الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثامن: معارك بين المحافظين حول اللغة
المعركة الأولى:
بين أحمد زكي باشا ومحمد مسعود:
كان العالم اللغوي "محمد مسعود" قد قدم عددًا من الألفاظ العربية المهجورة منقح إياها لتحل بدلا من الألفاظ الغربية المدرجة، ولما كان شيخ العروبة أحمد زكي باشا له باع طويل في هذا الميدان وسبق إليه منذ عهد بعيد فقد صاول "محمد مسعود" ودخل معه أكثر من معركة واتهمه بأنه أخذ منه كثيرا من الكلمات، ويبدو أن زكي باشا في مساجلاته في إهاب الاستعلاء وله عبارات جزئية وكلمات عنيفة، وهنا نورد ثلاث معارك جرت بين أحمد زكي باشا ومحمد مسعود خلال عامي 1932/ 1933.
أحمد زكي باشا؛ اتق الله يا مسعود 1:
اتق الله يا مسعود فلك مركز وطيد بين أهل العلم والتحقيق وإذا كان منك سكوت على هذه الأخطاء فإنه يكون خطيئة لا تغتفر لمثلك.
"الشطارة" يا أخي أن يكون الإنسان مستعدًا لإثبات ما ذهب إليه أو يبادر بالرجوع للحق متى نبهوه عليه. فهل عندك هذه الشجاعة؟ أكبر الظن أن الجواب سيكون بالإيجاب بلا مداورة ولا مواربة.
يا مسعود! اتق الله في الأمانة التي في عنقك فأنت أخذت تتحلفط وتتحذلق وتتلاعب بهذا الاسم وبالناس الذين تصورت أنت أنهم قد يخلطونه بالاسم المقارب له وهو "طلمنكة".
فكان عجبي شديد حينما قرأت هذه الحقائق الصحيحة التي ليس فيها سوى عيب واحد وإنه لعيب عظيم هو عيب الاغتصاب الأدبي.
1 البلاغ 22/ 6/ 1932.
وأنا أربا بك عنه يا صاحب "المرياء" بل لا أسمح لنفسي أن أنهرك بسببه لأنك صاحب "المنهرة" ولا أدعو عليك فالق الحب والنوى لأنك الداعي إلى تأنيث الفيلق بغير حق ولكني أتخيل أنك وقفت أمام المرآة فرأيت شخصا أخذت تسخر منه ثم وجهت السخرية إلى الناس بغير حق.
أنت أخذت متى عني كل هذه المعلومات الصحيحة التي رويتها في الأهرام مع صياغتها بتلك الرشاقة البديعة وبذلك الأسلوب الجذاب الذي برعت فيه وفقت الأقران، فلماذا إذا خالفت واجب الأمانة ولم تنسب الفضل لأهله.
أنت أنت كنت الخالط بين شلمنقة وطلمنكة، أنت أنت كنت إلى بضعة أيام تظن أنهما شيء واحد أو مدينة واحدة، وأنا الذي هديتك إلى الصواب، وشرحت لك الحقيقة، وذكرت لك التفاصيل.
لعلك نسيت يا مسعود.
لعلك تقول: إن الإنسان معدن النسيان.
منها: أن أذكرك بما حصل لترجع إلى الحق وتنسب الفضل لذويه فهذه سجيتك التي عهدتها منك وهذه شيتمك التي يعرفها الناس عنك وفيها كل مفخرة لك.
أتذكر أنك في كلامي معك قلت أنت لي: إن سلمنكة هي التي عربها العرب وجعلوها طلمنكة، أتذكر أن جوابي لك كان "حاسب يا مسعود حاسب".
ثم شرحت لك الفرق بين المدينتين وذكرت لك مما بقي في ذاكرتك وجرى به قلمك دون أن تشير إلى المصدر الذي سقاك هذه المعلومات.
محمد مسعود؛ يا شيخ العروبة اتق الله:
يدعوني شيخ العروبة إلى تقوى الله ليهيئ لي من أمري رشدا فأكرم بهذه النصيحة الغالية والتحذير الحكيم من عالم فاضل يغار على الحق ويعمل لتأييده.
ولكني أراني الأستاذ تجاهه في مأزق حتى يرأف بحالي فيدعوني إلى التزود بزاد التقوى لأقيل عثرتي وأخلص من ورطتي وهو الذي في مناظراته عود مناظريه أن يكون أمرهم معه يسرا لا عسرًا.
وصف سيدي الأستاذ ما يتفضل الأهرام بنشره لي بين الفينة والفينة من تحقيق بعض الأسماء الأعلام أو تسمية بعض الأشياء بأسمائها الصحيحة في اللغة بأنها "ألفاظ مقعرة وحفلطة وجليطة وتحذلق وتفاصح
…
إلخ" ما عرف الناس طرا من الحافقين وما زالوا يعرفونه أن شنشنة مولاي الأستاذ وفطرته التي فطر عليها في مباحثاته وسلاحه الذي يخطر به خطرانا في غطرسة وزهو كلما أقبل على ميدان أو تحضر للضرب والطعان.
وليس من ديدني أن أقرع هذا السلاح بمثله أو آبه لتلك النعوت، بل النوابل والأفاوية الزكية الذي اعتاد أستاذي الكريم أن يذر ذرورها على ما يقدم إلى قرائه من صحائف بياناته ومناقشاته المسهبة فإني مار بها مر الكرام وواضعها دبر أذني.
إن الحرب في سنيها الأول ألزمت سواد الناس ملازمة بيوتهم وحرمتهم إمتاع النفس بما اعتادوا أن يرفهوها به خارجها في الهزيع الأول من الليل وكانت تطوف بخاطري دائما في تلك الأيام وأنا في عزلتي ذكرى المحاولات المستخذية التي حاول بعضهم سنة 1893 أن ينضوا عن اللغة العربية عار إفقارها
من ألفاظ فصحى تؤدي معاني الألفاظ العامية والدخيلة التي تسربت إليها وفشا استعمالها في اللحنين الكتابي والكلامي. وقد كنت أعتقد أن سد هذه المفاقر لا يتأتى عن تصعيد الألفاظ المطلوبة من هنا وثم كما كان يفعل ذلك البعص مسايرة للمصادفات والمناسبات بل عن مطالعة المعاجم مطالعة استقراء واستقصاء لتقييد ما يكون صالحا لسد تلك الثلمة الفاغرة التي علا نعي الناعين لها في الغابر والحاضر فتوفرت على هذا العمل زمانا مديدا حتى اجتمع لي منه بضعة آلاف كلمة عنيت برد ما يتصل منها بمختلف العلوم إلى ما هداني البحث والتنقيب إليه من مقابلها في اللغتين الفرنسية واللطينية، وهذه الكلمات وتلك مصورة عندي في أمام مبين أعاوده بنظري كلما احتجت إلى تحقيق أو تصحيح.
فمن العجب العاجب بعد هذا أن يريدني الأستاذ شيخ العروبة فيما يتعلق بكلمة "المنهرة" وهي من تلك الكلمات التي أحصيتها ثم سمعتها بعد من كثيرين على أن يرتقي علمي بها إلى ما قبل سني الحرب.
وأي حرج في استعمال كلمة المنهرة الآن للدلالة على مجمع الكناسات المنزلية وكتب اللغة قاطبة لا مخصص ابن سيدة وحدة متفقة على أنها "الموضوع بين الدور لإلقاء الكناسات".
بعد أن أفرغ سيدي الأستاذ جام غضبه ونقمته على كلمة المنهرة توجه بنقده اللاسع اللاذع إلى كلمة "الفيلق" التي أثبت بالمراجع اللغوية والشواهد الشعرية تأنيثها ثم قال: "إني" ثائر على تأنيث كلمة الفيلق وقد يكون هذا التأنيث صحيحا ولكني لن أستعملها إلا مذكرة".
هذا ما قاله شيخ العروبة مبنى ومعنى، ولقد قرأت بعد ظهور نبذتي عن
كلمة الفيلق ست عشرة نبذة نشرها بعض أفاضل اللغويين تعليقا وملاحظة على ما ذهبت إليه من تأنيثها. ولكن سيدي إذا انزرع بمخه رأي عددت فيه جذوره وأخذت منه المأخذ العميق فيصبح عسيرا عليك أن تقتلعه، وما دام أنه يحب التذكير ولا يرضى ألاه فلندعه وشأنه. لنسرح الطرف قليلا في تفسير طريف فكه جاء به لكلمة الفيلق. يقول أم اللغة وشيخ العروبة في لهجة التأكيد والاستيثاق ما يأتي:"إن فيلق إنما هي صفة أو نعت تطلق بصيغتها هذه على المذكر والمؤنث مثل خام وقبيل ومصون إلخ".
مرحى يا سيدي الأستاذ! ما هذا التخليط في التحقيق اللغوي الذي لم تتورع بصدده عن نصيحتي بتركه إذ تقول: "إن استمعت لي أخرجت نفسك من ميدان البراز فائزا من الغنيمة بالأسباب.
أسألك بربك أن تجاوبني ما هذا الخبط والخلط.
رأيت النفس النقادة من الهيولي اللغوية لمولاي الأستاذ إلا أن تلقف بكفي نقدها العميق كلمة مرباء بالهمزة التي رأيت ومازلت أرى أنها أصلح لفظ وأدقه لأداء معنى المصعد أو الأسنسور، ولكن الظاهر أن تلك النفس العيوفة تقززت منه فقالت مستنجدة مستصرخة "سألتك بالله ألا تردنا على استعمال كلمة مربأة، لا أحد يتقعر بما لا يفهمه الناس من مرباتك".
إني حين حدثت قرائي عن "المربأة" حدثتهم عن موجود في اللغة لا معدوم ويجمل بك يا سيدتي النفس الكريمة أن أذكرك أنك في غابر الزمان وسالف العصر والأوان كنت تتصدين لما أنا متصد له الآن من خلع بعض الأسماء على ما يجب أن يسمى به مدلولها فأسميت التروتوار بالإفريز ما الإفريز إلا ما برز من حائط البناء كالطيف وأسميت الأوتومبيل بالسيارة وكان حقا
أن تسميه بالجوالة وتغلغل خطأ هاتين التسميتين في غصون الزمان حتى جهد عليها الإصلاح الآن.
أفلم يكن الأولى بك أن ترى الخشبة في عينك من أن ترى القشة في عين غيرك.
وألفت نظرك إلى أن ربي وربك أمرنا في محكم آياته بالحسنى في الجدل وأنت أيتها النفس العاقلة الحصيفة تخشين أسلوبك الجدلي بهجر القول وسقط الكلام وحواشي اللفظ.
لكني أهيب بك أن تكون تحية أول صديق من الكرام الكاتبين قابلته في صبيحة اليوم قوله لي "تالله لو كنت طالبا لو لم يكن غير زكي باشا أستاذنا على وجه الأرض لآثرت البقاء جاهلا خاملا طول عمري على أن أكون عالما نبيها إذا كان أسلوبه في التعليم كأسلوبه في الجدل.
2-
محمد مسعود؛ يا شيخ العروبة اتق الله 1:
إن نخلة الأدب والعلم في حديقة شيخ العروبة تأبى إلا أن يكون ثمرها حجرًا ومدرًا لا رطبًا جنيا فهي ترمي بهما الناس جميعًا لا ترحم كبيرًا ولا تعطف على صغير.
ولقد أرسلت النخلة المباركة علي بدلا من ثمرها الشهي ورطبها الجني أحجارًا غلاظا أسمتها "الأمانة" والشطارة والصهينة والهروب إلى آخر ما في الجبهة الزكية.
تذكرين الأمانة تريدين بها ضدها أيتها النخلة المأمونة الأمينة وتذكرين
1 البلاغ 4 يوليو 1932.
الشطارة تنزعين في معناها إلى جانب الفصيح، وقد كان أبعد خطورا على البال أن تلوحي بهما إلي وأنت لم تكوني الأمينة حتى على كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فغيرت في آياته وأبدلت ونسخت ومسخت وزدت إن أعذت هذا الخطأ في الصحف فهجت بذلك حفيظة الناس عليك وكانت غضبة مصرية من أهل العلم فهبوا لإصلاح ما أفسدت وجبر ما كسرت، وكان منك يومئذ أن لجأت إلى ما تلجئين إليه الآن، إلى ذلك الحصن الحصين؛ حصن الرجوع إلى الحق فضيلة تكررين الأمانة الأمانة، وأنت لا تتقي الله فيها إذا رحت تدعين لنفسك الحق في طبع كتاب الأدب الكبير لعبد الله بن المقفع مع أنه من ألوف الكتب التي أصبحت بموت مؤلفيها منذ مئات السنين ملكا مشاعا للجميع فلأي أن يطبعه فلما طبعه محمد المرصفي طبعة صحيحة هاج هائجك فأرسلت عليه كسفا من سماء غضبك إذ أنكرت عليه ذلك الحق وأمطرته وابلا من مثل هذه العبارات "نال من الرواج ما جعل بعض البلد المتطفلين يقلده بلا خجل"، إلى ذلك من العبارات التي ينطبق عليها قول الفرنسيين.
"إن ديباجة المرء إنشاؤه" أي إن عصارة تفكيره التي ينضج بها فهي كفيلة بأن تكشف للقارئ، والسامع عن حقيقة مشاعره من كل نواحيها.
وترميني يا نخلة العلم والأدب فيما رميت من أحجار الصهينة والسكوت لأنني مررت بمقالك "حاسب يا مسعود حاسب" مر الكرام.
وأنت أنت يا شيخ العروبة نسيج وحدك في الإغضاء والتغاضي ونابغة زمانك في الانسلال من التبعات فما عهدك ببعيد بمقال "بقايا العرب في أمريكا" الذي نشرته لي "الأهرام أوائل نوفمبر 1930" فقد لبثت تنتظر أسبوعين
كاملين طالعت الناس بعدهما بمقالك الذي صدرته بما هو ديدنك من التفاخر والزهو إذ قلت:
"عني وعني وحدي خذوا النبأ الصادق، وعندي وعندي وحدي الحجة الصحيحة والبرهان الصادق" ومننت فيه على كل شرقي وعربي "هكذا" بأنك أول من نبه العرب إلى كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق وزدت المن منا على مصر شعبا وحكومة بتصويرك إياه بالفوتوغرافيا لإهدائه إلى دار الكتب.
فلما انبرينا لنفند هذه الدعوى، وأثبتنا بالدليل المقنع والحجة البالغة أن الكتاب طبع بالعربية بحاضرة روما عام 1592 أي قبل عثورك عليه بثلاثمائة سنة رأينا قلمك الندي قد ذبل عوره وانقطع سيله وعدت لا تحبر جوابا.
فلست أدري لماذا لا يرى شيخ العروبة الخير والصواب إلا في ملاحقة كل كاتب باحث بدعاوي التفوق وتعقبه بصنوف المن والتعبير والتكدير والتحذير؟ بل لا أدري لماذا يلذ له أن يصلح بغيره ما هو به ألصق؟ فهل جهل أو تجاهل؟ إن من أمارات العلم الصحيح أن يكون زكي النفس قبل أن يكون عالما وأن يقصد بعلمه هداية غيره في تواضع وإنكار للذات.