المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌معركة الوحدة العربية - المعارك الأدبية

[أنور الجندي]

فهرس الكتاب

- ‌مدخل

- ‌أولا: معركة مفاهيم الثقافة

- ‌ثانيا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌ثالثا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌الباب الأول: معارك الوحدة والتجزئة

- ‌معركة الوحدة العربية

- ‌مصر بين العربية والفرعونية:

- ‌معركة العروبة والمصرية:

- ‌الباب الثاني: معارك اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌تمصير اللغة العربية:

- ‌مجمع اللغة، ما هي مهمته

- ‌معركة الكتابة بالحروف اللاتينية:

- ‌الباب الثالث: معارك مفاهيم الثقافة

- ‌مدخل

- ‌ثقافة الشرق ثقافة الغرب:

- ‌معركة بين فيلكس فارس وإسماعيل أدهم:

- ‌لا يتنيون وسكسونيون: بين العقاد وطه حسين

- ‌النزعة اليونانية بين زكي مبارك وطه حسين:

- ‌كتابة السيرة" بين التاريخ والأسطورة:

- ‌كتابة التاريخ: بين رفيق العظم وطه حسين

- ‌معركة الترجمة: بين منصور فهمي وطه حسين

- ‌آداب الساندويتش: بين الزيات والمازني والعقاد

- ‌أدبنا: هل يمثلها؟ بين أحمد أمين وأمين الخولي

- ‌غاية الأدب: ما هي؟ بين زكي مبارك وسلامة موسى

- ‌متى يزدهر الأدب؟ معركة بين لطفي جمعة وزكي مبارك:

- ‌الأدب المكشوف: بين توفيق دياب وسلامة موسى

- ‌التراث الشرقي؛ يكفي أو لا يكفي؟: بين عبد الرحمن الرافعي وعباس محمود العقاد

- ‌ثقافة دار العلوم: بين أحمد أمين ومهدي علام

- ‌الباب الرابع: معارك الأسلوب والمضمون

- ‌الأسلوب والمضمون: بين الرافعي وسلامة موسى وطه حسين

- ‌أسلوب الكتابة: معركبة بين شكيب أرسلان وخليل سكاكيني

- ‌أساليب الكتابة؛ بين شكيب أرسلان ومحمد كرد علي:

- ‌الباب الخامس: معارك النقد

- ‌الفصل الأول: أسلوب طه حسين

- ‌الفصل الثاني: مقومات الأدب العربي

- ‌الفصل الثالث: مذهبان في الأدب:

- ‌الفصل الرابع: بين النقد الذاتي والموضوعي

- ‌الفصل الخامس: الأدب بين التجديد والانحراف

- ‌الفصل السادس: هل نقتبس أم نقلد

- ‌الفصل السابع: معركة فقدان الثقة

- ‌الفصل الثامن: الفن للفن والفن المجتمع

- ‌الباب السادس: معارك النقد حول الكتب

- ‌الفصل الأول: رسالة منصور فهيم الدكتوراه

- ‌الفصل الثاني: الخلافة وأصول الحكم

- ‌الفصل الثالث: معركة الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌نماذج من حملات المعركة:

- ‌تجدد معركة الشعر الجاهلي:

- ‌الفصل الرابع: كتاب "النثر الفني

- ‌الفصل الخامس: كتاب "أوراق الورد

- ‌الفصل السادس: كتاب ثورة الأدب

- ‌الفصل السابع: "كتاب" مع المتنبي

- ‌الفصل الثامن: معركة مستقبل الثقافة

- ‌الباب السابع: المعارك بين المجددين والمحافظين

- ‌الفصل الأول: معارك الرافعي

- ‌الفصل الثاني: معركة فضل العرب على الحضارة

- ‌الفصل الثالث: الدين والمدينة

- ‌الفصل الرابع: التغريب

- ‌الفصل الخامس: حقوق المرأة

- ‌الفصل السادس: معركة حول التراث القديم

- ‌الفصل السابع: معركة الخلاف بين الدين والعلم

- ‌الفصل الثامن: جمال الدين الأفغاني ورينان

- ‌الفصل التاسع: خم النوم

- ‌الفصل العاشر: بين النقد والتقريط

- ‌الباب الثامن: معارك بين المحافظين حول اللغة

- ‌المعركة الأولى:

- ‌المعركة الثانية:

- ‌المعركة الثالثة:

- ‌الباب التاسع: معارك نقد الشعر

- ‌الفصل الأول: بين شوقي ونقاده

- ‌الفصل الثاني: بين عبد الرحمن شكري والمازني

- ‌الفصل الثالث: إمارة الشعر

- ‌الفصل الرابع: ديوان وحي الأربعين

- ‌الباب العاشر: معارك النقد بين المجددين

- ‌الفصل الأول: بين التغريب والتجديد

- ‌الفصل الثاني: معركة الكرامة

- ‌الفصل الثالث: معركة الصفاء بين الأدباء

- ‌الفصل الرابع: معارك النقد

- ‌الفصل الخامس: بين زكي مبارك وخصومه

- ‌الفصل السادس: مبارك ينقد كتابه

- ‌الفصل السابع: بين العقاد وخصومه

- ‌الفصل الثامن: بين سلامة موسى وخصومه

- ‌الفصل التاسع: بين المازني وخصومه

- ‌الفصل العاشر: معارك أدبية؛ بين الدكتورين هيكل وطه حسين

- ‌الفصل الحادي عشر: معركة لقمة العيش

- ‌الفصل الثاني عشر: بين شباب الأدب وشيوخه

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌معركة الوحدة العربية

‌الباب الأول: معارك الوحدة والتجزئة

‌معركة الوحدة العربية

الباب الأول: معارك الوحدة العربية

معركة الوحدة العربية:

هذه أضخم معركة فكرية عن القومية العربية جرت عام 1933، أثارها الدكتور طه حسين بتعبير جاء ضمن مقالاته في جريدة كوكب الشرق قال فيه:

"إن المصريين قد خضعوا لضروب من البغض وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس واليونان وجاءتهم من العرب والترك والفرنسيين".

ولقد هبت العاصفة بعد هذه العبارة واستمرت أكثر من ثلاثة شهور وقود الصحف على اختلاف ألوانها في مصر والبلاد العربية، وقد حمل لواء مساجلة الدكتور طه، عبد القادر حمزة صاحب جريدة البلاغ واشترك فيها عدد كبير من الكتاب، لم يقف في صف الدكتور طه فيها غير حسن صبحي ومحمد كامل وسلامة موسى ووقف في الجانب الآخر عبد الرحمن عزام ومحب الدين الخطيب وعبد الله عفيفي وفتحي رضوان وزكي مبارك وزكي إبراهيم وعلي الجندي.

ولقد نشر المقطم يوم 6 سبتمبر 1933 خبرًا مؤداه بأن أعضاء الجمعيات الثقافية والأدبية في دمشق بعد أن درست مقال الدكتور طه، قررت "أن تنتهج حيال الدكتور نهج النازي الألماني تجاه الكتب المعاكسة للقومية العربية. وأنهم قرروا دعوة الجمعيات العربية والأدبية والسياسية في العراق وفلسطين وجميع الأقطار العربية إلى مقاطعة كتب الدكتور. وأن هذه الطريقة ستتبع أيضا مع كل كاتب مصري يطعن في القومية العربية ويشجع الروح الشعوبية".

وكتب المقطم في افتتاحية "7 سبتمبر 1933" قال:

لسنا من موافقي الدكتور طه حسين على كل ما يروي في بحوثه ونظرياته.

ولكن مع هذا لا يسعنا إلا أن نقول لإخواننا أدباء دمشق وأعضاء جمعياتها الثقافية أن روح الإكراه الذي يشم من قرارهم لا يطابق الرغبة البادية في جميع البلدان إلى التعاون والإقناع وبيان فوائد التضافر.

ص: 16

ونشرت المقطم يوم 12 سبتمبر 1933 بيان الشباب في سورية بصدد كتب الدكتور طه حسين ثم كتب فتحي رضوان إلى معروف الأرناؤوط صاحب جريدة فتى العرب يدافع عن طه حسين ولكنه اعترف بموقف الدكتور طه فقال:

"إن إحراق كتب طه حسين لأنه واحد من الذين يهونون من أمر العرب ويصغرون من شأنهم، ويرفعون الصوت بالدعوة التي يكرهونها مر الكراهية ألا وهي الفرعونية".

ونشرت جريدة فتى العرب في دمشق تقول: بني هذا القرار الذي سينفذ في البلاد العربية كافة على اعتداءات ماضية ترجع إلى الكتاب الذي ألفه الدكتور طه حسين تحت عنوان "الأدب الجاهلي" والمقال الذي نشره في كوكب الشرق ضد العرب ويهدف القرار إلى إخراج مؤلفات طه حسين من المكاتب واعتبارها ممنوعة التداول في البلاد العربية لمخالفتها روح القومية المنتشرة في بلاد العرب وتهجم صاحبها على حرمة التاريخ وعيبه في ذكريات الأجداد الذين حرروا العنصر المصري من سياط الفاتحين وأعطوه لغة قوية وديانة مرضية وحضارة لا تقاس بها حضارات العالم القديمة.

وكتبت البلاغ ترد على جريدة فتى العرب "7 سبتمبر 1933" وتقول: كنا نحب للزميلة أن لا يزل قلمها

كالذي قالته عن تحرير العنصر المصري من سياط الفاتحين فإن السخط على ذلة الدكتور طه لا يحوج قذف الأمة المصرية في وجهها بهذه العبارة على أنا نؤثر أن نغضي عن ذلك.

ثم بدأت المعركة بصورة جدية بمقال عبد الرحمن عزام "أليست مصر عربية".

ص: 17

وتوالت المساجلة واشترك فيها عدد من كتاب القومية العربية وعدد من خصومها وكتب سلامة موسى يحرض على الفرعونية مقالا تحت عنوان:

"دماء الفراعنة تجري في عروقنا جميعًا" البلاغ 8 أكتوبر 1933 وأنكر زكي مبارك وجود الثقافة الفرعونية وصلاحيتها للحياة، وهذه هي أبرز معالم المعركة التي تعد من أهم المعارك القومية العربية الفكرية إذ كانت مصر في هذه الفترة تحجب عن الأمة العربية ويشغلها الاستعمار بمذاهب متعددة ودعوات مختلفة من الفرعونية إلى التغريب بينما كانت سورية تحمل لواء القومية العربية، غير أن هذه الصيحة ما كادت تعلن حتى هب المؤمنون بعظمة الأمة وأمجادها ووقفوا في وجهها وقفة أدالت منها ومن دعاتها وحطمت شراعها.

1-

البلاغ، أليست مصر عربية عبد الرحمن عزام 29/ 8/ 33:

في سياق مقال للدكتور طه حسين استوقفتني العبارة الآتية: وهم -يريد المصريين- قد خضعوا لضروب من البغض وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس واليونان وجاءتهم من العرب والترك والفرنسيين.

والدكتور طه رجل له في العلم بالتاريخ مقام معلوم فهل له أن يتفضل بذكر بعض الحوادث التي تدخل العرب المسلمين في زمرة البغاة المعتدين، فقد قيل لنا عن دخول العرب إلى مصر إنه كان استخلاصًا لأهلها من البغي والعدوان وإنقاذًا لها من الضلال. وقد جاء إليها العرب دعاة إلى دين جديد أصبح دين الكثرة العظمى من أهلها. هذا الدين سوى بين الراعي والرعية وقرر أنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى؛ فهل يتفضل الدكتور طه حسين فيصحح معلوماتنا التاريخية عن الفتح العربي؟

ص: 18

ثم ذكر الدكتور كيف رد المصريون أهل البغي والعدوان وكيف أفنوهم في أنفسهم وحشر العرب في زمرة الذين أفناهم المصريون والواقع أن كل الأمم التي بغت على مصر قد فنيت فيها، إذ انتصر المصريون عليها ولا يستثنى من أهل البغض الذين يشير إليهم الدكتور طه حسين إلا العرب، أليس ذلك لأنهم لم يكونوا بغاة ولا معتدين؟

لقد قبل المصريون دين العرب وعادات العرب ولسان العرب وحضارة العرب وأصبحوا عربا في طليعة العرب والذي نعلمه من البحث عن أنساب أقاليم مصرية بأكملها أن أكثرية دماء أهلها ترجع إلى العرق العربي وأن فردًا واحدًا من تسعين في المائة من سكان مصر لا يستطيع أن ينكر أن عروقه تجري فيها الدماء العربية والواقع الملموس أن مصر الآن من جسم الأمة العربية في مكان القلب فهل يتفضل الدكتور طه حسين ببيان المعنى الذي يريده حينما يقرر أن العرب فنوا في مصر وانهزموا.

نعم قد فني في مصر جميع الفاتحين من أهل البغي والعدوان وكسبت مصر أبديا الأمة الوحيدة التي جاءت تحمل راية الإسلام ولا تقصد بغيا ولا عدوانا. تلك هي الأمة العربية وتلك هي أمتنا التي ننتسب إليها ونفخر بتاريخها ثم أي شيء في العلم يتحول، والسنون والحوادث تفعل فعلها في كل بقعة من الأرض وفي كل شعب من الشعوب.

والأمة المصرية الحالية إلا بقية من الأمة القديمة من الفراعنة، وبعض من مر بمصر في العصور المختلفة. قد غمرها جميعا سيل من الهجرة والدين وأصبح واديها مزدهرًا بالسلالة التي صبغتها الدماء وسادت بها الديانة العربية والعرف العربي واللغة والثقافة فإنه يستطيع أن يقنع أي مصري آخر بأن العرب كانوا من البغاة المعتدين الذين أفناهم المصريون. وأخيرا ألا يعلم

ص: 19

الدكتور طه أن علاقات الأمم الإسلامية في حكم مصر وحكم الأمم الإسلامية لم تكن علاقات قهر عنصري واستعمار كما هي مع الإنجليز، فإذا أنكرنا مصر العربية وتجاهلنا وجودها وأنكرنا كذلك العربية في الشام والعراق وأفريقيا وتجاهلنا وجودها في تلك الأقطار فماذا يبقى فيها غير حجارة صامتة وأمم بائدة وأرض لا أهل لها.

ماذا بقي من آشور وفينيقية وفرعون وقرطاجنة غير ما أبقاه العرب في أنفسهم وغير الأمة الحية التي تمتد الآن من المحيط إلى المحيط. ونحن إنما ننتسب بصفة عامة إلى تلك الأمة الحية الوراثة للأرض المبثوثة فيها.

2-

البلاغ، عبد القادر حمزة، 7 سبتمبر 1933:

لعل الدكتور طه يكون قد فطن إلى خطئه ولذلك رأيناه أحجم عن الكر إلى الموضوع وآثر السكوت. والإنسان غير معصوم. وكل امرئ يخطئ ويزل، ورد المخطئ إلى الصواب ليس طريقه أن نحرق كتبه أو ننفيها من المكاتب أو نطاردها أو نفعل بها ما يشبه هذا. فما يدحض الرأي إلا بالرأي

والآراء تتنازع كما يتنازع الرأي ولا يبقى منها إلا الذي هو أقوى وأصلح وما عرفنا كاتبا اضطهد ولو بحق إلا كانت النتيجة عكس المروم.

وليس من حق أحد أن يمنع كاتبا من الإدلاء برأي ولو كان خطأ ولكن من حق كل قادر على ذلك أن ينقد هذا الرأي بالحجة القائمة والبرهان اللائح.

وليس يعتبر العرب في كثير أو قليل أن يخطئ طه أو غيره في حقهم ولكنه يضير قضية العرب أن يلجأ إلى مثل هذه الأساليب.

ص: 20

3-

البلاغ، محمد خياط الفلسطيني، مصر والعرب، 8/ 9/ 33:

ألا إن السانحة التي بدرت من الدكتور طه كانت الفتيلة التي ألهبت شعور السوريين فوقفوا تلك الوقفة واندفعوا ذلك الاندفاع. على أن كلمة الدكتور طه ليست من الخطورة بمكان لولا أن سبقتها حوادث أخرى تجرعها السوريون على مضض واحتملوها من إخوانهم المصريين وإن نسي السوريون فلن ينسوا موقف البعض من الأمة العربية ودعوتهم الفرعونية التي حاولوا فيها قطع كل صلة لمصر بالعالم الإسلامي والتي منيت بالفشل وباءت بالخسران.

وإن كتاب الدكتور طه "في الأدب الجاهلي" لا يزال دويه يدوي في سوريا إلى الآن إلا أن قلة وسائل الدعاية والنشر حالت دون إظهار رأي الغالبية منهم فيه.

ثم ما هي الجناية التي جناها العرب على مصر، إنهم قدموا لها هذا الدين الإسلامي الحنيف، وهذا اللسان العربي المبين، فغدا المصريون والعرب سواء لا فرق بين المصري والعربي فانتشرت الأخوة والمحبة.

على أن ما كتبته جريدة "فتى العرب" لم يكن فيما عدا الإشارة إلى الضرب بالسياط وهو ما لا يقر الكاتب عليه إلا عتبا على الدكتور طه حسين أولى بأدباء مصر أن يتقبلوه بنية حسنة.

وأعود فأقول إن السوريين لم يغضبوا لكلمة الدكتور طه فقط وإنما هذه الكلمة ذكرتهم بما كتبه بعض الكتاب المصريين قبل الدكتور طه خاصًا بالفرعونية أو الشعوبية وأن السوريين ليقفوا لهؤلاء الكتاب بالمرصاد ليحولوا دون تسرب آرائهم السامة إلى نفوس الشبيبة العربية.

ص: 21

وبعد فليست هذه الحملة موجهة إلى مصر فمصر عربية على الرغم من المتفرعنين ولكنها موجهة إلى كل من ذكر العرب بالسوء.

4-

رأي طه حسين في العرب رد طه حسين، كوكب الشرق 9 /9 / 33:

كتب الأستاذ عبد الرحمن عزام ذلك الفصل الذي نشرته له البلاغ مدافعا عن العرب ولم يهاجمهم أحد، زائدا عن كرامتهم ولم يغض منها أحد، مثبتا لمجدهم ولم ينكره عليهم أحد.

فصديقي عبد الرحمن عزام يعلم حق العلم. أني لست من خصوم العرب، ولا من المنكرين لما كان لهم من مجد مؤثل وعز باق على الزمان. وهو يعلم حق العلم أني لست خصما للنهضة العربية الحديثة. ولا لهذه الدعوة التي يذيعها العرب إلى وحدتهم القومية بأي شكل من أشكالها لأني تحدثت إليه في ذلك غير مرة.

إن شك في شيء فلا يستطيع أن يشك في أني أبعد الناس عن الإساءة إلى العرب أو الازورار عنهم.

وقد أثار مقال عبد الرحمن عزام حركة أو شيئا يشبه الحركة في دمشق.

ورأت "البلاغ" لذة غريبة في أن تطيل الحديث حول هذا الشر، فتنشر ما قالته صحيفة من صحف دمشق ثم تنتظر يوما حتى إذا كان الغد لحقت ما نشرته هذه الصحيفة ثم أخذت تناقش هذه الصحيفة بعد أن تقرر أن الدكتور طه أخطأ خطأ عظيما فما في ذلك شك وأنه لذلك أحجم عن الرد على الأستاذ عبد الرحمن عزام.

ولعل البلاغ قد فهمت عني ولعل صديقي عبد الرحمن عزام قد كان أسرع

ص: 22

منها إلى الفهم وإلا فإن صديقي عبد الرحمن عزام والذين يكتبون في صحيفة البلاغ ليسوا من الجهل بالتاريخ والغفلة عن حقائقه بحيث يعتقدون أن حكم العرب في مصر كان كله خيرًا وبرًا وعدلا وإنصافًا، وقد برئ من الجور والحيف وخلص من البغي والطغيان، هذا كلام يقوله العامة وأشباه العامة فأما المثقفون وفي مقدمتهم صديقي عبد الرحمن عزام وكتاب البلاغ فيعلمون حق العلم أن حكم العرب لمصر كان في الخير أول الأمر حين حمل إلى مصر الإسلام ولكن بعد ذلك كان كحكم العرب لجميع البلاد الإسلامية مزاجا من الخير والشر والعدل والجور وقد ضاقت مصر به وثارت عليه وجدت في الثورة.

وعفا الله عن قوم يريدون شيئًا فيسلكون إليه طريق الذود عن العرب والدفاع عن الأحساب والأنساب لأنهم لا يستطيعون أن يسلكوا إليه طريقه الواضح المستقيم.

5-

البلاغ "مصر والعرب"، إبراهيم المازني 9/ 9/ 1933:

ساء الدكتور طه أن يقول في معرض الدفاع عن حرية الرأي أنه أخطأ ما في ذلك شك، وقد حاول أن يبين أنه لم يخطئ فنفى عنا الجهل بالتاريخ وبرأنا من الغفلة عن حقائقه.

أو هو لم ينف ذلك ولكنه نفى أن يكون من الجهل والغفلة يجب أن نعتقد "أن حكم العرب في مصر قد كان كله خيرًا وبرًا وعدلا وإنصافًا قد برئ من الظلم والحيف وخلص من البغي والطغيان" هذا كلام يقوله العامة وأشباه العامة فأما المثقفون وفي مقدمتهم صديقي عبد الرحمن عزام وكتاب البلاغ فيعلمون حق العلم أن حكم العرب لمصر كان فيه الخير أول الأمر حين

ص: 23

حمل إلى مصر الإسلام ولكن بعد ذلك كان كحكم العرب لجميع البلاد الإسلامية مزاجا من الخير والشر ومن العدل والجور.

فنقول لصديقنا الدكتور طه أننا لا نحتاج إلى علم خاص بالتاريخ لنعرف أن حكم الإنسان للإنسان يكون فيه الخير والشر والعدل والجور. وأن كل أمة قديمة أو حديثة في كل مكان من هذه الأرض، لقيت هذه الألوان من حكامها.

والدكتور طه لم يقل هذا وإنما قال: إن مصر ابتليت بالبغي والعدوان من الفرس والعرب وغيرهم، فمعنى أن هذه خلاصة الرأي الذي انتهى إليه الدكتور طه في حكمهم لمصر وأن كفة الشر والجور رجحت عنده فاستحق عهدهم في مصر أن يذكر مقرونًا بالبغي والعدوان ليس إلا.

ومن هذا نرى أن دفاع الدكتور طه عن كلمته لا ينهض وتسويغه لها لا يستقيم وما كنا لنعنى بهذا الجدل لولا أن الدكتور طه كره أن يقال عنه: إنه أخطأ كأنما هو معصوم فذهب يكابر ولو اعترف واعتذر لكان ذلك أكرم له وأمثل به في رأينا.

6-

البلاغ، أليست مصر عربية "عبد الرحمن عزام":

تناول عزام في مقاله هذا الرد على عبارة الدكتور طه وهي:

"أنه قد فني في مصر جميع الفاتحين" قال:

عبارة الدكتور طه تطوي في نفسها معنيين: الأول أن فتح العرب لمصر وحكمهم لها كان بغيًا وعدوانًا كفتح الرومان والفرس والفرنسيين وغيرهم والثاني أن مصر ردتهم عنها! إذ أفنتهم فيها كما فعلت بغيرهم.

ص: 24

ولو1 أن هذه المعاني قالها رجل غير صديقي الدكتور طه وكان له من المكانة من نفسي ما للدكتور طه لناقشته في الحال فيها، لأنني كما يعلم الدكتور طه رجل يؤمن بعربية مصر، ويرى في تاريخ العرب مثلا عليا ويضع الوحدة العربية بين ناظريه أسمى غايات الحياة.

فإما أن يكون الدكتور طه حسين لا يرى رأيي في عربية مصرية ولا في الوحدة العربية وله كامل الحرية فيما يعتقده وليس لأحد أن يحاول اضطهاده في عقيدته، أما إننا على تمام الاتفاق، فهذا هو الجوهر في الأمر.

لقد دلتني تجارب عشرين سنة في السياسة ومخالطة الشعوب والقبائل المجاورة لمصر في الجنوب أو الغرب أو الشرق على وحدة جلية، فما شعرت في وجودي جنوبي حلفا بأنني غريب عن إخواني السودانيين بل كانت عزتي فيهم صادرة عن الشعور بالوحدة التي تقوم على نسب مشترك وأدب مشترك ولسان مشترك، وفي برقة ما كنت أظن إلا أنني في عشيرتي وفي فلسطين لا يجد المصري نفسه إلا في قومه الأقربين، ذلك كله جلي ملموس.

أما كيف صارت هذه الوحدة وكيف أصبحت مصر عربية وفي مكان القلب من جسم الأمة العربية فذلك ما فعلته آلاف السنين، فقد اندمجت مصر في الأمة العربية بحيث أضحى قيام الفكرة العنصرية على غير هذا الأساس منافيا للحقيقة الواقعة والدعوة إلى الباطل، لقد فعلت آلاف السنين فعلها لأن مما لا شك فيه أن امتزاج العرب بقدماء المصريين واشتراكهم مع العرب في أرومة واحدة هو قول يؤيده ما بين الهيروغليفية والعربية من التشابه القوي، وقد

1 البلاغ 11 سبتمبر 1933.

ص: 25

كان العرب يدعون خئولة قدماء المصريين لهم قبل ظهور الإسلام بقرون طويلة.

وإذا كانت الرسالة المحمدية قد وجدت بين شعوب العنصر السامي وأخرجت لنا وحدة جنسية تشملها لغة مشتركة وعرف متحد فأصبحت بذلك وسط سبعين مليونا متقاربين فما هو وجه المصلحة في التناكر أو الدعوة إلى عزلة مصر عن الأمة العربية.

ليست الوطنية العزيزة الجانب هي التي تقوم على الغيرة المحلية أو الطائفية بل هي التي تتسع للغيرة على العنصر بأكمله كرمز لنوع من البشر له وجود خاص وبين أجزائه تعارف خاص ويستند إلى أدب مشترك ولغة مشتركة وتاريخ يعتز بترديده ويطرب لذكراه ويثير حميته، ويدفعه إلى الاستبسال والغلب.

ذلك هو أساس الوحدة العربية في الأمة التي تمتد من المحيط إلى المحيط فليذهب إذن دعاة الفرعونية في مصر أو الفينيقية في سوريا أو الأشورية في العراق حيث شاءوا فإذا استطاعوا أن يستنهضوا قرية واحدة باسم الأمم التي فنيت في أهل العربية فإنهم يستطيعون أن يقيموا شعوبيتهم على أساس عميق.

أما الدعوة باسم العربية فإنها تستنهض سبعين مليونا في أفريقيا وآسيا وتجد في تاريخ العرب وأبطالهم ما يثير الناس جميعًا.

حدثوا ما شئتم عن خوفو أو مينا فهل تجدون في الناس إنصاتا، ثم حدثوهم عن عمر أو عمرو أو أبي عبيدة أو خالد أو سعد من فاتحي مصر وسوريا والعراق أفلا تجدون إنصاتا كإنصات البنين للآباء، هذا هو أصلهم الذين يعترفون به وهذا هو أصلهم الذي أنكروه فما معنى الشعوبية في مصر

ص: 26

الحديثة أو في غيرها من الأقطار العربية على أساس ينكره أهلها ولا ينصتون إليه.

ذلك هو وجه الخلاف بيني وبين من يدعون إلى غير الوحدة العربية فإن كان الدكتور طه منهم فلن يمنع هذا الخلاف.

أما الشق الخاص بتاريخ الفتح العربي أو ما بعد الفتح من نوع الحكم فإن الدكتور طه لم يوضح لنا فيه شيئًا بل زاد الأمر غموضًا بالإشارات إلى ثورات للمصريين واستقلال عن السلطان العربي، ونحن لا نعلم أي الثورات أو الاستقلالات يقصد.

ومع ذلك ليس هذا جوهريا إلا إذا أراد به إبعادنا عن الحقيقة التي نريدها وهي "عربية مصر" الحديثة، ومصر الحية التي تناهض الإنجليز لتدفعهم عن هذا الوادي، وإذا لم تدفعهم عن مصر الحديثة فهل تستطيع الأصنام القائمة على جوانبه ضرًا ولا نفعًا.

7-

البلاغ، القومية العربية ومكانة مصر منها، محب الدين الخطيب:

نعم1 إن المصري مصري، ولكن مع أنه مصري هو عربي، فمصر وطنه والعربية جنسيته المنشقة من لغته وثقافته، بل من أربعة عشر قرنا على الأقل من تاريخه القومي كما أن العراقي عراقي وهو مع ذلك عربي، وكما أن السوري سوري وهو مع ذلك عربي.

مصر وطن المصري المحبوب، وهو وادي النيل، ولكنه مكان ضيق

1 البلاغ، 12 سبتمبر 1932.

ص: 27

لأمة بعيدة المطمح تضرب بآمالها آفاق الأرض وتخترق بهمتها أجواز السماء، وهنالك ناس تخفق قلوبهم مع قلبه وتغضب نفوسهم للمغضوب من حقه، وتحس عواطفهم بإخوته، هم الذين يقرءون مؤلفاته إذا ألف، ويترنمون بقصائده إذا نظم وبأناشيده إذا غنى.

ومفخرة مصر أحمد كمال باشا رحمه الله، إنه لم يخرج من هذه الدنيا حتى ترك وراءه معجما يبلغ حمل جمل وضع فيه جميع ما عرفه البشر من الكلمات في لغة مصر القديمة المكتوبة بالخط الهيروغليفي وكان هو يفسر لغة مصر القديمة بلغة مصر الحديثة "العربية" ويجد في العربية في مقابل بعض الألفاظ المصرية القديمة ألفاظا شبيهة بها لفظا ومعنى.

وقد حمل هذا الاكتشاف على إنعام النظر في هذا الأمر ومازال به حتى تبين له أن أكثر من نصف اللغة التي كان يستعملها قدماء المصريين هي شبيهة بمثلها في العربية لفظا ومعنى، زد على ذلك أنها شبيهة بالعربية المصرية التي نستعملها اليوم، ولو أن العربية المعاصرة لقدماء المصريين والتي كانت تستعمل في سيناء وجزيرة العرب قبل أربعة آلاف سنة -أي قبل أن تتزين العربية بإعراب أواخر الكلم- دونت يومئذ في معجم، أو لو أن في جزيرة العرب نيلا كالنيل الذي في مصر يجلب إلى أهلها ثروة كالثروة التي كانت لفراعنة مصر فتمكنوا بهذه الثروة من إقامة أهرام وآثار ينقشون لغتهم عليها لثبت لأحمد كمال باشا ولكل إنسان على وجه الأرض أن لغة مصر القديمة هي لغة جزيرة العرب لا تختلف إحداها عن الأخرى إلا بالإمالات وبعض المترادفات فهما لهجتان من لغة واحدة كما هي الحال اليوم تماما بلا أدنى فرق.

إن الإسلام أوصل العربية إلى أوربا وآسيا وأفريقيا، وكانت العربية

ص: 28

في بعض القرون لغة السوق والمدرسة في إسبانيا وإيران كما ترى هي لغة السوق والمدرسة في مصر والشام والعراق والمغرب.

فلما ضعفت سلطة الدولة العربية تقلصت العربية عن البلاد غير السامية، ولكنها رسخت في البلاد السامية وصارت عنوان قومية واحدة من الموصل إلى رباط الفتح.

بل إن "مينا" وهو عنوان مجد مصر الفرعونية رجل آسيوي جاء إلى مصر من آسيا.

لا شك أنه جاء عن طريق سيناء العربية أو من جبال وأودية أخرى وراء سيناء وأعمق في العروبة، وماذا يمنع من القول بأن مينا ابن جزيرة العرب! إن جزيرة العرب تغذي مصر بأبنائها من قبل مينا، ومن بعد مينا ومن قبل عمرو بن العاص ومن بعد عمرو بن العاص، وأن فرعون نفسه كانت تجول في عروقه دماء غير قليلة من الدماء التي كانت تجول في عروق عدنان.

ومصر تتكلم العربية منذ أربع عشر قرنا ومع ذلك لا يزال يوجد فيها من يريد أن يقول إنه غير عربي، وأكثر القائمين بالقضية التركية في الأناضول يرجعون أنسابهم إلى الجركس والكرد أو اللاز أو الأرناؤوط ولم يتكلموا التركية إلا من مائة سنة أو مائتي سنة بالأكثر ومع ذلك يعتزون بالتركية فهل مائة السنة أو المائتان كافية ليكون القوم هناك أوفياء للغة التركية إلى هذا الحد والأربعة عشر قرنا التي مضت على العروبة في مصر غير كافية لتجعل مصر -تعلن من غير خوف ولا إحجام- أنها عربية.

إن الحلقوم الكبير الذي أراد منذ مائة عام أن يبتلع الشرق الإسلامي خاف هذه اللقمة وخاف أن يغص بها. فبث ببراعة مدهشة نزعة القوميات التي صدعت المجامع الإسلامية ومزقتها. ثم وقف أمام القومية العربية فهابها ورآها

ص: 29

لقمة من شأنها أن يغص بها. فاخترع ببراعة هذه الوطنيات بل حاول في بعض الأحيان تمزيق العربية نفسها بالدعوة إلى كتابة اللهجات العامية في كل قطر وجعلها لغات أدبية. "وهل إحياء عنوان "الأشوريين" في العراق بعد أن أماتته القرون وإحياء العرف البربري في شمال أفريقيا وتأليف كتب نحو وصرف للغة البربرية إلا حلقات من سلسلة برنامج مرسوم ونحن نضع أعناقنا في هذه السلسلة لنختنق بها. ونحسب أنها حلية نتجمل بها، وهل أنبه إلى أن الإدارة بفلسطين أرادت قبل سنين أن تحيي اسم "فينيقيا" وتطلقه على المقاطعة الشمالية الغربية هناك.

اجتهد الإنجليز وصنائعهم من عهد بعيد أن يوهموا النشء المصري بأن وجود العربية والإسلام في مصر إنما هو احتلال كالاحتلال الفارسي واليوناني والروماني والفرنسي والإنجليزي.

والمعنى الحقيقي للاحتلال أن تستولي دولة على بلد وتتصرف في مرافقه وتبقيه غريبا عنها، هكذا كان حال الفرس واليونان والرومان قبل دخول مصر في الإسلام، وهكذا كان حال احتلال الفرنسيين ثم احتلال الإنجليز فهم يترفعون عن الامتزاج بالأمة المصرية ولا يساوونها بهم ولا يخطر في بالهم أن يعتبروها منهم.

أما العرب ففي عشرين سنة فقط اختلطوا بالمصريين واتحدوا معهم بالدين واللغة والثقافة وصار لهم وعليهم وتولى أبناء مصر جميع مرافق الحكم والإدارة.

فالذي قال عن المصريين "أنهم خضعوا لضروب من البغض وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس واليونان وجاءتهم من العرب والترك والفرنسيين

إلخ فقد خالف الحقيقة بما نسب إليهم من ضروب البغض وألوان العدوان،

ص: 30

وإذا كان أراد المتصرفين في إدارة بعد ذلك مدة الأمويين والعباسيين والفاطميين فلا شك أن الذي كان يتولى ذلك في مصر إنما هم المصريون أنفسهم.

ولقد قال جوستان لوبون: "ما عرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب" لأن التاريخ ما عرف أمة تخلط الأمم وتجعل لها ما لها وعليها ما عليها كما عرف ذلك من العرب.

8-

البلاغ، مكان مصر من العرب والقومية العربية. عبد القادر حمزة 1:

الفكرة البارزة هي أن للمصري وطنا أول هو مصر ووطنا ثانيا هو القومية العربية وهذا تحديد نظن أن جميع المصريين يوافقون عليه في جملته ولكنهم يحبون أن لا يدخل عليه شيء من الغلو في جزئياته.

لا نكران إذن أن العنصر السامي اتصل بمصر منذ آلاف من السنين وأن العرب لما فتحوا مصر أعطوها الدين الإسلامي واللغة والثقافة العربية ولكن لا نكران أن كل ذلك لا يسلخ المصريين من جنسيتهم المصرية وبيئتهم المصرية وتاريخهم المصري، فالمصريون على هذا مصريون بوطنهم وجنسيتهم وتاريخهم. وهم في الوقت نفسه عرب بدينهم وبلغتهم والهوى الصادق الذي يحملونه لإخوانهم العرب شرقا وغربا.

ولكن من شاء أن يسمي القومية العربية وطنًا ثانيًا للمصريين بعد وطنهم مصر، ذلك ما لا تنازع فيه ولا مصلحة لنا في أن نتنازع فيه، ولكن على أن يكون مفهومًا أننا إذا ذكرنا وطننا الأول مصر لم يكن المعنى أن هذا

1 البلاغ 13 سبتمبر 1933.

ص: 31

الوطن نشأ منذ الفتح الإسلامي فقط بل نشأ قبل ذلك بألوف السنين.

فهذا المعنى كله هو مجموع الذكريات ومجموع الآلام والآمال التي يتألف من بعضها الوطن ويتولد الشعور الوطني.

فالذي يريد من المصريين أن ينسبوا ماضيهم هذا البعيد وأن يقفوا منه عند الفتح الإسلامي وحده إنما يريد ظلما لهم وشططا وخروجا على القواعد الطبيعية.

ولهذا لا نفهم هذه الكراهية التي تبدو على بعض دعاة العربية لذكرى الفراعنة يتحدث بها المصريون فيما يتحدثون عن ماضي بلادهم ويستلهمونها ما يلهمه كل ماض مجيد من سمو المطمح وعزة النفس ومضاء العزيمة. وهل يكون معقولا أن يشيد الأوربيون جميعا والأمريكيون أيضًا بهذا الماضي حتى ليأتون ألوفا كل سنة ليشاهدوا آثاره

ثم ينكره المصريون أو يهملونه.

لعل هذه الكراهية التي تبدو على بعض دعاة العربية لذكرى الفراعنة إنما تنشأ عن فهم أن تنسلخ عن هواها للعرب فهذا الخوف لا محل له بعد أن صارت مصر عربية الدين عربية اللغة منذ أربعة عشر قرنا.

9-

ثقافة مصر هل تكون عربية أم فرعونية؟ 1، عبد الله عفيفي:

طلعت علينا في الأيام الأخيرة فكرة ضارة تدعو إلى الفرعونية تريد لها أن تسود ثقافتنا وتفكيرنا قائلين أن ذلك هو مجد الخلود. وسؤدد الأجيال. وأن الرجوع بمصر وبأهلها إلى عهد الفراعنة الشداد ووثنيتهم البالية وهو سبيل القوة والعظمة ووسيلة الجاه والحياة وما دروا أنهم بذلك يطالبوننا بالجمود

1 البلاغ 16 سبتمبر 1933.

ص: 32

والنكران لهذا التراث المجيد الطاهر الذي ورثناه عن آبائنا العرب الكرام والذي جاء يتوجه الدين الإسلامي الحنيف بسهولته وعظمته وبقوته السامقة التي أبادت دولا وثلت عروشا وحطمت تيجانا واكتسحت جيوش الأمم من حولها حتى نشرت بنودها الخافقة على مشارق الأرض ومغاربها فكانت بذلك رسالة مقدسة أنقذت العالم من شرور الطغاة وأذلت من جبروت المستبدين وأبادت عبادات لا يرضاها العقل ولا تتفق مع الكرامة وسمت بالإنسانية إلى ذروات المجد والعزة، فإذا بالبشر هو البشر والرجل هو الرجل والمرأة هي المرأة في منازل الحياة ينعمون بحقوقهم ويؤدون واجبهم نحو الخالق القاهر ونحو الجنس البشري يتجهون للعزة الإلهية بالتقديس والعبودية.

10-

لا فرعونية ولا عربية بعد اليوم، فتحي راضوان 1:

إذا قيل: أمصر فرعونية أم عربية؟ وجدت الباحثين لا يبحثون بوسائل الإثبات العلمية فرعونيتنا أو عربيتنا، أي غلبة الروح الفرعونية على الروح العربية في مصر بل يفاضلون بين مجد الأمتين

ويقرنون الدين في هذه المفاضلة.

فمن رأى منهم أن العرب أعظم مجدًا وأبقى على التاريخ قال: مصر عربية ومن آمن بالحضارة الفرعونية ورأى فيها أكمل الإنسانية قال: مصر فرعونية.

فإذا دار البحث عن أي الأمتين أعظم أثرًا وأسمى رسالة: العرب الذين انطلقوا من شبه الجزيرة القاحلة الجرداء بعد أن كانوا تائهين في أعطافها وأطرافها يحملون مشعل الهدى ويهدون الأمم جميعا إلى الحق والخير ويبغون لقومهم بدين جديد.

أم الفراعنة الذين حدثت في أرضهم أولى حضارات العالم ثم قويت حتى

1 البلاغ 19 سبتمبر 1933.

ص: 33

سارت ثم انطلقت تعم الدنيا وتشمل العالم وتترك في كل قطر أثرًا وفي كل شعب آية من آيات عمقها واتساع مداها، إذا دار البحث حول هذه النقطة واتجه هذا الاتجاه

كان واجب الباحثين أن يقصروا بحثهم على العرب لا على الإسلام ووجب أن يفاضلوا بين العرب قبل الإسلام وبعده لا العرب قبله فحسب.

أما الذين يريدون أن يمزجوا العرب بالإسلام فهم يخطئون محجة الصواب لأنهم بذلك ينقصون من عظمة هذا الدين، الذي يكسب به السمو والشرف كل من انتسب إليه.

ثم خلص من هذا إلى أن قال:

الفرعونية والعربية موضوع يجب أن يهجر لأنه في جملته وتفصيله سبة وعار. عار أن يختلف المصريون هكذا في معرفة أصولهم وأنسابهم. عار أن يرتفع صوت كاتب عظيم ليقرر أن مصر فرعونية ويرتفع من الجهة الأخرى كاتب عظيم ليقرر أن مصر عربية، وكلاهما يعيشان في مصر ويستنشقان هواءها ويشربان من مائها.

لا فارق بين الكاتبين، وإنما هناك شبهة دست علينا. ولا أدري من المسئول عنها؛ ولكن أغلب الظن أن المسئول هنا هم المستعمرون الذين يريدون أن يقسموا تاريخ مصر قسمين. فيفسدوا وحدة تاريخ هذه الأمة العظيمة ويقلبوا أبناءها إلى معكسرين يتناوشان ويتنازعان وتبدو منهما الألفاظ النابية والتلويحات الكريهة. وكان الأولى أن يتعاونوا على إبراز جلال هذا التاريخ.

ص: 34

11-

الثقافة العربية والثقافة الفرعونية، زكي مبارك 1:

مصر اليوم لغتها العربية ودينها الإسلام، فمن يدعوها إلى إحياء الفرعونية يدعوها أيضًا إلى نبذ اللغة العربية أو يدعوها إلى اعتقاد أن اللغة الغربية لغة دخيلة. ويدعوها أيضًا إلى أن تذهب مذهب الفراعنة في فهم الأصول الدينية.

نحن اليوم في عهد انتقال ومن الواجب أن تكون خطواتنا رشيدة موفقة وليس من الرشد والتوفيق أن نمكن المترددين من المضي في غيهم، والمترددون في مصر هم الحيارى الذين لا يدرون مكان القومية المصرية فهم تارة فراعنة وتارة عرب.

واللغة العربية هي لغة المصريين وكيف لا تكون كذلك وقد كانت أداة التفاهم في وادي النيل نحو ثلاثة عشر قرنا وقد يصعب على الباحث أن يثبت أن المصريين في عهود التاريخ ظلوا يتكلمون لغة واحدة في مثل هذا المدى من الزمان.

ونحن حين نتكلم العربية وندين بالإسلام لا نحتاج من يذكرنا بأننا عرب، فنحن عرب لغة ودينا ولكننا مصريون وطنا والذي يطالبنا بغير ذلك إنما يكابر في الواقع وقد كان مفهوما منذ أزمان طويلة أن مصر لها وجود خاص وتاريخ العرب حافل بشواهد هذا القول. والمصري لا يمتنع من القول بالوحدة العربية.

وهذه الوحدة تتمثل اليوم في الصلات الأدبية التي تجمع بين مصر وبين المغرب والشام والحجاز واليمن والعراق. أما الوحدة السياسية فأمل ضعيف.

1 البلاغ 22 سبتمبر 1933.

ص: 35

وليس من النافع أن نسير في البقاع المصرية لنستقصي ما بقي من الموسيقى الفرعونية فهذه رجعة ضائعة النتائج وإنما الواجب أن ندرس الموسيقى الحاضرة، موسيقى الغرب المثقف ثم نضيف إلى أصواتنا وألحاننا ما يزيدها قوة إلى قوة.

بينت أنه لا يربطنا بالعرب غير اللغة والدين، ونحن فيما عدا ذلك أبناء هذا الزمان. إي والله نحن أبناء هذا الزمان فلتكن ثقافتنا موجهة إلى الأصول الحديثة في العلوم والآداب والفنون، ولقد كان الفراعنة من أعرف أهل زمانهم بالطب ولكن من الخرق أن نفكر اليوم في تجربة وصفات المصريين.

إن التطلع إلى الوراء محنة وصرف الوقت في التشبث بالمدينات البائدة خسار وضلال ولا ينبغي لنا أن نفكر في الحضارة القديمة إلا بقدر ما يوقظ العزة القومية.

ومن الخرافات التي يرددها شباب اليوم أن مصر قد تكون عربية دينا ولغة ولكنها فرعونية دما. وهذه فكرة وهمية فإن مصر كانت قد اندمجت في القومية الإسلامية وصاهرت الناس من جميع الأجناس وهي بطبيعة موقعها الجغرافي ملتقى لأهل الشرق والغرب فليس فيها دم خالص إلا في القرى السحيقة التي حرمها الجهل والفقر من الاتصال بالوافدين إلى البلاد من مختلف الجنسيات.

وبعد؛ فنحن نعيش في مصر ونتكلم لغة العرب وندين بالإسلام.

12-

ثقافة مصر يجب أن تكون مصرية، زكي إبراهيم 1:

كان من رأي الأستاذ عبد الله عفيفي أن تكون ثقافة المصريين عربية

1 البلاغ 12 سبتمبر 1933.

ص: 36

وقد نحا في التدليل على صحة رأيه ناحية الدين الإسلامي

واسترسل في هذه النعرة، نعرة الدين لكي يصل إلى قلب الجمهور.

على أن القضية لا دخل للدين فيها مطلقا فالمسألة ثقافة، والثقافة كما فسرها حسن صبحي هي كل ما يحيط بالمجموع. هي الظاهرة المتأصلة في نفس كل منا. هي الطابع الذي يسم الأمة، ولكل أمة طابعها.

وقد برهن حسن صبحي على أن للمصريين ثقافة خاصة نحسها في الغيط عند الفلاح وفي الطريق على ألسنة العامة

وفي الريف، وفي الغناء والأنغام.

إن لمصر ثقافة قديمة مازالت هي ثقافتها إلى اليوم فما معنى تغييرها وإبدال ثقافة عربية جديدة بها تحتاج في تعلمها إلى الوقت الطويل. لنا لغة خاصة مكتسبة من العربية، نعم إنها ليست عربية فصيحة ولكنها ليست فرعونية أيضًا.

وليست مصر وحدها التي تدين بالإسلام فهناك الترك والفرس والهند والأفغان والكرد وغيرهم من الأمم، ومع ذلك لم يفكروا في تغيير ثقافتهم بثقافات عربية ولا في استبدال لغتهم بلغة عربية، بل لم يفرضوا تعليم أبنائهم العربية ونحن كباقي من ذكرت من الأمم لنا لغة وثقافة وطابع لن نستطيع عنها بديلا.

على أن ليس المسألة فيها فرعونية ولا فرعون؛ لأنها هي: هل ينبغي للمصريين أن يكون لهم ثقافة مصرية خاصة وطابع مصري خاص؟ أو أن تكون ثقافتهم عربية. وأن يكونوا مطبوعين بالطابع العربي.

ص: 37

وما كان يدور بخلدي أن دعاة العربية سيتناولون المسألة عن طريق الدين فلقد بحت أصواتنا من قولنا "مصر للمصريين" فهل تريدون بعد ما عانينا من نصب وقدمنا من تضحية أن نقول "مصر للعرب" اللهم لا، فهذا ما لا يرضاه أحد.

13-

مصر عربية ولن تكون غير ذلك، علي الجندي 1:

الفرق بين الفرعونية والدين في الواقع كالفرق بين الموت والحياة، والعدم والوجود

لقد انتهى هذا الصراع الأدبي بفوز العربية فوزًا ظاهرًا ولكن يؤسفنا أن أشياع الفرعونية لم يعترفوا بأنهم غلبوا على أمرهم.

إن من الخير لنا أن نوحد جهودنا لترقية ثقافتنا العربية التي عرفنا بها وعرفت بنا، كرهنا أم رضينا بدل أن نسلك شعابا متباينة تستنفذ قوتنا ولا تفضي بنا إلا إلى الفرقة والدمار.

ليست الثقافة كما يظنون ثوبا يلبسه صاحبه متى شاء ويخلعه متى أراد وإلا لكان من السهل على الأمم جميعا أن تصبح أسرة مؤتلفة متساوية الدرجة، ماذا تريدون بالثقافة الفرعونية؟ وأين هي؟ وماذا بقي منها؟

إن أشقاءنا العرب لا يسوموننا شططا، هم لا يحبون لنا أن ننكر أجدادنا الأُول أو أن نبرأ من ماضينا المجيد، لا يريدون منا أكثر من أن نكون مسلمين دينًا، عربا لغة، تظلنا الثقافة المتحدة وتجمعنا الآمال والآلام المشتركة،

1 البلاغ 27 سبتمبر 1932.

ص: 38

لا يريدون أكثر من أن نكون عضوا عاملا في الجسم العربي القومي، لا بل رأسا لذلك الجسم أو قلبا له.

أتريدون أن ننسى شعراءنا من المهلهل إلى شوقي، اكتفاء بشعر بنتاءور إن صح أنه من الشعراء، أتريدون أن ننسى أسماءنا ونتسمى برمسيس وتحتمس

14-

مصر بين الفرعونية والعربية، مناظرة بين عبد الله عفيفي وحسن صبحي:

1-

عبد الله عفيفي. نحن عرب:

إن مصر الحاضرة عربية لا فرعونية، البلاد عربية لأن دينها الإسلام وقد أنزل القرآن الكريم باللغة العربية.

الثقافة العربية عقيدة قوية تفيض بالحيوية وليست آتية من الفتح والغزو. ليس في تمسكنا بها غضا على مصريتنا، إذ إنها لقوتها وحيويتها؛ أن كثيرا من الأمم القوية أغارت على البلاد العربية ولكنها مع ذلك دفعت إلى التثقف بالثقافة العربية، وأستشهد على صحة ذلك بالحبشة حينما أغارت على بلاد اليمن وفتحتها بكثرة العدد وقوة العدد. فإنها اندمجت فيها وأصبحت خلية من خلايا الثقافة العربية، إنها هي الثقافة التي صمدت أربعة عشر قرنا في وجه الغزاة الفاتحين من الأمم القوية كالبربر والمماليك والأتراك مما يثبت قوتها وخلودها.

والعربي الثقافة قوي بشمائله قوي بدينه يؤثر فيمن حوله مضطرًا إياهم إلى الاندماج في ثقافته.

ما لنا نريد أن نتحول عن ثقافة تمتد حدودها حول ضفاف بحر الروم إلى

ص: 39

ثقافة عفت وبادت، إننا حين نوازن بين الثقافتين، نوازن بين وجود وعدم. وأستنكر هذا التمرد وهذه الشرعة في اعتزال عن العالم العربي وفي التي يقول بنوها: نحن عشراؤكم وإخوانكم وأنتم زعماؤنا.

ونحن عرب بلغتنا وديننا، تربطنا وسائر إخواننا من بني الشرق آصرة الدين وآصرة اللغة وللدعوة إلى الفرعونية معناها قطيعة الإخوان وهي ضارة بالوطنية.

أما هذه الصيحة المنافسة من وراء قبور الفراعنة فلا يجب أن يتأذى بها إخواننا لأن الإسلام واللغة والأدب عوامل قوية تحول دون تحقيقها.

الحضارة الحديثة مدينة إلى اللغة العربية لأنها قرنت بين القديم والحديث.

2-

حسن صبحي: الوجهة الفرعونية التي يجب أن تتجه إليها ثقافتنا:

قالت البلاغ تلخص محاضرته:

رجع إلى تاريخ مصر منذ 7 آلاف عام حينما كانت قبائل متفرقة جاءت من جهات متعددة ثم وحدتها الظروف المماثلة وأكسبتها ثقافة أخرجت لنا الحضارة المصرية الأولى التي أشرقت بنورها على ما عرف من العالم في ذلك الحين.

وعرج إلى مصر وإنتاجها الفكري العظيم "هذا الإنتاج الذي نعرفه بالثقافة" فذكر كيف صمد -محتفظا بشخصيته- أحقابا وأجيالا طويلة تعاقبت على مصر خلالها غزاة وفاتحون "منهم الكلدانيون الذين أتوا من العراق ومنهم الملكة نفرتيتي وحاولوا أن يقضوا عليه فقضي عليهم وسرعان ما تحولت الموجة الفكرية الكلدانية إلى موجة ثقافية مصرية.

ص: 40

ومنهم الأشوريون، ومنهم الرومان المتعجرفون الذين أرادوا أن يؤثروا في الثقافة المصرية بقوتهم الغشوم فكان جزاؤهم الفشل والخذلان والطرد.

وأخيرًا جاء العرب بثقافتهم الخاصة إذ كانت لهم ثقافة واندمجوا في الثقافة المصرية كالكرات الحمراء ودفعتها إلى التقدم والمدنية والرقي.

ولكنها لم تتغلب عليها قط إذ إنها مازالت محتفظة بطابعها المصري حتى الآن في نواح متعدد من الحياة في مصر، ومن السهل على المرء أن يميز آثارها في البيت المصري الصميم وفي الأغاني الشعبية القومية العامية التي يرددها الفلاحون بل في اللغة العربية التي نتكلم بها الآن.

وأن عشر اللغة التي نتكلم بها هيروغليفي، مثل نون الوقاية وكاف الخطاب والفعل أدى، فهذه كلها ألفاظ تعود بأصلها إلى الهيروغليفية.

وانتقل إلى الثقافة المصرية الدينية فذكر أن المصريين نشئوا جاهلين كالعرب ولكنهم مع ذلك عبدوا الخالق في صور عديدة، ومعنى هذا أنهم عرفوا فكرة التوحيد في الإسلام وفكرة التثليث في المسيحية.

وعاد فقال إن الأرغول والناي بشكل القيثارة والدف هذه كلها أدوات مصرية فرعونية قديمة.

15-

لا فرعونية ولا عربية: محمد كامل حسين 1:

ذهب بعضهم إلى أن هذه الثقافة يجب أن تكون فرعونية وقال البعض: إن ثقافة مصر يجب أن تكون عربية خالصة.

أما هؤلاء الذين يريدون لمصر الثقافة الدينية فلا نتفق معهم أيضًا في

1 كوكب الشرق 2/ 10/ 1933.

ص: 41

هذا الرأي، فطبيعة مصر تختلف اختلافا طبيعيا عن طبيعة بلاد العرب.

والحياة المصرية، تختلف عن حياة العرب وللمصريين عقلية خاصة تختلف أيضًا عن عقلية العرب فكل الظروف تدل على أن المصريين يختلفون عن العرب في أشياء كثيرة وإن كان المصريون والعرب -كما يقول البعض- من أصل واحد إذ إنهم اتصلوا ببعض اتصالا يكاد تاما حتى حينما دخل العرب مصر وهاجرت قبائل عربية إليها واستوطنوا بها، نرى الحياة التي كانوا يحيونها قبل دخولهم مصر تتغير ويصبحون كالمصريين في كل شيء، والثقافة العربية نفسها التي حملوها إلى مصر اختلفت في كثير عن الثقافة العربية في البلاد الأخرى.

ثم إن اللغة العربية التي يدرسونها لمصر محدودة لا تتعدى اللغة والشعر وبعض القصص، أما العلوم الأخرى من فلسفة ومنطق وغيرهما فلم يكن للعرب حظ منها وإنما عرفها المسلمون بعد الفتوح الإسلامية.

كل الذين يسمون الثقافة الإسلامية بالثقافة العربية قد أخطئوا في هذه التسمية لأن هذه الثقافة اشتملت على علوم وأفكار ليست عربية في شيء كما أن القائمين بها كثرتهم من غير العرب.

ولكن هذه الثقافة الإسلامية لا تكفي وحدها لأن تكون ثقافة مصر بعد أن رأيت هذا الجمود الذي حل برجال الأزهر نتيجة اتخاذهم الثقافة الإسلامية وحدها دون غيرها.

ثم عمدنا إلى الثقافات الأجنبية المختلفة التي كلف بها المصريون وأحبوها.

ص: 42

16-

هذا الوطن المصري، سلامة موسى:

لسنا في دعوتنا إلى درس الفراعنة رجعيين، لا بل نحن ندرس هذه الحضارة بروح يقرب جدًا من الروح الديني فإننا نزداد صلاحا بهذا الدرس إذ نجد فيها الأسباب الكبيرة لأن يحب بعضنا بعضا. فنحن أسرة قد عشنا في هذا الوادي أكثر من عشرة آلاف سنة وليس فينا مصري واحد كائنة ما كانت البقعة التي يعيش فيها إلا وفيه قطرة من الدم الذي جرى في رمسيس وخوفو ومنقرع وأخناتون.

ولكن بعض الناس يتهموننا بما يسمونه "الفرعون" وهذه اللفظة لم تجر قط على قلم واحد من الكتاب المصريين في صدد الدفاع عنها وإنما هم اخترعوها لكي يشتمون بها، وقد بلغ السخف بأحدهم أن يقف في منبر مصري ويشتمنا على هذه الفرعونية المزعومة ويسب الفراعنة. وهم يقصدون بالفرعونية أننا نريد أن نجحد العرب ونرجع بالناس إلى ديانة الفراعنة وأنظمتهم، وهذا سخف لا يعرفونه هم أنفسهم ولكنهم يتوسلون به للطعن فينا.

ثم يدعون علينا الدعاوي في الكراهية لوحدة العرب بل يتهموننا بخدمة الاستعمار بتفتيت الوحدة.

وليس في العالم كله صحف تدافع عن الأقطار العربية وتعنى بأخبارها كالصحف المصرية، ولكن مجهود هذه الصحف لا يعترف به إذ هي لا تكتب في الليل والنهار عن الوحدة العربية ولا تنغمس في دعاية تعترف أنها تعد الآن سخيفة وأن الوقت لم يحن لها.

ص: 43

كلا أيها الإخوان لا تلوموننا على الزهو بالفراعنة لأن لنا حقًا في هذا الزهو يعترف به العالم كله.

17-

عربية مصر، سعيد حيدر 1:

أريد أن أطمئن الأستاذ صاحب البلاغ أن دعاة القومية العربية لا يسيئهم ولا يضيرهم مطلقا أن تستلهم مصر -في جهودها لتبوئ مكانتها السامية بين الأمم- مجد الفراعنة. لأن هؤلاء الدعاة يعلمون أن كبار علماء الآثار والعاديات يكادون يجمعون على أن أصل الفراعنة ومنشأهم بلاد العرب وأن مباحث اشتقاق اللغات تكاد تقرر أن لغة الفراعنة واللغة العربية شقيقتان، وأن المصريين القدماء والعرب سامية وأن الهكسوس عرب خلص.

إنما الذي يسيء دعاة القومية العربية ويضيرهم هو سعي بعض أعلام الكتاب في مصر لإسدال ستر النسيان على تراث مصر من مجد آبائهم من العرب، ذاك المجد الخالد الذي قد لا يضاهيه مجد آخر ولا يضارعه حافز نحو العلاء وانصرافهم بكليتهم إلى ادعاء فرعونية مصر، والقول بأن العرب غرباء أجانب جاءوها غزاة فاتحين فأضروا بها وأخروها من سلم الحضارة العالمية أحقابا مما لا يتفق مع التاريخ والعلم ومصلحة مصر، حيث يبذرون بذور الكراهية والبغضاء بين الأخوة الأشقاء.

وحين شرع أعلام الكتاب في مصر يترنمون بمجد العرب الخالد والحضارة الإسلامية الزاهرة ويمزجون بين هذا ومجد الفراعنة لاستثارة حماسة الشباب المصريين وتوجيه مطامحهم نحو العلاء فلم يبقَ بينهم وبين دعاة القومية أي خلاف.

1 البلاغ 10/ 9/ 1933.

ص: 44

يكاد يحار المرء في إدراك المصلحة التي ينشدها لمصر دعاة الرجوع إلى الفرعونية والجنوح عن العربية، ماذا عساها تكون؟

أظن أن التجارب القاسية التي مرت بمصر أقنعت العقلاء والمفكرين بأن الاتجاهات الإقليمية لن تؤدي إلى حسن النتائج. وأن اتجاها مصريا واتجاها سوريا وآخر عراقيا وهلم جرا لن يصل بنا إلا إلى الفشل المرير وأن النجاح مضمون حين نجتمع على اتجاه عربي شامل.

إن علماء الاجتماع وعلماء الحقوق والمؤرخين نبذوا منذ سنين نظرية الدم والعرق في التعرف على القومية وقالوا بوحدة اللغة ووحدة الثقافة والدين وتماثل الأخلاق والعادات والتقاليد

فهل بين هذه الصفات ما يكذبنا إذا ادعينا أن مصر عربية في نظر العلم أيضا؟

18-

عربية أم فرعونية، "حسن عارف 1 ":

الواقع أن الدعوة العربية حديثة جد الحداثة لم يقل بها النبي الكريم ولم تتواتر على الألسنة ولم تطرق ذهن رجل كجمال الدين أو الإمام والواقع أنها فكرة نشأت غامضة مبهمة مكبوتة حائرة في نفوس الشعوب العربية حين كانوا يأتمرون بها ويعصفون بكرامتها وعواطفها، وحين كانوا يعلنون أن العرب جنس خلق ليحكم ويجلد ويعامل معاملة الأنعام وحين شعرت الأمم العربية أن الترك لا ينظرون للخلافة على أنها رمز الوحدة الإسلامية حيث يتآخى الكل وحيث لا فضل لتركي على عربي.

فأين مصر من هذا كله؟

1 البلاغ 11 أكتوبر 1933.

ص: 45

كرم ملحم كرم، صاحب العاصفة "بيروت"1:

الرغبة في رؤية الكتاب المصريين في الصف الأول حملت جريدة العاصفة على أن تحذرهم من داء كمن في نفوس بعضهم.

وكانت مقاطعة السوريين لمؤلفات طه حسين ومناداتهم بإحراقها؛ فوقفت منذ تلك الدعوة المقاطعة موقفا حملنا على الميل إلى الصفاء والسلام، وقلنا للغاضبين لماذا إحراق الكتب وفي إحراقها دليل على التقهقر والتأخر فاكتبوا إلى الرجل واطلبوا منه الاعتذار، وفي اعتقادي أنه سيعتذر عن خطأ لم يقصده وإلا فالمجال أمامكم فسيح لا لإحراق كتبه بل للامتناع عن شرائها وقراءتها.

هذا ما قلناه والدكتور طه حسين اعتذر بمهارة وحذق.

نعم؛ نحن تمادينا فيما كتب عن إحراق كتب طه حسين وقلنا: إن بعض الكتاب المصريين يتناسى حيث يكتب أن هناك شعبًا غير الشعب المصري مع أن هناك في العالم العربي البلدان الوسيعة وفي كل منها أدباء لا يقلون عن الأدباء المصريين شأنا. ولو اتفق لهؤلاء أن يقيموا في بيئة كالبيئة المصرية لمشوا في الصف الأول من صفوف أدباء العرب2.

1 البلاغ 23/ 10/ 1933.

2 تعليق: هذا العرض يدل على شيء واحد. وهو مدى، أحدث الاستعمار في مصر من بلبلة للأقطار بين الشرقية والفرعونية والإسلامية والعربية والإقليمية والشعوبية والتغريب وذلك حتى تظل محجوبة عن الاتجاه الواضح الصحيح وذلك في نفس الوقت الذي كانت الأمة العربية تتطلع إلى "مصر" كمركز لقيادة الحركة العربية ولكن هذه الهزة كانت بمثابة يقظة وتطلع وكانت دفعة للسير في الطريق الواضح وهزيمة لدعاة الشعوبية الذين تساقطوا من بعد كأوراق الخريف ثم لم يلبث الاتجاه العربي أن أصبح حقيقة واقعة.

ص: 46

إن مصر لم تقل يوما: إنها عربية بل قالت: إنها إسلامية، وظلت ساخطة على الترك متبرمة من تعسفهم وجهل أحوالهم ورجالهم ولكنها لم تربط سخطها على الترك بسخط أمة أخرى ولم تلج باب الوحدة العربية علمًا منها بأنها ليست عربية.

وحين ثار في مصر عرابي لم يقل بالعربية بل كان شعاره مصر للمصريين.

ولما دخل الإنجليز مصر وأوهنوا حريتها كان الناقمون على الإنجليز ينادون بالفكرة الإسلامية لا العربية.

ونخرج بك الآن إلى الغرض الذي ترمي إليه الدعوة العربية. ذلك أن هذه الدعوة لن تضر البلاد العربية شيئًا؛ لأن فيها أمة عربية لها معالم ومظاهر تميزها عن غيرها تمييزًا محسوسا، وفخر هذه الأمة بتاريخها ومدنيتها وثقافتها أمر طبيعي يزيد ثقة في مستقبلها ويمهد الأمل ويفتح لها الطريق، ولكنها تضر مصر ضررا بالغًا، فمصر تتكلم العربية وتدين بالإسلام ولكنها تختلف عن العرب في كل شيء.

أما الذين يدعون إلى الفرعونية فأسألهم: ماذا يريدون؟ فصحيح أن مصر كانت فرعونية وصحيح أن هناك بقايا كثيرة جدا من الحضارة الفرعونية تطفو على سطح العادات المصرية القديمة.

ولكن علام يدل كل هذا؟ وما الفائدة من تكراره، والتكالب عليه وبعثه إلى الوجود؟

لا فرعونية ولا عربية. نريد اتجاها جديدًا مستقلا عن كل نفوذ أجنبي والعربية نفوذ أجنبي أي خارجي من حيث المكان، والفرعونية نفوذ أجنبي أي خارجي من حيث الزمان.

ص: 47

‌الباب السابع: المعارك بين المجددين والمحافظين

‌الفصل الأول: معارك الرافعي

تعوزه العقيدة التي تخلق المبدأ ومن هنا كان التناقض الظاهر في كل ما يصدر عنه من قول أو فعل.

ووصف العقاد بقوله: أما العقاد فإني أكرهه وأحترمه؛ أكرهه لأنه شديد الاعتداد بنفسه قليل الإنصاف لغيره، ولعله أعلم الناس بمكاني في الأدب ولكنه ينفس على قوة البيان فيتجاهلني حتى لا أجري معه في عنان.

ص: 44