المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثامن: جمال الدين الأفغاني ورينان - المعارك الأدبية

[أنور الجندي]

فهرس الكتاب

- ‌مدخل

- ‌أولا: معركة مفاهيم الثقافة

- ‌ثانيا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌ثالثا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌الباب الأول: معارك الوحدة والتجزئة

- ‌معركة الوحدة العربية

- ‌مصر بين العربية والفرعونية:

- ‌معركة العروبة والمصرية:

- ‌الباب الثاني: معارك اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌تمصير اللغة العربية:

- ‌مجمع اللغة، ما هي مهمته

- ‌معركة الكتابة بالحروف اللاتينية:

- ‌الباب الثالث: معارك مفاهيم الثقافة

- ‌مدخل

- ‌ثقافة الشرق ثقافة الغرب:

- ‌معركة بين فيلكس فارس وإسماعيل أدهم:

- ‌لا يتنيون وسكسونيون: بين العقاد وطه حسين

- ‌النزعة اليونانية بين زكي مبارك وطه حسين:

- ‌كتابة السيرة" بين التاريخ والأسطورة:

- ‌كتابة التاريخ: بين رفيق العظم وطه حسين

- ‌معركة الترجمة: بين منصور فهمي وطه حسين

- ‌آداب الساندويتش: بين الزيات والمازني والعقاد

- ‌أدبنا: هل يمثلها؟ بين أحمد أمين وأمين الخولي

- ‌غاية الأدب: ما هي؟ بين زكي مبارك وسلامة موسى

- ‌متى يزدهر الأدب؟ معركة بين لطفي جمعة وزكي مبارك:

- ‌الأدب المكشوف: بين توفيق دياب وسلامة موسى

- ‌التراث الشرقي؛ يكفي أو لا يكفي؟: بين عبد الرحمن الرافعي وعباس محمود العقاد

- ‌ثقافة دار العلوم: بين أحمد أمين ومهدي علام

- ‌الباب الرابع: معارك الأسلوب والمضمون

- ‌الأسلوب والمضمون: بين الرافعي وسلامة موسى وطه حسين

- ‌أسلوب الكتابة: معركبة بين شكيب أرسلان وخليل سكاكيني

- ‌أساليب الكتابة؛ بين شكيب أرسلان ومحمد كرد علي:

- ‌الباب الخامس: معارك النقد

- ‌الفصل الأول: أسلوب طه حسين

- ‌الفصل الثاني: مقومات الأدب العربي

- ‌الفصل الثالث: مذهبان في الأدب:

- ‌الفصل الرابع: بين النقد الذاتي والموضوعي

- ‌الفصل الخامس: الأدب بين التجديد والانحراف

- ‌الفصل السادس: هل نقتبس أم نقلد

- ‌الفصل السابع: معركة فقدان الثقة

- ‌الفصل الثامن: الفن للفن والفن المجتمع

- ‌الباب السادس: معارك النقد حول الكتب

- ‌الفصل الأول: رسالة منصور فهيم الدكتوراه

- ‌الفصل الثاني: الخلافة وأصول الحكم

- ‌الفصل الثالث: معركة الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌نماذج من حملات المعركة:

- ‌تجدد معركة الشعر الجاهلي:

- ‌الفصل الرابع: كتاب "النثر الفني

- ‌الفصل الخامس: كتاب "أوراق الورد

- ‌الفصل السادس: كتاب ثورة الأدب

- ‌الفصل السابع: "كتاب" مع المتنبي

- ‌الفصل الثامن: معركة مستقبل الثقافة

- ‌الباب السابع: المعارك بين المجددين والمحافظين

- ‌الفصل الأول: معارك الرافعي

- ‌الفصل الثاني: معركة فضل العرب على الحضارة

- ‌الفصل الثالث: الدين والمدينة

- ‌الفصل الرابع: التغريب

- ‌الفصل الخامس: حقوق المرأة

- ‌الفصل السادس: معركة حول التراث القديم

- ‌الفصل السابع: معركة الخلاف بين الدين والعلم

- ‌الفصل الثامن: جمال الدين الأفغاني ورينان

- ‌الفصل التاسع: خم النوم

- ‌الفصل العاشر: بين النقد والتقريط

- ‌الباب الثامن: معارك بين المحافظين حول اللغة

- ‌المعركة الأولى:

- ‌المعركة الثانية:

- ‌المعركة الثالثة:

- ‌الباب التاسع: معارك نقد الشعر

- ‌الفصل الأول: بين شوقي ونقاده

- ‌الفصل الثاني: بين عبد الرحمن شكري والمازني

- ‌الفصل الثالث: إمارة الشعر

- ‌الفصل الرابع: ديوان وحي الأربعين

- ‌الباب العاشر: معارك النقد بين المجددين

- ‌الفصل الأول: بين التغريب والتجديد

- ‌الفصل الثاني: معركة الكرامة

- ‌الفصل الثالث: معركة الصفاء بين الأدباء

- ‌الفصل الرابع: معارك النقد

- ‌الفصل الخامس: بين زكي مبارك وخصومه

- ‌الفصل السادس: مبارك ينقد كتابه

- ‌الفصل السابع: بين العقاد وخصومه

- ‌الفصل الثامن: بين سلامة موسى وخصومه

- ‌الفصل التاسع: بين المازني وخصومه

- ‌الفصل العاشر: معارك أدبية؛ بين الدكتورين هيكل وطه حسين

- ‌الفصل الحادي عشر: معركة لقمة العيش

- ‌الفصل الثاني عشر: بين شباب الأدب وشيوخه

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌الفصل الثامن: جمال الدين الأفغاني ورينان

‌الفصل الثامن: جمال الدين الأفغاني ورينان

معركة بين رشيد رضا ومصطفى عبد الزارق:

كانت الجامعة المصرية في الثلاثينات قد وقعت تحت سيطرة المستشرقين ودعاة التغريب ولذلك عمدت إلى مصادمة مشاعر العرب والمسلمين والمصريين احتفلت بمرور مائة عام على ميلاد الفيلسوف الملحد أرفست رينان صاحب نظرية "الآرية والسامية" والكاتب الغربي استعماري الذي هاجم التراث أشد هجوم واتهمهم بالضعف في النقل والقصور في التفكير والذي هاجم الإسلام أعنف هجوم.

وقد كان من العجب أن يكرم ذكرى رينان رجل مثل الشيخ مصطفى عبد الرازق أستاذ الفلسفة بالجامعة وخريج الأزهر الشريف والسربون فيرمي بقضية جريئة، كانت لها ضجة بعيدة المدى، تلك هي اتهامه جمال الدين الأفغاني بأنه بعد وصوله إلى باريس 1881 واجتماعه بالفيلسوف أرفست رينان قد "تطور فكره" في أقل من ثلاث سنين، فغير رأيه في "الدين" وأعلن أن الإسلام كان عدوًا للعقل والمدنية.

والمعروف أن رينان قد تحدث إلى جمال الدين في شأن إلإسلام والعرب، وإنه ألقى على أثر ذلك محاضرة نشرت في جريدة الديبا الباريسية، وإن جمال الدين رد على هذه المحاضرة ونقد آراء الفيلسوف الفرنسي مما اضطره إلى أن يعلن تراجعه "ظاهريًا" عن آرائه واعتذاره أنه سيعيد النظر في مصادر دراسته.

ولما كان هذا الرأي جريئًا على "جمال الدين الأفغاني" فقد تصدى "رشيد رضا" للرد على مصطفى عبد الرازق فكتب في الأهرام والمنار يعرض للآراء التي وردت في المحاضرة عن رينان وجمال الدين مفندا لها، وقالت جريدة الأهرام1 معلقة على المحاضرة: "إن المحاضر أخذ يحقق تحقيقا دقيقا لبعض التواريخ الخاصة بسياحات جمال الدين ثم أخذ يذكر لرينان رأيه في

1 الأهرام 32 مارس 1923.

ص: 490

عدم قابلية الإسلام للعلم الحديث وذكرت الردود التي رد بها الفيلسوف الشرقي جمال الدين مزاعم الفيلسوف الغربي، قالت الأهرام: لاحظنا أن المحاضر وضع نفسه موضع النزاهة العلمية فكان يذكر آراء الفيلسوفين دون أن تميل به العاطفة إلى انتقاص رينان فكأن النزاهة التي طبع عليها حالت بينه وبين أي تأثير. وقد يخرج العلماء أحيانًا من حدودهم العلمية، وقد لاحظنا أن الجمهور أصبح أوسع صدرًا من ذي قبل، وأصبحت الأفكار أشد مرونة وأشد تقديرًا للحرية الفكرية رغم أن المحاضر كان يلقي عن رينان ما قد يستفز غضب أصحاب الصدور الضيقة فقد كان السامعون منصتين متتبعين لكل ما يلقى عليهم.

من محاضرة مصطفى عبد الرازق:

وقال مصطفى عبد الرازق: إنه مما يعنى "بالبحث في أسباب التطور في تفكير السيد جمال على هذا الوجه في أقل من ثلاث سنوات يستدعي الإحاطة بما حفل به من العوامل وأظهر هذه العوامل سفره لأول مرة في أوربا واتصاله بكبار الفلاسفة والعلماء وحبه للاستظهار بصداقتهم على خدمة مراميه السامية واندماجه في سلك الحركة الفكرية الحديثة البعيدة عن الدين.

ولخص مصطفى عبد الرازق رأي جمال الدين في قوله:

إن الدين لم يكن عنه مناص في سوق الأمم عند نشأتها إلى كمال.

إن الدين الإسلامي كسائر الأديان يزدري العلم ولكن المسلمين لا يمنعهم مانع من الوصول إلى ما وصل إليه المسيحيون في الغرب.

وإذا صح القول بأن الدين الإسلامي عقبة في سبيل ترقية العلوم فهل يستطيع المرء أن يقول: إن هذه العقبة لا يمكن أن تزول يومًا، ثم بماذا

ص: 491

يختلف الدين الإسلامي في هذه النقطة عن بقية الأديان الأخرى. إن الأديان جميعها ضيقة الصدر، ولكل في ذلك أسلوبه الخاص.

وقد كان الأمل كبيرًا أن تصل الجماعة الإسلامية يومًا إلى تحطيم قيودها والسير في طريق المدنية بخطى ثابتة محتذية مثال العالم الغربي الذي لم يقف الدين المسيحي في طريقه حجر عثرة.

وقال رينان: يلوح لي أن الشيخ جمال الدين قد زودني بطائفة من الآراء الهامة تعينني على نظريتي الأساسية وهي أن الإسلام في النصف الأول من وجوده لم يحل دون استقرار الحركة العلمية في الأراضي الإسلامية ولكنه في النصف الثاني خنق الحركة العلمية وهي في حظيرته فكان هذا من سوء حظه.

مناقشة رشيد رضا لآراء رينان وعبد الرازق:

كان من1 مثار العجب للناس أن الجامعة المصرية أقامت حفلة حافلة لذكرى رينان بمناسبة انقضاء قرن على عهد ولادته وحاروا في استنباط الباعث لأساتذة الجامعة على الخيار هذا الملحد الطاعن في دين الإسلام وفي المسيحية أيضا للإشادة بذكره وإعلاء قدره على عدم حفظ أي منقبة له نفع بها البشر فأصاب هذه البلاد وهذه الأمة حظ منها يستحق بها ذلك عليها.

وقد كان الدكتور طه حسين أحد مدرسي الجامعة المصرية ينشر في هذه الأيام التي وقع فيها الاحتفال بذكرى رينان مقالات في جريدة السياسة يحاول فيها إثبات انتشار الارتياب في الدين الإسلامي والإلحاد والفسق عنه في أهل القرن الثاني والثالث للهجرة الإسلامية في بلاد الحضارة العربية كالعراق

1 المنار جـ30؛ 16 أبريل 1923.

ص: 492

بل في الحجاز أيضًا. ويستدل على ذلك بشبهات كشبهات رينان.

ولما أعلن عن المحاضرة ظننا نحن وأمثالنا أنه يريد بهذه المحاضرة أن يمحو سيئة ذلك الاحتفال بالإشادة بفضل فيلسوف الإسلام السيد الحسيني "جمال الدين الأفغاني" الذي اشتهر عنه أنه رد على محاضرة رينان في وقتها بما هدم بنيانها وقوض أركانها.

وكنا نظن أن الأستاذ1 "يقصد مصطفى عبد الرازق" الذي درس العلم الإسلامي بالجامع الأزهر وبعض العلم الأوروبي في باريس أراد بعد احتفال الجامعة المصرية برينان الذي لم يعرف في هذه البلاد إلا بما اشتهر من طعنه في الإسلام إنما يقوم بما هو جدير به من تلخيص رأي رينان في الإسلام وتلخيص رد السيد جمال الدين عليه.

2-

كانت خلاصة المحاضرة أن السيد جمال الدين الذي اشتهر في العالم الإسلامي كله بأنه حكيم الإسلام وموقظ شعوبه والداعية إلى تجديد مجده وإعزاز دولته بهدى الدين وعدو الإلحاد وصاحب تلك الحلة المقصورة على أهله في رده على الدهريين.

هذا ما كان من أمره في ذلك محصورًا في حياته قبل أن يذهب إلى أوربا، بل إلى باريس، وإنما كان لغرض سياسي وأنه بعد وصوله إلى مدينة الكفر والإلحاد واجتماعه برينان وأمثاله في أوائل سنة 1883 قد تطور فكره في أقل من ثلاث سنين فمرق من الدين واعتقد أنه عدو للعلم والعقل والمدنية حتى إنه قبل بكل تعظيم وارتياح طعن رينان في الإسلام، وعظمه وأثنى عليه

1 الأهرام 23 و30 مارس 1923.

ص: 493

من جرأته أطيب الثناء، مما هو ظاهر في بطلانه وسخفه الذي لا يخفى على طالب علم بله حكيم الإسلام، ومكمل تربية الأستاذ الإمام.

بهذا أجاب الأستاذ الشيخ مصطفى عن المقارنة بين رد السيد "جمال الدين" على رينان سنة 1883 وبين سائر محرراته حتى رده على الدهريين الذي كتبه سنة 1881 وهذا سر ذلك التدفق التاريخي الذي أشرنا إليه في فاتحة هذه الكلمة. ولكن المعروف من تاريخ السيد الحكيم ومن محرراته سنة 1883 وما بعدها أنه لم يزد بعد إقامته في أوربا وباريس خاصة إلا استمساكا بعروة الإسلام الوثقى ودفاعا عنه ودعوة إلى النهضة الإسلامية المدنية بهدايته العالمية وخلاصة المحاضرة أن فيلسوفي الشرق والغرب "جمال الدين ورينان" قد اتفقا على إثبات عداوة الدين للعلم والعقل وحرية الفكر لا فرق بين الإسلام وغيره، ونحن نرى التعارض تامًا بين هذا الرد الذي استخرجه لنا صاحب هذه المحاضرة من ترجمة ألمانية عن ترجمة فرنسية لم يرها عن أصل عربي مفقود وبين سيرة ومكتوباته ومما روى الثقات عنه من أول عمره إلى آخره حيث كان في الأستانة يختلف إليه العلماء والكتاب فأي الأمرين نرجح؟

إننا نجد فيما لخصه صاحب المحاضرة "مصطفى عبد الرازق" عن رد السيد جمال الدين على رينان جملا أخرى تحول دون صحة النتيجة التي استنبطها من مجموع الرد وقد يؤيدها في ذلك جملة من تلخيص رد رينان على السيد.

3-

ثم فصل الشيخ رشيد رضا رأي مصطفى عبد الرازق فقال:

إن الأستاذ الشيخ مصطفى عبد الرازق قد استنبط مما فهم من كلام السيد

ص: 494

الذي خلص إليه من ثلاث ترجمات أنه بعد وصوله إلى مارس سنة 1883 دخل في طور جديد تغير فيه اعتقاده ورأيه في الإسلام وكونه منشأ العلم والحكمة والعمران.

أفرأيت لو كان السيد جمال الدين رجع بباريس سنة 1883 عن رأيه في كون الدين ولا سيما الإسلامي لا يتفق مع العلم والحكمة، أكان يبني سياسته في إعادة مجد المسلمين على هذه الدعوة؟

كلا، إنه لو دخل في الطور الذي استنبطه صاحب تلك المحاضرة لجعل دعوته فلسفية محضة مشوبة بفصل الدين عن السياسة وبالتشكيك في الدين أو الصد عنه كما فعل النصارى في أوربا من قبل وكما يفعل مقلديهم من متفرنجة المصريين والترك والفرس.

ولكنه لم يفعل ذلك بل جعل دعوة الإصلاح كلها قائمة على إحياء هداية القرآن وصحيح السنة وسيرة السلف الصالح من الأمة، وهذه حجتنا الناهضة على أن ما سلم به "رينان" من اضطهاد بعض المسلمين للعلم إنما هو بسوء فهمهم للإسلام. وإن الإسلام المشوب بالبدع والأهواء هو الذي يناهض الحكم والعلم لا إسلام القرآن الذي كان المسلمون يفهمونه في إبان سلطان الدولة العربية قبل تغلب العجم عليها.

4-

جمع رينان ما له منحول وقوة واستعان بما يملك من جهد في تسويء سمعة الإسلام والحط من قيمة تعاليمه وطعن المسلمين في عقليتهم وما لهم من علم وأدب وخلق وأنكر على العنصر السامي عمومًا والعربي خصوصًا أن يكون لهم عقلية سليمة أو طبيعة تسالم العلم والفلسفة أو تتفق مع حرية الفكر.

وامتد به نفس السلب والشتم إلى أن أنكر أن يكون للعرب عمل أو فكر

ص: 495

أو رأي في العلوم والفلسفة وإذاعتها لأن نقل تلك العلوم إلى العربية إنما كان من أولئك النفر الذين تلقوا العلم بمدرسة حران، ونقلوا الفلسفة من اليونان إلى اللسان العربي وأن ابن رشد هو الذي أشعل ذلك القبس العلمي الذي استضاءت به أوربا.

وقر هذا في نفسي وقد رأيت رجلا من علماء الدين بالأزهر الشريف يورد مطاعن رينان في الإسلام من حيث هو دين وفي أهل الإسلام كافة باعتبارهم متدينين، ويخرجهم في عقليتهم وآدابهم وأخلاقهم وعلومهم في بلد يدين أكثر أهله بالإسلام.

وقد اجتمع جمهور السامعين، وهم من المسلمين الذين سلقهم بأحدّ لسان وفيهم كثير من علماء الدين وجميعهم مصغ إلى تلك الآراء التي يقصد بها الحط من دينهم وعقليتهم ولا يستفزهم ذلك إلى الغضب من رينان الشاتم السالب ولا من مكرم "رينان" المورد لأقواله.

أليس تكريمه في بلد إسلامي بفم رجل من علماء الإسلام بالأزهر الشريف يورد طعنة في الإسلام والمسلمين.

ويستغرب كثير من الناس أن يقدم رينان إلى الافتراء على دين يعتقده خمس النوع الإنساني، ويهجم في الحكم على عقليتهم وآدابهم وأخلاقهم دون حياء، حكما لمي نضجه البحث الصحي أو الوراية - ولكن أخالفهم في عد ذلك الأمر غريبا منه بعد أن علمت وكل من سمع محاضرات رينان قد علم أنه نشأ نشأة دينية وانتظم في سلك رجال الكهنوت ليعد نفسه ليكون قسيسًا فإني أعتقد أن الرجل لما فسدت دينيته قد بقي عنده ما يثبت في قرارة نفسه من التعصب على الإسلام.

5-

طعن رينان في الإسلام بأنه عدو العلم والعقل وطعن في العرب بأن

ص: 496

عقولهم قاصرة بطبعها غير مستعدة لفهم الفلسفة وما وراء الطبيعة وكل ما ذكر في المحاضرة من تلخيص كلامه يدل على أنه لم يكن يعرف من أصول الإسلام شيئًا إلى بعض كلام دعاة النصرانية في الجزائر ورجال السياسة الفرنسية فيها وناهيك بإخلاص الفريقين في التحقيق والصدق فمن تحقيق الفريق الأول ما يعرفه قراء العربية من كتاب الإسلام للكونت دي كاسترو الذي ترجمه بالعربية المرحوم أحمد فتحي باشا زغلول فإن فيه من العقائد المنسوبة إلى الإسلام ما لم يخطر في بال أحد من البشر لم يطلع على مفترياته.

ومن تحقيق الفريق الآخر تفضيل البربر على العرب في العلم والمدنية.

ودليلهم على ذلك أن أصلهم من برابرة الشمال الأوروبيين لا من همج الساميين وقد اضطر إلى تجهيلهم الفيلسوف الاجتماعي بحق "غوستاف لوبون" أحد أفراد علماء الفريق الذين أنصفوا العرب حق الإنصاف على علم صحيح بالتاريخ.

ومن هذا الباب ثناء رينان على جمال الدين وعلى قومه الأفغان بأنهم من الأرومة الآرية ذات العقل الراقي المستعد للفلسفة العليا التي تستعصي على عقول العرب وعلل بذلك ما زعمه من عدم استمساك هذا الشعب بالإسلام.

والحق الواقعي القطعي الدال على مبلغ جهل رينان هو أن السيد جمال وهو الفيلسوف الوحيد الذي خرج من الأفغان هو من صميم العرب من سلالة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأن الشعب الأفغاني هو أشد الشعوب الإسلامية اعتصاما بدين الإسلام وتعصبًا له.

فإذا كان السيد جمال الدين غير متدين كما تراءى لعقل رينان فقد نقضت قاعدته في العرب، وفي الأفغان جميعًا.

ص: 497

على أننا لا نثق مما نقل إلينا الأستاذ صاحب المحاضرة من كلام فيلسوف الغرب والشرق على رأيه فإن السيد جمال الدين كتب رده على رينان بالعربية -كما قال- وترجم لجريدة الديبا بالفرنسية ونقل من الفرنسية إلى الألمانية ومنها إلى العربية فهل حفظ الأصل مع كثرة النقل من لغة إلى لغة أخرى.

5-

ملخص ما ذكر في المحاضرة من رد السيد الأفغاني على الفيلسوف الفرنسي أنه وافقه على كون الإسلام عدو العلم والعقل كسائر الأديان وخالفه في طعنه في العرب، ولكن المحاضر نقل عن السيد كلمة وجيزة مجملة فيما عزاه رينان إلى الإسلام، هل هو من تأثير الدين نفسه أم هو تأثير فهم الناس له واختلاف الشعوب في فهمه، خرجت هذه الكلمة بصوت غير جهوري فلم يعها كل أذن ولا فكر فيها كل سامع، ولعل كل ما في الرد من التسليم باضطهاد الإسلام للعلم وعداوته للعقل مبني على هذه الكلمة.

ومن الكلمات المأثورة عن السيد جمال الدين: إن الإسلام وحده كاف لرفع البشر إلى أرقى مقام من العلم والعرفان والفضائل والحضارة.

فعلم من هذا أن الذي يتفق مع ما كتبه السيد جمال الدين أو أملاه في حقيقة الإسلام وكونه دين الحكم والعقل والمدنية.

ويحب الملحد أن يكون عظماء الرجال ملاحدة مثله، وإذا كان من منتحلي الفلسفة والعلم والباحثين في الأدلة يظن أن من عرف بالعقل لا يمكن أن يكون ذا دين وهذا ما كان يحمل بعض الناس على القول بأن جمال الدين ومحمد عبده غير متدينين.

أرى في هذا البلد أفرادًا يعنون في هذه الأيام بإفساد1 عقائد المسلمين

1 يشير إلى أحاديث الأربعاء التي كتبها طه حسين في السياسة.

ص: 498

وتجرئتهم على الكفر حتى زعم بعضهم أن أكثر المسلمين كانوا كذلك في القرن الثاني للهجرة مرتابين في الدين وفاسقين عنه بدليل ما يوجد في بعض كتب الخلاعة والأخبار من حكاية ما يؤثر في ذلك عن بعض الأفراد من بعض الشعراء والمغنين والمخنثين.

أما نحن فإننا لا نقبل إلا رواية الثقاة العدول.

محمد الببلاوي؛ رينان وجمال الدين الأفعاني 1:

يقول المسيو رينان أن الأمة العربية غير صالحة بطبيعتها لعلوم ما وراء الطبيعة الفلسفية، وهو يعلم أنها الأمة التي أدخلت في العالم المدنية وأخرجتها من ظلمة الجهالة إلى نور العلوم والمعارف في قرن واحد من غرب أوربا إلى حدود الصين ولا عيب لها عند المسيو رينان إلا أنها عرفت كيف تهدم الأباطيل التي تؤدي إليها إلى المقدمات الفاسدة مما يقوم بأذهان بعض الطبيعيين والفلاسفة فإنها هدمتها بما ألجمتهم من الحجج والبراهين.

أما ما لحظه رينان من الانحطاط الذي عليه المسلمون الآن فهذا منشؤه بعدهم عن التمسك بدينهم القويم فلو أنهم رجعوا إليه لعاد بهم إلى أوج العلوم العقلية والكونية وهداهم إلى خير مدنية والتاريخ شاهد عدل.

ويظن رينان أن المسلمين يسلمون أبناءهم كما ينصر النصارى أبناءهم ويهود اليهود أولادهم وهو وهم فإنما هي الفطرة التي يولد المولود عليها.

ويعيب رينان على الدين الإسلامي، ويعد من أكبر عيوبه اعتقاده المسلم أن الله يهب الرزق والسلطان لمن يشاء وهو خطأ منشؤه جهله بتعاليم الدين

1 الأهرام 27 مارس 1923.

ص: 499

الإسلامي فإنه مع هذه العقيدة الصحيحة ربط الأسباب بالمسببات ولم يأمر بالنوم اعتمادًا على ما خطه القدر" وزعم رينان أن الإسلام لم يأت بعلم خاص فأين علم الميراث الذي مثل العدالة تمثيلا صحيحا حتى رجعت إلى تعاليم الأمم الغربية وصار هو المعمول به في كثير منها، وأين علم المعاملات الذي ضرب باعتداله المثل حتى أخذ منها القانون الفرنسي.

يعيب رينان على المسلمين أنهم أقل الناس حظا من الفلسفة وكان من أولى له أن يقول هم أقل الناس قبولا لأباطيلها وترهاتها، وإلا فليقل لنا في أي عصر عجز عالم من علماء المسلمين عن رد مفترياتها أو قذف أباطيلها.

يرمي رينان الدين الإسلامي بأنه اضطهد الفكر الحر، وكيف يضطهد الإسلام حرية فكر معتنقه وهو الذي أطلق حرية الفكر لمخالفيه؟

يقول الفيلسوف رينان أن العلم لم ينف الألوهية وإنما أبعدها دائما من عالم الجزئيات الذي يعتقدون أنهم يشهدون آثارها فيه.

يوسف الدجوي "لو غيرك قالها" 1:

لست أكتم الشيخ أني لا أفهم معنى لهذا الاختبار ولا سرا لهذا العناء الذي تحمله في البحث عنها وعمن يترجمها من اللغة الألمانية، فإن كان الغرض التنويه بذكر رينان لأجل أن نفنى في الأمم الأجنبية أكثر مما نحن فيه فهذا لا يثبت لرينان علما وفلسفة ولا شيئا يروق الناظر إنما هو شيء سخيف معتاد سماعه من جهلة الأوروبيين بالدين الإسلامي البعيدين عن الفلسفة الصحيحة وقد خالفه في ذلك المئات والألوف من علماء أوربا وأمريكا.

وأمامنا كتاب الفيلسوف "درابر الأمريكي" وكتاب الكنت هنري الفرنسي وتاريخ المستر ولز الإنجليزي.

1 السياسة 28 مارس 1922.

ص: 500

وإن كان الغرض من المحاضرة التنويه بالسيد جمال الدين فقد ألصقت به يا أستاذ أكبر المعايب فإننا إذا لم نشك في نقله قلنا: إنه رجل متقلب لا ثبات له على شيء أو منافق يظهر خلاف ما يبطن.

وعندما ذكرتنا برسالته في الرد على الدهريين قلت: إن الرجل سياسي منافق يقول غير ما في قلبه، وكان الأولى أن تراجع رأيه الغربي إلى رأيه الشرقي لا العكس.

ولا أقول: إنك أردت أن تضع من شأن الإسلام فإن ذلك لو صح لوضع من شأن ذلك الفيلسوف لا من شأن الإسلام.

ص: 501