المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السادس: كتاب ثورة الأدب - المعارك الأدبية

[أنور الجندي]

فهرس الكتاب

- ‌مدخل

- ‌أولا: معركة مفاهيم الثقافة

- ‌ثانيا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌ثالثا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌الباب الأول: معارك الوحدة والتجزئة

- ‌معركة الوحدة العربية

- ‌مصر بين العربية والفرعونية:

- ‌معركة العروبة والمصرية:

- ‌الباب الثاني: معارك اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌تمصير اللغة العربية:

- ‌مجمع اللغة، ما هي مهمته

- ‌معركة الكتابة بالحروف اللاتينية:

- ‌الباب الثالث: معارك مفاهيم الثقافة

- ‌مدخل

- ‌ثقافة الشرق ثقافة الغرب:

- ‌معركة بين فيلكس فارس وإسماعيل أدهم:

- ‌لا يتنيون وسكسونيون: بين العقاد وطه حسين

- ‌النزعة اليونانية بين زكي مبارك وطه حسين:

- ‌كتابة السيرة" بين التاريخ والأسطورة:

- ‌كتابة التاريخ: بين رفيق العظم وطه حسين

- ‌معركة الترجمة: بين منصور فهمي وطه حسين

- ‌آداب الساندويتش: بين الزيات والمازني والعقاد

- ‌أدبنا: هل يمثلها؟ بين أحمد أمين وأمين الخولي

- ‌غاية الأدب: ما هي؟ بين زكي مبارك وسلامة موسى

- ‌متى يزدهر الأدب؟ معركة بين لطفي جمعة وزكي مبارك:

- ‌الأدب المكشوف: بين توفيق دياب وسلامة موسى

- ‌التراث الشرقي؛ يكفي أو لا يكفي؟: بين عبد الرحمن الرافعي وعباس محمود العقاد

- ‌ثقافة دار العلوم: بين أحمد أمين ومهدي علام

- ‌الباب الرابع: معارك الأسلوب والمضمون

- ‌الأسلوب والمضمون: بين الرافعي وسلامة موسى وطه حسين

- ‌أسلوب الكتابة: معركبة بين شكيب أرسلان وخليل سكاكيني

- ‌أساليب الكتابة؛ بين شكيب أرسلان ومحمد كرد علي:

- ‌الباب الخامس: معارك النقد

- ‌الفصل الأول: أسلوب طه حسين

- ‌الفصل الثاني: مقومات الأدب العربي

- ‌الفصل الثالث: مذهبان في الأدب:

- ‌الفصل الرابع: بين النقد الذاتي والموضوعي

- ‌الفصل الخامس: الأدب بين التجديد والانحراف

- ‌الفصل السادس: هل نقتبس أم نقلد

- ‌الفصل السابع: معركة فقدان الثقة

- ‌الفصل الثامن: الفن للفن والفن المجتمع

- ‌الباب السادس: معارك النقد حول الكتب

- ‌الفصل الأول: رسالة منصور فهيم الدكتوراه

- ‌الفصل الثاني: الخلافة وأصول الحكم

- ‌الفصل الثالث: معركة الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌نماذج من حملات المعركة:

- ‌تجدد معركة الشعر الجاهلي:

- ‌الفصل الرابع: كتاب "النثر الفني

- ‌الفصل الخامس: كتاب "أوراق الورد

- ‌الفصل السادس: كتاب ثورة الأدب

- ‌الفصل السابع: "كتاب" مع المتنبي

- ‌الفصل الثامن: معركة مستقبل الثقافة

- ‌الباب السابع: المعارك بين المجددين والمحافظين

- ‌الفصل الأول: معارك الرافعي

- ‌الفصل الثاني: معركة فضل العرب على الحضارة

- ‌الفصل الثالث: الدين والمدينة

- ‌الفصل الرابع: التغريب

- ‌الفصل الخامس: حقوق المرأة

- ‌الفصل السادس: معركة حول التراث القديم

- ‌الفصل السابع: معركة الخلاف بين الدين والعلم

- ‌الفصل الثامن: جمال الدين الأفغاني ورينان

- ‌الفصل التاسع: خم النوم

- ‌الفصل العاشر: بين النقد والتقريط

- ‌الباب الثامن: معارك بين المحافظين حول اللغة

- ‌المعركة الأولى:

- ‌المعركة الثانية:

- ‌المعركة الثالثة:

- ‌الباب التاسع: معارك نقد الشعر

- ‌الفصل الأول: بين شوقي ونقاده

- ‌الفصل الثاني: بين عبد الرحمن شكري والمازني

- ‌الفصل الثالث: إمارة الشعر

- ‌الفصل الرابع: ديوان وحي الأربعين

- ‌الباب العاشر: معارك النقد بين المجددين

- ‌الفصل الأول: بين التغريب والتجديد

- ‌الفصل الثاني: معركة الكرامة

- ‌الفصل الثالث: معركة الصفاء بين الأدباء

- ‌الفصل الرابع: معارك النقد

- ‌الفصل الخامس: بين زكي مبارك وخصومه

- ‌الفصل السادس: مبارك ينقد كتابه

- ‌الفصل السابع: بين العقاد وخصومه

- ‌الفصل الثامن: بين سلامة موسى وخصومه

- ‌الفصل التاسع: بين المازني وخصومه

- ‌الفصل العاشر: معارك أدبية؛ بين الدكتورين هيكل وطه حسين

- ‌الفصل الحادي عشر: معركة لقمة العيش

- ‌الفصل الثاني عشر: بين شباب الأدب وشيوخه

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌الفصل السادس: كتاب ثورة الأدب

‌الفصل السادس: كتاب ثورة الأدب

بين فريد وجدي والدكتور هيكل:

هذه المعركة نموذج طيب للنقد في الأدب العربي المعاصر، فهي مساجلة خلت من كل عبارات السخرية أو الغرض أو الاندفاع وراء الأهواء، ناقش بها محمد فريد وجدي آراء الدكتور هيكل في كتابه "ثورة الأدب" مناقشة موضوعية هادئة.

بحث 1 في ثورة الأدب؛ من فريد وجدي:

قال هيكل: الأدب فن جميل غايته تبليغ الناس رسالة ما في الحياة والوجود من حق وجميل بواسطة الكلام، والأديب هو الذي يؤدي هذه الرسالة.

فريد وجدي: في رأيي أنا أن هذا التجديد على افتراض صحته ناقص وكان حقه أن يقول: إن غاية الأدب تبليغ الناس ما في الحياة والوجود من حق وباطل وجميل وقبيح وخير وشر، فإن في الحياة والوجود كل ذلك بدليل أن كثيرًا من القطع الأدبية نثرًا وشعرًا قديما وحديثا قد بالغت في الباطل والقبيح والشر إلى حد أن أنكرت معه الحق والجميل والخير معبرة عن مذهب التشاؤميين من الفلاسفة وهذه القطع من الكثرة بحيث لا يمكن أن تعتبر من النادر الذي لا حكم له.

وهذا الاقتصار من الدكتور فضلا عن أنه يخل تعريف الأدب فإنه يدمجه في دائرة الفلسفة التفاؤلية فإن غرضها هي أيضًا بيان ما في الوجود من حق

1 الأهرام 18 يونيه 1933.

ص: 394

ثم قال: فنحن هنا بإزاء أديبين كبيرين يكتبان في موضوع واحد فيقول أحدهما: إن كل حركة في حياتنا الأدبية اليوم ثورة وإن المحافظين أنفسهم ثائرون على ما يؤيدونه، والآخر يقول: إن حركة مهما كبرت عندنا وعند غيرنا يصح أن تسمى ثورة.

ولو سألت أديبا ثالثًا ورابعًا وخامسًا على أن يكتبوا لوجودا وجوها أخرى من الخيال والتلاعب بالألفاظ في تعليل صحة اسمه وفي التدليل على عدم صحته تناقض هذين الرأيين1.

-2-

عرض لما ذكره هيكل من أن الأدب في ثورة منذ الثورة العرابية وإلى الاحتلال إلى ثورة 1919.

ثم قال: نحن نخالفه في وجود ثورة أدبية أولا، وتقرر أن هناك نهضة لغوية لا أكثر ولا أقل.

وقال: إن أركان الثورة غير مستوفاة وقال: إن الثورة كما عرفها العلم هي انقلاب فجائي يحدث في الأشياء والآراء أو الحكومة فلدينا بموجب هذا التعريف أركان ثلاثة: أولهما الانقلاب والثاني الفجاءة والثالث العنف.

ونحن إذا بحثنا فيما نحن بصدده لم نجد واحدًا منها فلم يحدث انقلاب في اللغة فإن ما كان يكتب به الناس على عهد محمد علي هو ما نكتب به اليوم اللهم إلا تعبيرات اقتبسها بعض الكتاب عن اللغات الأوروبية لايزال يعفو عنها كبار الكتاب ويعدونها مجافية لروح البلاغة العربية وكل ما حدث هو ميل هؤلاء الكتاب والكبار عن طريقة الترسل التي كان قد أغرى بها كتاب القرون

1 الأهرام 18 يونيه 1933.

ص: 395

الإسلامية الوسطى من الإطالة والتحذلق والتخطيط إلى الطريقة البدوية الصريحة الموجزة التي تهجم بالقارئ على الغرض من أقرب الطرق وأوقعها في النفس.

ثم يحدث عن تطور اللغة في عهد عبد الله نديم ومحمد عبده فجرى هؤلاء بالعربية شوطا بعيدًا وعملوا على نشرها بين آحاد الشعب فزادوا في تذوقهم اللغة الصحيحة وتبع ذلك تحسن كثير في اللهجة العلمية.

وبينما اللغة تسير سيرًا طبيعيًا "بطيئًا" في هذا الدرب إذا برأي ارتآه بعضهم وعده شرطا أوليا في إنهاض الأمة من الناحية الأدبية، وذلك بإشراكها في كل ثمرات العقول مؤداه توحيد لغتي الكلام والكتابة بالاعتماد على اللغة العامية مستندا في إبداء هذا الرأي على ما حدث لجميع أمم العالم من اتخاذ لهجة الكلام في كل منها لغة للأدب والعلم والدين معا. وإهمال اللغات الرئيسية التي اشتقت تلك اللهجات منها فثار على هذا الرأي بعض الكاتبين وعاونهم العامة أنفسهم بالتقزز منه. وكان السائق إلى هذا الإجماع المحافظة على لغة القرآن وحمياتها من التدهور فيحال بين الناس وبين كتابهم السماوي المعجز. وما هي إلا بضع عشرة مقالة حتى قبع صاحب هذا الرأي في كسر مكتبه ولم يجرؤ على استئناف البحث فيه1.

ثم شرح الوسائل إلى تقريب الشقة بين لغة الكتابة ولغة الكلام وهي حروف الكتابة وحروف المطبعة على وجه يكفل عدم اللحن ووجوب النظر في إصلاحها بواسطة جماعة من كبار أهل البصر. ويستند إليهم ابتكار طريقة صالحة لأن يقرأ بها قراءة صحيحة بدون اللجوء إلى معاجم اللغة فإذا كتبت هذه اللغة بحروف تمثل النطق بكلماتها.

ثم قال: هذا الداء الناجز الذي فتك باللغة العربية ومزقها شذر مذر

1 يشير الكاتب إلى مقالات لطفي السيد في الجريدة عام 1913.

ص: 396

وجميل، وهذا الإدماج لو صح في بيئة لا تزال على حالة السذاجة الأولى فلا يصح في بيئة أخذت من الفلسفة والعلوم بحظ كالبيئة التي نعيش فيها وقد أصبح تحديد منطقة الأدب من الضرورات العقلية للعلة التي ذكرناها.

هيكل: الأدب من الفلسفة وفن العلم كالزهرة الجميلة وكالثمرة الناضجة وكالخضرة النضرة من الشجرة الضخمة شجرة الفلسفة. فلكي تكون حقيقة الأدب جميلة ولكي يكشف الأدب للناس عما في الحياة من حق وجميل يجب أن يتغذى ما استطاع من ورد الفلسفة وورد العلم.

"فريد وجدي": وفي رأيي أنه لو قال: "الأدب من اللغة الصحيحة المعقولة ومن الخيال العالي الجذاب كالزهرة الجميلة والثمرة الناضجة ولكي تكون مادة الأدب أشهى للمتناول ولكي يكشف الأديب للناس عما في الحياة من حق وباطل وجميل وقبيح وخير وشر يجب أن يتغذى ما استطاع من لباب الفلسفة والعلم".

وهذا التعريف أقرب إلى تعريف الأدب النافع، والأدب الصالح، وأجمع لأدواتهما في التعريف الأول، فنحن اليوم لسنا بحاجة إلى التأنقات الكتابية والإطلاقات الخيالية في وضع حدود لمناطق النشاط العقلي ولكن بحاجة ماسة إلى تسمية كل شيء باسمه وقرنه بمميزاته ليقف عند حده.

ثم عرض لما كتبه طه حسين عن الكتاب فقال عنه: "وهل حياة الأدب العربي في هذه الأيام إلا ثورة متصلة، كل إنتاجنا الأدبي ثورة حتى الذين يسمون أنفسهم محافظين ويلحون في المحافظة، هؤلاء أنفسهم ثائرون يفرون من القديم الذين يحرصون عليه".

وعرض لما قاله المازني: "أؤمن بأن الثورات أكاذيب وأنا أدور بعيني فلا أرى ثورة متصلة ولا منقطعة لا في الأدب ولا في سواه، وإنما أرى خطوات بطيئة طبيعية".

ص: 397

لايزال يفت في عضدها إلى اليوم ويقطع عليها سبيل الاتصال بالعلماء!

-3-

قال هيكل: وقد احتدمت معركة القديم والحديث هذه منذ سنين طويلة ونقل المحاربون فيها في ميادين مختلفة، كانت هذه الميادين قبل الحرب العامة، تتناول أساليب الكتابة وتتناول الألفاظ العلمية وغير العلمية إلى يومئذ كانت الغلبة لأنصار تقليد الأدب القديم وكان السجع والإغراب في اختيار الألفاظ بعض ما يمتاز به كتاب العصر.

"فريد وجدي": ونحن نرى أن إيراد تاريخ الأدب على هذه الصورة يطمس معالمه، لم تحتدم معركة ما بين قديم وحديث في أساليب الكتابة ولا في نقل الألفاظ العلمية وغير العلمية إلى العربية، ولا كان السجع والإغراب في الألفاظ مميزين للبلاغة العربية ما قبل الحرب العالمية.

والذي يعرفه كل مطلع على تاريخ هذه اللغة أن الكتاب كانوا أحرارًا في تخير أساليبهم ولم يحجر على كاتب أسلوبا يتميز به إلا ما كان من استحسان الناس واستهجانهم له شأن أسلوب كتابنا إلى اليوم، نعم أعتبر السجع وجها من وجوه المحسنات اللفظية ولم يقل أحد إنه الأسلوب المميز للبلاغة العربية.

وكيف يعقل أن يتشبث أنصار القديم بالسجع والإغراب. وقد قال أئمتهم الأولون بأن السجعة لا بأس بها إن جاءت عفوا ولم يكن بها تكلف. وقد عدوا الإغراب في الألفاظ من العيوب التي تحط من قدر البلاغة، أما الألفاظ العلمية فلم تنشب بسببها لدينا معركة، وكل ما حدث حولها شكوى الكاتبين والمترجمين من حيرتهم حيالها والتماسهم من كبار العارفين بالعربية العمل على تعريبها تعريبًا لا يجافي أصول اللغة الصحيحة.

نعم، رأى بعضهم أن تكتب تلك المصطلحات على ما هي عليه، ورأى

1 23 يونيه 1933 الأهرام.

ص: 398

آخرون تعريبها، ولكن لم يتعد هذا الخلاف منطق الحوار إلى النزال والنضال فكان الأولون يقولون إنهم يستنون بتلك الألفاظ أسنة واثلنا فإنهم لم يتحرجوا أن يطلقوا على كل علم أو أداة أو عقار اسم مستكشفيه، وكانت حجة الآخرين أن العربية تسع جميع المصطلحات فيمكن أن يطلق عليها ألفاظ عربية فلم يصادف رأي أحد الفريقين إجماعا وظل كبار الكتاب يكتبون بما يبدو لهم غير مقيدين بمذهب، أما صور الأدب وما يصح أن يكون عليه فلم يعترك عليها قلمان. ولم يقل أحد بوجوب قصر تلك الصور على حال لا يجوز تعديلها.

وتخير الأسلوب يرجع إلى ثقافة الكاتب العلمية وقدرته اللغوية فكل ما شهدناه في هذا الباب أن شبانا ممن لم يتسع لهم الوقت لدراسة العربية يريدون في نفس الوقت أن يكونوا كتابا ونقدة أدب أكثروا من الكتابة في وجوب التحلل من قيود العربية وفي الإشارة بأنهم في طليعة أهل التجديد.

والواقع أنهم قاصرون في اللغات التي يدعون إلى تحدي أساليبها قصورهم في العربية نفسها ولكن لأجل أن يعتبروا في الرعيل الأول من المجددين كان لا بد لهم من كلام يلوكونه بألسنتهم ويصرفونه بأقلامهم كلما لاح لهم الكلام أو الكتابة فإذا طلبت إليهم أن يستنوا بألسنة التي يدعون إليها أتوا بكل سمج مرذول من العبارات التي لا تمت إلى أحد الأسلوبين بصلة.

إن اللغة العربية لم تبلغ إلى اليوم على أقلام كتابها السمو الذي كان للغة في عهدها الذهبي عند أسلافنا. وفي رأينا أنها كانت قد وصلت إلى منزلة من الصقل والفخامة تستطيع معها أن تقف جانبا إلى جنب مع أية لغة من لغات الغربيين اليوم.

ص: 399

نعم؛ إن أكابر كتابنا ليقصرون عن أن يبلغوا شأو فحول العربية في عصرها القديم لا من ناحية تخير الألفاظ والإبداع في صوغها فحسب ولكن في أسلوب الأداء ودقة التركيب أيضًا.

-4-

الدكتور هيكل1: إن شبابنا الذين وفدوا إلى أوربا كانوا قد فتنوا بالأدب الكبير فيها فلما عادوا كان هذا الأدب الكبير قد دالت دولته وحل محله نوع من الأدب يصح أن يوصف بالصغير.

"فريد وجدي": إن ما يسميه الدكتور بالأدب الكبير في أوربا في العهد الذي كان شبابنا يدرسون الأدب فيها كان يعتبر في نظر أئمة الأدب في القرن السابق أدبا صغيرا قصد به الكتاب إرضاء شهوات النفوس وأمتاعها بذكر اللذات الجسدية، وكان علماء الاجتماع يعدونه خروجا بالأدب عن صراطه إلى ما لا يتفق ومصلحة الاجتماع، وشبابنا لما يلزموا سمت الأدب الأوروبي الذي يصفه هيكل بالكبير ولكنهم يجرون على سنة ما يدعونه بالأدب الصغير الذي يخدم شهوات النفوس ويثير فيها ما كمن رعوناتها البهيمية فكل ما يكتبه قصاصونا وما تمثله مسارحنا اليوم صورة صحيحة من هذا الأدب الصغير بل هو ترجمة حرفية له يصح أن توضح بكل ما وصف به الدكتور هذا الأدب المنحط وكيف يتأتى أن يكون الأمر على غير ما يقول وقد تشعبنا بروح الفلسفة المادية وتدهورها في أخلاقنا وعادتنا إلى حيث لم يصل إليه الأوروبيون بعد، أفيستطيع ناقد بصير أن يعين لي وجها من وجوه الخلاعة والتهتك وضربا من ضروب الاستخفاف بالآداب والأخلاق مما يصادف في أوربا لم نأخذ به ولم نسبق أهله فيه؟

1 7 يوليو 1933 الأهرام.

ص: 400

"هيكل عن الحضارة": إن الكثرة من الأدباء رأوا أن تكون تلك الحضارة حضارتنا الماضية.

"فريد وجدي". وهذا في نظرنا رأي غريب بل هو من المستحيلات العقلية فإن أدب أية أمة لا يمكن أن يكون إلا مظهرًا لحضارتها الراهنة التي هي عليها لا حضارة ماضية، وإلا كان عبثا محضا.

كيف يعقل أن يكون مظهر الأدب حضارة قديمة قد لا يعرف القراء عنها أكثر مما قرءوه في الكتب المدرسية وكل من طالع ما كتبه كتابنا وما يكتبون لا يجد فيه غير مظاهر حضارتنا الحالية.

والأدب لا يكون إلا مظهر حضارة الأمة في الوقت الذي يكتب فيه؛ لأن الأدب مبني على وصف الواقع وما يمكن أن يقع.

فإذا قيل: إن الأدب الأوروبي قد حمل نير المدينتين اليونانية والرومانية أجيالا فلا يعني أن القطع الأدبية في أوربا كانت توضع في قوالب حضارة يونانية أو رومانية ولكن بمعنى أنها حملت تقاليدها العلمية والفلسفية والشرعية واللغوية.

وهذا الغير محكوم ببقائه على عاتق أوربا ما دامت علومها وفلسفاتها وشرائعها مستمدة من هاتين الأمتين.

ونحن على هذا القياس محكوم علينا بحمل نير التقاليد اللغوية والعلمية والفلسفية والتشريعية لأسلافنا عن طريق الحتم لا التمييز.

يقول الدكتور: ورأى الأقلون الأخذ بالحضارة الأوروبية في كل مظاهرها كما فعل الأتراك.

ثم علق على ذلك بقوله: إن كلينا في هذه الجيل كفرسي رهان فإننا

ص: 401

مدفوعون للأخذ بحضارة الغرب في كل شيء في لباسنا أو أكلنا أو عاداتنا وثقافتنا العقلية لا يمتاز عنا الترك إلا في شيء واحد، هو أنهم أشد تحوطا من الفناء في جثمان الأمم الغربية منا لأنهم يأخذون بمظاهر مدنيتهم مع الاحتفاظ بقوميتهم.

ولكننا لا نحتفظ بمميزات قوميتنا، وقد تركنا لعوامل التحلل تنتاشنا من كل جانب فكثير منا يتكلمون في بيوتهم باللغات الأجنبية والتكلم بغير اللغة التركية محظور في تركيا فنحن لا نكتفي بالأخذ بمظاهر المدنية الأوروبية فحسب، ولكننا نهدر قوميتنا في سبيلها والترك مع أخذهم بمظاهر هذه المدنية يقتبسون حوافظ قومياتها أيضًا.

فإن كان عندنا أدب فليجعل همه التنبيه على هذه النقائض القومية فإن لغتنا أثرى اللغات ألفاظا وأرقها منطقا وأدقها معاني فلا يحل لنا أن نجعلها نهبًا للعجمة تتحيفها من جميع نواحيها، وإننا لنأسف أن كتابنا قد وقفوا أدبهم الهوى.

-5-

تحدث عن رأي الدكتور هيكل عن مهمة الأدب في "تجلية جانب الإيمان في النفس".

كيف يرجى من أديب كل همه مصروف إلى تحليل عاطفة الهوى ودرس تيارات الجوى أن يتناول بالبحث أعلى عواطف النفس وهي عاطفة الدين بمثل أسلوبه الذي مرن عليه واستولى على شعوره، وهي تستدعي أسلوبا يجافي ذلك الأسلوب، ولا يمت إليه بصلة من درس النفس في حالة عزوفها عن الشهوات الجسدانية.

أمن الحق أن يكلف الكاتب التبريز في تصور المتناقضين فيراد منذ

ص: 402

أن يتدله في الجمال الصوري ثم أن يعود فيضرب بهذا كله عرض الحائط ويدرس عاطفة تحقره كل الاحتقار.

ولسنا ننسى ما جره تدخل الأدباء فيما ليس من اختصاصهم في العشر السنين الأخيرة في المباحث الدينية فقد تناولوها على طريقة الماديين وأثاروا فيها شكوكا لا محل لها لو كانوا عنوا بدراستها دراسة علمية، فكان من أثر ذلك أن أهاجوا الناس عليهم هياجا مشروعا فخرجوا من هذه المعمعة على غير ما كنا نرجوه لهم.

ولا ندري كيف ساغ للدكتور هيكل أن يقع في هذا الخطأ بعد ما رأى من التجربة المؤلمة، وهو بكتابه يرمي إلى تأييد الدين لا إلى إفساد عقائد الناس فيه وإثارة الشبهات عليه ولا إلى قطع صلة الماضي بالحاضر منه.

ومن الأمثلة القريبة على ذلك أن إماما من أئمة الأدب في بلادنا انتدب لألقاء خمس محاضرات في الجامعة الأمريكية عن الأدب في العصر الأموي فكان مما قاله: إن الخليفة الوليد بن يزيد إنما قتل لأنه كان يود أن يعيش على ما تقتضيه الحضارة فكان جزاؤه أن لقي حتفه.

فإيراد التاريخ على هذه الوجهة جناية على التاريخ وعلى الحقائق الاجتماعية ويشين الدين الذي ينتمي إليه الخليفة، فالذين لم يدرسوا تاريخ بني أمية دراسة علمية ولم يقعوا على سيرة هذا الخليفة يصدقون هذا الحديث ويستنكرون ما حدث له.

والحقيقة أن الوليد هذا كان متجردًا للهو والبطالة، شغوفا بالفسوق والإباحة مستخفا بالدين مجاهرًا بالكفر. فهل هذه السيرة المعوجة من إهمال الرعية والانقطاع إلى اللهو يعتبر من مقتضيات الحضارة1.

1 15/ 7/ 1933، الأهرام.

ص: 403