المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السابع: معركة الخلاف بين الدين والعلم - المعارك الأدبية

[أنور الجندي]

فهرس الكتاب

- ‌مدخل

- ‌أولا: معركة مفاهيم الثقافة

- ‌ثانيا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌ثالثا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌الباب الأول: معارك الوحدة والتجزئة

- ‌معركة الوحدة العربية

- ‌مصر بين العربية والفرعونية:

- ‌معركة العروبة والمصرية:

- ‌الباب الثاني: معارك اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌تمصير اللغة العربية:

- ‌مجمع اللغة، ما هي مهمته

- ‌معركة الكتابة بالحروف اللاتينية:

- ‌الباب الثالث: معارك مفاهيم الثقافة

- ‌مدخل

- ‌ثقافة الشرق ثقافة الغرب:

- ‌معركة بين فيلكس فارس وإسماعيل أدهم:

- ‌لا يتنيون وسكسونيون: بين العقاد وطه حسين

- ‌النزعة اليونانية بين زكي مبارك وطه حسين:

- ‌كتابة السيرة" بين التاريخ والأسطورة:

- ‌كتابة التاريخ: بين رفيق العظم وطه حسين

- ‌معركة الترجمة: بين منصور فهمي وطه حسين

- ‌آداب الساندويتش: بين الزيات والمازني والعقاد

- ‌أدبنا: هل يمثلها؟ بين أحمد أمين وأمين الخولي

- ‌غاية الأدب: ما هي؟ بين زكي مبارك وسلامة موسى

- ‌متى يزدهر الأدب؟ معركة بين لطفي جمعة وزكي مبارك:

- ‌الأدب المكشوف: بين توفيق دياب وسلامة موسى

- ‌التراث الشرقي؛ يكفي أو لا يكفي؟: بين عبد الرحمن الرافعي وعباس محمود العقاد

- ‌ثقافة دار العلوم: بين أحمد أمين ومهدي علام

- ‌الباب الرابع: معارك الأسلوب والمضمون

- ‌الأسلوب والمضمون: بين الرافعي وسلامة موسى وطه حسين

- ‌أسلوب الكتابة: معركبة بين شكيب أرسلان وخليل سكاكيني

- ‌أساليب الكتابة؛ بين شكيب أرسلان ومحمد كرد علي:

- ‌الباب الخامس: معارك النقد

- ‌الفصل الأول: أسلوب طه حسين

- ‌الفصل الثاني: مقومات الأدب العربي

- ‌الفصل الثالث: مذهبان في الأدب:

- ‌الفصل الرابع: بين النقد الذاتي والموضوعي

- ‌الفصل الخامس: الأدب بين التجديد والانحراف

- ‌الفصل السادس: هل نقتبس أم نقلد

- ‌الفصل السابع: معركة فقدان الثقة

- ‌الفصل الثامن: الفن للفن والفن المجتمع

- ‌الباب السادس: معارك النقد حول الكتب

- ‌الفصل الأول: رسالة منصور فهيم الدكتوراه

- ‌الفصل الثاني: الخلافة وأصول الحكم

- ‌الفصل الثالث: معركة الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌نماذج من حملات المعركة:

- ‌تجدد معركة الشعر الجاهلي:

- ‌الفصل الرابع: كتاب "النثر الفني

- ‌الفصل الخامس: كتاب "أوراق الورد

- ‌الفصل السادس: كتاب ثورة الأدب

- ‌الفصل السابع: "كتاب" مع المتنبي

- ‌الفصل الثامن: معركة مستقبل الثقافة

- ‌الباب السابع: المعارك بين المجددين والمحافظين

- ‌الفصل الأول: معارك الرافعي

- ‌الفصل الثاني: معركة فضل العرب على الحضارة

- ‌الفصل الثالث: الدين والمدينة

- ‌الفصل الرابع: التغريب

- ‌الفصل الخامس: حقوق المرأة

- ‌الفصل السادس: معركة حول التراث القديم

- ‌الفصل السابع: معركة الخلاف بين الدين والعلم

- ‌الفصل الثامن: جمال الدين الأفغاني ورينان

- ‌الفصل التاسع: خم النوم

- ‌الفصل العاشر: بين النقد والتقريط

- ‌الباب الثامن: معارك بين المحافظين حول اللغة

- ‌المعركة الأولى:

- ‌المعركة الثانية:

- ‌المعركة الثالثة:

- ‌الباب التاسع: معارك نقد الشعر

- ‌الفصل الأول: بين شوقي ونقاده

- ‌الفصل الثاني: بين عبد الرحمن شكري والمازني

- ‌الفصل الثالث: إمارة الشعر

- ‌الفصل الرابع: ديوان وحي الأربعين

- ‌الباب العاشر: معارك النقد بين المجددين

- ‌الفصل الأول: بين التغريب والتجديد

- ‌الفصل الثاني: معركة الكرامة

- ‌الفصل الثالث: معركة الصفاء بين الأدباء

- ‌الفصل الرابع: معارك النقد

- ‌الفصل الخامس: بين زكي مبارك وخصومه

- ‌الفصل السادس: مبارك ينقد كتابه

- ‌الفصل السابع: بين العقاد وخصومه

- ‌الفصل الثامن: بين سلامة موسى وخصومه

- ‌الفصل التاسع: بين المازني وخصومه

- ‌الفصل العاشر: معارك أدبية؛ بين الدكتورين هيكل وطه حسين

- ‌الفصل الحادي عشر: معركة لقمة العيش

- ‌الفصل الثاني عشر: بين شباب الأدب وشيوخه

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌الفصل السابع: معركة الخلاف بين الدين والعلم

‌الفصل السابع: معركة الخلاف بين الدين والعلم

أثار الكتاب المجددون معركة الخلاف بين الدين والعلم، وهي واحدة من المعارك التي ركز عليها دعاة التغريب لبلبلة الأفكار وإثارة جو من الشكوك والشبهات وقد اشترك فيها الدكتور هيكل ومحمود عزمي وطه حسين وساجلهم الشيخ رشيد رضا، واتسع البحث ليشمل عديدا من الصحف غير السياسية وكتابا كثيرين منهم مصطفى عبد الرازق وفريد وجدي، وهاجمت السياسة رشيد رضا ورسمت له لوحة في مقالاتها "في المرآة" واتهمته بأنه كان صنيعة الخديوي والإنجليز وأنه جامل كرومر حين سب الإسلام وقال له: أنت تقصد إسلام اليوم ووجد في وثقائق الشيخ محمد عبده ما يرضي الخديوي فتقرب به إليه، وقال أنه عمل في الجريدة سفيها لا يشق له غبار وأعلن رشيد رضا إنشاء جمعية تجديد الإلحاد والزندقة والإباحة المطلقة ومضت سنوات في الصراع ثم حسم الدكتور هيكل المعركة بأن أعلن أنه لا صلة البتة بين التجديد والإلحاد.

"معركة بين رشيد رضا والمجددين":

بدأت المعركة في يونيه 1926 عندما كتب هيكل مقاله عن "الدين والعلم ورجال الدين ورجال العلم" ولكن الدكتور طه حسين أذاع أنه قد دخل المعركة عام 1923 ولخص رأيه في أن الدين" حين يثبت وجود الله ونبوة الأنبياء يأخذ الناس بالإيمان بهما يثبت أمرين لم يستطع العلم إلى الآن أن يثبتهما. فالعلم لم يصل بعد إلى إثبات وجود الله ولم يصل بعد إلى إثبات نبوة الأنبياء، وإذا فبين العلم والدين خصومة في هذين الأمرين يثبتهما الدين ولا يعترف بهما العلم.

"السياسة الأسبوعية 17 يوليو 1926:

وقالت الأهرام "26/ 12/ 1926" إن فريق المنتصرين للعلم على الدين يؤيدون نظريتهم بالتلميح لا بالتصريح، وأن المقصود بالدين العاطفة الدينية التي ترفع المخلوق إلى الخالق أيا كانت تفاصيل العقائد.

ص: 475

وقال "مصطفى عبد الرازق" إن الاتجاه العلمي الأخير إنما هو انتصار للدين "ولست من القائلين بأن العلم كان يوما من الأيام يناهض الدين. ومن الناحية الأخرى لم يحض الدين على منابذة العلم بل العكس، إن الإسلام يدعو إلى حرية البحث وصراحة التفكير والتسامح الذهني.

وقال "محمد فريد وجدي": إن شقة الخلافة بين الدين والعلم -وهي على ما هي عليه في حالتها الراهنة- بعيدة المدى وقائمة على أسباب غاية في الخطورة وما دامت هي محافظة على تقاليدها فلا يوجد في العالم ما يقرب بينها وبين العلم.

الدكتور هيكل: رجال الدين ورجال العلم

نحن1 لم نعرض للمسألة لنثير الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم. ولكن لننفي الخصومة بين الدين والعلم ولنثبت أن ما يحسبه البعض خصومة بينهما ليس في الواقع إلا خصومة بين الرجال الذين ينتسبون لكل منها وأنها خصومة غايتها التسلط والحكم قبل أن يكون لها أية غاية أخرى، ونفى الخصومة بين الدين والعلم وقال: قد يحتاج إلى بعض إيضاح للمسائل التي ناقش بها بعضهم رأينا، ونعتقد اعتقادا لا ريب فيه أن الذين باحثونا أو أرادوا مباحثتنا سينتهون إلى الاتفاق معنا اتفاقا تاما وسيسلمون، سواء كانوا من رجال الدين أو من رجال العلم بأن الخصومة بينهما مادية محضة، العلم لذاته منها بريء والدين لذاته بريء.

"الدين والعلم حقيقتان واقعيتان تاريخيتان في حياة الإنسانية، على أننا نبادر من الآن لنقول إنا لم نقصد بالعلم مجرد المعرفة وإنما قصدنا به

1 السياسة الأسبوعية 3 يوليو 1926.

ص: 476

العلم الوصفي أو الواقعي ولم نقصد بالدين ديانة خاصة بل قصدنا الأديان جميعًا من غير تفريق بينهما، ولو أنا قصدنا بالعلم مجرد المعرفة لكان الدين علما في رأي الواضعين الذين ينظرون إليه كواقعة اجتماعية تاريخية، لكان للعلم بعض آثار الدين الذي أحاط بكل شيء علمًا.

ثم تساءل هل الإسلام في هذا الموضوع على خلاف سائر الأديان لتناوله أمور الدين وأمور الدنيا فرجال الدين فيه هم لذلك العلماء وهل يسد العلم أبدًا حاجات البشر لأن أساس العلم والتطور والتجديد فلا يمكن أن يقف فيه باب الاجتهاد ولا يمكن أن يجمد رجاله!

الدكتور هيكل؛ الدين والعلم:

فأما1 الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم فخصومة قديمة لأنها خصومة على الاستئثار بالسطة وبنظام الحكم، أما الدين والعلم فلم يكن بينهما خصومة ولن تكون بينهما خصومة، لأن الدين يقرر المثل الأعلى لقواعد الإيمان التي يجب أن يأخذ الناس بها في حياتهم، والعلم يقرر الواقع في حياة الوجود ويترسم تطور الحياة في سبيل سيرها نحو ما يظنه الكمال.

والكمال الذي يدعو الدين إليه كمال مقرر القواعد والأركان لا يمكن أن يتغير أو أن يعدل والكمال الذي يظن أن الإنسانية تسير نحوه كمال ظني لا يستطيع العلم رسم قواعده لأن العلم يعرف بأن الإنسانية وهي بعض قليل من الوجود، خاضعة في تطورها ودورها لعوامل معروفة وأخرى ثابتة ولكنها ما تزال غير معروفة.

فإذا سمعت يوما أن بين الدين والعلم خلافا أو خصومة فاقطع بادئ

1 السياسة الأسبوعية 12 يوليو 1926.

ص: 477

الرأي بأن الخلاف والخصومة ليست بين الدين والعلم، ولكنها بين رجال الدين ورجال العلم وأن أساسها ليس في شيء من الدين لذاته ومن العلم لذاته ولكنه في سعي هاتين الطائفتين سعيًا صرفا ليكون بيدها الحكم والسلطان دون الأخرى.

إن الخلاف بين رجال الدين ورجال العلم إذن، وهي خصومة أساسها بعيد عن الدين والعلم، وقاعدتها حرص كل طائفة على الاستئثار بالسلطة وبنظام الحكم، وكلما تغلبت طائفة من الطائفتين على الأخرى قام منها رجال الأمر في الدولة.

ولم يكن فوز رجال الدين بالحكم ولا كان فوز طائفة من رجال العلم بالحكم راجعًا إلى الدين ذاته أو العلم ذاته بل كان راجعًا أبدًا إلى اعتقاد المجموع بصلاح واحدة من الطائفتين دون الأخرى لولاية شئون الدولة.

ولقد قضت العصور الحديثة منذ قرون ثلاثة في أوربا أن يتغلب رجال العلم على رجال الدين شيئًا فشيئًا حتى كان ما كان من فصل الكنيسة عن الحكومة في فرنسا في العهد الأخير الذي سبق الحرب الكبرى، وإنما تغلبت طائفة رجال العلم عندما نشأ من بينها المخترعون والاقتصاديون وهذه تركيا مثل قوى من أمثلة انقضاء سلطة رجال الدين في أمور الحكم وذهابها إلى غير عودة، ومصر من زمن بعيد تقف سلطة رجال الدين فيما يختص بالحكم ونظامه في حدود ضيقة وإن بقي لهم مقامهم واحترامهم الديني.

وليس محققا أن تبقى السلطة أبدا لرجال العلم فقد يأتي زمن يكون العلم فيه قد أنتج كل ما يستطيع إنتاجه فأصبح العلماء مجرد حفاظ للميراث الذي خلفه أسلافه وعقموا عن أن يبدعوا جديدًا.

ص: 478

على أن هذا اليوم الذي يجمد فيه العلم ما يزال في رأي الأكثرين بعيدا.

الدكتور طه حسين: العلم والدين 1:

من الحق أني فكرت في هذا الموضوع وكتبت فيه قبل صديقي هيكل وعزمي. وفي الحق أن السياسة اليومية قد نشرت لي في ربيع سنة 1923 فصلا غضب له مولانا الشيخ بخيت غضبا شديدا لأنه كان يمس مولانا الشيخ بخيت حين ألقى محاضرة في الرد على رينان.

وفي الحق أيضا أني كتبت في العلم والدين وما بينهما من خلاف فصلا آخر كنت أريد أن أنشره في السياسة إبان تلك الضجة العنيفة التي أثيرت حول الشعر الجاهلي ثم بدا لي فتركت هذا الفصل في زاوية من زوايا مكتبي.

وقد تكون الحالة جديدة في مصر ولكنها قديمة في أوربا.

إني أعلن في صراحة ووضوح أن العلم شيء والدين شيء آخر ومنفعة العلم والدين في أن يتحقق بينهما هذا الانفصال حتى لا يعدو أحدهما على الآخر وحتى لا ينشأ من هذا العدوان في الشرق الإسلامي مثل ما نشأ في الغرب المسيحي.

إن صيدقي هيكل يرى أن ليس بين الدين والعلم من خلاف وأن هذا الخلاف لا يمكن أن يكون، وإنما الخصومة بين رجال الدين ورجال العلم وهي خصومة على الحكم والسلطان لا على الدين والعلم.

أحب أن ألفت صديقي هيكل إلى أمرين عظيمي الخطر: الأول أن

1 السياسة الأسبوعية 17 يوليو 1926.

ص: 479

الدين حين يثبت وجود الله ونبوة الأنبياء يثبت أمرين لم يستطع العلم إلى الآن أن يثبتهما. فالعلم لم يصل بعد إلى إثبات وجود الله ولم يصل بعد إلى إثبات نبوة الأنبياء وإذن فبين الدين والعلم خصومة في هذين الأمرين.

ثم إن العلم لا ينفيهما أو هو لا يعرض بنفيهما أو إثباتهما، وإنما ينصرف عنهما انصرافا تاما إلى ما يمكن أن يتناوله بالبحث والتمحيص.

هذا أمر والأمر الثاني هو أن الكتب السماوية لم تقف عند إثبات وجود الله ونبوة الأنبياء، وإنما عرضت لمسائل أخرى يعرض لها العلم وبحكم وجوده لا يستطيع أن ينصرف عنها، وهنا يظهر تناقض صريح بين نصوص هذه الكتب السماوية وما وصل إليه العلم من النظريات والقوانين، وأمر ثالث هو أعظم من هذين الأمرين خطرًا وأبعد منهما في تحقيق الخلاف أثرًا ذلك أن العلم لم يقف عند هذا اللون من ألوان الخلاف وإنما طمع في أن يخضع الدين لبحثه ونقده وتحليله، وهو لا يحفل الآن بأن التوراة تناقضه أو لا تناقضه وإنما يزعم أن له الحق في أن يضع الدين نفسه موضع البحث وقد فعل.

وصديقنا هيكل لا يجهل أن العالم ينظر إلى الدين كما ينظر إلى اللغة، وكما ينظر إلى الفقه وكما ينظر إلى اللباس من حيث إن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يحدثها وجود الجماعة، وتتبع الجماعة في تطورها، وتتأثر بما يتأثر به الجماعة.

إذن فالدين في نظر العلم الحديث ظاهرة كغيره من الظواهر الاجتماعية لم ينزل من السماء، ولم يهبط به الوحي وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها.

ص: 480

وصديقنا هيكل قد قرأ فيما أظن كتاب "دوركايم" في الدين وهو يعلم أن دوركايم ينتهي من بحثه الطويل الدقيق إلى نتائج مختلفة منها أن الجماعة تعبد نفسها أو بعبارة أدق تؤله نفسها.

إن الدين في ناحية والعلم في ناحية أخرى وأن ليس إلى التقائهما سبيل ومن زعم للناس غير هذا فهو إما خادع أو مخدوع. والحق أن المخدوعين كثيرون وهؤلاء المخدوعون هم الذين يحاولون دائما التوفيق بين العلم والدين.

الدكتور محمود عزمي؛ الدين والعلم 1:

عرض صديقي الدكتور هيكل لموضوع خطير لم يعرض له باحث جدي في مصر، وقرر أن الخصومة إنما هي بين الرجال لا بين العلم والدين، وإنها خصومة من أجل الحكم والسلطان كما قرر أنه قد يأتي زمن يظهر منه من التعاليم ما يكون موقفه من العلم موقف العلم أول مرة من الدين يتمسح منه ثم يستقل إذ يحس من نفسه القوة والنشاط.

وعندي أن هذا الافتراض غير محتمل الوقوع ولا يمنعني من القول بأنه مستحيل إلا أن التعبير بالاستحالة ليس من الأسلوب العلمي في شيء كثير.

غير محتمل في اعتقادي أن يطغى غير العلم على اللعم، وأن يصبح أهل العلم بحيث لا يسدون حاجات الحياة والأحياء بأكثر مما يسدها أهل غير العلم من الناس.

وغير محتمل أن يأتي ذلك الزمن الذي يقول الدكتور هيكل أنه قد يأتي يوم يكون العلم فيه قد أنتج كل ما يستطيع إنتاجه فيصبح العلماء مجرد

1 السياسة الأسبوعية 19 يونيه 1926.

ص: 481

حفاظ للميراث الذي خلقه أسلافهم وعقموا عن أن يبدعوا جديدا".

ذلك بأن العلم الصحيح قائم على فكرة "التطور المستمر من ناحية والخلق باستمراره من ناحية أخرى" ومادام التطور قائما فلن يعرف أحد ولن تعرف قوة بكل المعاني الفلسفية لهذه الكلمة أن تحدد لهذا التطور مدى، وهكذا ترى محل العلم قائما محددا منشورا غير قابل للحد ولا للطي.

إذن فإن العلم باق وإن العلم خالد وإن العلم متطور تطورًا مستمرًا خالقًا.

التجديد والإلحاد؛ رشيد رضا:

نبتت1 في مصر نابتة من الزنادقة الملحدين في آيات الله الصادين عن دين الله، قد سلكوا في الدعوة إلى الكفر والإلحاد شعابا جددا وللتشكيك في الدين طرائق قددا منها الطعن في اللغة العربية وآدابها والتمادي في بلاغتها وفصاحتها وجحود ما روي عن بلغاء الجاهلية من منظوم ومنثور وقذف رواتها بخلق الإفك وشهادة الزور ودعوة الناطقين باللسان العربي المبين إلى هجر أساليب الأولين واتباع أساليب المعاصرين ومنهم الذين يدعون استبدال اللغة العامية المصرية بلغة القرآن الخاصة المصرية، والغرض من هذا وذاك صد المسلمين عن هداية الإسلام، وعن الإيمان بإعجاز القرآن فإن من أوتي حظا من بيان اللغة، وفاز بسهم رابح من آدابها حتى استحكمت له ملكة الذوق فيها، لا يملك أن يدفع عن نفسه عقيدة إعجاز القرآن بلاغته وفصاحته، وبأسلوبه في نظم عبارته. قد صرح بهذا من أدباء النصرانية الأستاذ جبر ضومط مدرس علوم البلاغة بالجامعة الأمريكانية في كتابه الخواطر

1 مقدمة إعجاز القرآن للرافعي.

ص: 482

لحسان وصرح بذلك أديب هذه الملة وبليغها الشيخ إبراهيم اليازجي الشهير وهو أبلغ كاتب أخرجته المسيحية وقد أشار إلى رأيه ذاك في مقدمة كتابه نجعة الرائد وكذلك سألنا شاعر التاريخ المسيحي الأستاذ خليل مطران ولا نعرف من شعراء القوم من يجاريه فأقر لنا بمثل ما أقر به أستاذه اليازجي، والأمر بعد إلى العقل والعقل ليس له دين إلا الحق والحق واحد لا يتغير.

وقد رأيت شيخنا الأستاذ الإمام يقرأ في كتاب إفرنسي اللغة لحكيم من حكمائها فكان ما قرأه علي منه بالترجمة العربية رد المؤلف على من قال من دعاة النصرانية أن محمد صلى الله عليه وسلم لم يأت بمثل آيات موسى وعيسى المسيح عليه السلام قال: إن محمدًا كان يقرأ القرآن مدلها صادعا متصدعا فيفعل في جذب القلوب إلى الإيمان به فوق ما كان تفعل جميع آيات الأنبياء من قبل.

الشيخ رشيد رضا في مرآة السياسة 1؛ بقلم عبد الحميد حمدي:

وددت لو أنني وفقت إلى معرفة تاريخ الليلة بل الساعة التي ولد فيها الشيخ رشيد رضا حتى أرصد الكواكب في تلك الليلة وأرى أي كواكب النحس اقترن به ذلك الرجل، ورحم الله الشيخ محمد عبده لقد كان أول من أصيب بشؤم هذا الرجل الذي لم يوفق رجل إلى الشؤم توفيقه إليه.

وقد حدث أن طعن لورد كرومر في ثورة طعنا جارحًا في الإسلام فهاجت لذلك خواطر الناس، فأبى المسلم الورع رشيد رضا إلا أن ينقذ الموقف، فبعث إلى كرومر بخطاب قال فيه: إنك ولا شك قصدت بطعنك الإسلام اليوم

1 السياسة الأسبوعية 21 مايو 1927.

ص: 483

لا الإسلام على حقيقته فما كان أسرع من كرومر أن يؤمن على الاعتذار ليهرب مما تورط.

وإليك بعض نوادر الشيخ في غير مصر: اتصل بجمعية الاتحاد والترقي التركية بعد إعلان الدستور فوقف منها موقف المداح الطبال يشيد باسمها ويغني بحمدها، حتى إذا أبى عليه زعماؤها وظيفة تركهم، وانقلب عليهم طعانا هجاء ثم اتصل بالرجميين من الأتراك فشأمهم وجرى عليهم من حكم الزمن ما جرى.

ووقعت الحرب الكبرى وأمر الملك فيصل على الشام فاتصل به صاحب المنار فقربه الرجل إليه حتى أوصله إلى أكبر مناصب دولته.

ثم اتصل بالملك حسين ملك الحجاز أبي فيصل فلما زال به حتى عزل عن العرش وشرد إلى المنفى، واتصل بمؤتمر الخلافة والناس يذكرون ما كان من أمر مؤتمر الخلافة وهذا هو السر في حملة الشيخ رضا على الأستاذ علي عبد الرازق.

وبعد فيستطيع الشيخ رشيد رضا أن يكون مسلما أو نصرانيًا أو يهوديًا أو بوذيا أو ملحدًا ويستطيع أن يكون كل هؤلاء جميعا أو لا يكون شيئا من هؤلاء جميعا ولكن شيئا واحدا لا يمكن الشيخ رشيد أن يكونه، بأن يكون صادقا في أي من هذه المذاهب اعتنق وفي أي منها نبذ.

رشيد رضا؛ جمعية تجديد الإلحاد والزندقة والإباحة المطلقة:

ألف الدكتور طه حسين أستاذ تجديد الإلحاد والإباحة بالجامعة المصرية غير الرسمية فالرسمية كتيبا كذب فيه نقله للغة العربية ورواة آدابها فيما ردده من شعوب العرب في عصر الجاهلية وزعم أنهم هم الذين وضعوا المعلقات السبع

ص: 484

وافتروها على امرئ القيس وطرفه، وقد ألقى هذا الكتاب دروسا في الجامعة المصرية الرسمية وربما يصدق الكثيرون من طلابها هذا الأعمى البصر والبصيرة فيما يكذب به علماء الأمة الإسلامية وكتاب ربها وحديث نبيها المعصوم فيما يريد به تجرد أمتهم من الدين واللغة والنسب والأدب والتاريخ ليجددهم فيجعلهم أمة أوروبية، بل طعمة للدول الأوروبية كما جدد نفسه وبيته بتزويجه امرأة غير مسلمة وتسمية أولاده منها بأسماء الإفرنج رغبة عن الأسماء العربية القديمة والجديدة واحتقارًا لها.

ومن الغريب أن عمد دعاة الزندقة في هدم مقومات هذه الأمة ومشخصاتها ووصفها بالقديمة وشبهتهم عليه أن كل قديم فهو قبيح يجب تركه، ومن المعلوم أن ما من قديم إلا وكان جديدًا ولا جديد إلا وسيكون قديما ومن لا قديم له لا جديد له بل لا وجود له، وإنما الأمم بتاريخها.

ومن عجيب أمر هؤلاء أننا نراهم يدعون إلى انتحال ما هو أقدم مما يذمون من قديم أمتهم كالأدب الإغريقي والشعر الإغريقي الذي هو دون الأدب والشعر العربي الجاهلي والإسلامي كما تراهم يعنون بتحقير آداب اللغة العربية ليجردوا الأمة من هذا الفضل المنطقي الذي يفضلها عن غيرها من الأمم ويثبت لها استقلالا خاصا بمقومات خاصة ومشخصات خاصة.

بين رشيد رضا وهيكل 1:

"الدكتور هيكل؛ لا صلة البتة بين التجديد والإلحاد":

"إن مسائل الأزياء واللغة والحضارة وما تخضع له من تطورات لا علاقة لها بالعقيدة على أن الاتهام بالإلحاد حتى في بعض مسائل تمس الدين يبدو

1 السياسة الأسبوعية 3 مارس 1929.

ص: 485

هو الآخر وليس فيه أكثر من صيحة حرب يقصد بها الظهور بالغلب أمام الجماهير".

هذا على أن الإلحاد لا علاقة له بهذه الشئون التي يتشدق بها من يرمون به غيرهم، يريدون أن يحاربوهم باسم الدين والخروج منه، فما نعرف أن للإيمان والإلحاد علاقة بزي اللباس وألفاظ اللغة ونوع الحضارة التي تحياها أمة من الأمم.

ومن المؤمنين من ينادي بتجديد الأزياء والأساليب وصورة الحضارة ومن الملحدين محافظين لا يريدون أن يتغير في اللغة حرف وأن تبقى الأشياء كما كانت من قرون.

بل أراني لا أغلو إذا قلت: إن التجديد أقرب إلى الإيمان منه إلى الإلحاد وهو كذلك في الإسلام بنوع خاص.

ولعل أشد الناس منادة بصيحة الحرب ضد التجديد وقرن الإلحاد إلى صيحتهم جماعة من إخواننا الكتاب يحسبون النقد موجهًا إلى أسلوبهم الكتابي لأنهم يلجئون إلى استظهار أساليب الأقدمين لا في ألفاظها وتراكيبها وكفى، بل في مجازاتها واستعارتها وفي وقوفها على الأطلال وبكائها وحدائها للإبل وذكرها الهوادج والصحاري وكثبان الرمل في ألوان غزلها ولهوها ومجونها.

يوجه النقد إلى هؤلاء ويرى الذين ينتقدونهم أن خير الأساليب ما تجاوب مع الحياة المحيطة بالإنسان وما أدى الصور والمعاني التي يراها ويشعر بها ويتخيلها مما يرى ويشعر ويجول بخاطره.

فبربك ما شأن هذا النقد بالعقيدة والإيمان!

ص: 486

ولم لا يكون الدعاة إلى الوقوف عند القديم من أساليب اللغة وألفاظها من هؤلاء الملحدين، ولم لا يكونون أشد منهم في الإلحاد إلحاحا؟

ولقد تعجب حين تذكر أن رجلا كالشيخ رشيد رضا مثلا كان متصلا اتصال تلمذة واتصال رزق بالمغفور له الشيخ محمد عبده حين كان رحمه الله يرمى بالزندقة والكفر والإلحاد ولا يتعفف هو عن أن يرمي الناس بالإلحاد.

من الخلط غير اللائق برجل يمسك القلم ويدعي لنفسه التفكير والتخيل أن يلجأ كاتب إلى هذا النوع السقيم من المنطق. لقد نفهم أن يقول هؤلاء من أنصار الأساليب والأخيلة القديمة والعائشين ما يزالون بين كثبان الرمل إن كل مسايرة للمدنية الغربية فيه باللغة وبأساليبها أضرار لكيت وكيت من الأسباب التي يسردونها، لكن ذلك شيء والإلحاد شيء آخر.

ولو أنهم استطاعوا أن يقفوا من أنفهسم موقف النقاد وأن يعرفوا مواضع القوة ومواضع الضعف من كتابتهم لمهد لهم ذلك السبيل إلى السمو فوق هذه المنازعات بين القديم والجديد.

لكن كثيرين لا يستطيعون هذا لأنهم يريدون أن يروا حولهم جمهورًا يصفق لهم ويشكون في أن يجدوا هذا الجمهور المعجب الضعيف للجيد الصالح مما يكتبون.

فهم لذلك يشنون الغارة باسم الإلحاد وتارة باسم المحافظة على اللغة طورًا.

مصطفى عبد الرازق 1:

إن الاتجاه العلمي الأخير هو انتصار للدين، ولست من القائلين بأن العلم كان يوم من الأيام يناهض الدين هذا من جهة، ومن الناحية الأخرى

1 الهلال يوليو 1931.

ص: 487

لم يحض الدين على منابذة العلم بل على العكس إن الإسلام يدعو إلى حرية البحث وصراحة التفكير والتسامح الذهني.

لقد كانت المودة بين المثقفين في القرن الماضي هي المصارحة بإنكار العقائد وللمثقفين مودة في كل جيل.

والعلم والدين اليوم يتماسان والفضل في ذلك يرجع إلى تفكير العلماء على النمط الفلسفي، فأصبح العلم اليوم يسلم بوجود ما ليس قائما أمام الحس، وذهب عصر البديهات وتغير وضع القواعد العلمية، وأصبح عصرنا هذا عصر يقين واعتقاد بالقوى الخفية، وقد أستطيع القول بأن العلم في الأيام المقبلة سيخطو نحو الدين خطوات جريئة لا يبعد أن تثبت إمكان وقوع المعجزة وفي الختام إن العلم يعزز الدين.

محمد فريد وجدي:

إن شقة الخلاف بين العلم والأديان وهي على ما هي عليها في حالتها بعيدة المدى وقائمة على أسباب غاية في الخطورة، ومادامت هي محافظة على تقاليدها فلا يوجد في العالم ما يقرب بينها وبين العلم مهما تكمل في تطوره فإن كل ما ينتظر من تكملة هذا أن يصل إلى إثبات وجود الروح وخلودها من طريق أسلوبه العملي المعروف، وهو إذا وصل إلى هذه الغاية عمل على متابعة طريقه ليبلغ إلى أقصى ما يعرفه عن علاقات بالوجود وعن خير الطرق لترقيها واتصالها بالملأ الأعلى، والناس كما لا يخفى تعودوا ألا ينقادوا إلا إليه فيصبح العلم زعيما للحركة الروحية كما هو زعيم للحركة المادية.

ولكن إذا انتهزت الأديان فرصة هذه الفترة الانتقالية وألقت من فوق أكتافها كل ما حملته من آثار الأساطير وبقايا القوميات، وما أحيطت به

ص: 488

الآراء والمذاهب والتأويلات وتجلت عاطفة نزاعة إلى أقصى درجات التكمل الأدبي غير مقيدة بأوهام بيئة ولا بأهواء قبيل، وغير خاضعة لسلطان طائفة، ولا تابعة لقيادة بشرية. قلنا إذا انتهزت الأديان هذه الفرصة، وتجردت من كل أعبائها البشرية اتفقت والنزعة العلمية بل اندمجت فيها وتوحدتا وبطل النزاع بينها.

ولزيادة البيان نقول: إن الأديان قد أخرجت من بساطتها الفطرية، وأصبحت ممثلة لآراء أهلها وحالاتهم خلال القرون وقائمة على حوادث محلية ولها وجهات نظر خاصة بها في العلوم والفنون، ومنطق مطبوع بطابعها للنظر والقياس والمعرفة فلا يعقل في حال من الأحوال أن تتفق والعلم، بل المنتظر أن تزداد شقة الخلاف بينهما اتساعا، ويقضي أحدهما على صاحبه قضاء لا قيام له بعده، وأنت خبير لمن يكون التغلب في هذا الصراع الذي طال أمده.

ص: 489