الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثقافة دار العلوم: بين أحمد أمين ومهدي علام
مرت فترة على الثقافة العربية في مصر، قام فيها صراع عنيف بين الأزهر والجامعة وبين دار العلوم والقضاء الشرعي، وبين دار العلوم والجامعة، وكان أحمد أمين من خريجي القضاء الشرعي ثم عمل بالجامعة فهاجم الأزهر ودار العلوم في العدد الأول من مجلة الرسالة في مقال له بعنوان حلقة مفقودة. وقد رد عليه الدكتور مهدي علام فيما يتعلق بثقافة أبناء دار العلوم في مقال بالعدد الأول من مجلة دار العلوم.
أحمد أمين 1 حلقة مفقودة:
في مصر حلقة مفقودة لا نكاد نشعر بوجودها في البيئات العلمية مع أنها ركن من أقوى الأركان نبني عليها نهضتنا وفقدانها سببًا من أسباب فقرنا في الإنتاج والقيم والغذاء الصالح.
تلك الحلقة هي طائفة من العلماء جمعوا بين الثقافة الدينية الإسلامية العميقة وبين الثقافة الأوروبية العلمية الدقيقة، وهؤلاء يعوزنا الكثير منهم ولا يتسنى لنا أن ننهض إلا بهم ولا نسلك الطريق إلا على ضوءهم.
إن أكثر من عندنا قوم تثقفوا ثقافة عربية إسلامية بحتة وهم جاهلون كل الجهل بما يجري في العصر الحديث من آراء ونظيرات في العلم والأدب والفلسفة وطائفة أخرى تثقفت ثقافة أجنبية بتة يعرفون آخر ما وصلت إليه نظريات العلم في الطبيعة والكيمياء والرياضة ولكنهم يجهلون الثقافة العربية الإسلامية كل الجهل.
هاتان الطائفتان عندنا يمثل الأول خريجو الأزهر ودار العلوم ومدرسة القضاء ويمثل الأخرى نوابغ خريجي المدارس العصرية والثقافات الأوروبية.
1 الرسالة: العدد الأول 15 "يناير 1933".
ذلك أن الأولين إذا أنتجوا نعيب إنتاجهم أنهم لم يستطيعوا أن يفهموا روح العصر ولا لغة العصر ولا أسلوب العصر، وإنما التزموا التعبير القديم في الكتابة والنمط في التأليف وتحجر أمثلتهم ومل الناس بلاغاتهم وعمادها رأيت أسدًا في الحمام وعضت على العناب بالبرد.
ومل الناس نحوه ومداره ضرب زيد عمرا ورأيت زيدا حسنا وجهه، أما الآخرون فضعف ثقافتهم العربية الإسلامية، فلما أرادوا أن يخرجوا شيئا لقومهم وأمتهم أعجزهم الأسلوب والروح الإسلامي، فلم يستطيعوا التأليف ولا الترجمة وحاولوا ذلك مرارا فلم يفهم الناس ما يريدون، والذي جر إلى فقدان هذه الحلقة أن التعليم عندنا سار في خطين متوازيين لم يلتقيا، فالتعليم العربي الإسلامي سار في خط والتعليم المدني الحديث سار في خط آخر، ولم تكن هناك محاولات جدية لتلاقي الخطين أو ربط بعضهم ببعض وقد كان إخواننا الهنود أسبق منا إلى إيجاد هذه الحلقة والانتفاع بها.
ولكن الهنود يعرضون وآسفاه "إنتاجهم" باللغة الإنجليزية فلا يغذون جمهورنا ولا يسدون حاجة العالم العربي.
محمد مهدي علام 1؛ الحلقة المفقودة:
شاء صديقنا الكاتب أن يختص أبناء دار العلوم بالنصيب الأوفى من سهام جعبته، فكتب ردًا على تلك المقالة
…
ولكني رأيت أن الأستاذ أحمد أمين أكرم علينا من تنازله على صفحات الجرائد التي لا يقتصر قراؤها على خاصة القوم.
1 مجلة دار العلوم "العدد الأول" يونيه 1934.
يدعي صديقنا المفضال أن رجال "دار العلوم" لا يمثلون إلا الثقافة الإسلامية وحدها وأنهم لا يزالون حيث كانت مصر قبل اتصالها بأوربا "إذا أنتجوا نعيب إنتاجهم أنهم لم يستطيعوا أن يفهموا روح العصر ولا لغة العصر ولا أسلوب العصر وإنما التزموا التعبير القديم في الكتابة والنمط القديم في التأليف، وتحجرت أمثلتهم ومل الناس بلاغتهم وعمادها رأيت أسدا في الحمام وعضت على العناب بالبرد وعشرة أمثلة عن هذا الطراز.
ومل الناس نحوهم ومداره ضرب زيد عمرا ورأيت زيدًا حسنا وجهه. وسئم الناس منطقهم وكله الإنسان حيوان وكل حيوان يموت فالإنسان يموت وهذا حجر وكل حجر جماد فهذا جماد".
ويخيل إلى قارئ هذه المقالة أن كاتبها لا يعيش على أرض مصر ولا يتصل بعالم العلم والأدب فيها، ولا بالثروة التأليفية التي نهضت في هذا العصر، أو أنه يعرف كل ذلك ولكنه لسبب ما لا يريد أن يعترف به.
"ثم عدد مؤلفات أبناء دار العلوم".
هل نسي الأستاذ أن الأزهر يوم أراد الإصلاح الجديد لم يجد أمامه إلا رجال دار العلوم يستنجد بهم ليقوموا بهذا العمل النبيل فيكونوا رسل الثقافة الحديثة إلى المعهد العتيد، بل هل نسي السيد أن كلية الآداب بالجامعة المصرية التي يعتز صاحب الحلقة المفقودة المزعومة بأستاذيته فيها، لا يقوم عبء التدريس في قسم اللغة العربية فيها والنهضة بها إلا على شيوخ دار العلوم فإذا استثنى الأستاذ نفسه وزميلا فاضلا آخر لم يجد الجامعة إلا إخواننا الفضلاء: إبراهيم مصطفى وطه أحمد إبراهيم وعبد الوهاب حمودة وأحمد الشايب وعبد العزيز أحمد.
على أنني أشعر بميل ملح لأن أسر في آذان الأستاذ كلمة بيني وبينه: هو أن يحدثني عن الأساتذة الذين كان لهم فضل تثقيفه في مدرسة القضاء الشعري وفي الجامعة المصرية القديمة فهل يسمح له أدبه المعروف بأن ينكر ما تركه في نفسه من أثر كل من أساتذته: عاطف بركات ومحمد الخضري، وعبد الحكيم بن محمد وحسن منصور ومحمد المهدي وحفني ناصف وغيرهم.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
…
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
على أنني أريد أن أجاري الأستاذ، جدلا، في أن طلبة دار العلوم -أو على الأصح خريجها- لا يمثلون الحلقة المفقودة الموهومة. فهل لي أن أطمع في أنصافه بالاعتراف بأن خريجي دار العلوم عشرات قد تمموا دراساتهم العالية في جامعات إنجلترا وفرنسا وألمانيا، وأن من الإسراف في الطعن والتجريح أن يدعي مدع أنه حتى هؤلاء لا يمثلون ما يسميه الأستاذ "الحلقة المفقودة" في أمة أنا وهو نعلم عدد المتعلمين فيها.
وثم غلط آخر وقع فيه صديقنا النابه. وأرجح الظن أن الذي أوقعه فيه هو خطؤه الأول في الحكم علينا -لأسباب نحرص أنفسنا على اعتقاد أننا نجهلها- ذلك أنه ادعى أن "إخواننا الهنود أسبق منا إلى إيجاد هذه الحلقة والانتفاع بها". فإن ما فرغ من أطرائه إخواننا الهنود على إيجاد "الحلقة المفقودة" عندهم حتى سطر بقلمه ما ينقض ذلك
…
ويهدم كل ادعاء بأن حلقة مفقودة قد وجدت في الهند، ويسمع إليه القارئ حين يقول:"ولكن الهنود يعرضون وآسفاه ذلك باللغة الإنجليزية" مرحى مرحى! فهل يرى الأستاذ أن تأليف الهنود في الشريعة والتاريخ الإسلامي باللغة الإنجليزية يصل السلسلة المقطوعة بحلقة أو يقيم على الهوة السحيقة بين الشرق والغرب قنطرة.
وهل يعد ذلك إيجادًا للحلقة المفقودة.
إن الحلقة المفقودة لا تتحقق في أمة من الأمم إلا بما اشترطه الأستاذ أحمد أمين في مستهل مقاله من أن يكون التأليف بلغة الأمة وبلغتها العصرية. أرأيت يا صديقي أنك تكيل في المقالة الواحدة بكيلين فتعد اللغة الوطنية أساسًا في الحلقة المفقودة المصرية ولا يقيم لها وزنًا في الحلقة المفقودة الهندية.