الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الحادي عشر: معركة لقمة العيش
أضخم معركة في تاريخ الأدب العربي المعاصر بين زكي مبارك وطه حسين:
هذه أضخم معركة أدبية دارت من جانب واحد بين زكي مبارك وطه حسين، واستمرت منذ 1931 إلى 1940 على مراحل متعددة منها الخصومة الفكرية ثم خصومة "لقمة العيش" حين أقصى طه حسين زكي مبارك من الجامعة، وأثار ذلك سلامة موسى وإبراهيم المازني ثم أصبحت خصومة حقيقية وصداقة تشوبها خصومة ممتدة كلما أنتج طه حسين شيئا أو كتب عن شيء، وجملة القول أن زكي مبارك ظل مشدود البصر إلى طه حسين طوال حياته منذ عرف الأزهر إلى الجامعة عام 1912 وحين ترك الأزهر إلى الجامعة 1916 ثم بعد ثورة 1919 واتجاه زكي مبارك إلى الجامعة نهائيا كاتصاله بطه حسين وعمله كسكرتير له ثم موقفه منه إبان أزمة الشعر الجاهلي وهو موقف يصفه زكي مبارك بأنه الرجل الوحيد الذي وقف إلى جوار طه حسين ودافع عنه وكتب في المقطم والأهرام يذود عنه خصومة، إلى أن أمره طه بأن يصمت حتى تمر العاصفة بسلام.
ويحرز زكي مبارك الدكتوراه من "الأخلاق عند الغزالي" ويهاجم "الغزالي" صاحب الإحياء رغبة في خلق جو من الشهرة، ثم يحاول أن يسافر إلى أوربا عن طريق الجامعة، فإذا حيل بينه وبين ذلك سافر عن طريق جريدة البلاغ، ثم يرى رأيا في النثر الفني يخالف رأي المستشرقين ورأي طه حسين ويقع الخلاف بينه وبين أساتذته في السربون ويصر على رأيه ويسجله في رسالة الدكتوراه "النثر الفني" ثم يعود إلى مصر مواصلا الحملة على آراء مسيو مرسيه كبير المستشرقين في السربون، وهنا يصدر كتابه النثر الفني فيلقاه الكتاب بالنقد ويساجلونه في آرائه، إلا أن الدكتور طه فهو الذي يشير إليه إشارة عابرة بأنه "كتاب من الكتب ألفه كاتب من الكتاب" ثم يقع المعركة بينهما، ويخرج طه حسين من الجامعة في إبان حكم صدقي ويدافع مبارك عن طه، ثم يتاح لزكي أن يعود إليها، مدرسا بكلية الآداب ويتغير الجو السياسي ويعود طه حسين ويرفض تجديد عقد زكي مبارك
وفصل طه حسين زكي مبارك من الجامعة فيهاجم طه حسين هجوما مرًا ويكتب تحت عنوان "لو جاع أولادي لشويت طه حسين وأطعمتهم لحمه" وجاء فيها "لقد ظن طه حسين أنه انتزع اللقمة من يد أطفالي فليعلم حضرته أن أطفالي لو جاعوا لشويت طه حسين وأطعمتهم لحمه ولكنهم لن يجوعوا ما دامت أرزاقهم بيد الله".
وتستمر المعركة بينهما طويلة لا تنتهي، ويصل فيها زكي مبارك إلى حد بعيد من الإسفاف ويرى النقاد أن هذه المعركة لها صلة بالتغريب ونفوذ المستشرقين وآرائهم وتبعية المثقفين الذين يتلقون دروسهم في السربون في ترويج آراء الغرب والإيمان بها ويقولون: إن آراء طه حسين في الشعر الجاهلي كانت آراء مسيو مرسيه وغيره، وأن زكي مبارك حين ناقض هذه الآراء إنما أراد أن يتحرر من سلطان المستشرقين الفكري والتغريبي ولذلك أغروا به طه حسين الذي فصله من الجامعة وألجأه إلى العمل في مجال آخر حتى يكون عبرة لغيره، ويرى بعض النقاد أن "الكرامة" التي حاول زكي مبارك أن يحتفظ بها إزاء طه هي التي صنعت الخصومة ويرون أن زكي مبارك تحول تحولا كبيرًا بعد هذه المعركة فهاجم آراء المستشرقين التغريبية وخالفهم وكشف عن تعمدهم في خلق الشبهات، ودعا إلى بعث أمجاد العرب وظاهر القومية العربية، ودعا إلى التعليم في الجامعة باللغة العربية، وقال النقاد: إن المستشرقين وأساتذة باريس وطه حسين يرون أن زكي مبارك رجل غير مصقول وعاق لأنه خان أمانته للتغريب والحضارة الغربية رسالة الفكر الفرنسي في تسميم الفكر العربي وهدمه والتقليل من شأنه وإثارة الشبهات حوله.
وترسم مجموعة مقالات زكي مبارك التي تضمها هذه المعركة، صورة
رجل طيب القلب كان يتطلع إلى أستاذه في وفاء ولا يرى أن معارضة رأيه تفسد ما بينهما من ود، فإذا بطه حسين ينتقم منه انتقاما عنيفا يحوله إلى إعصار عاصف، يأكل الأخضر واليابس.
ويرى زكي مبارك أن كتابه "النثر الفني" هو نقطة الخلاف، ولذلك يعلم يعلن "أن الدكتو طه علم اليقين أن كل نسخة توزع من كتاب النثر الفني" هي سهم مسموم يصوب إلى صدره وهو لذلك يتجاهل اسم المؤلف واسم الكتاب.
ويشير إلى رأي طه حسين فيه حين يصفه بأنه أي زكي مبارك "الرجل الذي لا يخلو إلى قلمه إلا وعلى رأسه عفريت" يقول مبارك: تلك كلمتك وأنا عنها راض وبها مختال فما هو العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي، إن كان ذلك فأنت تشهد لي بالعبقرية، وهل تكون العبقرية إلا من نصيب من يخاصم رجلا مثلك في سبيل الحق وما هي المنفعة التي أرجوها من مخاصمتك وأنت رجل يضر وينفع.
ويستطيل زكي مبارك في مساجلاته ويقول لطه حسين:
هل تذكر يا دكتور ما وقع في نوفمبر سنة 1919.
هل تذكر ما وقع يوم غاب سكرتيرك وكنت وحدي الطالب الذي يفهم العبارة الفرنسية لكتاب "نظام الأثينيين" لأرسطو.
هل تذكر أنك أعلنت سرورك بأن يكون في طلبة الجامعة المصرية من يفهم أسرار اللغة الفرنسية.
ويستعلي في مناقشة أخرى فيقول:
طلبته بالتليفون لأسأله عن معنى كلمة الزمالك وهو يقيم بالزمالك. فقال: لا أعرف يا دكتور زكي.
فقلت: إن الزمالك جمع زملك بضم الزاي وهي كلمة ألبانية والأصل فيها أن محمد علي أسكن جنده بتلك البقعة في مواسم الاصطياف والزملك هي الخيمة في اللغة الألبانية.
وقد هاجم زكي مبارك طه حسين في أمرين هامين:
الأول: رأيه في أن الأدب العربي يرجع إلى أصول فارسية ويونانية.
الثاني: رأيه في أن عقلية مصر عقلية يونانية1.
ومع ذلك فإن زكي مبارك يبدو منصفا لطه حسين مرتين، إبان أزمته الأولى من أجل كتاب الشعر الجاهلي والمرة الثانية عندما هوجم في مارس 1932 ونقل من الجامعة إلى وزارة المعارف وقد كتب زكي مبارك يقول:"وطه حسين هذا يزعم فريق أنه ملحد ويزعم آخرون أنه يدعو إلى الفسق والمجون، وأقسم بالله صادقا ما رأيت من هذا الرجل وقد صاحبته اثني عشر عاما إلا القلب الطيب والأدب البارع والخلق المتين".
بدأت المعركة بينهما بصفة جدية عندما أعيد زكي مبارك إلى الجامعة بعد إخراج طه حسين منها فلما عاد طه مرة أخرى رفض تجديد عقده وقال: أنا لم أستشر في تعيينه فكيف أستشار في تجديد عقده.
وكان ذلك دافعا له لكتابة مقالته النارية "طه حسين بين البغي والعقوق".
والتي قال فيها "إن عودتي إلى الجامعة لا تدهش لأني لم أعد إليها من
1 راجع الفصل الخاص بها في هذا الكتاب ص137.
عرض الطريق فقد ذكاني طه حسين للتدريس في الجامعة منذ تسع سنين، ثم اشتغلت بالتدريس إلى جواره ثلاثة أعوام".
وقال: إن إرادة فوق إرادة الدكتور طه هي التي أخرجته -أي مبارك- من الجامعة ثم عاتبه على أنه ذكر بأن عودة مبارك إلى الجامعة كانت مكرمة من "حلمي عيسى" وبعد فهذه فصول المعركة:
1-
زكي مبارك؛ "طلائع المعركة":
مرت1 المناقشات هادئة في هذا الكتاب "النثر الفني" ولم تستمر إلا حين اتصلت برجلين من كرام الرجال، هما المسيو مرسيه والدكتور طه حسين.
أما المسيو مرسيه فعالم واسع الاطلاع، وهو رأس المستشرقين الفرنسيين لهذا العهد، وكانت له آراء مدونة عن نشأة النثر الفني عن العرب، وما كدت أصل إلى باريس حتى هممت بمهاجمته فنصحني المسيو ماسنيون وأفهمني أنه رجل صعب المراس، وأن منزلته في المعهد العلمي عظيمة وأن المستشرقين جميعا يجلونه أعظم الإجلال، ولكن كتب الله أن لا أنتصح برأس المسيو ماسنيون، فابتدأت رسالتي التي قدمتها للسوربون بفصلين في نقض آرائه من الأساس فغضب الرجل وثار، وصمم على حذف الفصلين وصممت على بقائهما بحجة أنهما العماد الذي تنهض عليه نظريتي في نشأة النثر الفني.
وكأنما عز عليه أن أهاجمه في عقر داره فمضى يعاديني عداء خفيا كانت له أثار بشعة لا أتذكرها إلا انتقضت رعبا من عجز الرجال عن ضبط النفس وقدرتهم على تقويض دعائم الإنصاف.
1 من كتاب النثر الفني ص13 وما بعدها.
وقد قابلت خصومته بلدد أقسى وأعنف، ورأيت الحرص على آرائي أفضل من الحرص على رضاه فأبقيت الفصلين الذين أغضباه، وانتهينا إلى عاقبة أفصح عنها المسيو ماسنيون كل الإفصاح حين لقيته في باريس إذ قال:"إن المسيو مارسيه لا يحبك ولكنه لا يستطيع أن ينساك".
أما الدكتور طه حسين فما أدري والله ما ذنبه حتى يهاجهم أعنف الجهود في هذا الكتاب، إن هذا الرجل تربطني به ألوف من الذكريات، يرجع بعضها إلى العهد الذي كنت فيه طالبا بالجامعة المصرية القديمة يوم كان يصطنع العدل الذي يلبس ثوب الظلم في امتحان الطلاب، فقد ساعد مرة على إسقاطي في امتحان الجغرافيا ووصف الشعوب وأسقطني مرة ثانية في امتحان تاريخ الشرق القديم، والسقوط في الامتحان مما يحفظه الطالب المخلص لأستاذه المنصف.
ويرجع بعض الذكريات إلى العهد الذي كنت فيه مدرسا بالجامعة المصرية الجديدة، حين كنت أحمل إليه على أكتافي أحجار الأساس لنرفع القواعد من كلية الآداب.
وأدق ما يتصل بيننا من الذكريات منا وقع في ربيع سنة 1926 يوم ظهر كتاب الشعر الجاهلي؟ وثارت الأمة والحكومة والبرلمان، وكان أصدقاؤه وزملاؤه بين خائف يترقب، وحاسد يتربص، وكانت وحدي صديقه الذي لا يهاب وزميله الذي لا يخون.
ولكن حماستي للفكرة التي أدافع عنها، غرام الدكتور طه بنقضها في رسائله وأحاديثه ومحاضرته، كان مما حملني على مقاومته بعنف وقوة، حتى ليحسب القارئ أن بيننا عداوة سقيت لأجلها القلم قطرات من السم الزعاف حين عرضت لدحض آرائه من فصول هذا الكتاب.
اكتب هذا وقد شرق الدكتور طه وغربت ولم يبق بيننا إلا أطياف من الذكريات.
2-
طه حسين: النقد والطربوش وزجاج النافذة1
ذكرت النقد والطربوش وزجاج النافذة، واعتقدت أنا أو خيل إليك أني أعتقد، واعتقدت أنت أو خيل إلي أنك اعتقدت. واعتقد صديقي المازني أو خيل إلي نفسه وإلينا أن يعتقد أني قد أمتعت الرسالة وقراء الرسالة بفصل قيم أو غير قيم، قوامه الحديث عن النقد والطربوش وزجاج النافذة.
وتسألني ما بال الأستاذ المازني يقحم هنا إقحاما، وما خطبه مع النقد والطربوش وزجاج النافذة ومرق الفول النابت وماء المخلل وما يتبع هذا كله من الأشياء والأحياء. فأجيبك بأن هذا السؤال لا ينبغي أن يساق إلي وإنما ينبغي أن يساق إلى الأستاذ المازني فهو الذي تحدث عن هذا كله.
فهل تدري ماذا دفع الأستاذ المازني إلى أن يتحدث عن هذه الأشياء وعن هؤلاء الأشخاص فيثيرني إلى أن أتحدث عنه وعنها وعنهم؟
هو شيء يسير جدا، هو أنه أديب يقرأ في الكتب ويكتب في الصحف وينقد الكتاب والمؤلفين. وتتغير الأزمان وتتبدل ظروف الحياة، ولكن هناك شيء لا يتغير ولا يتبدل في حقيقة الأمر، وهو أن الأدب محنة يمتحن بها الأدباء.
1 الرسالة 26 مارس 1934
وقد امتحن الله صديقنا المازني ووفر له من نقمة الأدب وبلائه حظا عظيما فجعله شاعرًا مجيدا وكاتبًا بارعًا، لا يصدر كتاب إلا أراد الناس أن يعرفوا رأيه فيه وحكمه عليه.
وكان صاحب الكتاب نفسه أحرص الناس وأشدهم طلبا له وإلحاحا فيه، والكتب تمطر على الأستاذ المازني ويمطر منها طلب النقد وطلب التقريظ، والنقد والتقريظ يحتاجان إلى القراءة والدرس، وإذن فالمازني المسكين مصروف عن نفسه وعن فنه وعن كتبه إلا هؤلاء الذين يكتبون.
ومن هنا ومن جهات أخرى كان المازني شقيا بالأدب وإن كان الأدب سعيد بالمازني، وأي شيء أدل على شقاء المازني بالأدب وسعادة الأدب بالمازني، أقوى من هذه القصة التي أحدثك عنها الآن، فقد أخر "كاتب من الكتاب كتابا من الكتب" وأهداه إلى الأستاذ بالطبع، وعرف الناس أن هذا الكتاب قد أهدي إليه فأخذ الناس ينتظرون، وأخذ صاحب الكتاب بنوع خاص ينتظر، فلما طال الانتظار كان الطلب، ولما كان الطلب ولم يجد شيئا كان الإلحاح، واضطر المازني أن يذعن، وأكره المازني على أن يكتب ولكنه كان قد أرسل الكتاب إلى من يجلده فلما اشتد عليه الإلحاح ذهب في طلب الكتاب من المجلد فدفع إلى رحلة غريبة وإلى استكشاف أغرب دفع من هذه الأحياء المتحضرة التي تتسع فيها الشوارع والتي لا تتغطى أرضها بالوحل إلى أزقة ضيقة ملتوية فاسدة الهواء، تعيش فيها أجيال من المردة والشياطين وفي هذه الأزقة عرف المازني الخوف والفرق. ثم عرف قصة الرجل الذي يطلب كتابا ففقد طربوشه وعاد صفر اليدين. ولكنه السؤال الذي أحب أن أسأله هو: هل يظن المازني أنه أبرأ ذمته أمام القراء وأمام المؤلف
بهذا الفصل البديع الذي كتبه منذ أيام فحدثنا فيه عن النقد والطربوش وزجاج النافذة وعما تحمل الأرض من وحل وما تمطر السماء من مرق.
وسؤال آخر أحب ألا يغضب صديقي المازني حين أسوقه إليه، ما باله يطغى على نفسه ويسرف عليها في الطغيان ويصورها هذا التصوير الذي لا يلائمها بحال من الأحوال والذي لا نحبه لها، فهل من الحق أنه هياب إلى هذا الحد؟ كلا ولكنه يحب أن يعبث بنفسه فيسرف في العبث وأكبر الظن أننا إن حدثاه في ذلك ضاق بنا وسخر، وخشي أن لا يكون لشيء من هذا كله أصل ولا فرع كما يقولون، وأن يكون المازني قد أراد نقد الكتاب الذي طلب إليه نقده فمضى به الخيال، ومضت به الدعاية إلى هذه الأزقة الضيقة الملتوية يبحث فيها عن الكتاب وصاحب الكتاب، فلم تفد إلا أن فقد طربوشه وأضاع على صاحبه الشيخ زجاج نفاذته ولم يجن لنفسه ولا لصديقه المؤلف شيئا، وويل للكتاب والمؤلفين من دعاية المازني ومجونه، وويل للكتاب والمؤلفين من ألغاز المازني ورموزه بل ويل للمازني نفسه من طغيان خياله وجموحه فإن في هذا الجسم النحيل الضئيل، جسم هذا الرجل الهادئ الوديع ماردًا لا كالمردة وشيطانا لا كالشياطين.
3-
من زكي مبارك إلى طه حسين:
أنا أعرف الدكتور طه حسين1 أقسم جهد اليمين ليمسخن كتابي مسخا وليمحونه من الوجود وليصيرن اسم زكي مبارك مرادفا لاسم عيسى بن هشام، اسمع ما يقول الدكتور طه حسين:
1 البلاغ 30 مارس 1934.
"أخرج كاتب من الكتاب كتابا من الكتب" فمن هو الكاتب وما اسم ذلك الكتاب، لعلكم فهمتم أن الرجل طوى اسم كتابي فاستطاع بذلك أن يمحوني وأن يجر على كتابي ذيل البستان، ولم لا يفعل ذلك وهو يتوهم أنه يرفع أقواما ويخفض آخرين، وأن المؤلفين لا يعرفون إلا إذا زكاهم وأثنى عليهم.
سألت جميع الناس أن ينقذوا كتابي "النثر الفني".
لقد سألت فلانا وفلانا
…
وكان الدكتور طه هو الرجل الوحيد الذي لم أسأله على الإطلاق فكيف تخطيته مع أنه يكتب كل يوم.
تخطيته لأنه يقدر على كل شيء إلا الإنصاف، وهو لا ينصف حين ينصف إلا لحاجة في النفس، وقد قطعت بيني وبينه الأسباب منذ اعتزمت كشف ما تورط فيه من الأخطاء، والرجل لا يرضى إلا عمن يؤمنون بأن باطله أشرف من الحق وأن خطأه أفضل من الصواب.
يا دكتور طه!:
أنا ما أسأت إليك بل أحسنت إليك بعض الإحسان حين دللت القراء على أنك لم تبتكر ما تورطت فيه من الأخطاء، وإنما أخطأ جماعة المستشرقين فتبعتهم بلا روية، فكان عليهم إثم السنة السيئة وكان عليك إثم التقليد.
كنت أنتظر أن تفرح بكتابي لأنه كما تعلم جهد أعوام طوال، لكن خاب الظن وعرفت أنك وسائر الناس تغضب وتحقد، وكنت أرجو أن يكون عندك شيء من تسامح العلماء.
تعال نتحاسب يا ناسي العهد ويا منكر الجميل، لقد مرت أعوام لم يكن
يذكرك فيها بخير أحد غيري، هل كان في أصحاب الأقلام من انبرى للدفاع عن طه حسين غير تلميذه وصديقه زكي مبارك، لقد ذكوتك بالخير في جميع مؤلفاتي، فهل يضيع عندك كل هذا المعروف لأني بددت أوهامك في كتاب النثر الفني.
كان في همي دائما أن أحرص على واجبات المروءة، وقد رأى الدكتور موقفي يوم أخرجه وزير المعارف من كلية الآداب، فقد دافعت عنه في البلاغ دفاعا ما كان ينتظره ولعله قد دهش منه وكنت في محضره ومغيبه من المنافحين عنه، لأن المروءة كانت تطالبني بذلك
…
أفيعجز الدكتور وهو أكبر مني سنا وأرفع صوتا عن مقابلة المروءة بالمروءة.
لقد كان يجب أن يكون الضمير العلمي أقوى من أن تؤثر فيه الأحقاد اليومية وكان يجب أن يكون العلماء أرفع من أن يخضعوا للأهواء والشهوات وكان الدكتور طه أولى الناس وأجدرهم بأن يتخلق بالخلق الجميل.
4-
زكي مبارك: "طه حسين بين البغي والعقوق" 1:
لقد ذهبت أنت فأتممت دراستك في باريس وذهبت أنا فأتممت دراستي في باريس فهل تعلم ما الفرق بيني وبينك؟ اسمع أيها الصديق القديم البالي: ذهبت على نفقة الجامعة ومضيت أنا متوكلا على الله فأنفقت ما ادخرت من عرق الجبين، واتصلت أنت بالمسيو كازانوفا ففرض عليك آراءه فرضا ولم تكن رسالتك عن ابن خلدون إلا نسخة من آراء ذلك الأستاذ، اتصلت أنا بالمسيو مرسيه ففرضت عليه آرائي فرضا واتصلت بيننا وبينه الخصومة
1 البلاغ 23 نوفمبر 1934.
فأذاني إيذاء شديدًا، ولكن قناتي ظلت صلبة واستطعت أن أقوض كبرياءه في عقر بيته وفوق كرسي السربون.
ولم تمر هذه المعركة بلا غنيمة، وقد وقف المسيو ماسنيون يوم أديت امتحان الدكتوراه وقال:"إنني حين أقرأ أبحاث طه حسين أقول هذه بضاعتنا ردت إلينا، وحين أقرأ أبحاث زكي مبارك أشعر بأنني أواجه شخصية جديدة".
فإن كنت في ريب من ذلك فاسأل من حضروا امتحاني في السربون وكانوا مئات، وفيهم مدير البعثة المصرية في باريس.
لقد اشتغلت أنا بالصحافة واشتغلت أنت بالصحافة، وإليك الفرق بين الشخصيتين، كنت أنا رئيسا لتحرير جريدة الأفكار، وكانت تدافع عن مبادئ الحزب الوطني وكان يشرف عليها عبد اللطيف بك الصوفاني فكنا نختلف ونختصم كل صباح لأني كنت آبى أن أكتب غير ما أراه من التعليقات السياسية، وأنت اليوم رئيس تحرير جريدة وفدية فهل تدري ماذا تصنع!
تدخل إلى مكتبك فلا تكتب سطرا قبل أن تتصل تليفونيا بهذا أو ذاك لتتلقى الوحي ثم تكتب ما يلقى عليك وكأنك الببغاء.
اشتغلت أنت بالتأليف واشتغلت أنا بالتأليف وإليك الفرق، مضيت أنت فانتهبت آراء المستشرقين وتوغلت فسرقت حجج المبشرين وكان نصيبك ذلك التقرير الذي دمغتك به النيابة العمومية، وأنت تعلم أن ليس لك رأي واحد وصلت إليه بعد جهد وبحث.
واشتغلت أنا بالتأليف فكانت آرائي مبتكرة ولم يستطع أحد
أن يتهمني بالسرقة من فلان أو فلان كما اتهموك بالسرقة من جميع الناس. ومؤلفاتك تموت يوم تولد، ولك أن تسأل لجنة التأليف لتخبرك أن كتاب الأدب الجاهلي لم يبع منه شيء بعد النسخ التي فرضتها أنت على طلبة كلية الآداب.
ثم رأيت مائدة الوفد أشهى من غيرها وأمتع فذهبت وقدمت إليها نفسك وهددت الدكتور بكشف أسرار الدستوريين.
كنت لوحة إعلانات لا تذيع الرأي إلا لتغيظ الجمهور لتصبح حديث الناس في الأندية والمجتمعات.
أعلنت بعد إخراج الشعر الجاهلي نداء قلت فيه: "أشهد أني أؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر" أنت تؤمن بالله وكتبه يا دكتور طه وأنت تكذب التوارة والقرآن اعتمادا على رأي خاطئ سرقته من أحد المبشرين.
أنت لم تترك حزبا إلا خدمته ولا جريدة حكومية إلا توددت إليها بعدد عديد من الرسائل الطوال.
5-
زكي مبارك: الجديد في دم الأديب1
سترون أن أبلغهم أثرا في نفس الجماهير وأقدرهم على أسر القلوب وغزو العقول واحتلال النفوس هم الأدباء الذين ابتلتهم الحياة بصنوف من الأرزاء، وعرفوا كيف تقسو الحياة؟ وكيف تلين؟ أولئك هم الذين يكتبون وفي كل حرف سر ظاهر أو غرض دفين، أما الأدباء المدللون الذين حبتهم الدنيا
1 البلاغ 25 يوليه 1935.
بألوان من الترف والنعيم فهم ينظمون ويكتبون وكأنهم يلعبون، وليس للألاعيب في عالم الأدب بقاء. الحياة هي كتاب الأديب ومن حظه أن يعرف البؤس والشقاء وأن يدرك كيف يكون الضجر والاكتئاب؟ وأن يشهد بعينيه كيف يرتفع السفلة والأغبياء؟ وكيف يطيش الحظ الأهوج فيظلل بجناحيه رءوس المحررين من أهل الجاه المزيف والمجد المكذوب؟
والأديب الذي يتهيب الحياة ويخاف مجاهلها هو أديب رخو ضعيف ليس أهلا لمجد القلم ولا شرف البيان، الأدب الصادق ليس إلا حومة قتال ولكن أي قتال؟ قتال في سبيل الحق والخير والجمال. والحياة لم تكن يوما دار سلام، وإنما السلام في المقابر، فمن أراد أن يستريح فليمت أما الأحياء فقد كتب عليهم أن يناضلوا ويقاتلوا ويصاولوا ما بقي فيهم عرق ينبض وقلب يثور، فإن جنحوا للسلم فقد استلموا إلى سكرات الموت وبئس المصير، خذوا وحيكم من الحياة يا طلاب الأدب، وتذكروا دئما أن وقود عقولكم وقلوبكم لا يكون إلا من الألم ومن الصدق.
الأدب الصادق هو الذي يحمي صاحبه من بريق الزيف والبهرج ويصونه من الخضوع لأرباب الألقاب، وإن أديب واحد بهذه الخلال أجدى على الأدب من ألوف الأدباء.
6-
أول هجوم سافر على طه حسين 1:
أما الأحقاد التي تتلظى في صدر طه حسين فستقضي عليه شر قضاء وتنكل به تنكيلا ولن تدوم له أيام الطغيان، ولن يبقى له فلان وفلان، والكرسي الذي يجلس عليه في الجامعة هو أقل ما أنتظره من الجزاء في المستقبل
1 البلاغ 15 أغسطس 1935.
القريب، إن أعظم منصب في الجامعة لا ينيلني من المجد ما أنالني كتاب النثر الفني، ستفنى أحجار الجامعة المصرية وتبيد ذكرياتها ثم يبقى ذلك الكتاب على مر الزمان والذين يحاربونني لم يطمعوا في محاربتي إلا لظنهم أني رجل أعزل لا أنحاز إلى حزب من الأحزاب وليس لي في الحكومة عم ولا خال، ولكن خاب ظنهم فإن الحق أعز وأقوى وسيرون كيف أزلزل أرواحهم وكيف أملأ قلوبهم بالرعب وكيف أريهم عواقب ما يصنعون.
إن النصر سيكون حليف من يصلون النهار بالليل في تثقيف عقولهم، أما الثرثرة الفارغة التي يعتصم بها طه حسين فلن يكون لها في عالم الجد بقاء.
7-
زكي مبارك: كيف هاجمت طه حسين1
1-
إني بدأت أناوش الدكتور طه حسين منذ سنين حين تبين أنه كالطبل الأجوف وأنه لا يعرف من تاريخ الأدب العربي إلا قشور عديمة المحصول وكنت كلما هاجمته تخذل وضعف وخشي عاقبة النضال، ثم اتفق أني عينت في الجامعة المصرية فبدا له أن يتشجع ويناوشني ظنا منه أني أخاف المناوشات احتفاظا بمنصبي في الجامعة ودفعا لمغبات القتال، فأمهلته قليلا وتركته يصول في مناوشتي ويجول وكذلك أمليت له حتى جاءت، الموقعة الحاسمة يوم عين نجيب الهلالي وزيرا للمعارف وكان يعرف الصلة التي بينه وبين نجيب الهلالي وفي هذا ما هوى المحالفة بين رجلين لهما خصم لا سند له بين الأحزاب ولا عم له في الحكومة ولا خال.
في تلك الأيام أراد طه حسين أن يناوشني وكان يثق أني سأسكت فلا أجيب ورأى فريق من زملائي في الجامعة أن أتسامح مراعاة للظروف،
1 البلاغ 26 أغسطس 1935.
فأقسمت لأقذين مشرع حياته ولأجعلنه مثلا في الآخرين وكذلك كتب مقال "طه حسين بين البغي والعقوق" الذي أبكى طه حسين بالدمع السخين وكان يظن أنه لن يعرف البكاء وعاد طه حسين إلى الجامعة في زفة لم يسمع بمثلها منذ كان يسكن في كفر الطماعين، وظن الناس أني سألاينه ولكن هيهات فقد تجاهلت عودته سبعة أيام إلى أن جمع بيننا مجلس قسم اللغة العربية.
في تلك الأثناء أراد الشيخ أمين الخولي أن يصلح بيننا فعرض الفكرة على الدكتور طه فقبل وعرضها علي فقبلت وكنت أرى أن الصلح خير وأن الزهد فيه بغي وعدوان.
وكنت أحسب أن الصلح لن يزيد عن المصافحة وتبادل التحيات ولكني فوجئت مفاجأة لم تخطر على بال، فإن الأستاذ أمين الخولي انتظر حتى اجتمع بعض الزملاء ثم نهض فقال: هذه أول جلسة يحضرها الدكتور طه حسين بعد عودته وأنا أقترح أن تلقى كلمة ترحيب وأفضل أن يلقيها الدكتور زكي مبارك لأن بينهما أشياء يجب أن تزول.
وكان موقفا في غاية الحرج ولكني تحفظت، إذ كنت أعرف أن العداوة التي بيني وبين الدكتور طه يصعب أن تزول، ومن الحزم أن لا أقول كلاما ينطوي على تودد أو ترفق فوقفت وقلت:
إني أرحب بعودة الدكتور طه وقد زاملته من قبل من ثلاث سنين، وكنت من قبل ذلك من تلاميذه الأوفياء، والذي وقع بيني وبينه لم يكن فيه شيء جارح إلا المقال الذي نشرته في البلاغ، وهو مقال أعرف بأن فيه شيئا من الشطط ولكني لا أعتذر عنه لأنه من بعض ما علمني، ومن الخير
أن نتناسى ما فات لأن مصلحة العمل توجب الوفاق، وقد ابتسم الأساتذة حين ذكرت أن الشطط كان من بعض ما علمني وعدوها خطبة لبقة فيها ترضية وفيها احتراس، وبعد أيام دار طلبة الجامعة على الأساتذة يطالبونهم بدفع قيمة الاشتراك في تكريم الدكتور طه، وكانت خمسين قرشا وهو مبلغ زهيد ولكني رأيت من الأشرف أن لا أدفع خمسين مليما في تكريم شخص مثل طه حسين.
فلما طالبوني بالاشتراك أبيت وكانت حجتي أني لا أحب أن أهجو رجل وأكرمه في أسبوع واحد، وكذلك عصمت نفسي من هذا التكريم.
وبعد شهرين من ذلك التاريخ أقام طلبة قسم اللغة العربية حفلا لتكريم طه حسين وجاء تلاميذي فرجوني أن أحضر ذلك الاحتفال ودعيت للخطابة فألقيت كلمة حازمة في الموازنة بين أساتذة دار العلوم وأساتذة كلية الآداب وكان في تلك الكلمة درس نافع، قلت: إني أوجهه إلى نفسي وإلى تلاميذي وإلى الدكتور طه إن شاء ومع ما في تلك الكلمة من إيذاء الدكتور طه فقد قابلها الطلبة بالتصفيق والإعجاب لأني ألقيتها في حزم وإخلاص.
2-
أما موقفي في جلسات قسم اللغة العربية فكان دائما موقف المعارضة الصريحة لنزعات طه حسين، وكان لا يسلم مني إلا بأخذ الأصوات، وكان أساتذة اللغة العربية لا يرون فائدة في معارضته إذ كانوا يعرفون أن كل شيء مصيره إلى هواه بفضل الوسائل التي يعرفها الجميع.
3-
لا أنكر أني أسرفت ولكن الأيام أرتني أن الحزم كان أوجب ولولاه ما استطعت الآن أن أناقش من يزعم أني قابلت الدكتور طه حسين بالترحيب وأنه مع ذلك لم ينس ما كويت به جنبيه من قوارع التثريب ولم
يغفر ما كشفت من سرقاته وكان الناس يحسبونه من المبدعين.
وفي أوائل شهر مايو دعاني الأستاذ الدكتور منصور فهمي إلى مكتبه وقال: أرسلت إدارة الجامعة تسأل عن تجديد العقد والنظام يوصي بأخذ رأي الدكتور طه حسين فاذهب يا بني وصف ما بينك وبينه وسأحفظ الخطاب حتى يتم بينكما الصفاء فأجبت الدكتور منصور فهمي بما نصه: "أنا على أتم استعداد لتصفية ما بيني وبين الدكتور طه ولكني لا أفعل ذلك في هذه الأيام، ولو أنك اقترحت ذلك منذ شهرين لقبلت، أما الآن فلا تسمح نفسي بمصافحة الدكتور طه وأنا أعلم أن لذلك دافعا من الغرض ومع ذلك ما الذي يزعجك يا سيدي العميد؟
أتظن أن الدكتور طه يتحين هذه الفرصة ويتشفى مني، إنه أعقل من أن يقترف مثل هذا الانتقام المفضوح.
فابتسم الدكتور منصور ابتسامة مرة وقال: أنت يا بني تسرف في حسن الظن بالناس.
وفي المساء الذي اختلفنا فيه بتكريم لطفي بك في فندق ميناهاوس تلفت فرأيت الدكتور طه فصافحته، وكان معه الدكتور حسن إبراهيم فوجه إليه الكلام قائلا: الدكتور زكي تلميذك وهو يحبك يا حضرة الأستاذ.
فقلت: أما إني كنت تلميذ الدكتور فصحيح ولكني لا أحبه وهو لا يستحق مني غير البغض.
فتكلف الدكتور طه الابتسام وقال: ألا أستحق منك غير البغض يا دكتور زكي؟
فقلت: أنت تعرف أن مودتنا كانت أطهر من الماء، وتعرف كيف
فتحت أذنيك للدساسين فأفسدوا ما كان بيننا إفسادًا لا يرجى له صلاح، ومزية زكي مبارك أنه لا يجامل ولا يصانع فأعرف الآن أن ما بيننا قد انقضى وأنك كنت من الآثمين".
والقصة معروفة فقد رفض طه حسين تجديد عقد الدكتور زكي مبارك وأخرجه من الجامعة وبدأت الحملة.
8-
مقالات مجلة الصباح 1:
الذي بيننا لم يكن خلافا في الرأي وإنما هو قتال عنيف بين شخصين، فالدكتور طه يرى أنني كنت تلميذه ومن واجب التلميذ فيما يزعم أن لا يخالف الأستاذ، وأما أنا فأرى الدكتور طه رجلا قليل العلم والمعرفة بالأدب العربي، وأراه استمرأ السطو على آراء المستشرقين وأراه في حياته العلمية نموذجا للفوضى والقلق والاضطراب، قد تقولون: وكيف سكت زكي مبارك عن نشر عيوب طه حسين وهو يصاحبه منذ خمسة عشر عامًا وأجيب بأن الدكتور طه ابتدأ التدريس في الجامعة المصرية قبل أن يقدم الدراسات الأدبية فكان منذ سنين مستور العيوب، على أن الخواص يعرفون أنني بدأت أعارضه منذ 1927 حين اطلعت على عجزه الفاضح وعرفت أنه يعيش من سرقة آراء الأدباء والعلماء.
وأنتم تعرفون أني رجل صريح لم تستطع الأيام أن تروضني على المجاملة والمداراة فلم يكن بد من أن يعرف الدكتور طه أنني لا أحترمه ولا أحترم مسالكه الأدبية ولا أحترم تهافته الفاحش على موائد الأحزاب، وكذلك هدته غريزته إلى وجوب محاربتي في عملي في الجامعة وساعده على ذلك ناس كنت شجًا في حلوقهم، وكان هو في أنفسهم مثال الخادم الأمين.
1 قدم الدكتور زكي مبارك حملة أخرى في مجلة الصباح بدأت في 23 أغسطس 1935.
فإذا كان الدكتور طه قد انتصر حين وجد من يساعدونه على إخراجي من الجامعة فليذكر وليذكر من عاونوه على شفاء صدره أن انتصارهم ليس إلا هزيمة شنعاء وسوف يعلمون.
9-
مثال من جهل طه حسين 1:
لقد انكشف أمر طه حسين منذ أصدرت كتاب النثر الفني فقد بينت أغلاطه وسرقاته، وتحديته أن يدافع عن نفسه، فتخاذلت قواه ولم يملك الجواب وعرف الأدباء في المشرق والمغرب أنه لا يملك شيئا أصيلا، وأن مؤلفاته ليست إلا هلاهيل انتزعها من كلام الناس، وأن ما يدعيه من الآراء ليس إلا صورًا ملفقة انتزعها مما يقرأ ويسمع؛ لأن قلمي ليس إلا محنة صبها الله على طه حسين، ولعله انتقام من الله على طه حسين، ولعله انتقام من الله صوبه إلى صدر ذلك الشخص الذي اجترأ على التوراة والقرآن واستطاع أن يقول في وقاحة "للتوارة أن تحدثنا وللقرآن أن يحدثنا" كأن العلم لا يكون إلا حيث تقع مساقط هواه، أما التوراة والقرآن فهي ظنون في ظنه؛ طه حسين جاهل. سبحان الله. وكيف يكون جاهلا وهو رئيس قسم اللغة العربية بالجامعة المصرية، من الذي وضع طه حسين في ذلك المنصب؟ إن الذي وضعه فيه هو لطفي السيد مدير الجامعة المصرية. ولطفي السيد ليس حجة في الأدب العربي ولم ير في حياته جامعة أوروبية حتى يعرف كيف تكون الدراسات العليا؟
1 الصباح 13 سبتمبر 1935.
طه حسين جاهل. نعم طه حسين جاهل أشنع الجهل وإليكم اليوم مثال من جهله الميمون.
1-
ألقى حضرته محاضرة في الجامعة الأمريكية عن شعر البحتري ونشرها في جريدة كوكب الشرق فهل تصدقون أنه وقع في خمس غلطات جوهرية في محاضرة واحدة
…
إلخ إلخ.
2-
وقال في المقال الثاني: إن مصر1 لا يسرها أن يقوم مجدها الأدبي على أساس من خيوط العنكبوت وطه حسين أديب مزيف ومن الواجب أن يسبق المصريون إلى كشف القناع عن وجهه قبل أن يتقدم أدباء الشرق فيعدونا بسيطرة هذا الجاهل على الحياة الأدبية وهل خلت مصر من الرجال حتى يكون طه حسين عنوانا على مجدها الأدبي؟
إن2 هذا الرجل لم يكن في جميع أدوار حياته العلمية إلا مرتزقا يتلمس فتات العلماء كلما نصبوا موائدهم أو أوقدوا نارهم، ولم يستطع حتى اليوم أن يواجه تلاميذه ببحث أصيل يشعرهم بأنه من أهل الفكر والبيان. إن كشف القناع عن معلومات طه حسين واجب أدبي يقوم به أحرار الأدباء، ولو كان طه حسين من الخاملين لأعفيت نفسي من تمزيق ما على وجهه من مختلف البراقع.
3-
وقال في مقاله الثالث: إنه في عام 1932 كنت يومئذ على وفاق مع الدكتور طه، ولكني كنت أحب أن أداعبه بالنقد من حين إلى حين لأني كنت أعرف أنه في حاجة شديدة إلى من يذكره بالواجب، وهو كما
1 الصباح 20 سبتمبر العدد 469.
2 الصباح 4 أكتوبر 1935 العدد 471.
عرفته رجل قليل الاطلاع ولا يفهم الشعر إلا بعنف شديد، فلما سمعت محاضرته عن البحتري ورأيت ما تورط فيه من الأخطاء لم أجد بدًا من تنبيهه إلى عواقب الكسل والتفريط وكتبت عمودًا واحدًا في جريدة البلاغ تحت عنوان "الدكتور طه يخطئ خمس مرات فقط في محاضرة واحدة" فلما ظهرت تلك الكلمة انزعج الدكتور طه أشنع انزعاج، وصارع أصداقاؤه فرجوني أن أكف عنه، وأن أدع تقويمه إلى الأيام ولا سيما وهو رجل أخرجه وزير المعارف من الجامعة وهو يحاول أن يكسب قوته وكشف أغلاطه في جريدة البلاغ قد يصرف عنه طائفة من القراء.
وعندئذ تبينت أن من الذوق أن أترك طه حسين يخطئ كيف يشاء إلى أن تصلح حاله ويستطيع النضال، وذهبت إلى الجامعة الأمريكية لأسمع محاضرته الثانية فلما انتهى من إلقاء الدرس نظرت فرأيته قادما فأسرعت إليه وحييته فلما وضع يده في يدي شعرت بأنه يرتجف ارتجافا عنيفا وكاد يسقط من شدة الاضطراب ولكنه تمالك نفسه وقال:
أنت مخطئ، قلت: صدقت.
ولما خرج الدكتور طه1 أقبل تلاميذي بالجامعة الأمريكية وقالوا هاتفين: كيف تسكت عن مناقشة الدكتور طه وتعترف بأنك مخطئ وأنه مصيب؟ فقلت: انتظروا حتى أشتري بخمسة تعريفة ذوق وأوزعه عليكم، أتظنون أن أدبي يسمح لي بملاحاة طه حسين أمام الناس؟ إن مكان ذلك في جريدة البلاغ، ثم علمت أن الدكتور طه راح يزهو ويختال ويقول: إنه فند مزاعم زكي مبارك على رءوس الأشهاد.
1 كان زكي مبارك قد كتب في البلاغ الأسبوعي "3 ديسمبر 1926" مقالا عن كتاب الشعر الجاهلي الذي ألفه الدكتور طه حسين ووصفه بأنه فاتحة عهد جديد في دراسة الآداب العربية.
إنني سكت عنه يومئذ إيثارًا للترفق برجل ضعيف، أما اليوم فهو بخير وعافية وكشف أغلاطه من الواجبات، فليجيبنا إن كان يملك الجواب.
وقال زكي مبارك في مقاله الرابع 1:
لقد درست طه حسين من جميع نواحيه فوجدته قليل العلم جدا ورأيته ضعيفا أبشع الضعف في فهم النصوص.
وأوردت الصباح رسالة بقلم أديب قال فيها: "قرأنا للدكتور طه بحوثا في الكتب المنزلة عامة والقرآن المحفوظ خاصة ثم قرأنا أشياء -كأنها هي- للمستشرق الإنجليزي "جرجس سال" وكتاب هذا المستشرق مطبوع بعد ترجمته والتعليق عليه منذ ثلاثين عاما".
لحظة قصيرة مع المنصفين في قرائي 2:
أسارع فأقرر بأن طه حسين لم يكن يوما من المفكرين، وإنما هو أديب قليل الفكر قليل الاطلاع نشأ في أوقات لم يكن يعرف الناس فيها غير المجادلات السياسية وكان النقد فيها قليلا فتظاهر بالعلم فطنة القراء من العلماء.
لم يقرأ في حياته كتابا كاملا وإنما قرأ فقرات من هنا ومن هناك. وأخذ يشطح ذات اليمين وذات الشمال إلى أن اتصل بالمرحوم ثروت باشا فوضعه في الجامعة المصرية.
ظل طول عامين ظلا من الظلال في عالم السياسة ولم يترك حزبا إلا خدمه ودبج في تقريظه ألوانا من الرسائل الطوال، والاتجاه السياسي صورة من الاتجاه العقلي والرجل الذي يتردد بين المذاهب السياسية لا يبعد أن
1 الصباح 11 أكتوبر سنة 1935 العدد 472.
2 الصباح 18 أكتوبر سنة 1935 العدد 472.
يعيش فريسة الحيرة بين المذاهب الأدبية، وقد اتفق للرجل الصالح جدا طه حسين أن يخدم قبل الحرب ثلاثة أحزاب، وأن يخدم بعد الحرب أربعة أحزاب، وحظه من الثبات في المذاهب الأدبية يشبه حظه في الثبات على المذاهب السياسية؛ تردد هنا وحيرة هناك.
وقد بذل الدكتور طه جهودًا عنيفة في إخفاء حقيقته الأدبية عله يستر ما ظهر عنه في حياته السياسية ولكن هيهات فلن ينفع الكتمان.
إن الدكتور طه مقلد في كل شيء، حتى لتراه يهز كتفيه على الطريقة الفرنسية.
خصومتي للدكتور طه ستعود عليه بأجزل النفع فأنا واثق أنه سيحضر دروسه بعد اليوم وسيرى قلمي مصوبا فوق رأسه في اليقظه والمنام فلا يستسلم للجهل أو التفريط.
كيف ينظر الأحفاد إلى تاريخ الجامعة المصرية حين يعرفون أن أكبر أستاذ فيها لم تقم أستاذيته إلا بفضل انتهاب آثار المستشرقين.
النقل من المستشرقين 1:
كتب الدكتور طه في جريدة السياسة فقال: ولكن شجرت بين الفريقين اليمانيين والقيسيين معركة "مرجرات" ومرجرات كلمة لا يعرفها العرب، إنما هو مرج راهط.
وكتبت مجلة الجامعة الإسلامية بحلب "عدد 13 أغسطس سنة 1934" مقالا ردت فيه على مقالة نشرها طه حسين في جريدة السياسة يوم 22 فبراير عن الحياة العربية وأثرها في الشعر أيام بني أمية.
1 الصباح 12 نوفمبر سنة 1935 العدد 478.
المعركة إذن مرج راهط ولكن الدكتور طه نقل كلمتها بل سرقها من أحد المستشرقين ولم يفطن إلى الأصل العربي لهذه الكلمة فجاءت أعجمية.
إني أنفق على الحبر والورق ما لا يستطيع طه حسين إنفاقه على الطعام والشراب، وإن صفحة واحدة من كتاب النثر الفني تساوي كل ما كتبه طه حسين في عمره الطويل فلا يحتوي أجهل مقدار ما أبذل من جهد في حياتي الأدبية ولا تظنوا أني أبالي طغيان تلك الشخصيات الضعيفة التي لا تنهض بلا عون ولا سناد.
القديم والجديد 1:
نحن نعلم أنه ما من أحد من الغلاة في التشيع للقديم يقول بأن كل قديم على علاته مفضل على كل جديد ولو كملت محاسن القديم وأربى عليها بفضل من محاسن الجديد. كذلك نعلم أن المتشيعين للجديد لا يقولون أن كل ما يكتب اليوم أجمل وأبلغ مما كتب في العهد الذي نسميه قديما.
إن شرط الأديب عندي أن يكون مطبوعًا على القول أي غير مقلد في معناه ولفظه وأن يكون له هبة في نفسه وعقله وليس لسانه فحسب.
إن أطفالي لو جاعوا لشويت طه حسين وأطعمتهم من لحمه2.
قالت مجلة الصباح يعرف القراء حديث طه حسين وزكي مبارك وكيف أن الأول اجترأ على الثاني فحاربه في أدبه فلم يفلح فحاربه في رزقه فأفلح، لأن العيش أراد أن يكون زكي مبارك معيدًا وأن يكون طه حسين كبيرًا من أساتذة الجامعة فيكون للأول الغلبة على الثاني.
1 الصباح 15 أبريل 1924.
2 الصباح 17 يناير 1936 العدد 486.
ودارت رحى الحرب في وجود الصحف فتكلم زكي وحده فلم يجد أنصارا وسكت طه وتكلم أنصاره حتى تحرك إبراهيم المازني فقال ما قال إلى أن قال كلمة سب هي من جوامع الكلم قال: "وإني لأحدث نفسي أحيانًا بأني لو كنت أقول الشعر في هذه الأيام لرثيت طه حسين فإنه يخيل إلي أنه قد مات طه حسين الذي عرفته وأحببته وأكبرته وجاء غيره الذي أنكره"، حين يقول المازني -وهو من خلصاء طه- ذلك فقد حكم في القضية وانتصر زكي مبارك.
إلى الدكتور طه حسين من المازني 1:
أما عتابك يا أخي فنعام عين، وما قصرت لبخل في أو تعال مني، أو قلة إدراك للواجب نحو الزملاء والأصدقاء، ولا لأني نسيتك أو أني أرى أن أهملك أو أتكلف الإغضاء عنك فما كان هذا قط ولن يكون في طباعي.
ولكن أمرين حرماني من أن أفوز برضى الصديق وارتياح الزميل؛ أما الأول فهو أني أراني كلما كبرت صغرت في نفسي، نعم زادت معارفي وكثرت تجاربي وعظمت إحاطتي ورحب أفقي، ولكن كنت -ومازلت- أمرأ دأبه أن يدير عينيه في نفسه والشاهد أني مغرى بحساب نفسي.
أما الأمر الثاني فذاك أني أرى الدكتور طه قد خرج من زمرتنا معشر الأدباء الأحرار ودخل في زمرة الملقبين وذوي الجاه والسطوة والسلطان.
ولست أعني أنه اكتسب لقبا جديدًا، فما حدث له شيء من ذلك ولكني أعني أنه محشور -بكرهه أو رضاه- في هذه الزمرة وأنا أكرهها ولا أطيقها أو أحتملها لما يلوت من سخافة أخلاق أهلها وما عرفت رجلا علت
1 البلاغ 31 ديسمبر 1935.
به الألقاب أو المناصب إلا رأيته يشيل في ميزاني، وإلا وجدتني أتقيه وأنبذه.
ألفيتني أشعر أن ما بيني وبينك من قرابة الأدب ونسبه يكاد ينقصم على الأيام، والأدب ينكر الأرستقراطية ولا يعرفها، ولست أصانعك أو أتملقك فما تملك لي نفعا أو ضرا فإن أمري بيد الله ثم بيدي.
ويعز علي يا صاحبي أن أقول: إني أراهم عدوك ببعض ما فيهم، فما كدت ترجع إلى الجامعة حتى صببت نقمتك على الدكتور زكي مبارك تلميذك القديم الذي كان من حقك أن تفرح به ولكنك قطعت عيشه وحرمته وظيفته الصغيرة في الجامعة لأنك صرت ذا سلطان وأصبح بقاؤه وطرده في يديك، ووسعك أن تعاقبه على تسحبه عليك، وقد كنت أصدق أنك تفعل كل شيء إلا هذا فلما كان منك ما كان من زكي مبارك صعقت ولا أزال من هذا كالمضروب على أم رأسه، وأقسم لقد فجعتني ودفعتني إلى الكفر بالخير في هذه الدنيا وأقسم مرة أخرى أنك المسئول لا عما أصاب زكي مبارك أو يصيبه فعسى أن يكون الأمر أهون مما أظن بل عما أصابني أنا في نفسي من التحول وما اضطرم فيها من النورة.
إنك إذن من أصحاب السلطان يا صاحبي وممن يملكون أن يقطعوا أرزاق العباد أو يصلوها فلست اليوم بالأديب الذي عرفته وأحببته وأجللته وحدثت للناس عن رجولته ومروءته وحسن شمائله، وإنما أنت رجل يدني ويقصي، ويرزق ويحرم، ويطعم العيال أو يجيعهم، ويضرب اليد التي ترتفع باللقمة إلى الفم فيطيرها ويوقعها على التراب لتلتقطها الكلاب والقطط ويأباها على أخيه الإنسان.
وإني لأحدث نفسي أحيانا بأني لو كنت أقول الشعر في هذه الأيام
لرثيت طه حسين فإنه يخيل إلي أنه قد مات طه الذي عرفته وأحببته وأكبرته وجاء غيره الذي أنكره.
زكي مبارك؛ هل مات طه حسين 1:
شغلت الأندية الأدبية بالنضال الممتع أو الخطاب النفيس الذي وجهه الأستاذ إبراهيم المازني2 إلى الدكتور طه حسين. ومن النادر أن يخرج الأستاذ المازني من صومعة السخرية بالحياة والأحياء ليكتب مثل هذا الخطاب وأغلب الظن أن الدكتور طه حسين لم يكن ينتظر ذلك الذي صب على رأسه صاحب "خيوط العنكبوت" ولكن الدكتور طه حسين يعاني في أعوامه الأخيرة أزمة روحية لم يشهد مثلها من قبل فقد تفرق عنه أصحابه جميعًا، ولم يبق حوله غير المراثين المشغفين الذين يعز عليهم أن يتركوه للوحدة والاكتئاب، وهو يحاول اليوم رأب ما صدعته الأثرة والغفلة عن عواقب الإجحاف وسبيله إلى ذلك أن يتخذ محطة الإذاعة مطية لوصف المؤلفات الجديدة على طريقة شوبش يا حبايب.
إنه لا يسرف في المدح حبا في تشجيع المؤلفين ولكن يريد أن يمدحهم جميعًا ليؤلف منهم جمعية أدبية يقارع بها خصمه الذي يعرفون.
1 البلاغ 3 يناير 1936.
2 ردد زكي مبارك كلمة المازني "وإني لأحدث نفسي أحيانًا بأني لو كنت أقول الشعر في هذه الأيام لرثيت طه حسين، فإنه يخيل إلي أنه قد مات طه الذي عرفته وأحببته وأكبرته وجاء غيره الذي أنكره" ثم قال:
فإن كان المازني يود أن ينظم قصيدة في رثاء الدكتور طه حسين فأنا والله أولى منه بتأدبة هذا الواجب فقد كان لي صديق اسمه طه حسين صاحبته عشر سنين، وكان كما وصفه الأستاذ المازني حلو الشمائل دمث الطباع ثم ضيعته الأيام.
وأقسم ما تذكرت طه حسين القديم إلا تشوقت إليه فقد كان رحمه الله مثل المروءة والوفاء أما طه حسين الجديد فهو لا يرعى العهد ولا يحفظ الجميل.
ولكن رأسه انبطح حين اصطدم بالصخرة المازنية وانكشف للناس عواره حين أراد التقرب من صاحب "حصاد الهشيم".
من المازني إلى طه حسين 1:
لما كتبت أعاتب الدكتور طه حسين في فصل الدكتور زكي مبارك من الجامعة، وأقول: إن الدكتور طه أصبح ممن يملكون إشباع البطون وإجاعتها وأنه صار يضرب اللقمة التي ترتفع بها ليد إلى الفم ويطيرها فتسقط على الأرض فيعثر بها الكلاب ويحرمها الإنسان، لما قلت هذا لم أكن أعني أني أخشى على الدكتور زكي مبارك وأولاده الجوع من أجل أنه حرم وظيفة صغيرة في الجامعة ومعاذ الله أن يخطر لي على بال لا لأن الأدباء لا يتفق أن يعدموا القوت إلى أكثر من جاع منهم في حياته، بل لأني أعلم أن الدكتور زكي مبارك رجل كفء للحياة قادر على الاضطلاع بأعبائها وأنه أزكى وأعظم رجولة من أن يبالي كيف يكسب رزقه مادامت وسيلة الكسب مشروعة لا عيب فيها ولا دنس يعلق بها.
وقد أعجبني من الدكتور زكي مبارك قوله أنه لو خاف الجوع على عياله لشوى لحم الدكتور طه وأطعم عياله وليس الذي أعجبني أنه مستعد لشي لحم الدكتور طه، كلا، ولو أنه هم بذلك لكنت أول من يقاتله عليه ويحمي طه منه وإنما الذي أعجبني هذه الفحولة الساذجة التي لم تفسدها باريس.
1 البلاغ 3 يناير 1936.
زكي مبارك 1 يواصل حملته:
1-
يا دكتور طه تذكر أن الدنيا تغرب وأن انتهاب آراء الناس لا يغني ولا يفيد، وتذكر أنك تتكلم باسم الجامعة وهي توجب على مثلك أن يدرس ويبحث ولا تقنع منه بالطواف حول ما كتب الناقدون عن المتنبي.
لقد أثبت آراء الباحثين المصريين وسطوت على آراء المستشرقين ثم مضيت في تعثر واضطراب لا يليقان ممن يفهم الكلام عن المتنبي أي تقدير.
2-
إنما2 نشاغب عمد النخبة القائلين من أدعياء البيان وأنا أسعى إلى غرض هو شغل الناس بالأدب وجعل الأفكار الأدبية والاجتماعية والفلسفية ضرورة عقلية لا يستغني عنها أحد المثقفين.
إن شهرة كتابنا لا ترجع في الأغلب إلى الناحية العقلية وإنما ترجع إلى ما يتصل بها من الأحداث السياسية، وكذلك نهضة الأدب متصلة بالنهضة السياسية أوثق اتصال.
أنا لا يرضيني الإنصاف، لأن الظلم أشعل قريحتي ولو كنت لقيت العدل في حياتي لعشت منزويا في كلية الآداب أحقق الخلاف بين ابن جني وابن خروف.
3-
إن ما بيني3 وبين الدكتور طه لا يصرفني عن التنويه بكتاب "على هامش السيرة" هذا الكتاب النفيس، فإنني أحب أعدائي وأتمنى لهم طيب الأحدوثة وبعد الصيت.
1 البلاغ 14 مارس 1936.
2 البلاغ 5 يونيه 1936.
3 البلاغ 5 يونيه 1936.
4-
هاجم1 زكي مبارك مؤلف كتاب المجمل، وقال: إن الدكتور طه حسين لا يعرف عقلية التلاميذ في المدارس الثانوية، وأن عمله في التدريس لا يزيد عن إلقاء المحاضرات في كلية الآداب، أما أحمد الإسكندري فهو باحث مفضال ولكن ترك المدارس الثانوية منذ ثلاثين عاما، وأما عبد العزيز البشري فهو كاتب بليغ ولكن لم يدخل في حياته مدرسة أميرية ولا يعرف كيف يخاطب التلاميذ.
وأحمد ضيف لم يشتغل بالتدريس في غير الجامعة ودار العلوم.
وأحمد أمين لا يعرف المدارس الثانوية إلا بمقدار ما يعرفها عبد العزيز البشري.
وعلي الجارم أديب وشاعر ولكن صلته بالتعليم الثانوي وقفت عن التفتيش والمفتش يتوهم أنه يعرف المدارس.
10-
إلى الدكتور طه حسين بك من الدكتور زكي مبارك 2:
1-
يظهر أن المقادير لا تريد أن أسكت عنك أو تسكت عني وفي ذلك الخير كل الخير لو تعرف وأعرف؟ وهل ارتفع العقل إلا بفضل الخلاف؟
وهل يتصور الناس وجودًا للحيوية التشريعية لو لم يثر الخلاف بين الشافعية والحنفية؟ وهل تأصلت مشكلات النحو والصرف إلا بفضل الجدال بين البصريين والكوفيين؟ وهل تفوق العقل المصري في العصر الحديث إلا بسبب النزاع حول القديم والجديد والصراع حول المذاهب الاجتماعية والأحزاب السياسية.
1 البلاغ 12 يونيه 1936.
2 الرسالة 2 فبراير 1940.
إن بداوة الطبع التي كثر الكلام في ذمها وتجريحها لم تكن من المثالب إلا في كلام الشعوبية وهم قوم أرادوا الغض من شمائل العربية، ولولا ذلك الهجوم لبقيت من المحامد، فكيف تنكر على رجل مثلي أن يظل بدوي الطبع في زمن توارت فيه الصراحة وكثر فيه تنميق الأحاديث.
لا بد من خلاف بيني وبينك لتجد الأبحاث الأدبية والفلسفية وقودا يحيا به اللهب المقدس في حياة العقل والوجدان.
فإذا ضاق صدرك فهذه الحقيقة واكتفيت بمحاورة الرجل اللطيف الذي يقول: إن الصحراء تشكو الظمأ وإن البحر يشكو الري وإن الخير في امتزاج البحر بالصحراء. إن كان ذلك ما يرضيك فشرق في محاوته وغرب كيف شئت وكيف شاء.
2-
يا دكتور طه! ما سبب الخصومة بيني وبينك؟
منذ أكثر من سبعة أعوام ألقيت محاضرة في الجامعة الأمريكية عن البحتري وسجلتها جريدة كوكب الشرق وشاء "العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي" أن أنشر في جريدة البلاغ مقالا عنوانه: "الدكتور طه حسين يغلط خمس مرات فقط في محاضرة واحدة".
ثم لقيتني بعد ذلك في الجامعة الأمريكية وجادلتني في تلك الأغلاط فأعلنت أني أخطأت، وكان ذلك لأن الجمهور قد أحاط بنا من كل جانب ليرى كيف أدفع هجومك وما كان يجوز لي أن أصنع غير الذي صنعت لأن أدبي لا يسمح لي بمجادلتك أمام الناس ولأن وجهك يشفع لك فهو وجه لا يلقاه الرجل الحر بغير الإعزاز والتبجيل.
فما الذي صنعت أنت في تصحيح الأغلاط التي أخذتها عليك؟ مضيت
فنشرت محاضرتك عن البحتري في كتابك حديث النثر والشعر وأبقيت تلك الأغلاط. أستغفر الله. بل تفضلت فشكلت الكلمات المغلوطة لتقول: إنك لا تعبأ بأي نقد يوجه إليك.
3-
ثم ماذا؟ ثم حدث في صيف عام 1929 أن أنكرت علي أن أتخذ شواهد لتطور النثر الفني من رسائل عبد الحميد بن يحيى وقلت: إن عبد الحميد بن يحيى شخصية خرافية كشخصية امرئ القيس وكان ذلك بمسمع من شابين واعيين هما محمد مندور وعلي حافظ وكانت حجتك أن عبد الحميد بن يحيى لم يرد اسمه في مؤلفات الجاحظ، فرجعت إليك بعد أيام وأخبرتك أن الجاحظ تكلم عن عبد الحميد بن يحيى مرات كثيرة. وأن مؤلفات الجاحظ تعرف رجلين أحدهما عبد الحميد الأكبر والثاني عبد الحميد الأصغر فلم تجب بحرف واحد.
ثم ألقيت وأنا في باريس محاضرة قلت فيها: إن عبد الحميد بن يحيى أخذ أشياء من أدب اليونان وفاتك أن تنص على اسم الرجل الذي أقنعك بأنه لم يكن شخصية خرافية.
وقد حملني العفريت الذي يحتل رأسي حين أخلو إلى قلمي على أن أسجل هذه القصة في أحد هوامش كتاب النثر الفني فكانت فرصة اغتنمها صديقك الأستاذ أحمد أمين ليقول في مقال كتبه في مجلة الرسالة: إن زكي مبارك يعوزه الذوق في بعض الأحيان.
4-
أنت تعرف أني لم أنل ألقاب الجامعة المصرية بلا جهاد.
وأنت نفسك أسقطتني في امتحان الليسانس مرتين واشتركت في امتحان الدكتوراه الذي أديته أول مرة مع أنك لم تكن عضوًا في لجنة الامتحان.
وكان لخصومتك الصورية تأثير في الدكتوراه التي ظفرت بها للمرة الثالثة فلم أصل إليها إلا بعد جهاد سبع سنين.
5-
هل تذكر يا دكتور ما وقع في نوفمبر 1919:
هل تذكر ما وقع يوم غاب سكرتيرك، وكنت وحدي الطالب الذي يفهم العبارة الفرنسية لكتاب الأثينيين لأرسطو؟ هل تذكر أنك أعلنت سرورك بأن يكون في طلبة الجامعة المصرية من يفهم أسرار اللغة الفرنسية؟ فمن يبلغك أن الشاب العربي أدخل السرور على قلبك في 1919 هو الكهل الذي تنكره سنة 1940؟
أنا أعرف ما تكره مني، أنت تكره الكبرياء وكيف أتواضع وقد أعانني الله على بناء نفسي؟ وكيف قد أقمت الدليل على أن الشباب المصري خليق بعظمة الاعتماد على النفس؟ وهل رأيت رجلا قبلي أتم دراسته في أوربا وهو مثقل بتكاليف الأهل والأبناء؟ هل رأيت رجلا قبلي يهتز بأوطار الشباب وهو مثخن بجراح الزمان بعد الأربعين؟ وهل رأيت رجلا قبلي يؤلف الكتب الجيدة في البواخر والقطارات والسيارات؟
ومن يصدق أني أنفق في سبيل الورق والمداد أضعاف ما ينفق بعض الناس في سبيل الطعام والشراب؟
أحمد الله إليك "من مبارك إلى طه" 1:
في شهر يوليو 1928 تلقيت وأنا في باريس خطابا من الدكتور طه حسين جاءت فيه عبارة "أحمد الله إليك" فالتفت ذهني إلى هذه العبارة لأنها لم تكن من العبارات المألوفة في رسائله إلي.
1 الرسالة 15 يوليه 1940.
وصح عندي بعد التأمل أن الدكتور قد يكون مشغولا بمراجعات متصلة بالسيرة النبوية؛ لأن عبارة "أحمد الله إليك" تكثر في الرسائل المأثورة عن عصر النبوة وعصر الخلفاء.
وبعد أعوام أخرج الدكتور طه كتابه "على هامش السيرة" فكتبت في جريدة البلاغ فقلت: إن الدكتور طه يجيد أعظم الإجادة حين يتروى في التأليف وكتابه الجديد أثر من آثاره الجيدة في تروية فهو مشغول بموضوعه منذ 1928 وإن لم يقل ذلك فقد كتب إلي خطابا في يوليه من تلك السنة يقول: "أحمد الله إليك".
وقال الدكتور طه: إنه اختراع من اختراعات زكي مبارك في الأسماء والأحاديث.
وهذا نص الخطاب كما رواه زكي مبارك:
"أحمد الله إليك على ما أنت فيه من رضا بالإقامة في باريس، وأتمنى لك المزيد من هذا الرضا كما أتمنى أن تنتفع بأيامك في فرنسا إلى أبعد حد ممكن وتقبل من السيدة ومني تحية خالصًا وشكرًا جميلا".
وسرد زكي مبارك نص خطاب آخر وجده في أوراقه جاء فيه:
"لست أدري كيف أشكر لك عنايتك بفلسفة ابن خلدون وأنا مقتنع فما بيني وبين نفسي بأنها لا تستحق هذه العناية، ومع ذلك فسأشتري المقطم منذ اليوم لأقرأ ما تكتب لأنك أنت الذي ستكتبه لا لأني أنا موضوعه.
وكل ما أرجوه لك أن تصدر فيما تكتبه عن الحرية الصادقة القاسية، لا عن الإخاء والمودة اللذين يدفعان في كثير من الأحيان إلى شيء من الرفق الذي لا يخلو من إثم، وأنا أعيذ أصدقائي من أن يتورطوا من أجلي في إثم
الإسراف في البر كما أكره أن يتورطوا في إثم العقوق". وتاريخ هذا الخطاب أغسطس 1925.
فإن قيل: وكيف أمكن بعد ذلك الوداد الوثيق أن تفسد العلائق بيني وبين الدكتور طه حسين؟ فإني أجيب بأن لله حكمة فيما وقع بيني وبين الصديق.
لم يكن لي بد من خصومة أتخذ منها فرصة لتوجيه الجمهور إلى الحقائق الأدبية وكذلك خاصمت عددا من رجال الأدب كان أظهرهم الدكتور طه حسين.
الأيام؛ لطه حسين 1:
هذا الرجل موهوب بلا جدال ولكنه قليل الصبر على تكاليف المواهب فهو يطع في اللمحة الأولى ثم يجنح إلى الأقوال.
ترجم لأبي العلاء فأفلح ثم ترجم للمتنبي فأخفق لأنه لم يصحب المتنبي بقدر ما صحب أبا العلاء.
وأخرج الجزء الأول من الأيام فكان أعجوبة ثم فتر في الجزء الثاني.
والجزء الأول من هامش السيرة سفر نفيس أما الجزء الثاني فهو أيضا "سفر نفيس".
وكان أستاذا في الجامعة المصرية القديمة، أستاذًا عظيما، أستاذًا يملك القدرة على إسقاط زكي مبارك في امتحانات الليسانس مرتين. أما في الجامعة المصرية الجديدة فهو أستاذ هيوب يستر كسله الجميل بالتغاضي عن ضعف الطلاب.
1 الرسالة 16 ديسمبر 1940.
وأمره في الصداقة أعجب من العجب، فهو يؤاخيك ويصافيك إلى أن تظن أنه قطعة من قلبك، ثم يتحول في مثل ومضة البرق إلى عدو مبين، وهو على الرغم من ضعفه في الاضطلاع بتكاليف المواهب، رجل جذاب لأنه معسول الحديث ولأنه قد يصدق في الحب وفي البغض إلا أنه تهديه حاسة النفع إلى أن يعادي من يعادي ويصادق من يصادق كالذي صنع في طوافه بأركان الأحزاب.
ولشعوره بأن لسانه مصدر قوة يلح في الحديث وفي الإملاء إلحاحًا يترك سامعيه وقارئيه على أهبة الاقتناع بما يملي وبما يقول.
وللدكتور طه أسلوبان: أسلوب حين يملي، وأسلوب حين ينظم. أما أسلوبه حين يملي فلا يخلو من ركاكة واضطراب لأنه رهين بما في الإملاء من سرعة وإبطاء.
إن لنشر كتاب الأيام تاريخ هو تاريخ مجهول ولأنه يصور كيف رجع الدكتور طه إلى ألفاف ماضيه لينشر منه صفحات تسير مسير الأمثال من حيث لا يقصد ولا يريد.
في مطلع الربيع من سنة 1927 ثار الأزهريون وتبعهم فريق من النواب على الدكتور طه حسين لآرائه في الشعر الجاهلي واشتدت الثورة ثم رحل إلى فرنسا مع الصيف ليتناسى كروبه الداجية في ربوعها النيح.
وهناك خطر له أن يملي أشياء بعيدة كل البعد عن الشعر الجاهلي والأزهر والدين فكلفت تلك الأمالي وهي تاريخ طفولته بلا تزيين ولا تهويل.
وفي صباح يوم من أيام الخريف في سنة 1926 عرفت من الدكتور طه أنه كتب مذكراته عن حداثته وأنه قدمها للأستاذ عبد الحميد العيادي
ليطمئن إلى أنها مما تجوز إذاعته بين الناس، وفي صباح يوم آخر حضر الأستاذ العبادي ومعه أصول المذكرات وهو يقترح أن تحذف الفقرة الخاصة بالضريرة نفيسة؛ فلم ير الدكتور طه أن تحذف، وفي ليلة شاتية جلسنا نتجاذب أطراف الحديث، فسألته عن موضوع تلك المذكرات، فوقف وقفة الخطيب المكروب وقص علي قصة يوم بدا له أن ينقل اللقمة إلى فيه بيديه الاثنين وكيف أضحك إخوته وبكت أمه وانزعج أبوه فعرفت أن المذكرات سيكون لها في تاريخ الأدب مكان.
يزيد من طرافة هذه الاعترافات أن بعضها معيب فصدورها من رجل مثل طه حسين يشهد بأنه فنان يقيم فنه على قواعد من الصراحة والصدق.
وأن طه حسين قد التزم الصدق التزاما في كتاب الأيام.
لعلي أريد القول بأن طه حسين من أساتذة الأخلاق فهو يقصد إلى إفهام الشباب بأن العظيم لم ينشأ عظيما وإنما هو عظيم بفضل الصبر على متاعب الجهاد، لعلي أريد القول بأن طه حسين أراد محاكاة جان جاك روسو وأناطول فرانس.
19-
"الحب الضائع" 1:
هو كتاب يصور العواطف الطبيعية في الريف الفرنسي لعهد الحرب الماضية والكتاب ليس بجديد لا في الروح ولا في الأسلوب، فله أمثال تعد بالعشرات أو بالمئات ومع ذلك فلن يقول الفرنسيون حين يترجم إلى لغتهم هذه بضاعتنا ردت إلينا؛ لأن طه حسين حين يقتبس لا يفوته أن يضفي ثوب الابتكار على الاقتباس.
1 الرسالة 8 يونيه 1942.
تلك الصفحة تقيس ما يقع فيه الدكتور طه من وقت إلى وقت فهو يقطع ما بينه وبين أصدقاء لا يجود بأمثالهم الزمان، وهو قد يصل أقواما لا يمتون إلى روحه بسبب قريب أو بعيد ولعله أكثر الناس ابتلاء بالمخادعين والمرائين لأنهم أحرص على مراعاة الظواهر من المصافين والموافين والكاذب يسبق الصادق إلى امتلاك القلوب الخواضع لخوادع الوداد.
وهناك صفحة عجيبة تذكر بأدب أبي حيان التوحيدي في تشريح العواطف، وهي الصفحة الخاصة بالشوائب التي تفسر الوداد ومن تلك الصفحة تعرف كيف جاز أن يتعرض الدكتور طه حسين لتقلبات في المورات والصدقات يستفظعها من لا يعرف ما فطر عليه من توهج الإحساس.
20-
طه حسين وإمارة الشعر:
إن الدكتور طه حسين "مسيو" بالفعل فلغته ولغة زوجته وأبنائه هي اللغة الفرنسية، ولكنه برغم ذلك من أعاظم الرجال في اللغة والدين. ولو كان الأمر بيدي لقتلت الدكتور طه حسين، ولو كان الأمر بيده لقتلني فقد تحاربنا سنتين، وأردت أن أقتله فيها فما استطعت وأراد أن يقتلني فما استطاع، نحن يا سيدي الدكتور لم نخلق للموت وإنما للحياة والمجد، فمن واجبك أن تكف شرك عني لأكف شري عنك وأنا على الشر أقدر منك.
أشعت أن إمارة الشعر بعد شوقي قد انتقلت إلى العراق:
أخطأت يا سيدي الدكتور إن الشعر لمصر حتى آخر الزمان، أنت نفسك حاولت أن تكفر عن ذنبك فخلعت إمارة الشعر على الأستاذ العقاد وهو أديب فاضل بدليل أنك أهديت أحد كتبك إليه، ولكنه شاعر صغير بالقياس إلى العبقرية المصرية.
العقاد في الشعر كالزيات في النثر كلاهما يأخذ قوته من الانفعال وهذا لا يمنع من الاعتراف بأنهما أديا خدمات عظيمة للحياة الأدبية.
21-
زكي مبارك؛ عدوي طه حسين:
نشرت الهلال مبحثا من فصلين، صديقي طه حسين الدكتور أمير بقطر وكتب زكي مبارك:"عدوي طه حسين".
إنه عدو عزيز! إي والله، فما أذكر أني عاديت إنسانا أحبه قبل الدكتور طه حسين، والعداوة والحب يجتمعان في القلب الواحد، وإن عجب من ذلك من لا يفقهون، وآية الصدق في هذه القضية أني لم أتورط في عداوة الدكتور طه حسين إلا منذ أشفقت عليه، فقد ابتدأ هذا الرجل حياته الأدبية بداية حسنة، ولكنه لم يستطع الصبر على مكاره الجد، ولم تقو نفسه على معالجة البحث العميق وعندئذ عرفت أن الرجل سيضيع نصيبه من الخلود، وعز علي ذلك فأردت أن يبقى اسمه في الدنيا بعد أن تبيد ملايين الأسماء ولا يبقى إلا من أشار إليهم صاحب "النثر الفني".
وكان الدكتور طه في بداية هذه العداوة يظنها جمرة سريعة الخمود، ولكنها تضرمت، واستطارت أقباسها من المشرق والمغرب، ولم يبق إنسان يقرأ ويفهم إلا عرف أن في الدنيا رجلا اسمه طه حسين، وصار لا يدخل في محفل، ولا يتكلم في مجتمع، ولا نشر مقالا في جريدة، إلا قال الناس: هذا هو الرجل الذي رأينا اسمه في مؤلفات زكي مبارك.
والدكتور طه رجل فيه شيء من الذكاء، وقد هداه ذكاؤه إلى هذه الحقيقة فاندفع يعاديني بلا ترفق ليتم له من نباهة الذكر ما يريد.
ولكن هل يستحق الدكتور طه أن يشغل رجلا مثلي؟
هذا هو السؤال.
وأجيب بأنه يستحق ذلك الاستحقاق، فما ينكر أحد أن لهذا الرجل شخصية قوية، وأنه استطاع أن يكون غرضا ترميه الأقلام، وهذا دليل على ماله من وجود ملحوظ.
ومن مظاهر القوة في هذا الرجل أنه تماسك في أزمات كثيرة، وأنه عرف كيف يقارع الأحداث والخطوب، حتى أصبح رجلا يحسب له حساب.
ومن مظاهر القوة أيضا في هذا الرجل أنه حلو المودة، مر العداوة، يضر وينفع، وبعض الناس تغلب عليهم التفاهة فلا ينفعون ولا يضرون.
ولا يمكن أن نعرف قيمة الدكتور طه إلا إن نظرنا في مهارته الأدبية، وبيان ذلك أن هذا الرجل قليل المحصول، ولعلي لم أر في حياتي رجلا قليل العلم مع الصيت البعيد، كما رأيت طه حسين، ومع قلة محصوله العلمي نراه يتكلم كلام المحققين، ويمضي فيبني ويهدم، ويبرم وينقض، كأنه عالم محقق أخذ بنواحي المعارف الإنسانية في القديم والحديث، وهذا لا يقع إلا من رجل وصل في المهارة إلى أبعد حدود.
يضاف إلى ذلك كله لسان يحكي ملاسة المرمر، وليونة الماء، فإذا سمعت طه حسين وهو يحاضر شعرت بأنك أمام إنسان يملك ناصية الحديث، وليس ذلك بالقليل.
ولكن للشخصية العلمية شيء غير ذلك، فالدكتور طه الذي يضر وينفع ويبرم وينقض، ويحدث فيحسن الحديث، هذا الرجل قد انهزم في الميادين العلمية، ولم يظفر من المجد الأدبي بأيسر نصيب، وأعيذكم أن تفتنوا بأنه ألف أقصوصة اسمها "الأيام" نشرها الهلال ثم ترجمت إلى الإنجليزية والروسية، فإن تأليف الأقاصيص ليس من الفنون العالمية، وإنما هو فن
يمثل سذاجة الإنسان الأول يوم كان يملأ الدنيا أساطير وأحاديث. وهل رأيتم في الدنيا كلها رجلا يرأس كلية آداب ثم يقف مجده عند الأقاصيص؟
انظروا ما وقع للدكتور طه يوم قرر المشاركة في تأليف كتاب فجر الإسلام، فقد كانت النية أن يؤلف في الناحية الأدبية، أتعرفون ما وقع؟ كانت النتيجة أن نشر أحمد أمين أربعة مجلدات وطه حسين ساكت يترقب.
وكيف تفسرون ذلك السكوت؟ إنه تفسير سهل؛ وهو يتلخص في أن طه حسين لا يحسن الكتابة العلمية، وإنما يحسن تلخيص الأقاصيص.
وهناك جانب آخر من ضعف هذا الرجل، وهو حرمانه من حاسة العدل، فما أعرف أن هذا الرجل استطاع أن يقهر أهواءه وهو يعامل الناس، وقد اتفق أن يصطنع النقد الأدبي حينا من الزمان، فكانت أحكامه كلها وليدة الهوى والغرض، ولم يستطع أن يكشف للناس عن موهبة مستورة أو نبوغ مكنون.
ولو سئل طه حسين عما صنع في النقد الأدبي لعجز عن الجواب، وهل من النزاهة أن يقصر محاضراته في الراديو على ما أخرجته لجنة النشر والتأليف؟
إن طه حسين تسامى إلى منزلة أدبية عالية يوم سعى إلى الظفر بعمادة كلية الآداب، ولكن هل استطاع أن يخلق لتلك الكلية نصيرًا واحدًا؟ هل استطاع أن يخرج من عمره كله بكتاب جيد يضيفه إلى منازل الباحثين من عمداء الكليات؟
وليته اكتفى بهذه المزايا العظيمة من الضعف! بل رأيناه يتكلم عن البحتري فيقع في أغلاط، فلما نبهناه أصر واستكبر ونشر المحاضرة في كتاب، وشكل الأغلاط ليدلنا على أنه لا يهتم بالنقد، ولا يحسب للحق أي حساب.
وقد ظن من لا يفهمون أننا نعني شخصه حين نجادله، وهيهات أن يكون الأمر كذلك، إنما يهمنا أن نحاسب من يشغل أكبر المناصب الأدبية حين يسيطر على كلية الآداب، ولا يرضينا من عادة مثل هذا الرجل إلا أن يكون باحثًا نرى في وجهه وجه برونو ودي لا كروا من الذين تولوا كلية الآداب جامعة باريس.
نحن قوم غلبتنا الأقدار في الميادين السياسية، فمن العيب أن نرضى بمثل ذلك الحظ في الميادين العلمية، وإذا قيل: إن الإنجليز غلبونا في السياسة فلا يصح أن يقال: إن العجز غلبنا في العلوم والآداب.