الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: كتاب "النثر الفني
":
بين زكي مبارك وفريد وجدي ولطفي جمعة:
يرى الدكتور زكي مبارك أن كتابه "النثر الفني" في القرن الرابع الهجري الذي أصدره سنة 1934 والذي كان رسالته في الدكتوراه التي حصل عليها من جامعة السربون سنة 1933 هو دعامة مذهبه الأدبي وأشار في مقدمته أنه شغل نفسه به سبع سنين "فإن رآه المنصفون خليقا بأن يغمر قلب مؤلفه بشعاع من نشوة الاعتزاز فهو عصارة لجهود عشرين عاما قضاها في دراسة الأدب العربي والأدب الفرنسي وقال: فإن رأوه أصغر من أن يورث المؤلف شيئا من الزهو فيذكروا أنني ألفته في أعوام سود لقيت فيها من عنت الأيام ما يقصم الظهر ويقصف العمر، فقد كنت أشطر العام شطرين، أقضي شطره الأول في القاهرة حيث أؤدي عملي، وأجني رزقي؛ وأقضي شطره الثاني في باريس كالطير الغريب أحادث العلماء وأستلهم المؤلفين إلى أن ينفذ ما ادخرته أو يكاد، ثم صممت على أن أنقطع إلى الدرس في جامعة باريس حتى أنتصر أو أموت".
وقد ردد المؤلف عيوب كتابه فقال: إن من أهمها غلبة النزعة الوجدانية في الرسالة العلمية، واختلاف منهج التأليف في الكتاب وهذا يرجع إلى أن لم يؤلف في عام واحد، وإنما كتبت فصوله في خلال سبع سنين تحول فيها أسلوب المؤلف وعقله وذوقه من حال إلى حال.
وقد عرض الكتاب لنقد مرسيه رأس المستشرقين الفرنسيين الذي خالفه زكي مبارك في آرائه عن النثر الفني مخالفة صريحة، وقد غضب مرسيه لذلك وأمر بحذف الفصلين بحجة أنهما لون من الاستطراد لا يوائم الروح الفرنسي في البحث. وصمم مبارك على بقاء الفصلين بحجة أنهما العماد الذي تنهض عليه نظرية نشأة النثر الفني.
كما تعرض لمهاجمة الدكتور طه حسين ونقض رأيه وهاجم فكرته التي تدافع عنها.
وقد لقيت آراء زكي مبارك معارضة ونقدا متجددين استمرت معاركه شهورًا متعددة، وقد نشر مبارك فصول كتابه في جريدة البلاغ قبل أن يضمها كتابه.
وكانت أبرز آراء زكي مبارك التي أثارت النقد هي:
أن العرب كانوا على قدر من الحضارة والعلم فلما جاء الإسلام ودفعهم إلى الأمام اندفعوا.
النثر الفني كان موجودًا عند العرب قبل الإسلام.
إن العرب الجاهليين كانوا قد دخلوا في تطور نحو ثلاثة قرون قبل البعثة المحمدية.
القرآن شاهد من شواهد الشعر الجاهلي.
وهذه أهم معالم هذه المعركة:
محمد فريد وجدي 1:
1-
إن استدلال الدكتور زكي مبارك على وجود ذلك النثر الفني عند العرب بالقرآن لانزال نراه معلولا ولا يصح الإصرار عليه فإنه إن كان القرآن وحيا سماويا أو قبضا وجدانيا من أية طريقة روحانية فلا يجوز الاستدلال به على ما يظهر أن لدى الجاهليين من نثر لانقطاع الصلة بين ما هو إلهي وما هو بشري. وإن كان ليس بنثر ولا بفيض وجداني من طريق روحانية تميزه فلا يجوز الاستدلال به أيضًا في هذا الوطن، لأن هذا الكتاب اعتبرته أمة بأسرها كتابا إلهيا معجزًا للإنس والجن مجتمعين ولشيء لا يعتبر إلهيا ومعجزا إلى هذا الحد إذا كان فوق قدرة الذين يدينون بهذه العقيدة على الأقل.
كي يفترض أن يكون لفئام الناس من الأميين نثر فني وهو نقيض الكتابة والتمييز. أليس لو كان لهم شيء من ذلك لكان كتابًا يعتبرونه أساسًا لديانتهم يقدسونه ويحتفظون به ككل أمة متدينة في الأرض، إن الأمة التي ليس لها كتاب مقدس لا يعقل أن يكون لها شيء مكتوب على الإطلاق
1 البلاغ 18 أكتوبر 1931.
وإذا عدم المكتوب فقد عدم النثر الفني ولا يجوز السؤال عنه ولا البحث فيه.
2-
إني لمعجب بالأسلوب العلمي الدقيق وبمهارته في نقل المباحث الأدبية من مجال الظنون والأوهام إلى مجال النظر المباشر المجرد عن الملابسات الدينية والتقاليد.
ولسنا ننكر أن سلوك هذه الجادة على وضوحها واستقامتها لا تخلو من الخصال التي تستدرج الباحثين إلى ما لا يتفق والأسلوب الذي يحرصون على تطبيقه فيضربون في متاهاتها بمعزل عن الأعلام العلمية ويكون مثلهم في تصرفهم في تطبيق الأسلوب الأمثل كمثل خصومهم الذين يتخبطون في بحوثهم بغير دليل.
وأني أوافق الدكتور زكي مبارك1 على أن حقيقة الحياة الأدبية عند العرب الجاهلية لا يصج أن تؤخذ عن الذين كتبوا فيها من المؤلفين الذين تأثروا بالروح الدينية ونحوا في وضعها نحوا يتفق وروايات رجال ليس مرماهم تقرير الحقائق ولكن الأغرب والزلفى من الحاكمين.
3-
رأى زكي مبارك أن العرب الجاهليين كانوا قد دخلوا في تطور نحو ثلاثة قرون قبل البعثة عارضناه فيه وأثبتنا له أن ثلاثة قرون تمضي في التطور ولا تثمر لذويه توحيد كلمتهم وتعيين غايتهم ولا تبعث فيها داعيا يهيب بهم إلى الأخذ بالأسباب وهو شرط لا محيص من وجوده، إن مثل هذا التطورا لمجرد من جميع مميزاته المعروفة لا يصح القول به في عرف علم الاجتماع فإن من شروط الافتراضات العلمية أن تكون مرجحات وأعلام وإلا لفظت إلى عالم الأوهام2.
1 البلاغ 20 سبتمر 1931.
2 المصدر السابق 30 أكتوبر 1931.
رد زكي مبارك على فريد وجدي 1:
يرجع أصل الخلاف إلى رغبتي في نقض ما أصر عليه فريق من المستشرقين وشايعهم عليه الدكتور طه من أن النثر الفني عند العرب لم يعرف إلا في أواخر العصر الأموي حين اتصل العرب بالفرس واليونان، فهو فن اكتسبه العرب بعد الإسلام، ومن رأي المسيو مرسيه أن العرب يدينون في نثرهم إلى اليونان وحجة هؤلاء الباحثين أن العرب قبل الإسلام لم يكن لهم وجود أدبي ولا عقلي وأنه يمكن فقط الاعتراف بأنه كان عندهم شعر؛ لأن الشعر فن ساذج يوجد عند الأمم الهمجية، ولا كذلك النثر فإنه لغة العقل، والعرب في رأيهم كانوا قبل الإسلام يعيشون عيشة أولية لا يعرف فيها كيف تكون طرائق البيان. تلك حجتهم وذلك أصل الخلاف.
أما أنا فقد تطلعت إلى تحقيق هذه المسألة منذ سنوات فقد نشر الدكتور طه حسين في مجلة المقتطف سنة 1926 مقالًا عن النثر في الخمسين سنة الماضية فقد تكلم عن بداية النثر العربي وتكلم عن المقفع وكيف كان يلحن ويحرف الكلم عن مواضعه؛ لأنه في ظنه كان أول الثائرين ولا يخلو مبتدئ من تعثر واضطراب.
فلما ذهبت إلى باريس سنة 1927 وجدت المستشرقين يبدءون ويعيدون في هذه المسألة وعرفت أن المسيو مرسيه هو صاحب الرأي القائل بأن العرب أخذوا مناهج النثر عن الفرس؛ لأن أول ثائر عند العرب هو ابن المقفع وكان فارسي الأصل وبعد تأملات طويلة اهتديت إلى أن للنثر العربي أصولا أخرى
1 البلاغ 29 سبتمبر 1931.
غير الأصول الفارسية، وتلك الأصول هي النثر عند الجاهليين وبذلك يكون النثر الأموي نثرًا متطورا عن النثر الجاهلي ولم ينقل نقلا عن نماذج النثر الفارسي ثم بحثت عن الشواهد فرأيت القرآن أفصح شاهد وأصدق دليل.
ولما اطمأننت إلى نظريتي أعلنتها للدكتور طه حسين سنة 1928 على أنها محاولة، فراعه ذلك ورأى أن نظريته أو نظرية المسيو مرسيه أصبحت في مهب الأعاصير ثم قال في انفعال:
"أنت عاوز تكفر".
هنالك ابتسمت وقلت: لا بأس من أن يكفر زكي مبارك بسبب نظريته عن النثر الجاهلي فقد كفر أستاذ له من قبل بسبب نظريته عن الشعر الجاهلي وتلك ظاهرة طبيعية فإن الشعر أقدم من النثر كما أن الأستاذ أقدم من التلميذ والكفر درجات بعضها مركب وبعضها بسيط.
وكانت بيننا محادثات طويلة حول هذا الموضوع ستنشر بعد حين. وإن كان الدكتور طه غير رأيه قليلا لأن تلميذه أثر فيه أثرا غير قليل. وهذا كلام يشرف الأستاذ أضعاف ما يشرف التلميذ.
ثم رجعت إلى المسيو مارسيه فقارعته في باريس مقارعة عنيفة انتهت بإصراره على حذف الفصول التي كتبتها عن نظرية النثر الجاهلي في الرسالة التي قدمتها إلى السربون، وانتهت من جانبي بالإصرار على بقاء تلك الفصول والدفاع عنها أمام هيئة الامتحان وكان لذلك يوم مشهود.
وهي نظرية إيمان لا سلبية سيقف مؤرخو الآداب العربية منها موقف التأمل والبحث كلما بدا لهم أن يدرسوا أصول النثر القديم وأنا
مطمئن إلى صحة هذه النظرية واثق بأنها ستجتذب إليها كل خصومها ولو بعد حين.
يرى خصوم نظرية النثر الجاهلي أن العرب قبل الإسلام لم يكونوا أهل معارف ولا أهل تفكير، وإنما كانوا يعيشون عيشة فطرية لا تساعد على إنشاء النثر الذي يخاطب العقل، وإن أمكن أن يكون لهم شعر وأن يكون لهم خطب صغيرة وأسجاع وأمثال فذلك لا يستلزم أن يكونوا عرفوا وتخاطبوا به متراسلين.
ونحن ننقض هذا الاعتراض ونعلن أن الإسلام كان تاجا لنهضة أدبية وعقلية واجتماعية عند العرب، ونرى أن العرب أعدتهم الأيام للملك والفتح في تطور طويل لا يقدر بأقل من ثلاثة قرون، وفي تلك المدة نشأت عند العرب فنون أدبية منها الشعر والخطابة وهما ليسا موضع جدال ومنها النثر وشاهده القرآن الذي نزل بلغة الجاهليين ليهديهم إلى الصراط المستقيم.
ارتضينا لأنفسنا أن نخرج الدين من هذه الهيجاء لنظل في حدود البحث العلمي الدقيق الذي يفرض علينا غض النظر عن الأديان والتقاليد.
محمد لطفي جمعة 1:
ألا فليعلم الدكتور زكي أن العرب في جاهليتهم كانوا أميين إلى درجة ذات فصول؛ فلم يحفظوا عن طريق الكتابة شيئا يستحق الذكر ويبتعد عن الحقيقة بعدًا شديدا كل من يقول إن الإسلام كان تاجا لنهضة علمية وأدبية وإسلامية وأخلاقية واجتماعية فقد أثبتنا من التاريخ والعلم أن العرب قبل
1 البلاغ 1 سبتمبر 1931.
الإسلام لم يكونوا على شيء من مؤهلات المدنية والنهضة بل كانوا على العكس في حضيض من العصبية الحمقاء والمطامع اللاشعبية، وحب الانتقام والتفريق بين القبائل والاستهزاء بروابط الألفة القومية.
رد زكي مبارك على لطفي جمعة 1:
1-
قد جدت الحرب بكم فجدوا.
هممت أن أسوق إلى الأستاذ ألوانا مما جرى به قلمه من التهكم والسخرية والاستخفاف ولكني بعد لحظات تذكرت أن هذا كاتب سبقني إلى خدمة اللغة العربية بأكثر من عشرين عاما وليس من البر ولا المروءة أن نتعالم على رجال كانوا أساتذة يوم كنا طلابا وتذكرت بعد ذلك أن لي قراء كراما يراقبونني مراقبة شديدة ويحاسبونني على صغار الهفوات.
2-
إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارًا2:
أننا لا نستبيح لأنفسنا تحويل الخصومات العقلية إلى خصومات شخصية ولكن الأستاذ لطفي جمعة عاد فملأ مقاله بعبارات يعرف هو كيف صيغت وكيف بنيت على روح الغدر وأنا عائد إليه وماض في مقارعته ليعلم أنني أصلب عودًا من أولئك الرجال الذين استلانهم فصال في نقدهم وجال وألف على حسابهم الأسفار الطوال "يقصد طه حسين".
ولقد استطاع الأستاذ أن يباهي بأنه شغل بهذه الموضوعات قبل اليوم وله فيها أبحاث ودراسات فإني سأريه أن الأدب أصعب مرتقى وأعز منالا.
1 البلاغ 4 سبتمبر 1931.
2 المصدر السابق 11 سبتمبر 1931.
من أن يمتلك ناصيته من يقرءونه في أوقات الفراغ، ولست بهذا أغض من قيمة الأستاذ فهو رجل قانون ويعرف كما أعرف أن الأدب يقتل من يفرغ له قتلا ذريعا ولا يبقي له من الوقت ومن البال ما يتفوق به في القانون أو غير القانون. وقد تكون حرف المحاماة قد علمت الأستاذ كيف ينقل مذاهب مهنته إلى الدراسات الأدبية التي يحاول أصحابها أن يصبغوها بالصبغة العلمية وتبعدها عن مداورات المحامين الذين يصورون الباطل بصورة الحق حين يشاءون.
عبد المتعال الصعيدي 1:
إن هذا الشك وتلك الشعوبية التي يجاري فيها زكي مبارك الأستاذ طه حسين قد فرغنا من أمرها معه منذ سنين وعندنا ما هو أهم منها مما لا نحب أن نقطعها إلى إعادة الكلام فيها وأن إعجاز القرآن وإعجاب العرب كان يرجع إلى بلاغته وإنشائه كما يرجع إلى روحه ومعناه.
هل القرآن الكريم من شواهد النثر الجاهلي؟
إن عند زكي مبارك مقياس قريب من كلام البشر أنفسهم في عصر القرآن الكريم وعنده خطب الرسول وخطب أصحابها فلماذا لا يأخذ منها شاهدا على النثر الفني ويعقد المشابهة بين كلام البشر في العصرين ويترك كلام الله تعالى.
رد زكي مبارك 2:
أما أنا فأمثل مدرسة ثانية، هي المدرسة التي تحكم العقل في كل شيء
1 البلاغ 10 و16 أغسطس 1931.
2 المصدر السابق 28 أغسطس 1931.
وتفرض على الباحث أن ينقد أولا المصادر التي يعتمد عليها وتروضه على إدراك الفرق بين الأذواق والأحاسيس في مختلف العصور الأدبية. ولهذه المدرسة الأدبية أشياع عديدون، ولكني أمتاز من بينهم بميزة ظاهرة هي أنني لا أعرف ما هو الحقد وما هو الضغن ولا أفهم مطلقا كيف تنقلب الخصومات العقلية إلى خصومات شخصية.
وفي يقيني أني سأحول النقد الأدبي في مصر تحويلا جديا وخلاصة القول أني لا أتفق مع الأستاذ على الأساس الذي بنى عليه ما ينشئ من النظريات والفروض، وأرى أن المدرسة التي يمثلها لا تتناسب مع الجيل الجديد وللمدرسة الحديثة أشياع عديدون، ولكن أمتاز من بينهم بميزة ظاهرة هي أنني لا أعرف ما هو الحقد وما الضغن ولا أفهم مطلقا كيف تتحول الخصومات العقلية ألى خصومات شخصية يقال فيها هذا لله وهذا للشيطان.