الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعركة الثالثة:
من محمد مسعود إلى شيخ العروبة 1:
ليس من الهنات الهينات ولا من تافه الأشاغيل أن يسوقك الحظ العاثر يوما إلى النزول مع شيخ العروبة في ميدان مناظرة وبحث لتقرير الحقيقة في شأن علمي.
ذلك لأنك إذا خضت معه هذا الغمار استهدفت لغمزات شتى من سنان قلمه الجارح، فمن من عليك وتعبير لك بأنك إنما من بحر علمه اغترفت إلى تشهير بك وانحاء باللوم والتعنيف عليك لأنك لم تؤد إليه صاغرًا إتاوة الشرك لقاء ما غمرك به من فيوض إحساناته العلمية، ومن تفاخر بأنه القابض وحده على مفاتيح التحقيقات العلمية واللغوية، والمالك لناحية البحوث الأفدلسية، والملهم في دياجير الأخطاء بالتوفيق لنور الصواب والحق، إلى اتهام لك بالجهل وانتحال علم ما لا يعلم. فهو يرى إذًا أن العلم وما يتصل به من تحقيق وتمحيص تراث أوصت له به الحكم الأزلية وميراث خلص له من غضون الأجيال السابقة. ليس لأحد من مخلوقات الله أن يرمقه بعينه أن يشرئب إليه بعنقه. وهذه هي الغاية لا متجاور بعدها للصلف وتصغير الخد وحب الأثرة التي جاء في ذمها ما لا يحصى من أحاديث شريفة وحكم بالغة نطق بها الفلاسفة وأرباب الدراية بالتربية النفسية والتثقيف العقلي.
وإذا أنت في مناقشتك إياه أخذته بالهوادة القائمة على أساس وطيد من أدبك العالي وخلقك الرضي الكريم فقلت له مثلا أنت سيدي وأستاذي وأنت نسيج وحدك في العلم ومنقطع القرين في الفضل، وبذلت له في هذه السبيل
الأشاغيل، إن فيه مسحة من التنافر اللفظي ويهيم على وجهه صائحًا صيحة الاستغاثة والاستعاذة إذ يقول: يا ستار يا ستار، لعن الله هذه الأشاغيل ناسيا أو متناسيا فيه مسحة التنافر اللفظي إنما كان حينما نهض لتأبين الشيخ علي يوسف في نوفمبر أو ديسمبر 1913 فوصف أمرا بأنه "بحت محت محض" فأضحك الحاضرين يومئذ في وجوههم وحزنهم.
أما هو فقد مضى في تأبينه راشدًا ومعتقدا أن تلك المترادفات خفيفة على اللسان سهل النطق بها وأنها من الألفاظ التي لا يجاريها في شرف جوهرها وحسن رونقها وشدة طلاوتها وحلاوتها غير قول الشاعر:
وقبر حرب في مكان قفر
…
وليس قرب قبر حرب قبر
أحمد زكي باشا؛ يا فتاح يا عليم:
أعتذر ولا أعني الأستاذ مسعود بوجه خاص. أما الاعتذار فلأنني قد كنت وسأكون بلا قصد سببا في تصديقهم بإرهاقي إياه على اقتاح ما لا طاقة له به من عويص المباحث ولا صبر عليه من غوامض الحقائق، وهو يريد أن يكتب دون مبالاة بالصواب ولا يرضى أن يزيد على فضائله العديدة: فضيلة الرجوع إلى الحق.
من أجل ذلك نراه يتناول القلم بعد أن يغوص في قعر القاموس ثم يأتينا بعجز الألفاظ الميتة وبجر التعابير الداثرة المندرسة. وأما الحقائق وأما البراهين فإنه يتهرب منها إلى هنا، وينفلت عنها إلى هناك، وله في ذلك براعة -يا لها من براعة- في مجافاة الحق الذي تقدم به إليه بصادع البرهان وساطع البيان. ثم هو لا يتورع عن تأييد الباطل بصنوف المحال ولا يتحرج عن التشبث بأفانين التقول والاختراع وسبحان الخلاق الذي جعله نسيجا وحده في هذا
الباب، فهو أستاذ بل إمام وله تلاميذ ومريدون بهم يستنصر ويستكثر، وهل يقام بناء من هباء على هباء؟
أما أنني لا أهنئه اليوم -اليوم فقط- فإنه لم يتفضل برعاية الأمانة، أف لهذه الكلمة، إنها ثقيلة على قلبه، والويل كل الويل لمن يذكرها له أو يذكره بها.
أقول: إنني لا أهنئه اليوم لأنه لم يتفضل بمراجعة وجدانه عن الفرق بين الغلطة المطبعية "رغم كل مكابر ومداور" التي تحديته إلى التفطن لها وبين ما خلقه له وهمه وخيل له وسواسه أنه "غلطة تاريخية".
إن الغلطة المطبعية هي التي تقع من صفاف الحروف ولا يتشبث بهذه الصغيرة من الصغائر إلا المتعسف المتعنت.
أما الغلطة التاريخية مثل أغلاط سيدي مسعود الكبير، فهي التي تؤاخذ بها الكاتب حتى يعترف بغلطه فيها من تلقاء نفسه أو بعد تنبيهه، فتكون له فضيلة الرجوع إلى الحق "العقبى لك يا أستاذ".
والسماط في دار العروبة ممدود لك، ولأهل الفضل في كل يوم مرتين فشرف أنت والأستاذ دياب ومن تريدان على الرحب ولك الفضل وله الحكم على أحدنا على الآخر فيما يتعلق بالغلطة المطبعية.
من أحمد زكي باشا إلى محمد مسعود:
"الحديث موجه إلى زكي مبارك":
الحق أنه -أي مسعود- بزني في الخطاب وأنه فاز في مديان الشتم والسباب وها أنا ذا أعترف له بذلك وأشهد أنك -أي مبارك- لحقت غباره بل إنك سبقته بأشواط.
ألا فليعلم أنني تعففت عن منازلة الأستاذ مسعود في التراشق بالقول الهراء ولا يجهل أن عجزي فيه لا يوازي سوى قسوة قلمي في تشديد النكير على أهل الدراية أو الذين أحسبهم منهم إذا ارتكبوا خطأ وأذاعوا ضلالا. ثم بعد إرشادي لهم.
أأنت ترى في سلوكي عن الأستاذ مسعود وقد خلا له الجو مضيعة الحق العلم الصحيح؟ أم هل الحقائق التاريخية والجغرافية داخلة تحت الشريعة السمحة والقوانين المدنية والجنائية حتى سقط بالتقادم أو مضي المدة.
كلا.
بل إن الأغلاط التي نبهت الأستاذ مسعود إليها فشتمني من أجلها لا تزال عالقة برقبته حتى يبررها بغير السباب أو حتى يرجع إلى الصواب الذي دللته عليه ولا غضاضة في الرجوع إلى الحق.
لقد جازف حين زعم بغير حق ولا تحقيق أنني أنا الذي ابتدعت كلمة إفريز للمعنى المغلوط المستعمل الآن في قولهم "إفريز المحطة" بل هو يعلم أو يتجاهل أن المرحوم الشيخ علي يوسف هو أول من استعملها بهذا المعنى فكانت مني مقاومة ومعارضة ومكافحة ولكن صوت "المؤيد" كان ولا يزال أعلى من صوتي فبقيت هذه الأغلاط شائعة بين أرباب الأقلام1.
ومن سوء حظ العربية أن يغلط الأستاذ مسعود في نقله الوصف الذي أعطاه الإدريسي لأبناء العم الثمانية الذين جازفوا باقتحام المحيط الأطلنطي. فالإدريسي يصف هؤلاء العرب الكرام بـ "المعزرين" وعلماء المستشرقين
1 البلاغ 29 ديسمبر 1932.
يتابعونه على هذا التعبير الصواب، أما الأستاذ مسعود فقد التبس عليه الأمر وكتب تحت "المغررون" بالقلم العريض ثم عاد في مقال ثان وكرر هذا الغلط "بزيادة الواو".
أيريد الناس برهانا عمليا على شرف الطباع ومحامد الأخلاق وعلى الاحتفاظ بكرامة الأدب في الجدل.
إذن فيسمع الأستاذ مسعود.
بينما كان هو مبالغ في شتمي والزراية بشأني على صفحات جريدة الأهرام طلب إلي أديب أن يكتب عن رواية ترجمها مسعود وظهر بها 300 غلطة في رواية. ولكني رجوته رجاء شديدًا وألححت عليه لما لي عنده من المكانة ألا يغفل.
كلمة أخيرة من محمد مسعود 1 إلى شيخ العروبة:
لشيخ العروبة في التعبير عن مراده أسلوب خاص لم يبره فيه أحد حتى الآن فقد جعل قوامه ادعاء الكمال لنفسه في العلم والفضل والزراية بالناس والتنقيص من أقدارهم حتى لقد رأيت الكثيرين يربئون بأنفسهم من منازلته في ميدان البحث خيفة أن ينقلب بهم إلى ميدان تراشق بالشتائم قد يصابون من لوئها بما لا يحبون.
وفي "البلاغ" كلمة بقلمه تعد مظهرًا جليا من مظاهر هذه النزعة التي أصبحت ديدنا له وشيعة يمتاز بها عن الكرام الكاتبين، وقد حاول فيها
1 البلاغ 7 يناير 1933.
أن يمسني برشاش ذلك الأذى إذ راح يحصي علي أغلاطا يقول: إنها وقعت في مناظرات بيني وبينه انقضى عليها نصف عام إلى عامين وشهرين، وكان قمينا به أن ينبري لتصحيحها في إبانها كما جرت به العادة بين المتناظرين ولكنه صبر طول ذلك المدى كي ينسي القراء موضوع تلك المناظرات التي خرج منها مدحورًا لا يستطيع لها ردًا ولا يجد عليها جوابا، فتتهيأ له الوسيلة لإيهامكم بأنه أخذ علي مآخذ لا تمت إلى مناظرات سابقة بصلة ما فيأمن عاقبة حكمهم عليه فيما لو كانت موضوعاتها بين أيديهم أو عالقة بأذهانهم.