نقل أخص ما يميزها من الجمال أو أن نترك هذه القصة في لغتها حتى لا تمسخ ولا تشوه وحتى لا ينقص من قدرة المؤلف ونبوغه في صورة أقل ما توصف به أنها لا تطابق بعد الأصل ولا تدل عليه.
3-
منصور فهمي 1:
كلانا متفق على أن لا نطالب المنفلوطي بأن يترجم الكتاب شعرًا كما ألف شعرًا فقد لا يكون ذلك ميسورًا نتفق في ذلك كله، فأين الخلاف؟
إن الخلاف الذي أظنه ينشأ بيننا قد يكون في سؤالين وجهتهما إلي:
إلى أي حد يباح للمترجم أن يتصرف فيما يترجمه بالمسخ والتشويه؟ وجوابي البسيط أني لا أبيح قط للمترجم أن يتصرف فيما يترجمه بمسخ أو تشويه، أما بعد هذا فاسمح لي أن أسالك:
أي الأمرين أجد بالغبن أن تترجم قصة فنية مع القصور عن نقل أخص ما يميزها من الجمال أو أن تترك هذه القصة في لغتها حتى لا تمسخ ولا تشوه؟
أرى خيرًا أن تنقل لنا القصة في جمال الأصل من أن يحجب عنا كل هذا الجمال، خير لنا أن تكون عندنا فكرة صغيرة من أدب جديد من أن يهمل هذا الأدب، ولو لم يكن ذلك لما نقل الفرنجة في لغاتهم القرآن الكريم، ولما قرئت في لغاتنا التوراة والأناجيل، ولما قرأنا بالعربية شعر
1 الأهرام 26 يوليو سنة 1921.
"هوميروس" وما ترجم من أدب اليونان وكلنا يعلم أن جمال الأصل فوق جمال المنقول.
أضف إلى ذلك أن الدافع الأول للنقل من لغة إلى لغة قد يكون في جمال الموضوع وليس في تفاصيله، وقد يكون في المعاني وليس في ثيابها من الأساليب دعني أسالك إلى أي حد يباح لنا أن نبخل في تقريظ كاتب جد وكد في سبيل الأدب ونأبى عليه حقه.
4-
رد طه حسين 1:
تسألني أين يقع المسخ والتشويه فيما فعل المنفلوطي؟ وتعلن أنك لا تفهم كيف يكون تحويل قصة تمثيلية إلى حكاية قصصية مسخًا وتشويهًا؟
إن للتمثيل جمالا لا يشتمل عليه القصص وإن مصدر هذا الجمال هو أسلوب الحوار.
ما رأيك فيمن يترجم لك "الجمهورية" مهملا أسلوب الحوار ويصوغها في قالب نثري عادي ككتب ابن سينا وأرسطاطاليس.
ما أظن أن التاريخ الأدبي سطر تحويل قصة تمثيلية إلى حكاية قصصية قبل المنفلوطي ولكنه سطر تحويل القصص إلى تمثيل إلا شيئا لا يؤبه به.
يخيل إلي أن استشهادك بنقل القرآن ليس بمقنع. فالقرآن لم ينقل من حيث هو أثر فني فحسب، وإنما نقل لأنه كتاب دين ولأن نقله أمر لا بد منه، فأما كتاب سيرانو فأثر فني، وآية من آيات الجمال ليس غير.
1 البلاغ 11 سبتمبر 1933.
وكتاب المنفلوطي مع ما فيه من التشويه والمسخ لم ينقل عن الأصل وإنما نقل عن ترجمة، وعن ترجمة عربية فيا لضيعة الوقت ويا للحرص على الشهرة وبعد الصيت.
أحب أن لا تكون مقالاتك مشجعة للمفسدين الفنيين على إفسادهم وللأدعياء في الأدب على أن يسرفوا في ادعائهم ويخيل إلي أن أحسن أثر للفلسفة إنما هو تقدير الأشياء وإقرار الأمور في نصابها.
5-
رد منصور فهمي حول قصة سيرانو:
إنك مهما تشددت في النقد فلا تجد ما يبرر لك ذكر المنفلوطي مع الأدعياء وإني مهما تساهلت في الفن، فلا أستكثر وصف الكاتب الأديب عندما أذكر المنفلوطي.
إنك تجد جريمة تريد أهل القانون أن يلتفتوا إليها إذ تحول قصة سيرانو من قالبها التمثيلي إلى صورة قصصية، وإنك تجد غريبا ومضيعة للوقت أن تصيب الرواية في الشكل القصصي بعد أن ترجمت في شكلها التمثيلي الأصيل.
وإنك في الوقت نفسه تقول: إن قراءة الموضوع أسهل على الناس في تركيبه القصصي منه في تركيبه التمثيلي، فهلا ترى أن المنفلوطي وقد حافظ على الأصل أدى خدمة للجمهور إذ سهل عليهم قراءة هذا الموضوع الجميل، أم ترى أن يسهل الأدب والفن والعلم على العامة إثما، ليس له في ساحة غفرانك نصيب.
لا أخالك تقول بذلك وأنت تعلم أن أكبر العلماء وأحرصهم على لغة الفن والعلم يغشون جامعات الشعب فيلقون فيها نتائج أبحاثهم العويصة سهلة
حلوة المذاق ويقيدون نتائج كدهم في كتب مبسطة ليسهلوا تناول العلم والفن على من لا يألف من الناس لغة العلوم والفنون حتى ولو فرطوا في مصطلح العلم ووقائعه.
فإذا كنت ترى بدعة تحويل الرواية التي نحن بصددها إلى قصة، فتلك بدعة صالحة لا يستهجنها الذوق السليم ويستحق المبتدع عليها كل الحمد والثناء.
زد على ذلك أن لكل لغة أسلوبا فيه رواؤها وبهاؤها فإذا كان أسلوب المحاورة والتمثيل يتمشى مع بهاء اليونانية والفرنسية فإن العربية يتمشى مع روائها أسلوب القصص، على ذلك لم يكن المنفلوطي ليمسخ الفن أو يشوهه كما تقول بل حرص عليه إذ يحول الفن الغربي إلى فن عربي صميم.
أدعوك بالوداع
…
على أني عندما أذكر نقدك على المنفلوطي أدعوك بالتحامل القاسي.