الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع: معركة فقدان الثقة
بين الدكتور محمد حسين هيكل وطه حسين:
عندما أصدر الدكتور هيكل كتابه "ثورة الأدب" استقبله الدكتور طه استقبالا حافلا كعادته في استقبال كتب رصيفه، غير أن الدكتور طه لم ينس بذور الخلاف التي كانت قد نشأت بينه وبين زميله القديم، وهو خلاف جوهر يتعلق بصميم العقيدة والتفكير والاتجاه، ذلك أن هيكل رأى أن الغرب قد خدعنا عن نفسه حتى تكشف لنا أنه إنما يهدف إلى تغريب الشرق وقد ظهر حين أصدر المستشرق "جب" كتابه "وجهة الإسلام" الذي كان بعيد الأثر في تحول تفكير هيكل ولكن طه حسين الذي ظل مصرا على أرائه انتهز الفرصة ليعاقب الدكتور هيكل في هذا التحول وهكذا درات هذه المعركة التي تعد نقطة ارتكاز في تمزق تيار المدرسة الحديثة.
من طه إلى هيكل:
وهكيل كالسيل إذا عرض لموضوع اندفع فيه فجاء بالجيد الكثير ولكن لا يسلم أحيانا من العثار فكثيرا ما يتورط في الخطأ لأنه يسرع ولا يتكلف التحقيق والتثبت.
وتستطيع أن تأخذ هيكلا بطائفة غير قليلة من الخطأ الذي مصدره الإهمال والسرعة وشيء من الازدراء لتحقيق المحققين، متفق أننا بعد هذا كله مع هيكل في آرائه كلها حول القديم والجديد، ما أظن إلا أننا نتفق في أكثرها ونختلف في أقلها، ولعل اختلافنا أن يكون ناشئا من شيئين: أحدهما هذا الإهمال الذي أخذ به هيكلا والذي يدفعه إلى المبالغة ويضطره إلى التقصير أحيانا، والثاني أن هيكلا رجل أديب. ولكن اشتغاله المتصل بالسياسة قد أثر في تصوره للأشياء وحكمه عليها بعض الشيء. فهو يسرف حين يسيء الظن بما يكتبه الأوروبيون عنا حين يمسون حياتنا الأدبية ويسرف أيضا حين يحسن الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج.
ولكنه رجل سياسي حين يكتب في الأدب يريد أن يدافع عن مصر والشرق كما يفعل في السياسة، أما أنا فأريد أن أدافع عن مصر والشرق، وأريد أن أرضي مصر والشرق ولكن بشرط ألا يورطني هذا في تغيير الحقائق العلمية أو مسها بشيء من التشويه ولو قليلا.
من هيكل إلى طه:
وقد لاحظت يا أخي أن اشتغالي المتصل بالسياسة قد أثر في تصوري الأشياء وفي حكمي عليها بعض الشيء وذكرت لذلك مثلين: أحدهما، أني أسرفت حين أسأت الظن بما يكتبه الأوروبيون عن حياتنا الأدبية بينما أنت تظن أن جب وأمثاله لا يأخذون السياسة وأهواءها مقياسا لدراساتهم الأدبية والثاني إني أسرفت حين أحسنت الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج وإني فعلت ذلك لأرضي المصريين والشرقيين في الأدب كما أفعل في السياسة وأنك أنت ترى هذا شرا لأنه تغيير للحقائق العلمية وإني أؤكد لك أن في الحقائق العلمية أثر عندي أنا أيضا من كل شيء ومن كل إنسان.
وإن كان اشتغالي بالسياسة قد أثر في تصوري الأشياء وفي حكمي عليها فإنما كان أثره أن زادني تقليبا للأشياء وامتحانا لها وتعمقا في بحث ما تنطوي عليه وما ترمي إليه وإذا كانت الأهواء السياسية ليست هي التي توجه دراساتهم فدراساتهم يقصد بها في كثير من الأحيان إلى خدمة تلك السياسة.
وما أحسبك تخالفني يا صديقي في أن كتاب "وجهة الإسلام" الذي ألفه خمسة من كبار المستشرقين المشتغلين بالأدب الحديث في بلاد الشرق المختلفة، إنما هو كتاب سياسة مداه بحث ما وصلت إليه أوربا مما يسميه الأستاذ جب "تغريب الشرق" وما يرجى لهذا التغريب في المستقبل من نجاح
وأنا لا أعيب هؤلاء العلماء بهذا بل أحسدهم عليه أعظم الحسد فهم به يخدمون أوطانهم ويخدمون العلم ويخدمون الحقيقة من ناحية سياسة بلادهم ومن ناحية الحضارة الغربية التي يريدون أن تظل المدينة الحاكمة في العالم.
وهذه الخدمة الجليلة التي يقومون بها لأوطانهم وللعلم ولحضارتهم حقيقة علمية يسر لي اشتغالي بالسياسة الوقوف عليها ولو أنك انقطعت للسياسة يا صديقي انقطاعي لها وأفنيت من تفكيرك ما أفنيت أنا لوافقتني على هذه الحقيقة ولم تتهمني بالإسراف إذ علمتها.
أما إني أسرفت متأثرا باشتغالي المتصل بالسياسة في حسن الظن بنا وبحظنا من الخيال وقدرتنا على الإنتاج فأحسب صديقي يوافقني على أنه إذا زالت عوامل الفتور والضعف مما أشرت إليه في تضاعيف كتابي لما كان فيما قلت شيء من الإسراف. يومئذ يكون القول بقصورنا في الخيال وفي القوة على الإنتاج تجنيا على هذه البلاد وعلى الحقيقة، هذا إلا أن تكون يا صديقي من الذين يقولون بأن الأوروبيين ينتمون إلى الجنس الآري، وهم لذلك أرقى منا ونحن ننتمي إلى الجنس السامي بالطبع.
وما أحسبك تقول بهذا أو تعتبره حقيقة كما يود بعض العلماء في أوربا اعتباره بل أحسبك ترى هذه حقيقة سياسية يراد بترويجها "تغريب الشرق" والقضاء عليه بأن يبقى خاضعا للغرب إلى الأبد.
اعترافات الدكتور هيكل 1:
والآن علنا أن نستعرض القضية من أولها ذلك أن هذا التحول كان بعيد الأثر في الفكر العربي المعاصر وهو ليس هينا على النحو الذي يبدو من المساجلة ولكنه كان عميقا وخطيرًا بالنسبة للمثقفين الذين سافروا إلى أوربا واعتنقوا مذاهب الغرب في الفكر ثم فقدوا ثقتهم في هذا الفكر فيما بعد ولذلك يعرض هيكل هذه القضية عندما أصدر "جب" كتابه وجهة الإسلام قال:
عاد هؤلاء "المبعوثون من شباب العرب" إلى بلادهم يبشرون بالحضارة الغربية، لكنهم ما لبثوا أن صدمتهم ظاهرتان عجيبتان أثارتا دهشتهم لتناقضها مع أصول الحضارة الغربية تناقضا بينا، الأولى هذه الحرب المنظمة التي يقوم بها الاستعمار الأوروبي لحرية العقل حرية مستندة إلى النظام الجامعي الذي يقرر البحث العلمي الطليق من كل القيود سواء أكانت دينية أم غير دينية والمستند إلى القواعد العلمية الصحيحة. وقد راعهم من هذه الحروب أنها لم تكن تقبل هوادة قط وأن ممثل إنكلترا في مصر لم يكن يأبى أن يكتب في تقاريره أن مصر بغير حاجة إلى علماء بالمعنى الغربي وإنما هي بحاجة إلى موظفين مطواعين.
والظاهرة الثانية: انتشار المبشرين الغربيين في كل مكان في المدن الكبيرة والصغيرة بل في القرى يدعون إلى المسيحية ولا يأبون التعريض بالإسلام. وبالرغم من هاتين الظاهرتين ظل هؤلاء الشبان يدعون إلى الحضارة الغربية مستندة إلى أصلها الصحيح. أي إلى حرية البحث ونزاهة العلم ويدعون إلى ذلك في حرارة لم تكن من شأن الجامدين على التقليد الديني الذين رموهم بالإلحاد، إلا أن زادها قوة استعارا، ولكن مرور الزمن فتح عيونهم على حقيقة أخرى لم تكن أقل إثارة لدهشتهم من
1 14 أكتوبر 1932 ملحق السياسة الأسبوعية.
الظاهرتين اللتين قدمتا. فما يصدر الغرب للشرق من آثار حضارته قد وقف أو كاد عند أسوأ ثمرات هذه الحضارة وعندما كان يؤتى بلاد الغرب من الربح المادي ما يمده بأسباب الرخاء والترف. فتجارة الرقيق الأبيض والكحول ومواد الزينة واللهو وجوقات الهذر المسرحي كانت أول ما يصدم الناظر لآثار الغرب في الشرق. ولم يقدم الغرب إلى جانب هذا من صالح ثمرات حضارته ما يستر سوآتها هذه، بل هو كما قدمنا قد وقف حائلا دون سرعة انتشار العلم الصحيح مما كان هؤلاء الشبان يجاهدون بكل ما يدخل في حدود طاقتهم لنشره والتمكين له.
ثم كشفت تعاقب السنين من بعد الحرب عن الحقيقة المؤلمة المضنية، فقضية أوربا التي حاربت في سبيلها أربع سنوات تباعا والتي بذلت فيها مهج أبنائها وملايين ما كدست من الثروة على السنين، لم تكن إلا قضية الاستعمار ومن يكون له حق التوسع فيه دول الوسط أمام الخلفاء، ثم بدت حقيقة أشد من هذه الحقيقة مرارة وإيلاما، تلك أن الغرب الذي تزعم دولة أنه تحرر من قيود التعصب الديني ما زال يذكر الحروب الصليبية التي نشبت خلال القرون بين المسيحية والإسلام. وإن كلمة لورد اللنبي يوم استولى على القدس وقوله أن الحروب الصليبية قد انتهت كانت تعبر عن معنى يجول بخاطر الدول الأوروبية جميعًا.
في ظل هاتين الحقيقتين الأليمتين جعلت دول الغرب التي وضعت يدها على العالم الإسلامي تمد في أسباب الجمود الديني عن طريق الجامدين المتعصبين لتزيد الشعوب الإسلامية جمودًا ليزيدها الجمود ضعفا، وجعلت تحمي الجماعات التبشيرية الدينية وتمدها بكل ما تستطيع من قوة وتحاول أن تحطم كل قلم وكل رأس يقف في وجه هؤلاء وأولئك.
هنا اليقظة المرعبة، يقظة هؤلاء الشبان الذين درسوا في أوربا وجاءوا ينشرون في البلاد الإسلامية لواء حضارة الغرب، ما هذا؟ إلى أي حضيض يهوي أهل الحضارة؟ كيف تطوع لهم ضمائرهم أن يستخدموا العلم الإنساني لإذلال الإنسانية وإهدار كرامتها؟
وكيف تظل أوربا على تعصبها الديني الذي انبعثت جنودها في القرون الوسطى باسمه لمحاربة المسلمين؟
وكيف تسيغ أوربا في سبيل الحياة المادية وترفها أن تحول بين شعوب كاملة. بل بين عالم بأسره وبين النور القدسي الذي يضيء به الله الأرواح والقلوب عن طريق العلم والمعرفة وكيف تطمع المسيحية في أن تكتسح الإسلام وهو أسمى الأديان التي دعت إلى الحرية الحقة ما أخذ في صفاء جوهره وما نفيت عنه هذه الترهات التي أضيفت إليه على أنها منه وليست منه.
وقامت لذلك في نفوس الذين ألقي إليهم النهوض بأعباء الحركات القومية التي اهتزت بها أمم الشرق في أعقاب الحرب ثورة على هذه الأساليب التي لجأ إليها الغرب، وجعل كل يفكر.
والذين يقومون بأمر الصحف في الشرق ويؤيدون هذه الأفكار الثائرة على الغرب وعلى استعماره وتبشيره كثرتهم الساحقة إن لم نقل كلهم من الذين تعلموا علوم الغرب وكانوا يبشرون بحضارته ومن الذين يؤمنون ما يزالون بأن الأساس الذي قامت عليه: حرية العقل والتفكير وحرية البحث العلمي هو خير أساس تقوم عليه حضارة على أن لا ينكر هذا الأساس حاجات الروح للاتصال بالعالم على أنه فكرة لا على أنه آلة. وعلى أن لا ينكر على العاطفة وعلى وحي النفس وإلهام الفؤاد سلطانها في الحياة.
ثم أشار الدكتور هيكل إلى هذا التحول من جانبه وجانب زملائه فقال: وليس أدل على ذلك مما لاحظه الأستاذ جب وزملاؤه مؤلفو "وجهة الإسلام" من أن كثيرين من الشبان الذين حملوا لواء الحضارة الغربية وصاروا يبشرون بها قد عاد الكثيرون منهم يشعرون شعورا قويا صادقا بأنهم في حاجة إلى أكثر مما تمدهم الحضارة الغربية به، وأنهم لذلك يجب أن يلجئوا إلى تراث السلف من المسلمين لالتماس ما ينقص هذه الحضارة الجديدة.
وزادهم شعورًا بهذا النقص أن رأوا الفكرة القومية تقوم في الغرب على نضال اقتصادي عنيف لا يعرف هوادة ولا يقف في وجهه اعتبار من قواعد الخلق أو من الإخاء الإنساني أو من المودة والرحمة. نضال في سبيل المادة بين أهل البلد الواحد وبين الدول المختلفة هو الذي كان مثار الحروب ومثار أسباب الشقاء والتعس في هذا العصر من عصور الإنسانية فهل ترى يجد العالم في تراث الماضي ما يشفي غلة روحه مما عجزت الحضارة الغربية عن أن تقوم به وما يقيم حياة جديدة وحضارة جديدة ليس فيها هذا الجشع المادي الفظيع الذي يهوي بالإنسان إلى مرتبة لا ترضاها النفس الفاضلة. إن هذا التراث قد اختفى تحت طبقات وطبقات من أباطيل عصور الانحلال الذي أصاب العالم الإسلامي قرونا متواصلة. فليكن من عمل رجال العالم الإسلامي أن يزيحوا أكداس هذه الطبقات وأن يعيدوا إلى الوجود في إحدى صور الوجود وعلى طريقة علمية صحيحة ما يشتمل عليه هذا التراث الذي غزا العالم وغذاه بأدوات الحضارة أجيالا وقرونا طويلة.
عند هذه النقطة يقف العالم الإسلامي اليوم، ومظهرها الواضح الصريح أن أولئك الذين كانوا دعاة الحضارة الغربية وحملة أعلامها والذين بلغوا
من إدراك حقيقتها، أن وقفوا على هذا العجز والتصور فيها، هم الذين يقومون اليوم بهذه الدعوة وكثيرون منهم هم الذين يقومون اليوم بهذا البحث، أولئك يشعرون شعور الواثق بأنهم سيجدون ولا ريب في هذا التراث ما يبعث إلى عالم اليوم الرازح تحت ظلمات المادة ضياء روحيا، هم وحدهم القديرون على بعثه من جديد لأن اتصاله بروحهم دون روح الغرب هو الذي يذكي ضياءه. ويوم يدفعون إلى هذا فسيتاح للعالم الإسلامي بموقعه الجغرافي بين الغرب والشرق وبين المسيحية والديانات الآسيوية أن يمد يدا إلى ناحية ويدا إلى الأخرى ليرتفع بهؤلاء وأولئك إلى ميادين الحضارة الصحيحة الحضارة التي تقوم على أساس الإخاء وتقول: إن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. الحضارة التي لا تعرف إسلاما لغير الله. ولا تعرف للحق حدودًا ولا لحرية العقل قيودا. والتي تنير ظلمات العيش بالرحمة والمؤخاة بين الناس جميعا أيا كانت أجناسهم وعقائدهم.