الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن: الفن للفن والفن المجتمع
…
لفصل الثامن: الفن للفن والفن للمجتمع؛ بين أحمد أمين وتوفيق الحكيم وعبد الوهاب عزام:
جرت مساجلة حول "مستقبل الأدب العربي" حيث أنشأ أحمد أمين في مجلة الثقافة عدة مقالات في هذا الموضوع تناول فيها ضرورة إنشاء أدب جديد يعنى بالإصلاح الاجتماعي وعرض للأدب الاجتماعي الأمريكي وهاجم الأدب الذي يعتمد على التراث القديم ويستوحي أساطير اليونان والرومان. ورد عليه "توفيق الحكيم" مبينا أن الأدب الباقي وهو الذي لا يرتبط بالأحداث ولا بالمشاكل الاجتماعية العامة؛ وإنما يبقى الأدب حين يتصل بالنفس الإنسانية.
وهاجم توفيق الحكيم دعوة أحمد أمين إلى "أخلاقية الأدب" وقال: إن الفنان ليس مطالبا بأن ترسم له الطريق وله أن يكون حرًا في عمله.
وكان توفيق الحكيم في هذا متأثرا بالنظرية الغربية التي تفرض فصل الأدب عن المجتمع هي نظرية تخدم الاستعمار والتغريب إذا قبلناها على علاتها.
أحمد أمين 1:
أول واجب على الأدب العربي في نظري أن يتعرف الحياة الجديدة للأمة العربية ويقودها. ويجد في إصلاح عيوبها ويرسم لها مثلها الأعلى ويستحثها للسير إليه. إن الأدب العربي إلى الآن تغلب عليه النزعة الفردية لا النزعة الاجتماعية. وأرى أن الأدب العربي يجب أن يتجه من جديد -بقوة ووفرة- إلى النزعة الاجتماعية حتى يعوض ما فاته منها ومستقبل الأمم العربية وحاضرها في أشد الاحتياج إلى الأدب الاجتماعي ينهض بها.
أطمع أن يكون لنا في الأدب العربي أمثال برناردشو في الأدب الإنجليزي وأنانول فرانس في الأدب الفرنسي وتولستوي في الأدب الروسي
1 العدد 275 مجلة الثقافة 4 أبريل 1944.
وأمثالهم ممن وقفوا أدبهم على خدمة المجتمع وأشعاره واستثارته إلى التسامي.
وهذا هو الأدب الأمريكي يحمل لواءه اليوم رجال مارسوا الحياة العلمية في شتى شئونها، ثم لم يكتبوا في خيال أو أوهام وأحلام. وإنما يكتبون أكثر ما يكتبون في مشكلاتهم المالية ومسائلهم اليومية وحياتهم الاجتماعية وأكثر هؤلاء لا يستوحون أساطير اليونان وإنما يستوحون مجتمعهم وما فيه وما يصبو إليه وللأديب العربي أن يستوحي امرأ القيس أو شهر زاد ولكن يجب أن يكون ذلك نوعا من الأدب لا كل نوع وهو النوع الغالب ولا هو الأرقي.
والذي أوقع الأدب العربي في هذا النقص أن الأدب ظل من ظلال الحياة الاجتماعية وللبيئة أثر كبير في تكوينه والأمم العربية قضت عهدًا طويلا في دور قوي فيه الوعي الفردي ولم يقوَ فيه الوعي الاجتماعي شأن الأمم كلها. ولكن الأمم الحية قطعت هذه الدور، وتعلمت الوعي الاجتماعي والأمم العربية لا يزال الوعي الاجتماعي فيها في حالة التكون لم يتم ولم يقو. فالوعي الاجتماعي يكون حيث يكون شعور أفراد الأمة بعلاقاتهم وخيرهم وتجاه تفكيرهم وإرادتهم لخير المجتمع بجانب الشعور بالتفكير والإرادة في أشخاصهم.
إن الأمم الشرقية في بدء عهدها بالوعي الاجتماعي يجب أن يكون لها أدباء يدفنون هذا الوعي العام إلى الإمام حتى يكمل وينضج.
توفيق الحكيم 1:
مع الأسف أراني مضطرا أن أقول: إن استيحاء أساطير اليونان والرومان
1 مجلة الرسالة عدد 562، 10 أبريل 1944.
وامرئ القيس و"شهر زاد" هو النوع الأرقى في الأدب، في كل أدب، لا في الماضي وحده ولا في الحاضر بل في الغد أيضًا وبعد آلاف السنين ما دام الإنسان إنسانًا، وما دام رقيه الذهني بخير لم يصبه نكاس. فالإنسان الأعلى هو الذي يصون "الجمال الفني" من الاستغلال في أي صورة من صوره. ويحتفظ به لمتعته الذهنية وثقافته الروحية. وأن اليوم الذي يرى فيه "الأدب" قد استخدم للدعايات الاجتماعية. والتصوير استغل في معارض الإعلان عن السلع التجارية، و"الشعر" جعل أداة لإثارة الجماهير في الانتخابات السياسية، لهو اليوم الذي نوقن فيه بأن الإنسان قد كر فانقلب طفلا يضع في فمه تحف الذهن وطرف الفكر لأنه لا يدرك لها نفسًا غير ذلك النفع المادي المباشر، والأدب الأمريكي الذي يعجب به أحمد أمين هو في أغلبه صحافة راقية أكثر مما هو أدب حقيقي. والأدب الحقيقي فيه هو ما استند إلى أساطير اليونان والرومان، أي مخلوقات الإنسانية التي أبدعتها أحلامها وخيالها الرائع.
فالخلاف بيني وبين الأستاذ أحمد أمين هو على معنى الرقي فأنا لا أسلم أبدا بأن رقي الإنسان هو في تقدم أسباب معايشه المادية، هذا حقا هو الرقي بالمعنى الأمريكي، ولكن الرقي بالمعنى الإنساني المثالي شيء غير ذلك. إن الإنسان الأعلى ليس ذلك الذي يضع كل شيء في فمه. ولكنه ذلك الذي يشعر بحاجته إلى متع معنوية وأغذية روحية وأطعمة ذهنية لا علاقة لها من قرب أو بعد بتطورات حياته المادية أو الجسمانية.
إن مطامع الناس شاءت أن تمتد أيديها الفانية إلى هذا الجوهر السامي لتسخره في شئون الأرض فرأينا الشعر والأدب يتجهان إلى غايات نفعية. فاستخدام الشعر أحيانا لمدح الملوك والأمراء من أجل المال والثراء، أو لنشر الدعوة في الدين والسياسة من أجل الثواب أو الجزاء. ولكن كلمة الفن هي العليا دائمًا.
ويملك ما لا يسلم به الأستاذ أحمد أمين فهو يعتقد الفن المسخر لخدمة الضرورات اليومية في المجتمع هو الفن الأرقى متأثرا ولا ريب بتلك النظريات الحديثة في السياسة والاقتصاد التي ترمي كلها إلى تملق الجماهير ومداهنة الدهماء ومصانعة الجماعات والنقابات ومسايرة الكتل والسواد من الناس والشعوب.
أما إذا كان في الإمكان وجود فن يخدم المجتمع دون أن يفقد ذرة من قيمته الفنية العليا فإني أرحب به وأسلم من الفور بأنه الأرقى.
ولكن هذا لا يتهيأ إلا للأفذاذ الذين لا يظهرون في كل زمان.
أحمد أمين 1:
إنه -أي الأستاذ توفيق الحكيم- قلب غرضي رأسا على عقب ونسب إلي ما لم أقل. إني دعوت إلى أن يكون من مصادر الأدب حياتنا الاجتماعية التي تحياها فيكون لها روايات تمثل بؤس الشعب وأغلالها والاستبداد بها وتعدو إلى حياة أسمى من حياتنا وإلى تكسير أغلالنا والثورة على الظلم الذي ينتابنا، فاستنتج من هذا استنتاجا عجيبا، إني أدعو إلى المادية، وإلى تسخير الأدب في خدمة العيش وإني أريد -على حد تعبيره- أن أستخدم الأدب للدعايات الاجتماعية.
لا يا أخي؛ فرق كبير بين الدعوة إلى أن يكون من مصادر الأدب الحياة الاجتماعية والوعي الاجتماعي وبين الدعوة إلى مادية الأدب وتسخيره للأغراض الوضعية، فالأدب الاجتماعي قد يكون في أسمى مراتب الروحانية.
1 مجلة الثقافة العدد 277، 18 أبريل 1944.
الحق أن في الأدب الفردي ما هو مادي وما هو روحاني، وفي الأدب الاجتماعي ما هو مادي وروحاني، فتعميك بأن الأدب الاجتماعي أدب مادي، وأنه هو الذي أقصده دون سواء، ظلم في الحكم لا ترضاه.
ولعل الخلاف الحقيقي بينك وبيني أنك تفضل الأدب الذي ينبع من الوعي الفردي على الأدب الذي ينبع من الوعي الاجتماعي، وأنك تفضل الأدب الذي يستوحي الحياة الاجتماعية الحاضرة وتفضل الفن للفن على الفن للمجتمع.
أو من الحق أن تستلهم الأدب اليوناني والروماني وتترك استلهام قومك وهم أولى بالاستلهام، ونحن أكبر تذوقا لما يستلهم منا وأشد انتفاعا به من غير أن ينقص الفن شيئا.
أيعجبك أن ينصرف الأدباء كلهم إلى وصف لوعة الحب والاستمتاع باللذة والتغزل في الخمر، ولا يتعرضون لمكبلين بالأغلال يجب أن يكفوا وإلى غارقين في الجهل يجب أن يتعلموا ومصابين بالخمول يجب أن ينشطو أو لاصقين بالأرض يجب أن يعلوا إلى السماء ثم تقول الفن للفن وماذا يضير الفن لو نظر إلى المجتمع فرفعه كما فعل برناردشو وتولستوي وأمثالهما.
توفيق الحكيم 1:
مناقشتنا تقوم في جوهرها على الرغبة المجردة في الوصول إلى غرض واحد. هو كيف نبلغ بأدبنا العربي قمة الكمال!
النية واحدة لا ريب. ولكن السبل مختلفة فأحمد أمين يرى أن أدبنا
1 الرسالة العدد 564، 24 أبريل 1944.
لن يصل إلى مرتبة الآداب الأوروبية إلا إذا خاض مثلها في طريق الحياة العامة. فنقد الفاسد من أوضاع المجتمع وقوم المعوج واقترح وسائل الإصلاح ونادى بالنافع من العلاج والمستحدث من النظم.
وهنا يجدر بنا أن نسأل: هل من الحق أن الأدب الأوروبي بلغ مبلغه بفضل نزوله معترك الحركات الإصلاحية، أو بفضل قيمته الفنية ومزاياه الأدبية.
الذي أعلمه هو أن أناتول فرانس أديب وأن برناردشو مؤلف مسرحي وأن تولستوي قصصي.
وتلك هي صفاتهم التي تؤخذ على سبيل الجد أما ميول فرانس وشو الاشتراكية ونزعات تولستوي الإصلاحية فهي نواح ينظر إليها تارة بغير احتفال وتارة أخرى على أنها توابع أو ظواهر ودلائل قد تفسر على ضوئها بعض أعمالهم الأدبية أو آثارهم الفنية.
لقد تحدث الأستاذ أحمد أمين في أكثر من موضع عن الرويات الغرامية وعرامة الحب بما ينم عن الازدراء. كم من المؤلفات المملوءة بالإرشاد والإصلاح.
قد نشرت وظهرت ولم تحتفظ بها ذاكرة الزمان ولكنها احتفظت بقصة غرامية أو قصيدة غزل أو رواية حب عارم. كلا؛ لا ينبغي علينا أن نملي على الفن اتجاها بعينه ولا يجوز لنا أن نوصيه بارتداء لباس الحكمة الرزينة أو رداء الإصلاح الوقور.
إن الآداب الأوروبية لم تحترم يوما فنانا أديبا لأنه مصلح، ولكنها قد تحترم المصلح إذا كان أديبا أو فنانا.
ونحن الشرقيين تبهر عيوننا دئما كلمة "مصلح" بقدر ما نستهين بكلمة فنان. إن الفنان ليس مصلحا ولكنه هو صانع المصلح. كل أولئك المصلحين ما كونهم وهيأهم لرسالات الإصلاح غير أدب الأدباء، وشعر الشعراء وفن الفنانين. وإن الفنان هو مصلح المصلح ولا شيء غير ذلك أما أن ينزل الفنان بفنه إلى الميدان فيناقش ويدافع ويهاجم وينافح، فهذا ما لم نره حتى الآن في فن استحق البقاء في أمة من الأمم أو حضارة من الحضارات.
أما أن يخدم الفنان والعالم أمته وقومه فهذا واقع بالبداهة والضرورة. لأن آثار الفن والعلم لا تبقى ولا يمكن أن تبقى إلا إذا رأى الناس في بقائها منفعة.
أحمد أمين:
إني أوافقك تمام الموافقة على أن الأدب أخلد من العلم، ومن النظريات السياسية والاجتماعية، والعلة في هذا أن الأدب متصل بالعاطفة والعواطف بطيئة التغير. أما العقل ففي تغير مستمر ورقي مستمر، فما يصلح له أمس لا يصلح له اليوم، وما يصلح له اليوم لا يصلح له غدا.
إن الأدب يجب أن يكون صورة للنزاعات كلها السامية منها والوضعية. أما أن يكون كله أو أكثره تصويرا للعلاقات الجنسية ففقر في الأدب، وضيق في الأفق.
إن أدب الأمة الحق ما صور الأمة وصور الحياة في مختلف نواحيها وكما أن الحياة الحقة ما انسجمت فيها نواحيها، فكذلك الأدب الحق ما انسجم إنتاجه، فإذا كان أدب أمة واسعًا عريضًا في الحب والعلاقة الجنسية ضيقا كذا فيما عداه فهو صورة مشوهة لا تمثل الواقع. إنكم مقررون أن كل شيء صالح
لأن يكون موضوع أدب إذا رددتم على من يطالبكم بناحية في الأدب جديدة، ولكن في موضوع واحد هو الحب والغرام.
وظيفة الأدب الحقة أن يغني نواحي الإنسانية ويرقي مشاعرها، ويعلي من مداركها ويوسع أفقها.
لعل نقطة الخلاف الحقيقية بين الأستاذ توفيق الحكيم وبيني هو أنه يريد أن يقدر الفن بجماله فقط وأريد أن أقدره بجماله وأخلاقيته معًا، وقلت: لا ينبغي لنا أن نملي على الفن اتجاها بعينه ولا يجوز لنا أن نوصيه بارتداء لباس الحكمة الرزينة. وهذا حق إلى حد ما ولم أرد فيما قلت أن أرسم منهجًا للأدب أحمل الأدباء على السير فيه ولو أردت ما استطعت1.
1 مجلة الثقافة عدد 279، 2 مايو 1944.