الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابة التاريخ: بين رفيق العظم وطه حسين
أثار "طه حسين" جدلا طويلا حول طريقة كتابة التاريخ عندما اعتمد على كتاب "الأغاني" في تصوير الحياة العقلية للقرن الثاني الهجري مما أدى إلى إسباغ صورة الخلاعة والمجون على هذا العصر، وقد نظر طه حسين إلى هذا العصر ممثلا في أبي نواس وأضرابه من الشعراء فحكم على العصر كله بأنه عصر شك ومجون قال:"إن هذا العصر الذي انحلت الدولة الأموية وقامت فيه الدولة العباسية قد كان عصر شك ومجون"1.
قال ص50: "إن هؤلاء الشعراء كانوا يمثلون عصرهم حقا وكانوا أشد تمثيلا وأصدق لحياته تصويرا من الفقهاء والمحدثين وأصحاب الكلام. وأن هؤلاء العلماء على ارتفاع أقدارهم لم يأمنوا أن يكون من بينهم من شك كما شك الشعراء ولها كما لها الشعراء".
وقد وجد هذا من الرأي للدكتور طه هجومًا وسجالا عنيفين: وأبرز من تناول هذا رفيق العظم وإبراهيم المازني:
1-
من رفيق العظم إلى طه حسين 2:
مما يلفت النظر ويستدعي التمحيص والحذر من ذلك الحديث حكمكم أن أبا نواس ومن في طبقته أو على شاكلته من الشعراءكانوا مثلا صادقا للعصر الذي عاشوا فيه. وأن الرشيد والمأمون ذهبا من الشك والاستماع باللذائذ في ذلك العصر مذهب أبي نواس وأضرابه من شعراء المجون. وقد سردتم طائفة من الشعر والأخبار المنسوبة إليهم واستنتجتم منها ذلك الحكم الذي يحتاج إلى تمحيص كثير.
إن الحقائق التاريخية ولا سيما في تاريخ الإسلام شبه الدر الملقى بين
1 "مقدمة كتاب حديث الأربعاء جـ1".
2 السياسة 7 فبراير 1923".
أشواك يحتاج ممن يريد استخراجه من تلك الأشواك إلى أناه ورويه ونظر في وجه السلامة من أذى الشوك. ولا نريد أن نذهب بعيدا في مذاهب الشك التي ذهب إليها الأستاذ وإنما يكفي أن ننبهه بما نقول وهو العليم بما عاناه رواة الحديث ونقلة الأخبار النبوية في تمحيص تلك الأخبار وتنظيفها من شوائب الوضع المكذوب.
نقرأ في كتب التاريخ أخبارا نسبها شيع العباسيين إلى خلفاء بني أمية وأخبار نسبها شيع آل علي إلى خفاء بني العباس هي أحط ما ينسب إلى خلفاء أو ملوك أو سمهم ما شئت، كانوا في مثل مرتبتهم من العزة والمنعة وبسطة الجاه والملك. وكان من المحال أن يكونوا من انحطاط الأخلاق والسيرة في المنزلة التي أنزلهم إليها الوضاعون ويدوم لهم طويلا ذلك الملك العريض والشهرة الذائعة في التاريخ.
الحقيقة التي ينبغي أن تقال أن التنازع السياسي بين الشيع الإسلامية أدخل في روايات بعض الإخباريين شوائب في التاريخ الإسلامي ليست منه في شيء فإنما هي من وضع المتزلفين لبيوت الإمارة والملك أو المتشيعين لبعض المذاهب السياسية أو الدينية.
ولا أظنني مخطئا إذا قلت أن ما نقل من هذا القبيل عن أبي نواس وأضرابه من شعراء ذلك العصر، ويسميه الدكتور طه حسين عصر الشك والمجون ويتخذه دليلا على حكمه على أهل ذلك العصر إنما هو تلفيق قصصي يراد به أحد أمرين: إما تشويه سمعة بعض الخلفاء العباسيين كالرشيد والمأمون. وإما سد نهمات العامة إلى أمثال تلك القصص المخزية والروايات الملفقة. على أنه لو صح شيء منه لما كان لنا أن نتخذه دليلا على شيوع
الفحش والفجور والشك بين أهل ذلك العصر لأنه مجون لا يجوز أن يتعدى الماجن مهما تكال إلى النيل من سواه باسم المجون.
على أني أعتقد كما قلت أن ما نسب إلى أولئك الشعراء كأبي نواس وبشار ومن في طبقتهما محل للشك ولا سيما إذا صح أن شعر أبي نواس لم يجمع في كتاب "ديوان" على حدة في حياته، إنما جمعه رواة القصص وأخبار شعراء المجون وتناقلوه بعد وفاته بزمن قريب أو بعيد.
إن أكثر ما نقل عن أبي نواس وأضرابه من شعراء المجون إنما هي روايات قصصية بعدية عن الصحة وأنه لا يصح أن تتخذ دليلا على حالة الأمة الروحية والخلقية في ذلك العصر وفوق كل ذي علم عليم.
"رد طه حسين" 1:
لا يزال العالم الجليل وكثير من العلماء المعروفين في الشرق يسبغون على التاريخ الإسلامي صفة من الجلال والتقديس الديني تحول يبن العقل وبين النظر إليه نظرًا يعتمد على النقد والبحث العلمي الصحيح. فهم يؤمنون بمجد القدماء من العرب وجلال خطرهم وتقديس مكانتهم.
أنا أزعم أن القرن الثاني للهجرة كان عصر شك ومجون وأزعم أن كل شيء في هذا العصر يؤيدني في هذا الرأي.
أنا أزعم -وأعتقد أني قادر على إثبات ما أزعم- أن القرن الثاني للهجرة قد كان عصر لهو ولعب، وقد كان عصر شك ومجون. وأزعم أن كل شيء في هذا العصر يؤيدني في هذا الرأي، وحسبي أن ألفت الأستاذ
1 السياسة اليومية 22/ 2/ 1923.
رفيق بك إلى أن هذا القرن قد بدأ بخلافة الوليد بن يزيد وختم بخلافة الأمين ابن الرشيد وأحب أن يقارن بين هذين الخليفتين ثم ألفت الأستاذ إلى بشار ومطيع، وأبي النواس والرقاشي والعباس بن الأحنف وسلم بن الوليد وحماد عجرد ويحيى بن زياد وابن المقفع وإبان بن عبد الحميد وغيرهم من الشعراء والكتاب والمفكرين ولا أريد أن أذكر الفقهاء وأصحاب الكلام مخافة أن يغضب المتحرجون.
3-
نزعة الإباحية في كتاب طه حسين 1:
رد إبراهيم عبد القادر المازني:
لقد لفتني من الدكتور في كتابيه حديث الأربعاء وهو مما وضع "قصص تمثيلية" وهي ملخصة، أن له ولعا بتعقيب الزناة والفساق والفجور والزناة. وقد ينكر القارئ أن أدخل القصص التمثيلية في هذا الحساب. ويقول إنها ليست له وإن كان ما له فيها أنه ساق خلاصة وجيزة لها، وهو اعتراض مدفوع لأن الاختيار بدل على عقل المرأ ويشي بهواه، كالابتكار سواء بسواء، وإنما يختار المرء ما يوافقه ويرضاه ويحمله عليه اتجاه فكره حتى لا يسعه أن يتخطاه، ولست بمازح حين أنبه إلى ذلك وها هو حديث الأربعاء: ماذا فيه؟ فيه كلام كثير عن العصر العباسي وللعصر العباسي وجوه شتى، وفي وسعك أن تكتب عنه من عدة وجهات. وأن تتناول فلسفته أو علمه أو شعره وجده أو هزله. ولكن الدكتور طه يدع كل جانب سوى الهزل والمجون ويروح يزعم أنه عصر مجون ودعارة وإباحة متغلغلة إلى كل فرع من فروع الحياة فلماذا؟ بل قل لماذا لا يرى في غير الماجنين والخليعيين صورة
1 ص83 من كتاب المازني "فيض الريح".
منه؟ ولست أفتري عليه فإنه القائل في الصفحة السابعة والعشرين من كتابه "أدرس هذا العصر درسًا جيدًا وأقرأ بنوع خاص شعر الشعراء وما كان يجري في مجامعهم من حديث تدهشك ظاهرة غريبة هي ظاهرة الإباحة والإسراف في حرية الفكر وكثرة الازدراء لكل قديم سواء أكان هذا القديم دينًا أم خلقًا أم سياسة أم أدبا. فقد ظهرت الزندقة وانتشرت انتشارًا فاحشًا اضطر الخلفاء من بني عباس إلى أن يبطشوا بالشعراء والكتاب لأنهم اتهموا بالزندقة، وظهر ازدراء الأدب القديم والعادات العربية القديمة والسياسة العربية القديمة، بل ظهر ازدراء الأمة العربية نفسها وتفضيل الأمة الفارسية عليها، وكانت مجالس الشعراء والكتاب والوزراء مظهرًا لهذا كله. وليس يعنينا أن تكون النهضة السياسية الفارسية، وحرصها على الانتقام من العرب والاستئثار دونهم بالسلطان مصدر هذا التغيير وإنما الذي يعنينا أن هذا التغيير قد وجد وقوي حتى ظهر في الشعر ظهورًا جعل إنكاره مستحيلا.
ولم يكف الدكتور طه أن يعمد إلى طائفة معينة من شعراء العباسيين وأن يرسم من سيرتهم صورة يزعمها صورة العصر بل هو ينكر أن غير هؤلاء من العلماء أو الشعراء يمثل العصر العباسي واقرأ له قوله في ص50 من هذا الكتاب "فقد بينا في هذا الحديث أن هؤلاء الشعراء كانوا يمثلون عصرهم حقا وكانوا أشد تمثيلا وأصدق لحياته تصويرًا من الفقهاء والمحدثين وأصحاب الكلام وأن هؤلاء العلماء على ارتفاع أقدارهم العلمية ومنازلهم الاجتماعية والسياسية وعلى أن كثيرًا منهم كان ورعا مخلصا طيب السيرة لم يأمنوا أن يكون من بينهم من شك كما شك الشعراء ولها كما لها الشعراء واستمتع بلذات الحياة "في سر" كما استمتع بها الشعراء في جهرهم.
وهل يقف الدكتور هنا ويقنع بهذا القدر؟ كلا يا سيدي! بل يجري إلى آخر الشوط ويقول في الصفحة 39 من كتابه "خسرت الأخلاق من هذا التطور وربح الأدب فلم يعرف العرب عصرًا كثر فيه المجون وأتقن الشعراء التصرف في فنونه وألوانه كهذا العصر، ثم كان من كثرة المجون أو أصح كان من فساد الخلق في هذا العصر والعصور التي وليته أن ظهر فن جديد في الغزل لم يكن معروفا في الجاهلية ولا في صدر الإسلام ولا في أيام بني أمية وإنما هو أثر من آثار الحضارة العباسية، وهو أثر أنشأته هذه الحضارة الفارسية عندما خالطت العرب أو عندما انتقل العرب إليها فاستقل سلطانهم في بغداد وهذا الفن الجديد أو الغزل بالغلمان الذي سنحدثك عن خصائصه في غير هذا الفصل".
وإذا سمعت رجلا يقول: إن الأخلاق فسدت وخسرت وأن الأدب ريح من وراء ذلك أفلا ينهض لك العذر إذا قلت: إنه ينفح عن هذا الفساد ويسوغ هذه الخسارة؟ نعم بلا ريب. وأنت تحس من كلامه الرضى والارتياح.
ومن الذي لا يشعر بذلك حين يقرأ قوله في عقب ما سقنا لك "إنما الذي يعنينا الآن أن هؤلاء الناس الذين وصفنا لك ما وصلوا إليه من شك في كل شيء وإسراف في المجون واللهو كانوا يجتمعون ويجتمعون كثيرًا أكثر مما كان يجتمع أسلافهم وكانت اجتماعاتهم ناعمة غضة فيها اللهو وفيها الترف. كانوا لا يجتمعون إلا على لذة، إلا على كأس تدار أو إثم يقترف، وكانت اللذة والآثام حديثهم إذا اجتمعوا، يتحدثون فيها شعرًا ونثرًا، وكان الدين واللغة والفلسفة حديثهم أيضًا. ولم تكن اجتماعاتهم تخلو دائما من النساء، فقد كان الإماء الظريفات يأخذون منها بنصيب عظيم. وكانوا يجتمعون في الحانات والأديرة وفي بيوت الأمراء والوزراء فيلذون ويتحدثون.
فأنت تستطيع أن تتنبأ بمقدار ما كان لأحاديثهم هذه من أثر عظيم في الأدب العربي والعقل العربي. كانت هذه الأحاديث عذبة غير متكلفة ولا ثقيلة الروح. كانت تصدر عنهم عفوًا فتمثل عقولهم وشعورهم وقوة حرصهم على اللذات وشدة شغفهم بالجديد أحسن تمثيل". هـ ص40.
ثم مضى يورد سير أبي نواس ومن إليه من مثل الوليد بن يزيد ومطيع بن إياس وحماد عجرد والحسين بن الضحاك وواليه ابن الحباب وإبان بن مروان ابن أبي حفصة ويقول في بيان الحكم عن ذلك إنه لا يريد أن يكتفي بالقول "بأن القرن الثاني للهجرة على كثرة من عاش فيه من الفقهاء والزهاد وأصحاب الشك والمشغوفين بالجد إنما كان عصر شك ومجون وعصر افتنان وإلحاد عن الأخلاق المألوفة والعادات الموروثة والدين أيضًا.
وليس عندي شك في أن هذا العصر لم يكن عصر إيمان ويقين في جملته وإنما كان عصر شك واستخفاف وعصر مجون واستهتار باللذات". هـ ص184.
يقول المازني: إنه ما من عصر يمكن أن يكون له جانب واحد كما يريد أن صور لنا العصر العباسي وأنه لم يخل زمن قديم أو حديث من مثل ما يصف الدكتور.
2-
القصص المترجمة:
وبعد ذلك نعود ما كنا فيه وننتقل إلى قصص الدكتور ولنبدأ بقوله عنها: "فإني أعترف بأني لا أتخير هذا القصص عفوًا وإنما أتخير منها بنوع خاص ما من شأنه أن يهز العاطفة أو يلذ العقل أو يدعو إلى العناية والتفكير" فليس في الأمر مجال للتأول والتمهل والإحالة على الاتفاق والمصادفات فإن العمد هنا معترف به:
ويقول الدكتور: إنه إنما كتبها وجمعها ونشرها لأنه يريد أن يطلع قراء اللغة العربية "على نحو من أنحاء الأدب الغربي، ولأنه يرغب أن يكون بهذه القصص وما فيها من الآراء الفلسفية والمذاهب المختلفة أثر في نفوس الأدباء والذين يمنون منهم بالتمثيل العربي.
وللقارئ أن يسأل: لماذا يؤثر الدكتور "نحوا" آخر من أنحاء الأدب الغربي وليس هذا كل ما فيه ولا هو خيره. لماذا عني على وجه الخصوص بقصص الزناة والزواني وبحكايات الجهاد -كما يقول هو- "بين العواطف والشعور من جهة وبين العقل من جهة أخرى. بين العواطف والشعور الفردية من ناحية وبين القانون والأوضاع الاجتماعية من ناحية أخرى. بين العواطف وبين الواجب. وبين العقل وبين الدين، ثم بين القانون وبين الدين أيضا"؟
ألا ترى أن صنيعه في اختيار هذه القصص كصنيعه في اختيار من كتب عنهم من العباسيين؟ فكما أنه ترك أبا تمام والبحتري والشريف ومهيارًا والمتنبي والمعري في فحولة شعراء العرب وفضلائهم ووقع على أهل المجون والخلاعة والاستهتاك، كذلك لم ينتق من كنوز الأدب الغربي إلا هذه القصص الحافلة بضروب "الآثام والمنكرات".
ونحسب الآن أن نزعة الدكتور قد صارت ملموسة باليد فهل لها تعليل؟ هل في وسع الكاتب منا أن يبين لماذا كان الأمر كذلك والحال على ما وصفنا للقراء، نعم والعلة ظاهرة والكلام حاضر1.
1 لم يدخل الدكتور طه في مناقشته من المازني صراحة وصمت. صمت صمتا طويلا وانتظر مجالا آخر للرد عليه وكان بعد سنوات طويلة.