المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الرابع: ديوان وحي الأربعين - المعارك الأدبية

[أنور الجندي]

فهرس الكتاب

- ‌مدخل

- ‌أولا: معركة مفاهيم الثقافة

- ‌ثانيا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌ثالثا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌الباب الأول: معارك الوحدة والتجزئة

- ‌معركة الوحدة العربية

- ‌مصر بين العربية والفرعونية:

- ‌معركة العروبة والمصرية:

- ‌الباب الثاني: معارك اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌تمصير اللغة العربية:

- ‌مجمع اللغة، ما هي مهمته

- ‌معركة الكتابة بالحروف اللاتينية:

- ‌الباب الثالث: معارك مفاهيم الثقافة

- ‌مدخل

- ‌ثقافة الشرق ثقافة الغرب:

- ‌معركة بين فيلكس فارس وإسماعيل أدهم:

- ‌لا يتنيون وسكسونيون: بين العقاد وطه حسين

- ‌النزعة اليونانية بين زكي مبارك وطه حسين:

- ‌كتابة السيرة" بين التاريخ والأسطورة:

- ‌كتابة التاريخ: بين رفيق العظم وطه حسين

- ‌معركة الترجمة: بين منصور فهمي وطه حسين

- ‌آداب الساندويتش: بين الزيات والمازني والعقاد

- ‌أدبنا: هل يمثلها؟ بين أحمد أمين وأمين الخولي

- ‌غاية الأدب: ما هي؟ بين زكي مبارك وسلامة موسى

- ‌متى يزدهر الأدب؟ معركة بين لطفي جمعة وزكي مبارك:

- ‌الأدب المكشوف: بين توفيق دياب وسلامة موسى

- ‌التراث الشرقي؛ يكفي أو لا يكفي؟: بين عبد الرحمن الرافعي وعباس محمود العقاد

- ‌ثقافة دار العلوم: بين أحمد أمين ومهدي علام

- ‌الباب الرابع: معارك الأسلوب والمضمون

- ‌الأسلوب والمضمون: بين الرافعي وسلامة موسى وطه حسين

- ‌أسلوب الكتابة: معركبة بين شكيب أرسلان وخليل سكاكيني

- ‌أساليب الكتابة؛ بين شكيب أرسلان ومحمد كرد علي:

- ‌الباب الخامس: معارك النقد

- ‌الفصل الأول: أسلوب طه حسين

- ‌الفصل الثاني: مقومات الأدب العربي

- ‌الفصل الثالث: مذهبان في الأدب:

- ‌الفصل الرابع: بين النقد الذاتي والموضوعي

- ‌الفصل الخامس: الأدب بين التجديد والانحراف

- ‌الفصل السادس: هل نقتبس أم نقلد

- ‌الفصل السابع: معركة فقدان الثقة

- ‌الفصل الثامن: الفن للفن والفن المجتمع

- ‌الباب السادس: معارك النقد حول الكتب

- ‌الفصل الأول: رسالة منصور فهيم الدكتوراه

- ‌الفصل الثاني: الخلافة وأصول الحكم

- ‌الفصل الثالث: معركة الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌نماذج من حملات المعركة:

- ‌تجدد معركة الشعر الجاهلي:

- ‌الفصل الرابع: كتاب "النثر الفني

- ‌الفصل الخامس: كتاب "أوراق الورد

- ‌الفصل السادس: كتاب ثورة الأدب

- ‌الفصل السابع: "كتاب" مع المتنبي

- ‌الفصل الثامن: معركة مستقبل الثقافة

- ‌الباب السابع: المعارك بين المجددين والمحافظين

- ‌الفصل الأول: معارك الرافعي

- ‌الفصل الثاني: معركة فضل العرب على الحضارة

- ‌الفصل الثالث: الدين والمدينة

- ‌الفصل الرابع: التغريب

- ‌الفصل الخامس: حقوق المرأة

- ‌الفصل السادس: معركة حول التراث القديم

- ‌الفصل السابع: معركة الخلاف بين الدين والعلم

- ‌الفصل الثامن: جمال الدين الأفغاني ورينان

- ‌الفصل التاسع: خم النوم

- ‌الفصل العاشر: بين النقد والتقريط

- ‌الباب الثامن: معارك بين المحافظين حول اللغة

- ‌المعركة الأولى:

- ‌المعركة الثانية:

- ‌المعركة الثالثة:

- ‌الباب التاسع: معارك نقد الشعر

- ‌الفصل الأول: بين شوقي ونقاده

- ‌الفصل الثاني: بين عبد الرحمن شكري والمازني

- ‌الفصل الثالث: إمارة الشعر

- ‌الفصل الرابع: ديوان وحي الأربعين

- ‌الباب العاشر: معارك النقد بين المجددين

- ‌الفصل الأول: بين التغريب والتجديد

- ‌الفصل الثاني: معركة الكرامة

- ‌الفصل الثالث: معركة الصفاء بين الأدباء

- ‌الفصل الرابع: معارك النقد

- ‌الفصل الخامس: بين زكي مبارك وخصومه

- ‌الفصل السادس: مبارك ينقد كتابه

- ‌الفصل السابع: بين العقاد وخصومه

- ‌الفصل الثامن: بين سلامة موسى وخصومه

- ‌الفصل التاسع: بين المازني وخصومه

- ‌الفصل العاشر: معارك أدبية؛ بين الدكتورين هيكل وطه حسين

- ‌الفصل الحادي عشر: معركة لقمة العيش

- ‌الفصل الثاني عشر: بين شباب الأدب وشيوخه

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌الفصل الرابع: ديوان وحي الأربعين

‌الفصل الرابع: ديوان وحي الأربعين

بين مصطفى صادق الرافعي وعباس محمود العقاد:

هذه إحدى معارك الصراع بين المدرسة القديمة والمدرسة الحديثة، بين علمين من أكبر أعلامها، بين الرافعي والعقاد، كانت الخصومة بينهما قديمة، لها جذور بعيدة المدى منذ إصدار كتاب "إعجاز القرآن" وقرظة سعد زغلول وغضب العقاد، واتهم الرافعي بأنه هو كاتب التقريظ واتهم سعد زغلول، ونامت الخصومة ثمة، ثم تجددت.

1-

من الرافعي إلى العقاد 1:

ولم أر في كل ما قرأت من شعر أدبائنا ما يستوفي أوصاف الشعر الوسط كنظم صاحب وحي الأربعين عباس محمود العقاد فله فلسفة وفكر وطريقة وله منزع بعيد ومرمى قصي وله اطلاع على شعر الأمم وآدابها، وفيه رغبة شديدة إلى أن يكون مبدعا مجددًا، وقد ارتهن نفسه بملامسة صناعة الأدب وفرغ لها فراغ من يعيش لما يعيش به وانغمس منها انغماس السمكة في بحرها أو مستنقعها، ولكنه أعطى هذا كله ولم يعط أسباب التمكن فيه وتكلف لمظاهر القدرة العالية ولم يهبه الله خصائص هذه القدرة وجاوز عند نفسه حدود العبقرية لزعمه القوي وهو محتبس من ورائها بطبعة الضعيف وأغرق في المحاولة ليغرق مثل ذلك في الخيبة، وجاء بالكثير ليرد عليه الكثير أيضا، وقدم لنا شعره على أنه التجديد والعبقرية وأنه وأنه، وليعد ما شاء من الأوصاف، ولكن ماذا ينفع ملكة جمال أن يكون فيها كل شرائط الجمال وهي عوراء؟

وقبل أن نتناول شعر الوحي نريد أن ندل العقاد على سر سقوطه في الشعر

1 البلاغ 18 مارس 1933.

ص: 570

وأنه لن يفلح ولا يجيء به إلا فضولا مكرها أن يكون شعرا، ولعله لا يدري أن أكثر ما يحرص عليه من نظمه يتفق أحسن منه لكثير من كبار الشعراء فينفونه ويهذبون شعرهم منه، ذلك أن الفكر يأتي بمادة القصيدة ثم يصورها الطبع ويصوغها ثم يأتي الذوق فيهذبها كما يهذب صانع التمثال تمثاله، ولقد كنت أقرأ "وحي الأربعين" وما يخطر لي إلا أن أكثره أبيات كان العقاد أسقطها من قصائده القديمة ثم فتنه الحرص فجمعها ديوانا ولو هو سمى الحقيقة باسمها لكان اسم ديوانه "الحثالة".

ذلك السر الذي أومأنا إليه هو أن العقاد يحترف الصحافة السياسية من أول نشأته وهو عمل الساعة ولغة الجمهور وأساليبها في نقل الأخبار بعضها من بعض معروفة. وأساس كل بيان فيها قيام المعنى لمحض الدلالة التي يحملها لا للسمو بها، وفي أساليب صناعة الحكاية لا في أساليب صناعة البلاغة وعلى سياسة الواقع لا على سياسة الارتفاع بالواقع، وما زعم أحد أن الصحافة السياسية أنشئت للشعر ولغته وبيانه وفلسفته، فهي في خاص معناها وافية بما وجدت له وهي الحق كل الحق في غايتها وسبيلها إلى هذه الغاية، ولكن شر ما في الباطن وأبعد ما في المستحيل إذا أريدت على أن ينبع باحترامها الشاعر العبقري مبدع اللغة في مادة فنها البياني وحكم النفس القائم على سياستها الداخلية والخارجية وملك الطبيعة الذي قيل له من الأزل إن قوة الملوك السلاح للفتك والموت وقوتك أنت الكلمة الجميلة التأثير والحياة.

إن ما نراه في شعر العقاد من أثر كل ذلك، معان ملخصة وقصائد هي مقالات فسدت فصارت نظما وصناعة من القلم للماكينة لا ننكر أن يكون المعنى تحصيل الحاصل أو يكون من المعاني التي لا توجد حضري ولا همجي إلا عرفها من هذه الأصول التي بيناها ترى أكثر شعر العقاد أو كل شعره يعتريه ما يعتري

ص: 571

المقالات الصحفية من النقض والرد، فأنت تستطيع أن تفسده كله بأيسر الكلام لأنه موضوع على قاعدة تقبل ذلك وتقرؤه فلا تهتز لشيء منه كأنه رأي ألقي من الأحزاب السياسية ليرده أحدهما على الآخر، ويغلبك شعور عجيب في أكثر ما تقرأ فما تشك أن وراء هذه المعاني "مقصا" قصها من كتب ودواوين ورسائل وأن صاحب "المقص" جالس في ديوانه مجلسه في جريدته يتبادل أخبار الفكر الإنساني وعلة أخرى هي أن في العقاد نقصا كبيرًا في البيان العربي وهو ضعيف الفهم جدًا لأسرار هذا البيان، وقد قرر عند نفسه كما قال لي مرة أن البيان هو ما يكتب به في الصحف.

وهذا مذهب إذا صار إلى الشعر كان فيه كعمل من يستعطر بالعطر من أي أوراق النبات أصابها ولو كراثة أو بصلة، ومن هذا جاء شعره، وإنه ليقابل في أيامنا هذه ما كان عند ناقدنا من شعر الفقهاء، ولا يراد به دقة المسلك إلى النفس ولا لفط المأخذ من اللغة ولا إصابة الفضل في المعنى ولا حكاية الطبيعة في صناعة فكرية جميلة ولا بث إشراق النفس الروحانية في تركيب المادة، وإنما هو نظم بحت مستجلب متكلف يقع منه أقبح التفاوت كما ترى في ألفاظ العقاد ويعدل في سياقه عن طبيعة الشعر إلى طبيعة الجدل والسرد وحكاية الآراء والمذاهب.

وما يخيل إلي في شعر العقاد إلا أنه مستنقع اخضرت ضفتاه، فهذا الجمال القليل منه لا يكشف عن سر ورونق وإمتاع وإنما يزيد في القبح وما في هذا المستنقع إلا البعوض والملاريا والطحلب والوخم والعفن ولو أنك

ص: 572

كنت دقيق الحس مصفي الذوق عالي البيان، ثم قرأت شعر العقاد؛ لرأيت من شعره ما يلسع الذوق لسع البعوض وفي شعره أبياتا تنهق نهيق الضفادع في الماء ومع هذا كله لا تنفك من منظر نضر هنا وهناك من ضفاف المعاني الحسنة التي يعرضها مما ينقله عن غيره من شعراء العرب والأوروبيين.

-2-

والعقاد1 لا يتهيأ في طبعه من الفلسفة كالذي يتهيأ في طباع الشعراء الملهمين إذ لا يجد في استطاعته أن يقتسر الإلهام وليس بضاعة ولا جبلة له فما يفوت ذرعه ويقطع قوته وما لا يخلقه الله لا تخلقه اللغة الإنجليزية والشاعر الملهم يسنح له المعنى من فكر أو نظر أو قراءة فإذا هو كأنه قطعة من جمال الحياة تريد أن تنفذ إلى حياة الناس ليزيدوا بها حسًا وذوقا ومنفعة، فإذا المعنى في صورته تجعله وحيا إلى هذا العبقري بخاصته وإن كان قد وقع من قبل ذلك لكل شعراء الدنيا ويجيء كما يجيء من الناس قد امتلأت بهم الأرض، وقلما يتشابه اثنان شبها تاما إلا في الندرة ولكن غير الملهم يتسقط المعنى من فكر أو نظر أو اختلاس فإذا هو قد جاء بصناعة عقلية على قدر خاصته لا على قدر المعنى فكأنه لم يزد على أن تنبه له دون أن ينفذ إلى حقه إلى طبيعة الشعر فيه.

ونحن نعرف العقاد رجلا ذكيا مفكرا مطلعا ولكن هذه الخصال على

1 الجهاد 19 مارس 1937.

ص: 573

أنها الطبقات العليا في صناعة الكتابة الصحفية هي نفسها الطبقات السفلى في صناعة الشعر العالي، فإن الإلهام من فوقها يبدأ وكأنها الجاذبية الأرضية لا يتخطى حدودها من كانت طبيعته من الأرض وإن علا في طيارة أبعد ما يعلو وإلى أن يختنق.

فما يصنع الرجل شيئا أكثر من أن يضع يده على المعنى ثم يجهد في تقليبه وتقطيعه وتهشيمه وكثيرًا ما تقصر عبارته لضعفه في البيان واللغة فيرى أن ما كان في نفسه لايزال في نفسه مع أنه قد نظمه وتعب فيه فيعمد إلى الشرح يستعين به كأنه في طريق مقالة يترجمها أو يحصلها، ويأتي الشرح دليلا على أن هذه مطردة على ساقها بل هي ملفقة تلفيق المتن ينظم اعتمادا على أنه لا يقوم بنفسه ولا بد معه من شرح ولا بد مع إبهامه من تفسير.

2-

رد العقاد؛ سماسرة الأدب 1:

فأحد هؤلاء رجل منكوب يسمى إسماعيل أفندي مظهر كان يطبع في القاهرة مجلة تسمى العصور، علم هذا المنكوب الأول أنه يشبه العقاد وحجة الثاني أن يزول العقاد من صفحة الدنيا فلا يرى له شخص ولا يسمع له بخير، اكتب عن ابن الرومي فيكتب عن ابن الرومي واكتب عن بشار والمتنبي والمعري فيكتب عن بشار والمتنبي والمعري ولما حار في أمره ولم تغن عنه هذه المحاكاة الزائفة خطر له أن العقاد إنما اشتهر لأنه يكتب في صحيفة وفدية فتطوع هو الكتابة في زميلتنا كوكب الشرق عدة أشهر بغير جدوى فما شأن العقاد في نفس هذا المنكوب، هو بلا ريب كل شيء.

1 الجهاد 21 مارس 1933.

ص: 574

وزميل آخر لهذا المنكوب الثاني مصطفى صادق الرافعي. زاده الله من كل ما فيه.

ما كتب هذا الرجل حرفا عني إلا ليقول أنني لست بكاتب ولست أحسن فهم الشعر والبلاغة، وما كتبت حرفا في النقد والبلاغة إلا سعى إليه يقرؤه ويحفظه ليسرق منه ما يصل إليه عقله الكليل، فمنذ أشهر كتب عن شوقي مقالا ينكر فيه الشعر على المصريين كما يصفهم بالعقم وخمود القريحة فلما غضب القراء والناقدون على هذه المسبة الغليظة وثبت السرقة علي لسانه وقال: إنه إنما يروي ما كتبه العقاد.

فهو يحفظ كلامي ويتجاهله ولا يعترف به إلا حين تسوء نيته ويحسب أن سينبه إلى غضاضة علي فهو خاطئ الفهم سيئ النية كاذب اللسان ولولا ذلك لعلم أنني أقول عن حلقات الريفيين في كتابي ساعات بين الكتب أنه "من شهد تلك الحلقات أو سمع ذلك الغباء ومن لمس ذلك الجذل المخزون في قلوب أبناء الأقاليم صعب عليه أن يستمال إلى الدلائل التي تنكر الشاعرية على سليقة المصريين وهذا هو الكلام الذي فهم منه العليم بأسرار البلاغة أنني أنكر الشعر على سليقة المصريين.

وهو يزعم في كلام نشره في المقتطف الأغر أن يهمل كتبي ولا يلتفت إليها ولا سيما كتاب الديوان مع أنه قد سرق فصلا كاملا من ذلك الكتاب وإلى القراء شواهد السرقة منقولة عن جزء الديوان الذي أهمله على طريقته البديعة في الإهمال.

انتقدنا حامي القرآن حمى الله منه القرآن ولغة القرآن.

وهذا المنكوت لا يعرف كلمة في الإنجليزية ولكن يعرف الحقد على

ص: 575

العقاد فكل ما يعيب العقاد فهو صحيح ولو نطقت به القمل والنمل والخنفساء.

وقد روى في إحدى المجلات أنني سرقت قصيدة غزل فلسفي من قصيدة شلي "أبيسكديون" وسرقت قصائد الآثار من ثيوفيل جونيه؛ روى هذا وصدقه مع أنه لا يعرف الإنجليزية ومع أن الزاعمين لم يجرءوا على ترجمة بيت واحد من تلك القصائد التي زعموا أني سرقت منها ولكنه يحقد على العقاد فسحقا إذن للأدلة والبراهين ومرحبا بكل تهمة يفتريها المفترون جزافا بغير دليل.

إن كان في ذرات لحمك ودمك يا حاسدي المسكين ذرة واحدة لم يهرأها الحقد علي فاعلم إذن أنني لست أفعل ذلك لأنني لست أحب أن أبادل شلي وجونيه أو شاعرًا أكبر أو أصغر بما أقول.

2-

فإنما1 أكتب وأنظم لأعبر عما في نفسي لا لأنقل ما عبر به الناس. إنني لا أعمل غير أن أكتب فيقرأ الناس. ما احتلت قط على الشهرة بحيلة ولا توسلت إليها بغير هذه الوسيلة، فإن بلغ جنون الضغينة ببعض الموتورين أن يطلبوا مني كف الناس عن قرائتي شفاء لضغنهم وقضاء لوترهم فالطالب مجنون وليس المستمع بمجنون.

لقد مضى زمن اللغو. لقد مضى زمن السحرة. لقد مضى زمن الشهرة بأمثال هذه الأساليب. لقد نشأ في العالم العربي قراء لا يأخذون بالأوهام ولا يدينون بعبادة الأصنام، فإن كان الرافعي وأضرابه يحسبون أنهم نالوا من كاتب هذه السطور منالا في العالم العربي بما لوثوا به صفحات

1 الجهاد 21 مارس 1932.

ص: 576

الرسائل والمجلات فلتسمعوا كلمة الأستاذ محمد الحليوي في صحيفة الزمان إذ يرد على سفاهة الرافعي فيقول:

أما العقاد فحسبك أن أبحاثه في الأدب ومقاييسه في النقد قد وجهت الأدب العربي بحق إلى وجهة جديدة وأماطت اللثام عن أصنام من خشب وجبال من طين، وحررت العقول من عبودية أمساخ القبور وأحلاس القديم الذين قيدوا حركة الأدب، وقتلوا فيه كل روح.

فليكتب الرافعي ما ينضح به إناؤه وإناء أمثاله فقد عرف أدباء تونس وغير تونس مكانه من عربات المجالس البلدية قبل أن يعرف هو مكانه من تلك العربات وسيزداد الناس علما به وبي كلما ازداد.

3-

من الرافعي إلى العقاد 1:

قرأت اليوم في الجهاد رد صاحب وحي الأربعين على ما كتبته عنه في البلاغ وهو رد ظهر فيه العقاد طائرًا بالكلام على وجهه مثيرا حوله عجاجة من السب كما يفعل العامة إذا طار بها الرعب في عرض البيد وخفق بها الفزع خفقة البرق وحاولت أن تسب السماء بغبار الأرض، فذكر لي فزعه هذا أو غيظه مع إشاعة في الدعوى وتعريضه إياها إلى ما يفوت عرض الغرور وطوله هذا النفخ وهذه الصولة وهذا التفعي والتثعثن أنيابا فيها السم فاقع وما دروا أن من الحيات أفاعي كل سلاحها أن تنفخ نفخها وتصول صولتها وتنشر مقالتها، وهما وخداعا وإرهابا للحشرات الضعيفة وسحرا لبغاث الطير ثم ليس معها بعد ذلك شر ولا خير.

1 البلاغ 23 مارس 1933.

ص: 577

ذكرني فزع العقاد بمثل ما كنت قرأته في النسخة التي عندي من كتاب كليلة ودمنة ويعرف الأدباء الذين قرءوا كتابي تحت راية القرآن أنه ليس في العالم كله نسخة أخرى مثلها.

يعرف العقاد معرفته الشرق والغرب والشمال والجنوب أننا لا نعبأ به ولا نعده أديبا ولا نقيم له وزنا في العربية ولا نخشى سفاهته ولو جعل الجهاد جهادًا فنيا نحن وهذا كله ما قلناه له في وجهه ونعتقد يقينا أننا قلناه له في قلبه.

ورأينا في العقاد أنه لو صح فيه مذهب التناسخ وتناسخ في هذه الأرض ألف مرة لما كان في واحدة منها عف اللسان ولا كريم النفس ولا وفيا لأحد ولا شاكرًا لنعمة ولا معترفا بحقيقة وليس من العقاد إلا العقاد.

ولعله يسره أن يعلم أنه أضحكنا بسفاهته ضحكا لا عهد لنا بمثله إلا أن نرى شارلي شابلن في السينما.

قال الأستاذ "بنطلونه وحذاؤه" وهو يعنينا: ما كتب هذا الرجل حرفا عني إلا ليقول: إنني لست بكاتب ولست أحسن فهم الشعر والبلاغة.

وقال: وما كتبت حرفا في النقد والبلاغة إلا سعى إليه يقرؤه ويحفظه ليسرق منه ما يصل إلى عقله الكليل.

قلنا كذب والله أنه ليهلك في صفحة واحدة لو أراد أن يعارض صفحة مما نكتبه. وليحتكم إلى من يحسنون الكتابة ليرى في قراءتهم كيف خلق الله وجهه البياني كأنه "بروفه" مطبعية ملقاة بدون تصحيح.

إن العقاد إنما يريد بهذا الزعم أن يشرف نفسه كما أراد من قبل حين

ص: 578

كتب في الجزء الثاني من الديوان يزعم أننا أخذنا من نقده لنشيد شوق وقد نشرنا هذا في سنة 1921 ومع ذلك عاد إليه اليوم فنقله في الجهاد ويظنه برهانا جديدًا ونعرفه نحن إفلاسا جديدًا، فإن هذا المغرور يعلم في ضميره الذي يحاول أن يخبأه حتى من الله جل جلاله، يعلم أنه هو نفسه كان قد وقف طبع كتابه "الديوان" حين علم أننا سننقد نشيد شوقي، وأشاعت جريدة الأخبار نبأ هذا النقد وذلك لينقل ما نكتبه ويفخم به شأن كتابه ويستعين بنا على عدوه شوقي، فلما أبطأنا في طبع النقد كتب هو تلك الرقاعة التي سماها نقدا ونشرها، حدثنا بذلك صديقنا الأستاذ المازني وكان شريكه في كتاب الديوان وخير هذا الحديث أني كنت معه في جريدة الأخبار فرأيت في يديه جزء الديوان الذي زعم فيه العقاد مزاعمه الشخصية فبعد أن قرأت ما كتب عني قلت له: كنت أظن العقاد عاقلا فإذا لطوله معنى، فقال: إن شاء الله لا يجد للقصر معنى، ثم سألته: كيف أنى للعقاد أن يزعم هذا الزعم؟ وهل ذلك رأيه في اعتقاده؟ أم رأيه في ادعائه، فقال: إننا كنا نرقب ظهور نقدك لننقله، ونكتفي به، فلما تأخر كتب العقاد كتابه، ثم اطلع على نقدك بعد ظهوره فرأى فيه كتابا من الأستاذ منصور عوض مؤرخا في 11 ديسمبر وهو بعد ظهور الديوان، فظن بعد ذلك أنك نقلت عنه، فقلت لهذا الصديق: إنك تعلم أني شرعت في الطبع قبل أن يخط العقاد حرفا، ولهذا انتظركما يقول، ثم تعلم أن فلان باشا سعى عند أمين بك الرافعي رحمه الله ليجمعني به فيتفق على أمر من الأمور لأكف عن نشر هذا النقد وقد كنت تراه رجاني وإني من أجل ذلك وقفت طبع النقد مدة، وفي أثناء هذه المدة جاءني كتاب الأستاذ منصور عوض ثم تم سيئ وأخفق سيئ فمضيت في إتمام الطبع، وكان هذا سببا في خروج كتابي متأخرًا

ص: 579

فأقرني الصديق على ذلك، وقال: إن العقاد لم يكن يعلم هذا ولم تبق فائدة في أن يعلم.

فقلت: ولا كانت على مضرة في أن يجهله.

هذا هو حديث الإفلاس الجديد الذي استخرجه العقاد من دفاتره القديمة فإن كان أهلا للخجل فليخجل، وكل ماكتبته هنا أشعته بين جميع أصدقائي من يومئذ.

4-

من إسماعيل مظهر إلى العقاد 1:

هاجمني اعتباطا وانتقض فيه ارتجالا، كأن ما طبع عليه العقاد يأبى عليه إلا أن يقول الشر وأن يرمي أقدار الناس بقصد وبغير قصد وأن يكثر عليهم السباب والشتائم لوجه الشر وحده ولوجه النار الآكلة التي تغلي مرجلها في صدره وحفيظته على كل من نبه في الأدب قدره أو رجحت في العلم كفته.

أما إذا كان هذا من أثر السفافيد التي شواك فيها الأستاذ الرافعي شيئا على صفحات العصور وطبعها في كتاب وزعت منه على ما أعرف آلاف النسخ في العالم العربي كله، فكن على يقين من أن تهجمك هذا ليس بمغنيك عما في هذه السفافيد فهي باقية معك طول حياتك، وستظل باقية بعد مماتك.

وكأني بك تريد أن تحتكر الأدب وتاريخ الأدب لنفسك فتنعي علي لأني كتبت في بشار وابن الرومي والمتنبي والمعري لأنك كتبت عنهم وإني أريد أن أكون العقاد في كل شيء، ومما يدل على سفاهة أحلامك أنك تكذب في هذا كذبا صراحا وإن كنت كذوبا فكن ذكورًا فإني لم

1 البلاغ 23 مارس سنة 1933.

ص: 580

أكتب في ابن الرومي حرفا واحدًا، ولم أكتب حرفا واحدًا في المتنبي، أما ما كتبت في المعري فمقال تناولت فيه ناحية واحدة هي عقيدته في الخالق.

ولكن على تعمدك الكذب البين تعمدت أيضا أن تكون مغالطا فإنك لم تذكر أني كتبت عن مهيار الديلمي وإني قطعت في ذلك المقال برأي فيما تحدثه الورثة الأنثولوجية من أثر في الاتجاه الشعري، وكنت أول من قال بفكرة أن الدم الآري الذي يجري في عروق مهيار وابن الرومي أثرًا جعل النزعة إلى الحقائق وإلى الماديات أبين في شعرهما.

أما إني لم أنقد ديوانك الجديد أو شيئا من شعرك فإن ذلك ليس عن قصور بل عن عقيدة وعقيدتي فيك أنك شاعر لا يرجى منك أن تبلغ من الشعر أكثر من قولك:

أرى في جلال الموت إن كان صادقا

جلالة حق لا جلالة باطل

وفيه من التواء الفكر ما يمضي بحسنات ألف بيت من الشعر الجيد.

أما قولك بأني حاولت أن أكتب متطوعا في جريدة وفدية لأنال الشهرة بمثل ما نلتها فثق بإني أعتقد أن الشهرة التي تأتي من وراء الصياح في الجرائد ومن نشر العناوين بحروف بارزة كبيرة. شهرة حقيرة في نظري وهي إلى العناوين أقرب منها إلى أن يكون فيها دلالة على شيء جدير بالاحترام ودليلي القاطع على هذا أنك قتلت جريدة مصر فلم ينقذها من الموت أدبك ولا أغناها عن السقوط أنك أستاذ بحروف المطبعة وقتلت بعد ذلك كوكب الشرق فلم ينقذها من الموت أدبك ولا أغناها عن السقوط أنك أستاذ بحروف المطبعة.

ص: 581

5-

من الرافعي إلى العقاد 1:

أما بعد فقد سبنا العقاد أفحش السب في كلمته. التي ظهرت بها جريدته اليوم كخرقة المطبخ.

وما ندري والله كيف يفهم هذا الرجل؟ ولا كيف يعتبر الناس يقرءونه؟ ولا ما هي فلسفته في السب والشتم؟ وهل هذا جهل منه أم تغافل؟ وهل هو تطاول أم تظارف؟ وهل تلك قدرة أم عجز؟

لقد درسنا جب العقاد في رده الأول ورده الآخر فما خرج لنا من ذلك إلا أنه جلف مدخول الطبيعة كان قد وقعت فيه معجزة غريبة فوضع الله في جسمه طبيعة أسوان من قدمه إلى عنقه ثم وضع في وجهه طبيعة القطب الشمالي فالرجل فاسد الحس ويحب ذلك عمقا في الإحساس يتسع به لنقائص الدنيا من الجمال إلى الجيف إلى المراحيض ويتسع جبينه "لكل موجود وموعود تؤام" ومادام إحساسه بهذا العمق فكل شيء كأنه جزء منه وإذا كان كل شيء جزءا منه فالقبح والفساد من بعض ما فيه.

ومادام له هذا القبح وهذا الفساد فلا قبح في غلطه ولا فساد في ذوقه، ولا فساد في ذوقه ولا يعات ما هو طبيعي لأنه طبيعي.

ومكابرة العقاد ومباهاته وفخره وبطره وكبرياؤه على ما فيه من الضعف والقلة والذلة كل ذلك من الأدلة القاطعة على ذهن مختل قد انفرد بنفسه في اختلاله انفراد ذوق صاحبه في اعوجاجه، ولا يكون القانون لمثل هذا الذهن إلا خطؤه وغروره.

لقد كنا على يقين من أن العقاد الجبار سينهزم عنا أقبح هزيمة وإنه

1 البلاغ في 3 مارس 1933.

ص: 582

ليست له الأجولة، ثم يصرع فإنه هو يعرف في ذات نفسه أنه لا يملكه معنا ما يملكه مع غيرنا وهذا سبب آخر في شتمه إيانا لأن صيحة من تأخذه من حلقة لا تجيء كصيحة من أخذته من يده أو رجله، وما علينا يدخل العقاد ولا علينا يشعوذ ولا معنا يستطيع المستطاع.

من البراهين عند العقاد قول ذلك الذي هو أزكى وأبلغ رجل في الشرق هو المعفور له سعد باشا زغلول في وصف سياسة مصطفى صادق الرافعي في كتابه إعجاز القرآن كأنه تنزيل من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم.

أمن براهين العقاد عند العقاد قول العقاد نفسه؟ وقد كتب عنا قديما في المؤيد وهو ينتقد كتاب إعجاز القرآن "ولقد اتفقت للرافعي في هذا الكتاب جمل وعبارات لم يتفق مثلها للعرب منذ أن تكلموا وخطبوا إلى أن ألفوا وكتبوا".

معذرة أيها القراء فإن الخجل لا يوضع على وجه من لا يخجل كهذا العقاد وليس للخجل دواء يستعمل من الظاهر، وأنا أعرف الكلام الذي يتحول في دم العقاد إلى سم يشتعل في روحه اشتعالا، وما قرظني سعد باشا بكلمته السماوية التي لا يعدوها أبلغ ما في الحقيقة ولا أبلغ ما في المبالغة بل قرظني وقتل العقاد بداء الحقد في وقت معا.

ولو حدثتكم أن هذا العقاد قال لي مرة في مجلس رئيس تحرير مجلة شهيرة هي "المقتطف" أنه أبلغ من سعد باشا وأذكى من سعد باشا حين لم يجد له مخرجا من كلمة سعد إلا بهذا الادعاء الساقط وإني أشهدت على كلمته هذه صاحبنا رئيس التحرير. ولو أنا حدثتكم في ذلك واقتصصت القصة على نسقها لأدركتم أي معتوه هو، بل أي أحمق ولعرفتم أن عندنا في مصر جبار

ص: 583

ذهن أي مخبولا، كثيرون الذي صاح وهو يسوق نفسه على فراش الموت أي فنان سيهلك بهلاكي.

6-

العقاد: المنكوب المطموس 1

مصطفى صادق الرافعي رجل عامي، إن المناقشة هي أن تغلب وإن علامة الغلب أن يظل يتكلم ويتكلم فإذا أخذته بكتب النحاة جميعا قال ذلك:

وما كانت النحاة جميعا، إني أخطئهم، وأشتمهم في وجوههم ولو كان هذا يعقل ما يقول لما شغل حياته كلها بنا وبمؤلفاتنا قياما وقعودًا وكتابة وحدثيا؛ ليقول: إنه لم يقرأ كتب العقاد ولا يبالي ما كتب العقاد.

يا هذا؛ عندي ما يشغلني عن ضغينة نفسك الصغيرة فاذهب إلى عالم الأشباح الذي ألقيت بك فيه منذ سنوات ودعنا لما هو أفضل من صغائرك وأولى بنا وبقرائنا، فلن تظفر منا بعد اليوم بجواب.

1 الجهاد 28 مارس 1933.

ص: 584