الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب العاشر: معارك النقد بين المجددين
الفصل الأول: بين التغريب والتجديد
مساجلة بين توفيق الحكيم وطه حسين 1:
1-
من توفيق الحكيم:
إنما الأمر الذي يحتاج إلى كلام هو معرفة مميزات الفكر المصري معرفة أنفسنا حتى تتبين لجيلنا مهمته. هذه هي المسألة: ما هي مميزات العقلية المصرية في الماضي والحاضر والمستقبل؟ ما روح مصر؟ ما مصر؟ إن اختلاطنا بالروح العربية هذا الاختلاط العجيب كاد ينسينا أن لنا روحا خاصة تنبض نبضات ضعيفة تثقل تحت ثقل تلك الروح الأخرى الغالبة وإن أول واجب عليكم لنا استخراج أحد العنصرين من الآخر، حتى إذا ما تم تمييز الروحين أحدهما من الأخرى كان لنا أن نأخذ أحسن ما عندهما.
لا بد لنا أن نعرف ما المصري؟ وما العربي؟ هذا السؤال ألقيته على نفسي منذ ست سنوات إذ كنت أدرس الفنين: المصري والإغريقي، وكانت المشكلة عندي وقتئذ ما المصري؟ وما الإغريقي؟
وأذكر أني لخصت الفرق بين العقليتين بمثل واحد في فن النحت سائلا: ما بال تماثيل الآدميين عند المصريين مستورة الأجساد وعند الإغريق عارية الأجساد؟ هذه الملاحظة الصغيرة تطوي تحتها الفرق كله، نعم كل شيء مستتر خفي عند المصريين، عار جلي عند الإغريق. كل شيء في مصر خفي كالروح، وكل شيء عند الإغريق عار كالمادة. كل شيء عن المصريين كالنفس، وكل شيء عند الإغريق جلي كالمنطق. في مصر الروح والنفس وفي اليونان المادة والعقل.
لا أكاد أفتح كتابا في الفن الإغريقي حتى أجد كلمة الصرامة نعتا من نعوت هذا الفن، ولا أفتح كتابا في الفن الإغريقي إلا وجدت كلمة الحياة وكلمة الإنسانية من نعوت هذا الفن.
حظ الإغريق في كل هذا هو حظ العرب. العرب أيضا أمة نشأت في
1 الرسالة أول يونيو 1933.
فقر لم تعرفه أمة غيرها. صحراء قفراء، قليل من الماء يثير الحرب والدماء.
جهاد وكفاح لا ينقطعان في سبيل العيش والحياة. أمة لاقت الحرمان وجها لوجه، وما عرفت طيب الثمار وجري الأنهار ورغد العيش ومعنى اللذة إلا في السير والأخبار، كل تفكير العرب وكل فن العرب في لذة الحس والمادة، لذة سريعة مفهومة مختطفة اختطافا لأن كل شيء عند العرب سرعة ونهب واختطاف، وعند الإغريق الحركة، أي الحياة، وعند العرب السرعة، أي اللذة، لم تفتح أمة العالم بأسرع من العرب، ومر العرب بحضارات مختلفة فاختطفوا من أطايبها اختطافا راكضا على ظهور الجياد. كل شيء قد يحسونه إلا عاطفة الاستقرار وكيف يعرفون الاستقرار وليس لهم أرض ولا ماض ولا عمران لهذا السبب لم يعرف العرب البناء، سواء في العمارة التي عرفها تاريخ الفن. وإذا عاش لليوم فإنه يعيش بالزخرف، فن الزخرف العربي أنقذ العمارة العربية.
أما فن الزخرف العربي فهو في الحق أجمل وأعجب فن للزخرف خلده التاريخ، والزخرف عند العرب وليد ذل الحلم باللذة والترف. كل شيء عند العرب زخرف. الأدب نثر وشعر لا يقوم على البناء، فلا ملاحم ولا قصص ولا تمثيل، إنما هو شيء مرصع جميل يلذ الحس. فسيفساء اللفظ والمعنى وأرابسك العبارات والجمل، كل مقامة للحريري كأنها باب لجامع المؤيد. تقطيع هندسي بديع، وتطعيم بالذهب والفضة، لا يكاد الإنسان يقف عليه حتى يترنح مأخوذا بالبهرج الخلاب.
قد يكون للطين دخل في النحت والتصوير عند العرب، غير أني أعتقد براءة الدين، إن العرب كانوا دائما ضد الدين كلما وقف الدين دون
رغبات طبائعهم، لقد حرم الدين والشراب، فأحلوا هم الشراب في قصور الخلفاء، وما وصفت الخمر ولا مجالس الخمر في أدب أمة بأحسن مما وصفت في الأدب العربي، أما النحت والتصوير الكبير فليس في طبيعتهم لأن تلك فنون تتطلب فيمن يزاولها إحساسًا عميقا بالتناسق العام مبناه التأمل الطويل والوعي الداخلي للكل في الجزء وللجزء في الكل، وليس هذا عند العرب فهم لا يرون إلا الجزء المنفصل وهم يستمتعون بكل جزء على انفراد، لا حاجة لهم بالبناء الكامل المتسق في الأدب، لأنهم لا يحتاجون إلا للذة الجزء واللحظة، قليل من الكتب العربية في الأدب تقوم على موضوع واحد متصل، إنما أكثر الكتب كشاكيل في شتى الموضوعات تأخذ من كل شيء بطرف سريع، من حكمة وأخلاق ودين ولهو وشعر ونثر ومأكل ومشرب وفوائد طبية ولذة جسدية.
وحتى إذ يترجمون عن غيرهم يسقطون كل أدب قائم على البناء فلم ينقلوا ملحمة واحدة ولا تراجيديا واحدة ولا قصة واحدة.
العقلية العربية لا تشعر بالوحدة الفنية في العمل الفني الكبير، لأنها تتعجل اللذة، يكفيها بيت شعر واحد أو حكمة واحدة أو لفظ واحد أو زخرف واحد لتمتلئ طربا وإعجابا لهذا قصر العرب وظيفة الفن على ما نرى من الترف الدنيوي وإشباع لذات الحس، حتى الحكمة وشعراء الحكمة، كانوا يؤدون عين الوظيفة، إشباع لذة المنطق، والمنطق جمال دنيوي.
من المستحيل إذن أن نرى في الحضارة العربية كلها أي ميل لشئون الروح والفكر بالمعنى الذي تفهمه مصر والهند من كلمتي الروح والفكر.
إن العرب أمة عجيبة، تحقق حلمها في هذه الحياة، فتشبثت به تشبث
المحروم، وأبت إلا أن تروي ظمأها في الحياة، وأن تعب من لذاتها عبا قبل أن يزول الحلم وتعود إلى شقاء الصحراء.
ولا ريب عندي أن مصر والعرب طرفا نقيض، مصر هي الروح، هي السكون، هي الاستقرار، هي البناء، والعرب هي المادة، هي السرعة، هي الظعن، هي الزخرف.
مقابلة عجيبة؛ مصر والعرب وجها الدرهم، وعنصر الوجود، أي أدب عظيم يخرج من هذا التلقيح؟ إني أتمنى للأدب المصري الحديث هذا المصير: زواج الروح بالمادة، والسكون بالحركة، والاستقرار بالقلق، والبناء بالزخرف.
3-
من طه حسين إلى توفيق الحكيم 1:
أنا معجب بآرائك في الفن المصري وفي الفن الإغريقي ولكن لا أحب لك هذا الإسراع إلى استخلاص الأحكام العامة وإقامة القواعد التي لا تثبت للنقد والتمحيص.
ها أنت ذا تفهم من الفن المصري ما تفهم، ويشاركك فيه كثير من المثقفين ثقافة أدبية، ولكن أواثق أنت حقا بأن قدماء المصريين كانوا يرون تماثيلهم وعماراتهم كما تراها، ويفهمونها كما تفهمها، ويستلهمونها كما تستلهمها؟ أرأيتك لو سألت مصريا معاصرًا لرمسيس عن رأيه في تمثال من التماثيل أو عمارة من العمارات، أيقول فيهما مثل ما تقول؟
ومثل هذا يقال في الفن اليوناني، وفي كل هذه الفنون الصامتة، فليس
1 الرسالة 15 يونيه 1933.
من الخير أن نعتمد عليها وحدها في تشخيص عقلية الأمم وروحيتها، كل هذه عندي أحكام يتعجل بها أصحابها، ويرسلونها على غير تحقيق، وإذا فقد يكون الإسراف أن تتخذ هذه الروحية المصرية الغامضة التي يسرع إليها الشك والتي تعجز عن أن تثبت للبحث، والتي توشك أن تكون خيالا تخيلته أنت وتخيله أصحابك من الأدباء ورجال الفن أساسا لأدبنا المصري الحديث. فمن يدري؟ لعل البحث عن آثار مصر أن يكشف لنا بعد زمن طويل أو قصير عن حياة مصرية قديمة تغاير كل المغايرة هذا الخيال الذي تحبونه وتطمئنون إليه.
نحن إذًا أمام أمرين: أحدهما عرضة للشك الشديد لا تكاد نعرف منه شيئا، والآخر لا سبيل إلى الشك فيه؛ أحدهما حياة مصر القديمة وحضارتها العقلية -إن صح هذا التعبير- والآخر حياة العرب وحضارتهم، فإلى أي الأمرين نفزع لنقيم عليه بناء أدبنا الجديد؟ إلى الشك أم إلى اليقين؟
وهنا يظهر الخلاف بينك وبيني شديدًا حقا.
ولكن رأيك في العرب وآثارهم في حاجة شديدة جدًا إلى التقويم، فقد كنا نرى أن ابن خلدون جار على العرب فإذا أنت أشد منه جورًا وأقل منه عذرًا، يسر الله لك من أسباب العلم لمختلف الأمم والشعوب ما لم ييسره لابن خلدون، فإذا قبل من هذا المؤرخ الفيلسوف أن يتورط في الخطأ لأن عقله الواسع لم يحط من أمور اليونان والرومان والهند والفرس والمصريين القدماء بما نستطيع نحن الآن أن نحيط به أو نمعن بوجه عام، وقد ذهبت إلى مثل ما ذهبت إليه جماعة من المستشرقين منهم دوزي ورينان، وأحسبكم جميعا تظلمون العرب ظلما شديدا وتقضون في أمرهم بغير الحق.
فلو أنكم ذهبتم تقارنون بين العرب وبين الهنود والفرس والمصريين القدماء لما كان من حقكم أن تقدموا هذه الأمم في الأدب على الأمة العربية بحال من الأحوال، لأننا لا نكاد نعرف من آداب هذه الأمم في تاريخها القديم شيئا يقاس إلى ما بين أدبنا من الأدب الغربي.
فإذا أردت أن تقارن بين العرب والرومان فأظنك توافقني على أن الأدب العربي الخالص أرقى جدًا من الأدب الروماني الخالص، أي أن الأدب الروماني إنما ارتقى حقا حين أثر فيه الأدب اليوناني، فالرومان تلاميذ اليونان في الأدب والفن والفلسفة والعرب يشبهونهم في ذلك، ولكن العرب كان لهم أدب ممتاز قبل أن يتأثروا بالحضارة اليونانية ولم يكن للرومان من هذا الأدب الروماني الممتاز حظ يذكر.
وقد تفوق الرومان في الفقه ولكنهم لم يسبقوا العرب في هذه الناحية من نواحي الإنتاج، ولعل الأمة الوحيدة التي يمكن أن تشبه الرومان في الفقه إنما هي الأمة العربية.
لم يبق إذًا إلا أدب اليونان هو الذي يمكن أن يقال فيه أنه متفوق على الأدب العربي حقا، ولكن من الذي يقيس رقي الأدب في أمة من الأمم برقي الأدب في أمة أخرى.
وليس من شك أن الأدب العربي قد صور حياة العرب تصويرًا صادقًا فأدى واجبه أحسن الأداء، وكل ما يؤخذ به الأدب العربي القديم وهو أنه لا يصور حياتنا نحن الآن.
وأنت تميز اليونان بالحركة وتميز العرب بالسرعة وتستنبط من هذه السرعة ظلما كثيرًا للعرب. كما فعل ابن خلدون من قبل، وليس من شك
إن العرب يشاركون اليونان في الحركة، ولكن ليس من شك أيضا في أنك تغلو غلوا شديدًا في وصفهم بالسرعة. إنما أسرع العرب في الخروج من باديتهم، ولكنهم حين بلغو الأمصار استقروا فيها وطال بهم المقام.
وأريد أن أدع هذه المناقشات وأن أخلص إلى جوهر الموضوع الذي تريد أن تعرف رأيي فيه. عناصر ثلاثة تكون منها الروح الأدبي المصري منذ استعربت: أولها العنصر المصري الخالص الذي ورثناه من المصريين القدماء على اتصال الأزمان بهم وعلى تأثرهم بالمؤثرات المختلفة التي خضعت لها حياتهم والذي نستمده دائما من أرض مصر وسمائها، ومن نيل مصر وصحرائها، هذا العنصر موجود دائما في الأدب المصري الخالص، فيه شيء من التصوف وفيه شيء من الحزن وفيه شيء من السماحة وفيه شيء من السخرية.
والعنصر الآخر هو العنصر العربي الذي يأتينا من اللغة ومن الدين ومن الحضارة، والذي مهما نفعل فلن نستطيع أن نتخلص منه ولا أن نضعفه ولا أن نخفف تأثيره في حياتنا، لأنه قد امتزج بهذه الحياة امتزاجا مكونا لها مقوما لشخصيتها فكل إفساد له إفساد لهذه الحياة ومحو لهذه الشخصية، لا تقل: إنه عنصر أجنبي، فليس أجنبيا هذا العنصر الذي تمصر منذ قرون وقرون فليست اللغة العربية فينا لغة أجنبية، إنما هي لغتنا وهي أقرب إلينا ألف مرة من لغة المصريين القدماء، وقل مثل ذلك في الدين، وقل مثله في الأدب.
أما العنصر الثالث: فهو العنصر الأجنبي الذي أثر في الحياة المصرية دائما والذي سيؤثر فيها دائما، والذي لا سبيل لمصر إلى أن تخلص منه، ولا خير لها في أن تخلص منه لأن طبيعتها الجغرافية تقتضيه، وهو الذي يأتيها من اتصالها بالأمم المتحضرة في الشرق والغرب، جاءها من اليونان والرومان
واليهود والفينيقيين في العصر القديم، وجاءها من العرب والترك والفرنجة في القرون الوسطى ويجيئها من أوربا وأمريكا في العصر الحديث.
وأخوف ما أخاف على هذا الروح المصري شيئان: أحدهما أن تلهينا الثقافة الأوروبية عن الثقافة المصرية والعربية، وكل شيء يغوينا بها ويغريها بنا فهي ضرورة من ضرورات الحياة، فمن الحق علينا ألا نضيع حظنا منها ولكن من الحق علينا ألا نفني أنفسنا فيها.
"تحول طه حسين عن هذا الرأي في كتاب مستقبل الثقافة".