الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع: "كتاب" مع المتنبي
بين محمود محمد شاكر وطه حسين:
هذه مساجلة من نوع آخر؛ عرض فيها محمود محمد شاكر لآراء الدكتور طه حسين التي أوردها في كتابه "مع المتنبي".
وهذه المعركة نموذجا من معارك كثيرة من نوعها جرت "بين الشباب والشيوخ" من ناحية وبين "مدرستي المحافظة والتجديد" من ناحية أخرى وبين نظريتي "الترجمة ودراسة تاريخ الأعلام"، إحداهما: التي تمزق الحجب عن الشخصيات على أساس إثارة الشكوك وافتراض الفروض ثم التدليل عليها، والثانية: التي تنظر في تجرد علمي إلى مختلف العوامل التي أثرت في تكوين الشخصية من غير تحيز أو خصومة.
المتنبي؛ بين طه ومحمود شاكر 1:
وصف شاكر كتاب طه حسين "مع المتنبي" بأنه "جيد النسق وجميل الرونق، لو تمنى عالم عزب لألقي في أمنيته أن يكون له بعدادها ولد يحملون عنه العلم من جيل إلى جيل".
ثم قال: إنه -أي شاكر- عاش مع المتنبي زمنا وكتب عنه كتابا متواضعا في 170 صفحة نشره المقتطف "يناير 1936" فمن حق المتنبي علي أن أقرأ ما كتب عنه الدكتور طه وغير الدكتور طه، وكما أنه من حق نفسي علي أن أضع التاريخ في موضعه الذي أرخته به معدة الفلك.
فإن التاريخ لا يصلح معه الأدب الذي أدبنا به الله تعالى في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} فوالله إنا لنفسخ للدكتور الجليل في مجالسنا حتى يبلغ الغاية التي هو لها أهل
1 البلاغ 13 فبراير 1937.
وعلى ودنا أن نفسح له في التاريخ أيضًا، لولا أن التاريخ "يحتج بشدة" وكان أهم ما ركز عليه شاكر هو مولد المتنبي، فقد سجل طه حسين في كتابه أن مولد المتنبي كان شاذا وأن المتنبي أدرك هذا الشذوذ وتأثر به في سيرته كلها".
قال شاكر:
إن الدكتور طه رجل عبقري ليس في ذلك شك عندي فهو من قبل شكه في نسب أبي الطيب قد استطاع بتوفيق الله أن يتغلب على خصومه والمناوئين له واستطاع أن يقوم كالجبل لا يعمل فيه السيف عمل السيف. ويعمل هو في السيف عمل الجبل في تثليمه وتكسيره ورجع السيف عوده على بدئه حديده لا ينفع ولا يقطع.
ولكن هل يستطيع الدكتور الجليل أو كتابه الأجل أن يجيبني لماذا شك في نسب أبي الطيب؟ وما هي الأسباب التي دفعته إلى هذا الشك. أما الدكتور الجليل فأكبر الظن فيه أنه يترفع -على عادته- عن الإجابة فهو رجل عبقري والعبقري لا يقال له لماذا، فإذا قيل لماذا، زوى وجهه وانصرف وترك سائله لصخرة الأعشى التي ذكرها لاميته المشهورة، أما كتابه الأجل فهو أطوع لسائله وأسرع إلى جوابه.
إن الدكتور يزعم "أنك إذا قرأت ديوان أبي الطيب مستأنيا متمهلا لا تجد فيه ذكرًا لأبيه وإنك تجده لم يمدحه ولم يفخر به ولم يرثه ولم يظهر الحزن عليه حين مات، وهذا كاف في تشكيك العلماء في نسب أبي العلاء،
وهو كاف في اليقين بأن المتنبي لم يعرف أباه، هذه هي الأسباب التي وقفت الدكتور طه إلى الشك في نسب المتنبي فمن حق المتنبي علينا أن ننظر
فيها، أهي مما يحمل على الشك في نسب رجل لم يشك في نسبه الذي رواه المؤرخون أحد. من يوم أن روى ذلك النسب إلى اليوم.
ألا فليحدثنا الدكتور طه: أيكون لزاما على كل شاعر أن يمدح أباه وأن يفخر به وأن يرثيه وأن يظهر الحزن عليه حين يموت؟ فإن لم يفعل الشاعر ذلك فهو شاعر لا يعرف أباه! إني أجد من الشعراء من فخر بأبيه وقد كان ذلك في شعر كثير، وأجد فيهم كثيرا لا يعد كثرة لم يفخر بأبيه ولا ذكره في شعره، أفكل هؤلاء لم يعرف أباه. ولا يثبت نسبة لضعفه وخسته.
ليحدثنا الدكتور الجليل عن هؤلاء الشعراء الذين أظهروا الحزن على آبائهم حين ماتوا، وليرجع الدكتور إلى ما شاء من كتب الشعر وكتب الأدب فيجمع لنا أسماء الشعراء الذين رثوا آباءهم وحزنوا عليهم وليثبت أن هؤلاء كانوا من الأشراف ذوي الأنساب وأن سائر الشعراء الذين لم يفعلوا مثل الذين فعلوا من السوقة والملطمين اللقطاء الذين لا يعرفون آباءهم ولا يثبتون أنسابهم.
إن الدكتور طه رجل ذكي صاحب حيلة نفاذ. فربما رأى الرأي فأراده ليتخذه رأيا فيختلق له الأسباب فيرى الأسباب لا تغني في الرأي وأن الاعتراض يأكلها سببا سببا فيحتال بجعل الاعتراض في سياق قوله، وأتى به على وجهه ليجعله ظهيرا لرأيه وهذا الذي تقوله ليس برغم من عند أنفسنا بل هو ما ترى.
رأى الدكتور طه أن إغفال الشاعر ذكر أبيه لا يدل على شيء البتة وإن الشعراء الذين لم يفخروا بآبائهم ليسوا أقل نسبا ولا أحط مغرسا من الذين فاخروا ونافروا آباءهم، وأن التاريخ يحدثنا أن أبا جرير الشاعر لم
يكن شيئا وأن جريرا أضاف إليه من انحلال الخصال والأخلاق ما لم يكن منه بسبب حتى خلب به الشعراء وقهر النحول ثم لم يمنعه ذلك من أن يظهر للناس كما هو ليثبت لهم أن شعره كان أكبر من غروره.
لقد عرف الدكتور أن المتنبي هو الشاعر الذي رمى شعراء عصره فأصماهم فغلبهم فذهب بأرزاقهم عند الأمراء، كان يستطيع أن يفعل ما فعل جرير وأن يفخر بأبيه السقا على أبي فراس الحمداني وغيره من أشراف الشعراء في عصره، وعرف أن كثيرًا من الشعراء غير جرير قد فخروا بآبائهم على من كان أكرم أبا وأما، فماذا يفعل الدكتور بعد ذلك. إنها لمشكلة تلد مشاكل، إذن فما الذي يضيره أن يقول: أما المتنبي فلم يستطع شعره أن يغلب غروره ولم يستطع أن يضيف إلى أبيه ما ليس فيه.
حقا إن الدكتور طه حسين رجل صاحب حيلة لا تفرغ، وحقا إن له فنا غلب به أهل الفنون وحقا إنه لعبقري، وهذا الدكتور الذي يقول: إن شعر جرير قد أعانه على أن يخلق خلقا جديدًا، فإذا كان المتنبي لا يعرف أباه كما يزعم فإن ذلك لا بأس به لأنه إذا أراد أن يصوره فلن يرجع إلى حقيقته لينتزع منه الصورة كما أن جريرا لم يرجع إليها وإنما المرجع هنا إلى شيطان الشعر فهو وحده الذي لا يخلق أباه خلقا جديدا. وجهد المتنبي في هذا أقل من جهد جرير.
فشيطان أبي الطيب كان أنثى ضعيف المنة قليل الخير يكذب صاحبه في طالب الخيال القوي للآباء. وكان شيطان جرير ذكرًا فحلا قد امتلأ قوة لا يطلب خيالا إلا أدركه به وغالب به الشعراء.
إني أشفق على الدكتور طه حسين من بدوات عبقريته "فهي تصور له
الأشياء كما تريدها لا كما يجب أن يكون فيتورط فيحتال فتكون حيلته كالكذبة البلقاء لا تجد من يسترها.
لقد مضى علي زمن وأنا أجد اللذة في تتبع كتب الفكاهة فكان أعجب ما يعجبني منه المحالات، وهو الكلام الذي يأتي به الرجل تحسبه مستقيما وهو محال لا يكون ولا يفهم على وجه من الوجوه.
وأشهد الله أن فن الدكتور طه في شرح هذا الشعر أعجب إلي الآن من ذلك. كيف لا وهو عميد الأدب العربي بالجامعة المصرية وهو بعد ذلك إمام الأدباء المجددين في هذا العصر، أي امرئ في القراء فهم شرح الدكتور الذي نقلناه فله عندنا ثلاث نسخ من كتابنا عن المتنبي.
أي شيء هذا الذي يقوله الدكتور "أنه ينسب نفسه إلى متجزئ بعضه يمتاز عن كله" أنا أتولى تفهيم الدكتور معنى الشعر فالمتنبي يقول: أنابن من ولده يفوق أبا الباحث ويعني بذلك نفسه. هذا كل ما أراد المتنبي أن يقول والذي أوهم الدكتور فأوقعه فمرغ كلامه في هذا "المتجزئ الذي له بعض يمتاز عن كله" أهو قول أبي الطيب "بعضه" في البيت.
إن الدكتور طه حسين "عميد الأدب العربي بالجامعة المصرية" رجل قد أثبتت التجارب والأيام ثم مؤلفاته أنه لا بصر له بالشعر ولا بمعانيه.