الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"
كتابة السيرة" بين التاريخ والأسطورة:
بين هيكل وطه:
بدأ تحول في التفكير العربي المعاصر في مصر بعد عام 1931 حيث قام الدكتور هيكل بكتابة فصول عن حياة الرسول تحت عنوان "حياة محمد" مترجمة عن كتاب لمؤلف فرنسي هو إميل در منجم ولم تلبث أن صدرت مجلة الرسالة وبها فصول للدكتور طه تحت عنوان "على هامش السيرة" ثم صدرت هذه الفصول في كتاب بهذا العنوان ولقد أثارت كتابة طه حسين عن الإسلام والسيرة ثائرة المجددين والمحافظين على السواء.
وكان الرأي أن طه حسين أراد أن يتعلق الجماهير بعد أن اتصل بالوفد وترك حزب الأحرار الدستوريين ومن قبله حزب الاتحاد الذي أنشأه الملك فؤاد.
وقال آخرون: إنه أراد أن يسلك إلى دعوة "التغريب" سبيلا جديدًا مختلفًا عن سبيل "الشعر الجاهلي" ولكنه يهدف إلى نفس الغرض.
وكان كتاب هامش السيرة موضع سجال وجدل، نورد هنا منها رأيين: رأي هيكل ورأي لعوض محمد:
وجملة ما قيل: أن طه حسين بهذا الكتاب قد تحول من النقد الأدبي إلى إحياء الأساطير.
طه حسين: مقدمة هامش السيرة
أنا أعلم أن قوما سيضيقون بهذا الكتاب لأنهم محدثون يكبرون العقل، ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه. وهم لذلك يضيفون بكثير من الأخبار والأحاديث التي لا يسيغها العقل ولا يرضاها، وهم يشكون ويحلون في الشكوى حين يرون كلف الشعب بهذه الأخبار، هؤلاء يضيقون بهذا الكتاب بعض الشيء لأنهم سيقرءون فيه طائفة من هذه الأخبار والأحاديث التي نصبوا أنفسهم لحربها ومحوها من نفوس الناس، وأحب أن يعلم هؤلاء أن العقل ليس كل شيء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل.
وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا لم يطمئن إليها العقل ولم يرضها المنطق ولم تستقر لها أساليب التفكير العلمي فإن في قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم خيالهم وميلهم إلى السذاجة واستراحتهم إليها من جهد الحياة وعنائها ما يحبب إليهم هذه الأخبار، ويرغبهم فيها ويدفعهم إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه على الناس حين تشق عليهم الحياة.
أحب أن يعلم الناس أني وسعت على نفسي في القصص، ومنحتها من الحرية في رواية الأخبار واختراع الحديث ما لم أجد به بأسًا، إلا حين تتصل الأحاديث والأخبار بشخص النبي أو بنحو من الدين.
هيكل: ملحق السياسة 1
طه، إنما سلك في هامش السيرة طريق كتاب الغرب ممن يتحدثون عن الأساطير القديمة وينشرونها ويزينونها، وطه إنما قصد إلى إحياء أدب الأساطير حين أملى هذا الكتاب أو حين دفع إلى ذلك دفعًا وأكره عليه إكراهًا إذ رأى نفسه يقرأ السيرة فتملأ بها نفسه ويفيض بها قلبه وينطلق بها لسانه.
وهذه الفصول لم تكتب لذلك للعلماء، للمؤرخين، ولم يرد المؤلف بها إلى العلم ولا قصد بها إلى التاريخ. إنما أراد إحياء الأدب القديم وإحياء ذكر العرب الأولين ولئن لم يطمئن العقل إلى أخبارهم وأحاديثهم، ولم يرضها المنطق:
وهي إن تكن أساطير يضيق بها العقل ويأباها المنطق فليس العقل في الأدب كل شيء. وليس العقل في الحياة كل شيء. ذلك كله يقوله طه في
1 ديسمبر سنة 1923.
مقدمة هذا الكتاب وهو يشير إلى أنه وضعه نموذجا للشباب في استغلال الحياة العربية الأولى واتخاذها موضوعا خصبا للإنتاج في الأدب الإنشائي الخالص.
ولعل طه قد رأى واجبا أن يقدم لكتابه بهذا التحديد للغاية منه لسببين: أولهما: ما ذكر هو في المقدمة من أن قوما سيضيقون بكتابه لأنهم يكبرون العقل ولا يثقون إلا به ولا يطمئنون إلا إليه.
والسبب الآخر: لم يذكره هو المقدمة لأنه سبب يتعلق بشخصه فهو إلى حين وضع كتابه هذا كان من أولئك الذين يكبرون العقل ولا يثقون إلا به، فهذا الكتاب تطور عظيم في نفسية طه وفي نظرته للحياة. تطور صارخ، صارخ يكفي لتبيينه أن نقرأ معا مقدمتين: مقدمة "على هامش السيرة" ومقدمة "في الأدب الجاهلي".
ولا تقل: إن المقارنة غير ممكنة بين كتاب "في الأدب الجاهلي" وهو كتاب يقصد به إلى غرض التحقيق العلمي الدقيق وكتاب "على هامش السيرة" وهو كتاب في الأدب الإنشائي لم يكتب للعلم ولا للتاريخ، فقد مر طه في فترة ما بين ظهور هذين الكتابين بانتقال من العلم إلى الأدب، كان مظهره كتابها: الأيام وفي الصيف.
وهو في هذه الفترة قد كتب مقالات أدبية كثيرة نشرتها السياسة ونشرتها الرسالة ونشرتها الكواكب وما أنتج طه من ذلك لا اتصال بينه وبين الأساطير مما ربع طه في تدوينه وتزيينه في "على هامش السيرة" ولا دلالة فيه على ميله إلى هذا النوع من الأدب.
ثم إن بين "في الأدب الجاهلي" و"على هامش السيرة" موضعا للمقارنة
فكلاهما يتحدث عن العصر الجاهلي الذي سبق مولد النبي عليه السلام والذي عاصر هذا المولد، والكتاب الأول يهدم ما جاءت به الأساطير عن الجاهلية بل يهدم الكثير مما ينسب للجاهلية من شعر ونثر ويراه من وضع المتأخرين لأغراض دينية أو مخالفة للدين. والكتاب الأخير يجلو هذه الأساطير وينمقها. ويرى في ذلك غذاء لما سوى العقل من ملكات الناس.
وطه يذكر أنه دفع لإحياء هذه الأساطير دفعا لم يكن له إلى الإذعان منه بد ومعنى ذلك أن هذه الخطوة من خطوات تطور النفس خطوة طبيعية كان محالا مغالبتها أو التغلب عليها.
ويجب أن نذكره أن هذا الدافع قد بلغ من القوة ما لا يستطيع أحد من الناس مقاومته، فهو كما رأيت قد خطأ في هذا الكتاب من تحقيق العلم الذي ظل عاكفا من قبل عليه سنين إلى أدب الأسطورة الميثولوجية في حياة العرب وفي سيرة النبي وهو إذ خطا هذه الخطوة يعلم أن كثيرًا من هذه الأساطير التي روي إنما هي بعض الإسرائيليات، التي روج اليهود بعد عصر النبي متأثرين بحقدهم على محمد لأنه حاربهم وأجلى الأكثرين منهم عن بلاد العرب ومهد بذلك لإجلاء البقية الباقية بعد زمن قصير من وفاته، متأثرين بحفيظتهم على المسلمين حفيظة جعلتهم يروجون الألوف من الأحاديث المكذوبة على النبي ومن القصص التي تنافي تعاليمه منافاة صريحة، فما عسى يكون هذا الدافع القوي الذي دفع طه إلى هذا التطور فيم يجد بدا من الإذعان ومن صياغة هذه الأساطير في الصورة البديعة الرائعة التي تنفس فيها كتابه الأخير.
وقال الدكتور هيكل: إن الأطور التي مر بها طه في حياته هي التي
انتهت حتمًا إلى إخراج هذا الكتاب، فهو قد روى لنا في كتاب الأيام الشيء الكثير عن طفولته وبدء صباه وكيف كان في تلك الأثناء متأثرا بظروفه وبيئته يخاف الأشباح ويتوهمها ويرسم منها في خياله عند وفاة أخيه ولمناسبات أخرى فنونا من الصور، ثم بدأ بعد ذلك يدرس في الأزهر ويقرأ سيرة النبي عليه السلام. ويقرأ في كثير من الكتب أساطير من الإسرائيليات التي لم يزف التحقيق في ذلك الزمن.
فلما بدأت ملكات الحكم تنمو وتتجه إلى ناحية التمام العقلي عنده وبدأ يستمع إلى الأدب وإلى العلوم الحديثة، بدأت تتكون ذاتيته وتنضج نضجا سريعا ملحا، وأول مظهر لتكوين الذاتية ظهور ملكة النقد.
وقد ظهرت في طه أول شبابه عاصفة لا يراها شيء ولا يثبت أمامها شيء وقد تناولت هذه الملكة ما وعى واستظهر في الأزهر فكان ذلك سبب خلافه مع شيوخه خلافا انتهى إلى ترك الأزهر والانتماء إلى الجامعة المصرية الوليدة إذ ذاك، وفي الجامعة وجد الطريقة العلمية في البحث؛ الطريقة التي أرضت عنده وترضي عند كل إنسان ملكة النقد إلى غاية ما تريد هذه الملكة من الرضى.
في ظل هذه الطريقة العلمية سقطت عن جوانب طه العقلية أكداس مما تعلم من قبل ولكن أين سقطت، في طوايا نفسه وفي البعيد العميق من خبايا ذاكرته.
"ثم صور" كيف أثار كتابه في الشعر الجاهلي اللائمة، مما دعاه إلى أن ينقطع إلى نفسه يقلب ويمتحن أركانها ويمتحن، ليرى آخر الأمر أن الناس ينئون بالحقيقة العلمية ويأبون حمل أمانتها ثم يقلب طه في نفسه
ويقلب ويمتحن أركانها ويهز جوانبها هزًا عنيفا حتى تختلط تلك الصور المختلفة المتباينة ليخرج منها مزاج كانت "الأيام" مقدمة البشرى به ثم كان هامش السيرة ثمرته الأولى.
وقال هيكل: إن أدب الأسطورة هو أخصب ألوان الأدب، ويزيدها خصبا أن الكاتب والقارئ يعرفان جميعا أن المادة التي يعالجان هي من نوع الأسطورة لا جناح عليهم إذا هم أطلقوا للخيال فيها العنان فابتدعوا من خيالهم ما يزيد هذه الأساطير رقة وعذوبة ولا تحول بينهم وبين الأخذ بقول بعضهم "أعذب الأدب أكذبه" أي حائل. ولذلك أستميح طه العذر إن خالفته في اتخاذ النبي وعصره مادة لأدب الأسطورة.
وأشار إلى ما اتصل بسيرة النبي ساعة مولده وما روي عما حدث له من إسرائيليات روجت بعد النبي ثم قال: لهذا وما إليه يجب في رأيي أن لا يتخذ مادة لأدب الأسطورة، فإنما، يتخذ من التاريخ وأقاصيصه مادة لهذا الأدب ما اندثر أو ما هو في حكم المندثر، وما لا يترك صدقه أو كذبه في حياة النفوس والعقائد أثرًا ما. والنبي وسيرته وعصره تتصل بحياة ملايين المسلمين جميعًا، بل هي فلذة من هذه الحياة ومن أعز فلذاتها عليها وأكبرها أثرا في توجيهها. وطه يعلم أكثر مما أعلم أن هذه الإسرائيليات إنما أريد به إقامة أساطير مثولوجية إسلامية لإفساد العقول والقلوب من سواد العشب ولتشكيك المستنيرين ودفع الريبة إلى نفوسهم في شأن الإسلام ونبيه. وقد كانت هذه غاية الأساطير التي وضعت عن الأديان الأخرى. ومن أجل ذلك ارتفعت صيحة المصلحين الدينيين في مختلف العصور لتطهير العقائد من هذه الأوهام.
ثم قال هيكل: من أجل ذلك أود أن يفصل طه فيما قد يكتب من بعد من فصول تجري مجرى "على هامش السيرة" بين ما يتصل بالعقائد وما لا يتصل بها.
العودة إلى إرضاء الجماهير، هامش السيرة:
الدكتور محمد عوض محمد، الرسالة 18 ديسمبر 1933.
ثبت لدي ما كنت أتوهمه من أمره وما أكاد أثبته. إن ثقافة الدكتور الحقيقة هي ثقافة أزهرية متينة قوية الأسس ضخمة الدعائم وطيدة الأركان وأن ليست ثقافة الغربيين التي نسمع عنها الشيء الكثير إلا رواء وطلاء أن تبهر العين منظرة فإنه لا يذهب إلى غور بعيد. وقديما قال نابليون في الروس. إنك إذا حككت الروسي بدأ لك التتري. وفي وسعنا أن نقول إذا حككت طه حسين برفق بدا لك الأزهري القح الصميم بكل ما تحمله هذه الكلمة من فضل وعلم.
وقد استطاع طه حسين -على غير عمد- أن يصرف الناس عن حقيقة أمره بحديثه عن اليونان والرومان والسكسون واللاتين. وأثارته هذه الزوابع التي برع في إثارتها أثناء كلامه عن أشخاص مثل ديكارت وبودلير وعن التجديد فلعل أصدقاء طه حسين أن يحمدوا للشخص الضعيف كاتب هذه السطور أن كشف لهم عن أمر صديقهم ما خفي عليهم هذه السنين.