المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: مقومات الأدب العربي - المعارك الأدبية

[أنور الجندي]

فهرس الكتاب

- ‌مدخل

- ‌أولا: معركة مفاهيم الثقافة

- ‌ثانيا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌ثالثا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌الباب الأول: معارك الوحدة والتجزئة

- ‌معركة الوحدة العربية

- ‌مصر بين العربية والفرعونية:

- ‌معركة العروبة والمصرية:

- ‌الباب الثاني: معارك اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌تمصير اللغة العربية:

- ‌مجمع اللغة، ما هي مهمته

- ‌معركة الكتابة بالحروف اللاتينية:

- ‌الباب الثالث: معارك مفاهيم الثقافة

- ‌مدخل

- ‌ثقافة الشرق ثقافة الغرب:

- ‌معركة بين فيلكس فارس وإسماعيل أدهم:

- ‌لا يتنيون وسكسونيون: بين العقاد وطه حسين

- ‌النزعة اليونانية بين زكي مبارك وطه حسين:

- ‌كتابة السيرة" بين التاريخ والأسطورة:

- ‌كتابة التاريخ: بين رفيق العظم وطه حسين

- ‌معركة الترجمة: بين منصور فهمي وطه حسين

- ‌آداب الساندويتش: بين الزيات والمازني والعقاد

- ‌أدبنا: هل يمثلها؟ بين أحمد أمين وأمين الخولي

- ‌غاية الأدب: ما هي؟ بين زكي مبارك وسلامة موسى

- ‌متى يزدهر الأدب؟ معركة بين لطفي جمعة وزكي مبارك:

- ‌الأدب المكشوف: بين توفيق دياب وسلامة موسى

- ‌التراث الشرقي؛ يكفي أو لا يكفي؟: بين عبد الرحمن الرافعي وعباس محمود العقاد

- ‌ثقافة دار العلوم: بين أحمد أمين ومهدي علام

- ‌الباب الرابع: معارك الأسلوب والمضمون

- ‌الأسلوب والمضمون: بين الرافعي وسلامة موسى وطه حسين

- ‌أسلوب الكتابة: معركبة بين شكيب أرسلان وخليل سكاكيني

- ‌أساليب الكتابة؛ بين شكيب أرسلان ومحمد كرد علي:

- ‌الباب الخامس: معارك النقد

- ‌الفصل الأول: أسلوب طه حسين

- ‌الفصل الثاني: مقومات الأدب العربي

- ‌الفصل الثالث: مذهبان في الأدب:

- ‌الفصل الرابع: بين النقد الذاتي والموضوعي

- ‌الفصل الخامس: الأدب بين التجديد والانحراف

- ‌الفصل السادس: هل نقتبس أم نقلد

- ‌الفصل السابع: معركة فقدان الثقة

- ‌الفصل الثامن: الفن للفن والفن المجتمع

- ‌الباب السادس: معارك النقد حول الكتب

- ‌الفصل الأول: رسالة منصور فهيم الدكتوراه

- ‌الفصل الثاني: الخلافة وأصول الحكم

- ‌الفصل الثالث: معركة الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌نماذج من حملات المعركة:

- ‌تجدد معركة الشعر الجاهلي:

- ‌الفصل الرابع: كتاب "النثر الفني

- ‌الفصل الخامس: كتاب "أوراق الورد

- ‌الفصل السادس: كتاب ثورة الأدب

- ‌الفصل السابع: "كتاب" مع المتنبي

- ‌الفصل الثامن: معركة مستقبل الثقافة

- ‌الباب السابع: المعارك بين المجددين والمحافظين

- ‌الفصل الأول: معارك الرافعي

- ‌الفصل الثاني: معركة فضل العرب على الحضارة

- ‌الفصل الثالث: الدين والمدينة

- ‌الفصل الرابع: التغريب

- ‌الفصل الخامس: حقوق المرأة

- ‌الفصل السادس: معركة حول التراث القديم

- ‌الفصل السابع: معركة الخلاف بين الدين والعلم

- ‌الفصل الثامن: جمال الدين الأفغاني ورينان

- ‌الفصل التاسع: خم النوم

- ‌الفصل العاشر: بين النقد والتقريط

- ‌الباب الثامن: معارك بين المحافظين حول اللغة

- ‌المعركة الأولى:

- ‌المعركة الثانية:

- ‌المعركة الثالثة:

- ‌الباب التاسع: معارك نقد الشعر

- ‌الفصل الأول: بين شوقي ونقاده

- ‌الفصل الثاني: بين عبد الرحمن شكري والمازني

- ‌الفصل الثالث: إمارة الشعر

- ‌الفصل الرابع: ديوان وحي الأربعين

- ‌الباب العاشر: معارك النقد بين المجددين

- ‌الفصل الأول: بين التغريب والتجديد

- ‌الفصل الثاني: معركة الكرامة

- ‌الفصل الثالث: معركة الصفاء بين الأدباء

- ‌الفصل الرابع: معارك النقد

- ‌الفصل الخامس: بين زكي مبارك وخصومه

- ‌الفصل السادس: مبارك ينقد كتابه

- ‌الفصل السابع: بين العقاد وخصومه

- ‌الفصل الثامن: بين سلامة موسى وخصومه

- ‌الفصل التاسع: بين المازني وخصومه

- ‌الفصل العاشر: معارك أدبية؛ بين الدكتورين هيكل وطه حسين

- ‌الفصل الحادي عشر: معركة لقمة العيش

- ‌الفصل الثاني عشر: بين شباب الأدب وشيوخه

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌الفصل الثاني: مقومات الأدب العربي

-2-

‌الفصل الثاني: مقومات الأدب العربي

معركة بين زكي مبارك وأحمد أمين:

كتب أحمد أمين مجموعة مقالات في مجلة الثقافة تحت عنوان "جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي" 9 و23 مايو 1939 و4 يونيه 1939 و4 و15 أغسطس 1939 ثم كتب تحت عنوان "أدب الروح وأدب المعدة" مقالا في 6 يونيه 1939.

وفي 12 يونيه 1939 فاجئت مجلة الرسالة قرائها باستهلال لسلسلة من المقالات العنيفة في الرد على أحمد أمين بقلم الدكتور زكي مبارك تحت عنوان "جناية أحمد أمين على الأدب العربي" وقد اتصلت هذه المقالات حتى 13 نوفمبر 1939 أي أنها استمرت ستة شهور وبلغت 22 مقالة.

ولم يشترك أحمد أمين في المعركة على نحو سافر مما يمكن معه أنه يطلق على هذا السجال اسم معركة وأن اشترك فيها بعض الباحثين أمثال عبد الوهاب عزام وعبد المتعال الصعيدي.

ولا شك أن هذه المعركة تمثل جانبا هاما من جوانب حياتنا الفكرية ذلك هو اختلاف المدرسة الحديثة على نفسها ووقوف أحمد أمين الأزهري الذي لم يدرس في الجامعات الأوروبية موقف التطرف في ترديد آراء المستشرقين ودعاة التغريب بينما وقف زكي مبارك خريج السربون موقف الاعتدال والدفاع عن تراثنا ومقدراتنا ويمكن القول أن زكي مبارك بالرغم من عنفه كان يصدر عن نفس نقية من الخصومة الشخصية. قال:

"أقسم أني أهجم على هذا الرجل وأنا كاره لما أصنع، فأحمد أمين رجل محترم وقد وصل بكفاحه إلى منزلة عالية في الحياة وأنا قد ضيعت جميع أصدقائي بفضل جرائر النقد الأدبي. وكنت أحب أن أداوي ما جرح قلمي لأنجو من الدسائس التي تعترضني في جميع الميادين".

ثم يقول: "إن أحمد أمين لم يوجه إلي أية إساءة، وربما جاز أن يقال: إنه لم يؤذ أحدًا من معاصريه، ولكن أحمد أمين الذي كف شره عن الأفراد وجه شره إلى التاريخ، فهو يدرس ماضي اللغة العربية بلا تحرز ولا رفق ولو تركناه شهرين اثنين يؤرخ الأدب على هواه لجعل الأمة العربية أضحوكة بين العالمين".

ص: 241

ويصور صلة أحمد أمين بطه حسين فيقول: إن الدكتور طه هو المسئول عن أحمد أمين فهو الذي قال: "إن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه فهديناه إليها". ومعنى ذلك أن أحمد أمين لم يكن يعرف أنه أديب قبل أن يدله الدكتور طه على الكنز المدفون في صدره، إن أحمد أمين لم يكن أديبا وإنما قال له طه حسين كن أديبا فلم يكن.

ويقول في موضع آخر: "كان أحمد أمين مشدود البصر إلى رجل واحد هو طه حسين، كان يكتب وهو يراه أمامه لأنه كان يعرف عداوته له فيخشى صولته.

ويقول: إن أحمد أمين شغل نفسه بالنص على أن العرب في جاهليتهم "لم تكن لهم وثنية تبدع الأساطير على نحو ما كان الحال عند اليونان وذلك يشهد بأن الجاهليين لم يكونوا من أهل الخيال".

هل يعرف القراء من أين أخذ "أحمد أمين" هذا الرأي. أخذه من قول الدكتور أحمد ضيف: "وقد قال بعض المشتشرقين مثل رينان ومن جرى على مذهبه: إن العرب ككل الأمم السامية ليس لها أساطير في شعرها وفي عقائدها".

ثم قال: "ولو كان أحمد أمين يعرف أن في مصر رجالا يسايرون الحياة الأدبية مسايرة تمكنهم من رد كل كلام إلى مصادره الظاهرة والخفية لتهيب عواقب السطو على آراء من سبقوه في القديم والحديث" وقد ردد مرات أن آراء الدكتور ضيف التي أذاعها 1918 عاد أحمد أمين إلى ترديدها 1938.

ويرد على قول أحمد أمين: إن أدب المقامات "أدب معدة"، أن احتقار

ص: 242

المعدة لا يقوم على أساس من الواقع ولا من المنطق وإنما هو مجاراة للعوام الذين يصعب عليهم أن يدركوا أن النفس تتبع الجسم في الصحة والمرض والقوة والضعف والنشاط والخمول، ويعسر عليهم أن يفهموا أن الإنسان يرى المعنويات والمحسوسات بأشكال مختلفة في وجوه متباينة تبعا لاختلاف الذوق والحس والمزاج".

ولم يلبث زكي مبارك بعد أن أنهى مقالاته الاثنين والعشرين أن عاد إلى مصالحة أحمد أمين "الرسالة عدد 326، 11 ديسمبر 1939" فقال:

ولم يبق شك في أن الأستاذ أحمد أمين غضبان بسبب المقالات التي تجاوزت العشرين والتي حرضت عليه من خاصموه في مجلة المكشوف وأغرت بعض أنصاره في العراق وأخرجته عن وقاره فشتمنا في مجلة الثقافة بأبيات جاهلية سامحه الله وعفا عنه وأقول اليوم إني استوحشت بما صنعت والاعتراف يهدم الاقتراف.

وليس من الكثير أن أرجو عفوه، فقد عفا أخ له من قبل.

والأستاذ أحمد أمين يعرف أني رجل ممتحن بعداوات الرجال. وقد عانيت من ذلك مصاعب ولو صادفت رجلا غيري لدحرته في أقصر وقت. فمن حقي عليه وهو صديقي وجاري وكان زميلي في الجامعة المصرية أن يتجاوز عن سيئاتي إنه -ولله المثل الأعلى- غفور رحيم.

وهذه مقتبسات من هذه المساجلة:

جناية أحمد أمين على الأدب العربي 1:

لصديقي الأستاذ أحمد أمين مؤلفات جيدة على أساس المنطق والعقل

1 الرسالة 12 يونيه 1939 "المقال الأول".

ص: 243

وهو من كبار الباحثين من العصر الحديث ولكنه على أدبه وفضله لا يحسن إلا حين يصطحب الروية ويطيل الطواف بالموضوع الواحد عاما أو عامين وذلك سر تفوقه فيما نشر من البحوث والتصانيف.

أحمد أمين باحث كبير بلا جدال ولكنه ليس بكاتب ولا أديب أن كان من أساتذة الأدب بالجامعة المصرية. ولم يستطع أحمد أمين على كثرة ما كتب وصنف أن ينقل القارئ من ضلال إلى هدى أو من هدى إلى ضلال. وإنما كانت مؤلفاته وبحوثه ضربا من التقرير الذي يخاطب الأذهان ويعجز عن مخاطبة العقول والقلوب.

وحياة أحمد أمين تؤيد ما نقول؛ فهو رجل لا يعرف الخلوة إلى الفكر والقلم، ولا يتسع وقته لدرس ما في الوجود وما في الأخلاق من مشكلات ومعضلات. وإنما يقرأ ويسمع ويعلق على ما يقرأ ويسمع، بدون أن يتغلغل إلى أسرار المجتمع أو سرائر القلوب.

الحظر كل الحظر أن ينصب هذا الرجل نفسه حاكما بأمره في مصير الآداب العربية وهو لم يستطع إلى اليوم أن يقيم الدليل على أنه يتذوق المعاني والأساليب.

والحظر كل الحظر أن يتوهم أحمد أمين أنه قادر على زعزعة ما أقامته الأيام من الحقائق الأدبية، الحقائق التي ساد بها العرب في أزمان طوال.

وكان لها سلطان مهيب في أقطار الشرق وأقطار الغرب.

ولكن ما الذي نقل ذلك الرجل الفاضل من حال إلى أحوال وحوله من الروية إلى الارتجال.

ص: 244

لقد أصبح الرجل صحفيا، وكان أستاذًا، ولكنه لم يراع أدب الصحافة، لأن الصحافة تقف عن المشاهدات وهو يهيم بأودية الفروض.

ابتدأ الرجل مقالاته في مجلة الثقافة بتلخيص بعض الكتب الأدبية فكان من الصحفيين الأدباء ثم رأيناه يتحول فجأة فيلخص الأدب العربي في جميع صوره تلخيصًا يقوم على أساس الخطأ والاعتساف، ويعوزه تحرير الحجة وتصحيح الدليل، فهل يظن أنه سينجو من عواقب ما يصنع؟

هل يتوهم أن التجني على الأدب العربي سيمر بلا اعتراض ولا تعقيب، فما رأيه إذا أقنعناه بأن للأدب العربي أنصارًا يغارون عليه أشد الغيرة ويقفون لخصومه بالمرصاد.

2-

أنا1 أؤمن بأن الأدب العربي أدب أصيل وأعتقد أن من الواجب أن ندعو جميع أبناء العروبة إلى الاعتزاز بذلك الأدب الأصيل لأنه يستحق ذلك لقيمته الذاتية ولأن الإيمان بأصالته يزيد في قوتنا المعنوية ويرفع أنفسنا حين ننظر فنرى أن أسلافنا كانوا من المبتكرين في عالم الفكر والبيان.

وقد درج الأستاذ أحمد أمين في الأيام الأخيرة على الغض من قيمة الأدب العربي وكان من السهل أن نتركه يقول ما يشاء لو كان من عامة الأدباء. ولكنه اليوم رجل مسئول، لأنه من أساتذة الأدب بالجامعة المصرية ولأغلاطه سناد من تلك الأستاذية، فهو يقدر زعزعة الثقة الأدبية في أنفس طلبة الجامعة حين يريد.

فإن بدا لهذا الصديق أن يغضب من هجومنا عليه فأمامه الخلاص:

1 الرسالة 19 يونيه 1939.

ص: 245

وهو الانسحاب من ميدن الدراسات الأدبية إلى أن يعرف أن الأديب لا يؤرخ على طريقة الارتجال.

ولعل هذا الصديق يرجع إلى نفسه فيذكر أنه لم يخلق ليكون أديبا وأنه لم يفكر في دراسة الأدب دراسة جدية إلا بعد أن جاوز الأربعين. لو رجع هذا الصديق إلى نفسه لعرف أنه لا يجيد إلا حين يشغل وقته بتلخيص المذاهب الفقهية والكلامية. ولو شئت لكررت ما قلت من أن موقفه في جميع أبحاثه موقف "المقرر" ولم يستطع مرة أن يكون من المبتكرين في الدراسات الفقهية والكلامية وإذا كان هذا حاله في الفقه والتوحيد فكيف يكون حاله في الأدب، والأدب يرتكز على الحاسة الفنية. وهي حاسة لم توهب لهذا الرجل قبل اليوم ولن توهب له بعد اليوم لأنها من الهبات التي لا تنال بالدرس والتحصيل.

أحمد أمين ليس بكاتب ولا أديب وإن سود الملايين من الصفحات.

أيهدم ماضينا الأدبي بمحاولة رجل محروم من الذوق الأدبي، هذا الرجل ينظر إلى الأدب وإلى الوجود نظرة عامية، فهو يقسم الأدب إلى قسمين: أدب معدة وأدب روح. والسخرية من المعدة لا تقع إلا من رجل يفكر كما يفكر الأطفال فالمعدة التي يحتقرها هذا الرجل العامي هي سر الوجود، وعن قوة المعدة تنشأ قوة الروح.

إن المباعدة بين المعدة والروح عقيدة هندية الأصل وتلك المباعدة هي التي قضت بأن يعيش الهنود فقراء ولو احترم الهندي معدته كما يحترم الإنجليزي معدته لما استطاع الإنجليز أن يكونوا سادة الهنود.

لقد فكرت كثيرا قبل أن أقدم على هذه الحملة الأدبية وصح عندي بعد

ص: 246

الروية أن الغض من قيمة الأدب العربي هو عدوان على كرامة الأمة العربية، فأنا أستهدف لعداوة هذا الرجل وعداوة أصدقائه في سبيل المبدأ والعقيدة.

والهجوم على هذا الرجل قد ينفعه أجزل النفع فينقله من حال إلى أحوال ويحبب إليه التروي والتثبت ويصرفه عن التحامل البغيض على الأدب العربي.

وإنما يصل إليه الخطأ من طريقين: الأول عدم تمكنه من تاريخ الأدب العربي والثاني عدم تعمقه في درس السرائر النفسية والوجدانية.

وأحدد الغرض من هذه الحملة فأقول: تورط أحمد أمين في أحكام جائزة وهو يلخص تاريخ الأدب بطريقة صحفية.

3-

إن1 هذا الرجل يحكم على الأدب العربي أحكاما تشهد بأن طريقته في فهم الأدب والحياة طريقة عامية، فكيف يكون حاله إذا صححنا بعض ما وقع من أغلاط؟ أيرجع إلى الحق؟ أيوجه إلينا كلمة ثناء؟ هنا تعرف قيمة الأخلاق في نفس الرجل الذي ألف أول ما ألف في الأخلاق وأقسم أني أهجم على الرجل وأنا كاره لما أصنع فأحمد أمين رجل محترم، وقد وصل بكفاحه إلى منزلة عالية في الحياة الأدبية وأنا قد ضيعت جميع أصدقائي بفضل جرائر النقد الأدبي، وكنت أحب أن أداوي ما جرح قلمي فأنجو من الدسائس التي تعترضني في جميع الميادين، ولكن كيف أسامح رجلا يحاول أن يلطخ ماضينا الأدبي بالسواد. يرى هذا الرجل أن "المديح

1 26 يونيه 1939 "الرسالة. المقال الثالث".

ص: 247

والهجاء" هي أظهر الفنون في الأدب العربي وبذلك يكون الأدب العربي في أغلب أحواله أدب معدة لا أدب روح1.

ولو كان هذه الرجل يدقق لعرف أن المديح والهجاء هي السجل الصحيح للأخلاق العربية فمن المديح نعرف كيف كان العرب يتمثلون المناقب ومن الهجاء نعرف كيف كانوا يتصورون المثالب، ومن المحاسن والعيوب يعرف الباحث صور المتسع في الحياة العربية والإسلامية.

ولو ضاعت قصائد المديح والهجاء لضاع بضياعها أعظم ثروة يستعين بها علماء النفس لفهم تطورات الأفكار والأذواق فيما سلف من عهود التاريخ.

حتى قال: أريد أن أنزه تاريخ العربي عن وصمة المعدة والمعدة ليست وصمة إلا في ذهن الأستاذ أحمد أمين.

أحمد أمين يقول:

نرى في العصر العباسي طغيان أدب المعدة على أدب الروح. هذا

1 كتب أحمد أمين يصور الفرق بين أدب الروح وأدب المعدة فقال:

أدب الروح هو الأدب الذي يتصل بالعواطف السامية عند الإنسان فيهذبها ويرقيها ويغذيها، القرآن أدب روح لأنه يسموا بالإنسان عن عالم المادة ويأخذ بيده إلى السماء وباب الحماسة من ديوان الحماسة أدب روح وغزل جميل وكثير والعباس بن الأحنف أدب روح والغزل الفاجر أدب معدة. وأدب الطبيعة أدب روح.

قال زكي مبارك: إن القرآن إذن على هذا الأساس أدب معدة لأنه ذكر الحور العين.

وقال زكي مبارك إنه لا يمكن للمرأة أن تكون مصدر وحي وإلهام للرجل إلا إذا اشتهاها بشهوة حسية ومن قال بغير ذلك فهو رجل ضعيف لا يدرك جوهر الصلات بين الرجل والمرأة.

وأن رجال الأخلاق لم يستنكروا الشهوات إلا بسبب الإسراف، أما الشهوات في حد ذاتها فهي دليل العافية، وأن فضيلة العفاف لا يقام لها وزن إلا حين تصدر من رجال مزودين بحيوية الشهوات.

وقال أحمد أمين: إن أدب المعدة هو ذلك الأدب الذي يدور حول ملء المعدة واستدرار المال ويحصل الفوات. ومثل لذلك بالغزل الفاجر ومقالات الكتاب التي هدفها الأول ملء الأعمدة والاستيلاء على الرواج وأدب المديح.

ص: 248

البارودي اختار لثلاثين شاعرًا من خيرة شعراء الدولة العباسية. وكانت مختاراته في أربعة أجزاء كبار، فكان ما اختاره من المديح 24815 بيتا ومن الأدب 1967 بيتا ومن الغزل 4616 بيتا ومن الهجاء 1229 بيتا ومن الوصف 3993 ومن الزهد 473 بيتا ونظرة واحدة إلى هذا الإحصاء تدهشنا أشد الدهش إذ تبين لنا طغيان أدب المعدة -وهو المديح والهجاء- على أدب الروح طغيانا كبيرًا، هذا هو أحمد أمين الذي يدرس الأدب بالإحصاء والذي يقيس الدواوين الشعرية بالمتر والباع والذراع.

لو كان أحمد أمين يدقق لعرف أن طغيان المديح على الزهد كان من علائم الحيوية في العصر العباسي، فهو الشاهد على أن العرب كانت حياتهم تتزاحم بالأخطار الدنيوية وهو الشاهد على أنهم كانوا أهل نجدة وأريحية، وهو الدليل على أنهم كانوا يحيون حياة تفيض بمعاني الأفراح والأحزان وتتسم بعلائم القوة والكفاح.

4-

يعلن1 الأستاذ أنه يحتقر المعدة ليصح له التطاول على ماضي الأدب العربي، واحتقار المعدة لا يقوم على أساس من الواقع ولا من المنطق وإنما هو مجاراة للعوام الذين يصعب عليهم أن يدركوا أن النفس تتبع الجسم والصحة والمرض والقوة والضعف.

والواقع أننا عبيد لحواسنا وأعصابنا، وأن جمهورنا مدين في تكوين ذوقه وعقله إلى ما يأكل وما يشرب.

يقول أحمد أمين:

"ثم انظر بعد إلى الفن المبتكر في العصر العباسي. وهو فن المقامات

1 الرسالة 3 يوليه 1939 "المقال الرابع".

ص: 249

فقد ابتدعها بديع الزمان الهمذاني فلم يجعل محورها حبا ولا غرامًا كما يفعل الروائيون ولم يجعل محورها شيئا يتصل بأدب الروح ولكنها كلها "أدب معدة"، فأبو الفتح الإسكندري بطل المقامات كلها، رجل مكر واحتيال يصطنع جميع المهن لابتزاز الأموال، تراه مرة قرادًا يسلي الناس ويضحكهم ومرة واعظا مزيفا يعظ وينصح ثم تتكشف حيله فإذا هو مهرج.

وجاء الحريري فجعل مكان أبي الفتح الإسكندري أبا زيد السروجي وهو كصاحبه دناءة نفس وخساسة حرفة".

أبهذه الجرأة يحكم أحمد أمين على فن المقامات.

يلاحظ أولا أن أحمد أمين لم يفهم أغراض الحريري وبديع الزمان فهو يتوهم أنهما يحاولان إغراء الجماهير بالإقبال على ما في تلك المقامات من شمائل وخصال بينما الغرض من تعلم المقامات عند بديع الزمان هو نقد الحياة الاجتماعية والأدبية في القرن الرابع.

وغفل أحمد أمين أن للفن غاية أخرى؛ وهي النظرية التي تقول بأن للفن والأدب غاية أصيلة هي الصدق في وصف ما ترى العيون وما تحس القلوب وما تدرك العقول.

ثم يقول: هل يطلب من الكاتب ألا يغفل وصف الطفيليين لئلا يقال: إن أدبه أدب معدة.

أتحبون أن تعرفوا من أين وصل الخطأ إلى الأستاذ أحمد أمين!

وصل إليه الخطأ من التلمذة للأستاذ الكبير طه حسين؛ فقد حكم الدكتور طه بأن العصر العباسي عصر شك ومجون لأن فيه عصابة

ص: 250

مشهورة بالزيع والفسق وهي جماعة أبي نواس ومطيع بن أياس، مع أن العصر المدني عرف أمثال هذين الرجلين هو نفس العصر الذي نبغ فيه كبار الفقهاء والنساك والزهاد. وهو الذي بلغ فيه الفكر العربي غاية الغايات في فهم أصول الفلسفة وأصول الأخلاق.

5-

عرض1 زكي مبارك لما ورد في كتاب أحمد الشايب "الأسلوب" الذي قرر فيه بأن أحمد أمين له أسلوب له مزايا وخصائص.

وتساءل: هل لأحمد أمين أسلوب حتى يخلق لأسلوبه مزايا وخصائص؟ ثم قال: إن الدكتور طه وقف في قصر الزعفران سنة 1927 ألقى كلمة في مهرجان شوقي فقال: إن الجامعة لا تؤرخ الأحياء، ثم هو الذي ارتضى لنفسه أن يدرس أسلوب أحمد أمين بكلية الآداب.

ثم قال: أتريدون الحق؟ إن أحمد أمين لم يكن له أسلوب يدرس في كلية الآداب إلا لأنه أستاذ في كلية الآداب، وإلا فكيف غابت قيمة أسلوبه عن أساتذة الأزهر ودار العلوم؟

إن الرجل لا يكون له أسلوب إلا يوم يصح أنه يحس الثورة على ما يكره والأنس بما يحب، فعندئذ تعرف نفسه معنى الانطباعات الذاتية ويعبر عن روحه وعقله وقلبه بأسلوب خاص.

لقد اشتغل أحمد أمين بالقضاء الشرعي بضع سنين فهل قرأتم له مقالا أو قصة تدل على أنه توجع مرة واحدة لآلام الإنسانية.

لقد عاش أحمد أمين بالواحات فهل سمعتم قبل أن تسمعوا مني أنه قد عاش بالواحات.

1 الرسالة 10 يوليو 1939 "المقال الخامس".

ص: 251

ولكن أحمد أمين لم يكن أديبا، وإنما كان موظفا مخلصا لواجب الوظيفة لا يرى ما عداها من الشئون ثم قال طه حسين: كن أديبا فكان.

إن هذا الرجل أراد أن يؤرخ العصر العباسي من الوجهة الأدبية فجعله عصر معدة لا عصر روح وشاء له أدبه أن يختص البصرة بحكم من أحكامه القاسية فزعم أنها "نقابة الطفيليين" فهل خطر في بال هذا الباحث المفضال أن البصرة عرفت أكرم أنواع نكران الذات حين كانت مبدأ لإخوان الصفا.

لو أن أحمد أمين كان يدقق لعرف أن البصريين لم يصلوا إلى ذلك إلا لقوة الروح فكيف شاء له هواه أن يجعلهم أصحاب معدات! لو أن معدتي كانت كما أحب من القوة والعافية لأكلت لحم الأستاذ أحمد أمين وأرحت الدنيا من أحكامه الجائرة في الأدب والتاريخ.

ولكن الدهر حكم بأن أكون من أصحاب الأرواح فلم يبق لي في محاسبته غير شيطنة الروح وفي الأرواح شياطين.

6-

يشهد1 الأستاذ "أحمد أمين" على نفسه فيقول:

"أين الشعر العراقي الذي تجد فيه الشعراء يتغنون بمناظر العراق الطبيعية ويضعون فيه أحداثهم الاجتماعية. وأين الشعر الشامي أو المصري أو الأندلسي الذي يشيد بذكر مناظر الطبيعة وأحوال الاجتماع للشام ومصر والأندلس، إنك تقرأ الشعر العربي فلا تعرف إن كان هذا الشعر مصري أو عراقي أو شامي إلا من ترجمة حياة الشاعر، أما القالب كله فشيء واحد،

1 الرسالة 24 يوليه 1939.

ص: 252

والموضوع كله واحد مديح أو رثاء أو هجاء أو نحو ذلك مما قال الجاهليون".

يعتقد أحمد أمين أن شعراء العراق لم يصفوا مناظر بلادهم الطبيعية ولم يصفوا أحداثهم الاجتماعية ولو أنه كان اطلع على الشعر العراقي في عهوده الماضية وهي التي تعنيه لعرف أن شعراء العراق لم يفرطوا في الحديث عن أنهارهم وبساتينهم ولم يتركوا صغيرة ولا كبيرة من شئون المجتمع إلا أفردوها بحديث خاص.

الشعراء المصريون في نظر أحمد أمين لم يكونوا إلا مقلدين لشعراء الشام والعراق.

ولأحمد أمين في هذا الحكم الجائر عذر معقول، لأنه لم يدرس الشعر المصري دراسة تمكنه من الحكم له أو عليه، فلو كان من المطلعين لعرف أن الشعراء المصريين وصفوا بلادهم وتحدثوا عنها بأقوى العواطف وتغنوا بمحاسن بلادهم أجمل غناء.

7-

لقد1 كان ناس يتوهمون أننا حاربنا الدكتور طه حسين لأغراض شخصية وكان الدكتور طه يلوز بهذا التوهم فلم يرد علينا غير ثلاث مرات أو أربع مرات بأسلوب واضح صريح. ثم شاء له الحذر والاحتراس أن يوهم قراءه وسامعيه بأننا نحاربه لغرض خاص ثم درات الأيام واعترف الدكتور طه علانية أمام جمهور من أقطاب الرجال بأن زكي مبارك من "أصحاب العقائد" في حياته الأدبية ويجب أن ينظر المنصف إلى مصاولاته في النقد الأدبي بعين الرفق.

1 الرسالة 24 يوليه 1939.

ص: 253

فكيف جاز للأستاذ أحمد أمين أن يهرب من الرد علينا بحجة أننا نشتمه ونؤذيه بغير سبب معقول؟ وكيف جاز له أن يظن أني تآمرت مع صاحب الرسالة عليه؟ مع أن مقالاتي في الرسالة قد تنتهي بخصومة بيني وبين الزيات؛ لأن الزيات قد حذف من مقالاتي فقرات كثيرة رعاية لصديقه العزيز أحمد أمين.

أتريدون الحق أيها القراء:

الحق أني في غربة موحشة بين إخوان هذا الزمان فالأستاذ أحمد أمين كان ينتظر أن أمتشق قلمي لتزكية أحكامه الخواطئ على الأدب العربي والأستاذ الزيات كان ينتظر أن أرد على أحمد أمين بأسلوب رقيق شفاف يحاكي نسائم الأصائل والعشيات على ضفاف النيل.

الله يشهد أني متوجع لما صنعت بالأستاذ أحمد أمين وهو رجل له ماض في خدمة الدراسات الإسلامية وله مواقف في مؤازرتي سأذكرها وإن طال الزمان ولكنه في الأعوام الأخيرة أصيب بمرض عضال هو السخرية من ماضي الأمة العربية وأغرم بضرب من الحذلقة لا يقره غير الأصحاب المتطفلين الذين لا يهمهم غير الاقتراب من روحه اللطيف.

أحمد أمين رجل فاضل وإن تردى في هاوية العماية والجهل حين حكم بأن آباء العرب كانوا أصحاب معدات لا أصحاب أرواح.

يقول أحمد أمين: إن الأدب يخدم النقد أكثر ما يخدم التقريظ وهذا حق ولكن هل يدرك المراد من النقد.

النقد هو في الأصل تمييز الزائف من الصحيح فيدخل فيه اللوم ويدخل فيه الثناء. ولكن أحمد أمين يتوهم أن النقد مقصور على التجريح.

ص: 254

ويرى الكلمة الطيبة بابا من التقريظ وهو عنده معيب، ونحن نقول بلا تردد: إن الأدب العربي أدب أصيل والزائف منه لا يقام له وزن بجانب الأدب الصحيح، فكيف انحرف بصره عن المحاسن ولم يشهد إلا العيوب وهل في الأدب حسن وقبح. الأدب جده جد وهزله جد، ولا يعاب عليه إلا ما غلب عليه التكلف والافتعال.

ولو رزقني الله الشجاعة لقلت: إن هذا الرجل يتجنى على الأدب العربي لأنه لم يعرفه معرفة صحيحة، ولو قد عرفه حق معرفة لأدرك أنه خليق بأن تبذل في سبيله نفائس الأعمال من أحرار الرجال.

يعز علي أن أراه يحبط أعماله بمقالات خطيرة لم تكن ثمرة لسهر الليل وأقذاء العيون تحت أضواء المصابيح. وإنما كانت ثمرة لنزوة وقتية أراد بها أن يخلق حركة في بعض المجلات، والمجد كالرزق بعضه حرام وبعضه حلال.

8-

نحن أمام فتنة جديدة؛ هي فتنة القول بأن الأدب العربي لا يصلح لتربية الأذواق في الجيل الجديد، وهذه الفتنة ليست من مخترعات أحمد أمين فقد نجمت قرونها منذ أكثر من خمسين سنة حين أراد المستعمرون والمبشرون أن يوهموا أبناء الأمم العربية بأن الصلة بين ماضيهم وحاضرهم لم يبق لها مكان، وأن المصلحة تقتضي بأن يوضع الأدب القديم في المتاحف وألا يدرسه غير المختصين على نحو ما يصنع الأوروبيون في الآداب اليونانية واللاتينية ثم تقبل كل أمة على لغتها المحلية فتجعلها لغة التخاطب والتأليف، وبذلك تكون اللغة الفصيحة أما واحدة للغات الشعوب العربية. كما صارت اللاتينية أما واحدة للغات الشعوب اللاتينية. وقد صرح بذلك المسيو ماسينون في خطبة

1 الرسالة 10 أبريل 1944.

ص: 255

ألقاها في بيروت سنة 1931 ونقدتها يومذاك بمقال أرسلته إلى البلاغ من باريس.

والحق أن الفتنة التي أذاعها المستعمرون والمبشرون كانت فتنة براقة جذابة تزيغ البصائر والعقول وقد انخدع بها من انخدع من الأعوام الماضية فكانت المفاضلة بين الفصيحة والعامية من المشكلات التي تقام لها المناظرات في المعاهد والأندية الأدبية وقد وصل صدى هذه الفتنة إلى المجمع اللغوي بالقاهرة فانقسم الأعضاء إلى فريقين: فريق يقول بدراسة اللهجات المحلية وفريق يقول بأن الأفضل إنفاق المال في إحياء الأدب القديم، وقامت بسبب هذه المشكلة مساجلات فوق صفحات الجرائد بين الدكتور منصور فهمي والدكتور طه حسين والظاهر أن الأستاذ أحمد أمين من أنصار القول بإحياء اللهجات المحلية فهو يدرس على صفحات مجلة الراديو المصري ألفاظ اللهجة المصرية باهتمام يدل على تأصل تلك الفتنة في نفسه الواعية.

9-

الدكتور1 طه قد زعم أن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه فهداه إليها وأنا أيضا أزعم أن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه وسأهديه إليها وفرق بين الهدايتين، شغل الأستاذ أحمد أمين نفسه بالنص على أن العرب في جاهليتهم لم تكن لهم وثنية تبدع الأساطير على نحو ما كان الحال عند اليونان، وذلك يشهد بأن الجاهليين لم يكونوا من أهل الخيال.

أخذ هذا من الدكتور أحمد ضيف.

"وقد قال بعض المستشرقين مثل رينان ومن جرى على مذهبه: إن العرب ككل الأمم السامية ليس لها أساطير في شعرها ولا في عقائدها، وإن

1 6 نوفمبر 1939 مقال "21" الرسالة.

ص: 256

هذا يدل على ضيق الخيال لديهم: لأن الأساطير والخرافات إنما هي نتيجة سعة الخيال ونتيجة الخبرة والبحث وحب الاطلاع وكل ذلك يظهر أثره في بلاغات الأمم من نظم ونثر كما هي الحال عند الأمم الأوروبية كاليونان وغيرهم. وقالوا: سعة الخيال، ولا يقصدون بالخيال ما نقصده نحن من المجاز والتشبيه وإنما يقصدون سعة الخيال في تصور الحقائق وفي إدراك الموضوعات المختلفة".

إن الدكتور أحمد ضيف لم يبتكر هذا الكلام ولكنه راعى الأمانة العلمية فذكر مصدره من كلام المستشرقين، أما الأستاذ أحمد أمين فقد انتهب ما نقله الدكتور أحمد ضيف عن المستشرقين ثم ادعى أنه من مبتكراته.

10-

يقول أحمد أمين: إن الأدب العربي على اختلاف عصوره ليس فيه إلا كاتب واحد يهتم بتحليل المعاني هو ابن خلدون ولا شك أن إعجاب أحمد أمين بابن خلدون يرجع إلى الدكتور طه حسين شغل به.

إن بعد الدكتور طه حسين عن مصر في أيام الصيف عرض الأستاذ أحمد أمين للمعاطب، فلو أن الدكتور طه بقي في مصر لكان من الجائز أن يعلن إعجابه بكاتب آخر غير ابن خلدون.

فهل نرجو أن يتلطف الدكتور طه حسين فيقول: إنه لا يعقل ألا ينبغ في الأدب العربي غير كاتب واحد في ذلك الأمد الطويل الذي سيطر فيه على أقطار آسيوية وأفريقية وأوروبية.

إن الدكتور طه لو قال هذه الكلمة وهي حق لسرت عدواها إلى الأستاذ أحمد أمين فاندفع يثني على الأدب العربي بما هو أهله. لكان من الممكن أن يصرخ بأن الأدب العربي نبغ فيه من الكتاب عشرات أو مئات.

ولكن الدكتور طه يترفق بأصدقائه أشد الترفق ويحرص على ستر ما يقعون فيه من أوهام وأضاليل، وقد يقدمهم إلى الجمهور في جلبة وضوضاء.

فكيف ينتظر أن يقول في الأدب العربي كلمة حق تشجع رجل مثلي على

ص: 257

مهاجمة رجل يستبيح في الغض من أدب العرب ما لا يباح. إن الدكتور طه حسين هو المسئول عن أحمد أمين فهو الذي قال: "إن أحمد أمين لم يكن يعرف نفسه فهديناه إليها" ومعنى هذا أن أحمد أمين لم يكن يعرف أنه أديب قبل أن يدله الدكتور طه على الكنز المدفون في صدره.

مقال الختام:

هل1 أستطيع أن أحدث القارئ مرة عن بعض مكاره النقد الأدبي.

ليتني أعرف من أغروني بسلوك هذا الطريق المحفوف بالمخاوف والمعاطب والحتوف، كنت تبت ونجاني الله من مهلكات هذا الطريق الوعر الشائك فكيف رجعت إليه بعد أن عرفت وجه الخلاص!

كنت يومئذ مدرسا بكلية الآداب وأخرج الأستاذ أحمد أمين الجزء الثالث من ضحى الإسلام، وقد سرق من الأستاذ إبراهيم مصطفى مسألة متصلة بتاريخ النحو وسرق مني مسألة متصلة بتاريخ التشريع الإسلامي.

فصاح إبراهيم:

إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فكيف يسرقها مني، إنه لطماع!

وجلست أنا وإبراهيم نتشاكى في غرفة أساتذة اللغة العربية، وانتقلنا من التشاكي إلى التباكي فهتفت: سأنتقم لي ولك يا إبراهيم.

منذ أشهر نشر الأستاذ أحمد أمين مقالته الأولى فيما سماه جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي فلم تعجبني؛ لأني رأيتها من الحديث المعاد، ثم لقيني مصادفة في "المترو" بعد ظهور مقالته الثانية فسألني عما أراه من الأفكار التي أودعها مقالتيه، فقلت له: لم يعجبني غير نقد الشاهد الذي

ص: 258

أوردته في كلام ابن قتيبة، أما سائر أفكارك فتحتاج إلى تحقيق، فقال أنا أدعو القراء إلى مناقشة تلك الأفكار.

فهل كان يدعوني إلى أن أساجله الحديث!

كانت الصداقة بيني وبين الأستاذ أحمد أمين قد بلغت أقصى حدود المتانة والصدق، وما كان ينتظر أن يرى مني غير ما يحب، وكنت والله خليقا بالتجاوز عن سيئاته ولو لم يسرف في الإساءة إلى ماضي اللغة العربية في وقت يحرص فيه العرب على تفهيم أبنائهم أن أجدادهم كانوا من أصحاب المنازل الرفيعة في العلوم والآداب والفنون، وأنهم كانوا في ماضيهم من أقطاب الزمان.

وكذلك وقعت الواقعة وكان ما عرفه القراء من تمزيق الأوهام التي اعتز بها ذلك الصديق، إن الفخر بغيض ممقوت وقد عابه علي الأصدقاء قبل الأعداء، ولكن ماذا أصنع وأنا أشهد آرائي تنتهب بلا تحرز ولا ترفق وبها يرد على خصومي حين يشتجر القتال.

اهتم الأستاذ أحمد أمين بالنص على أن الشعر العربي كان في أغلب أحواله أدب معدة لا أدب روح وحجته في ذلك أن التكسب بالشعر كان عادة غالبة على أكثر الشعراء، وقد طنطن بهذه المسألة وأخذ يعيدها في كل مكان وهذا الكلام وارد في البدائع جـ1 ص 99.

عاب أحمد أمين على العرب أن يلتزموا افتتاح القصائد بالتشبيب وأن يتصلوا بهذه العادة من جيل إلى جيل في حين أن الشاعر قد لا يكون مشبوب العاطفة في كل حين. هذا الكلام مسروق من مقال أرسلته من باريس سنة 1931.

اهتم الأستاذ أحمد أمين بتوكيد القول بأن نزعة القرآن روحية لا حسية فنال بذلك ثناء الأستاذ محمود علي قراعة الذي عد كلامه من المبتكرات فهل يعلم أن هذا الكلام مسروق من قول صاحب "التصوف الإسلامي" جـ2 ص7.

إن الفخر بغيض ممقوت وقد عابه علي الأصدقاء قبل الأعداء، ولكن ماذا

ص: 259

أصنع وأنا أشهد آرائي تنتهب بلا تحرز ولا ترفق وبها يرد على خصومي حين يشتجر القتال، وكأنها مما ابتكرت من أفكارهم الثواقب وألسنتهم النواطق.

يقول أحمد أمين وطه حسين: إن الأدب يجب أن يرفع نفسية الأمة ويدلها على مواطن الضعف والقوة لتواجه الحياة عن هدى وبصيرة فهل أستطيع أن أقول أن هذه الآراء منهوبة من قول صاحب رسالة اللغة والدين والتقاليد ص46، 47. أما بعد فقد أنهيت القول من محاسبة الأستاذ أحمد أمين بعد أن أرقت جفونه خمسة أشهر كانت عنده كألف سنة مما تعدون.

انتهيت من محاسبة أحمد أمين الباحث أما أحمد أمين الصديق فله في قلبي أكرم منزلة وأرفع مكان، ولن يراني إلى حيث يحب في حدود المنطق والعقل، فما أرضى له أن يكون من الساخرين بالأدب العربي وماضي الأمة العربية.

وسأبدأه بالتحية حيث ثقفته فلا يروعني وجها أراه أهلا للكرامة والحب وسلام عليه من الصديق الذي لا يغدر ولا يخون.

هجوم من عبد المتعال الصعيدي على زكي مبارك 1:

إن الدكتور زكي مبارك يجب أن يكون آخر من يدافع عن الشعر الجاهلي فهو وأستاذه الدكتور طه حسين لا يؤمنان بصحة ذلك الأدب، فقد ألف الدكتور طه كتابه في الشعر الجاهلي وكان أكبر جناية على أدب الجاهلية. إذ أنكر فيه صحة هذا الأدب وقلد هذا الرأي أعداء الأدب العربي من المستشرقين.

فلم يكن الدكتور زكي مبارك إلا أن احتفل بظهور ذلك الكتاب وعده فتحا جديدا في الأدب العربي "مقال جريدة البلاغ الأسبوعي 3 ديسمبر 1926" وقال عنه: إنه "آثار ما خمد من القرائح وأيقظ ما هجع من العقول".

والفرق كبير بين رأي طه حسين في الأدب الجاهلي ورأيي ورأي أحمد أمين فيه فطه حسين يرمي إلى الهدم والطعن في ثقة السلف ونحن نرمي إلى

1 الرسالة أول فبراير 1933.

ص: 260

الإصلاح ومن الغريب أن زكي مبارك يؤمن بالإصلاح ويدعو إليه في كتابه أحمد أمين النثر الفني ولكنه ينسى ذلك في حب التغلب على الأستاذ.

عبد الوهاب عزام يناقش أحمد أمين1:

بينا أنا في بغداد لقيني أحد الأدباء العراقيين يسألني: أقرأت مقال الأستاذ أحمد أمين عن الأدب الجاهلي. فقلت لا. فأنكر ما ضمن المقال من آراء وأخذ على الأستاذ الكاتب أنه ذهب هذا المذهب في بحثه، قلت: سأقرأه لأرى.

جادلت الأستاذ منذ سنين على صفحات الرسالة في موضوع التجديد في الأدب وهو متصل بموضوع اليوم. كلاهما نتاج آراء اعتقدها الأستاذ في أدبنا القديم وأبادر إلى حمد أستاذنا في اجتهاده في تناول مسائل كثيرة من مسائلنا الأدبية والاجتماعية فما الأستاذ في هذا إلا مفكر مجتهد مخلص. له الحمد إن أصاب أو أخطأ.

ثم قدم لبحثه بمقدمات أربع:

1-

إن معيشة العرب في جاهليتهم وهي المعيشة التي يصورها الأدب الجاهلي لم تزل بظهور الإسلام ولم تنقطع بانقطاع الجاهلية الدينية بل هي مستمرة منذ العصر الذي نسميه الجاهلية إلى يومنا هذا.

2-

هذه البداوة المتصلة بنا ليست سرًا ينبغي الابتعاد عنه ولا أمرًا يجوز جهله أو إغفاله فهي ممتزجة بتاريخنا، وهي طور من أطوار الجماعات الإنسانية أقرب إلى الفطرة وأحفظ للإنسان في كثير من أحوال جسمه ونفسه.

3-

الأمة الغربية تشمل البادين والحاضرين. ولا تجعلها البداوة والحضارة واختلاف درجاتهما أمما مختلفة.

4-

الأدب العربي هو أدب الأمة العربية كلها ينبغي أن يصور حياة هذه الأمة: حاضرتها وباديتها على اختلاف التصوير باختلاف البيئات والحالات.

1 الرسالة 15 نوفمبر 1943.

ص: 261

5-

إن اللغات على تطورها مع الأمة تحفظ في ألفاظها ومجازاتها وأمثالها كثيرا من تاريخ الأمة. وكما تتطور الأمة فتتقدم ولا يمنعها التقدم أن تحتفظ بما يربطها من سنن وعادات كذلك تتطور لغتها ولا يضيرها الاحتفاظ بكلمات وجمل وكنايات هي من تاريخها. آخذ على الأستاذ الغلو في الدعوى والإغراق في تصويرها. ومما يتصل بهذا الغلو أنه جعل رأي طائفة من الأدباء في عصر ما رأي أهل العصر كلهم وعمم الدعوة حيث يقتضي الدليل التخصيص.

حينما تكلم عن الأدب العربي نظر إلى الشعر وحده وأغفل النثر.

وعرض لرأي أحمد أمين الخاص بالتزام شعراء العربية في العصور الإسلامية طريقة الجاهليين في الأوزان والقوافي وبين أنهم اخترعوا نظاما للتقفية لم يؤثر عن الجاهلية واخترعوا أوزانا على قدر ما أحسوا من حاجة.

ثم عرض لرأي أحمد أمين في التزام شعراء العربية موضوعات الشعر الجاهلي وخالفه، ودلل على أن الشعر العربي لم يحجم عن موضوع ما، وأدخل في أحوال المعيشة وحادثات الحياة من شعر أمم كثيرة.

وعرض لرأي الأستاذ في الشعراء حيث قال: إنهم لم يمسوا عواطفهم وحالاتهم الاجتماعية وإن شعراء الأقطار العربية: العراق والشام ومصر والأندلس لم يعنوا بمناظر بلادهم الطبيعية وأحداثهم الاجتماعية.

ويرى عزام أن الشعر العربي شارك بيان وجدان الإنسان وآلامه وآماله، وأن الشعر الذي يصف بيئة إقليم أو حادثة بعينها فهو كثير في دواوين شعراء العربية، وأن الشعراء العرب لم يقفوا في الشعر على موضوعات قليلة يقبلوا فيها الجاهليين. وذكر طرفا من تصوير شعراء مصر التي عاشوا فيها وبين أن شعراء العراق والشام صوروا بيئاتهم وأمعنوا في الصورة، وعرض زكي مبارك لنقد الدكتور عبد الوهاب عزام لأحمد أمين فقال:

قال أحمد أمين: "إن علماء العرب رفعوا من فن كل شيء جاهلي وغلوا

ص: 262

في تقديره فالماء الحقير في مستنقع جاهلي خير من دجلة والفرات والنيل وكل أنهار الدنيا. والجاريتان اللتان غنتا للنعمان كان صوتهما وغناؤهما خيرا من كل صوت، وكل غناء، ودوسر كتيبة النعمان بن المنذر أقوى جيش عرفه التاريخ، وأيام العرب في الجاهلية ووقائعه الحربية لا يعادلها أي يوم من أيام المسلمين وجبلا علي خير جبال الدنيا، وحاتم الطائي لا يساوي كرمه كرم، حتى الرزائل لا يصح أن يساوى برزائلهم رذيلة، فليس أبخل من مادر ولا أشأم من البسوس ولا أشرف من شظاط".

"قال الدكتور عزام في نقد هذا الكلام الأجوف؛ قال: إنه يقوم على أساس المبالغة والإغراق. وهناك كلمة طواها الدكتور عزام وهي كلمة "الافتراء" فقد افترى أحمد أمين على علماء العرب حين زعم أنهم لا يرون أن أي يوم من أيام المسلمين يعادل أي يوم من أيام الجاهلية ونحن نتحداه أن يثبت أنه رأى شواهد هذا الرأي في أي مكان من كتب الأدب والتاريخ نتحداه، فينطق إن كان على يقين"

ما رأيك إذا صارحتك بأن كلامك هذا هو الحجة عليك. ألم تقل: إن العرب لم يحسوا الطبيعة في بلادهم.

موقف أحمد أمين:

أردت أن يتحرر الأدب من قيوده التي تنقله وأن يكون الحكم في أدبنا أذواقنا لا أذواق غيرنا وأدبنا معتمدا على شيئين. خير ما في الماضي مما يتناسب وحاضرنا ويبعث على تحقيق أملنا في مستقبلنا ودراسة حاضرنا واستقامة أدبنا. لا أن نعيش في أدبنا على الماضي وحده.

ولا يتم شيء بعد ذلك إذا نظرنا إلى الخلف فقط وإلى الخلف دائما.

ولا يكون شيء من ذلك إلا إذا كسرنا عمود الشعر الذي وضعه الأدب الجاهلي، إنما يكون ذلك يوم نزن الأدب العربي ككل أدب بموازينه الصحيحة من غير عصبية ونصرح بالنقص من غير خجل، ونبني الجديد في غير هوادة ونكسر القديم في غير رفق.

ص: 263