المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: مذهبان في الأدب: - المعارك الأدبية

[أنور الجندي]

فهرس الكتاب

- ‌مدخل

- ‌أولا: معركة مفاهيم الثقافة

- ‌ثانيا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌ثالثا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌الباب الأول: معارك الوحدة والتجزئة

- ‌معركة الوحدة العربية

- ‌مصر بين العربية والفرعونية:

- ‌معركة العروبة والمصرية:

- ‌الباب الثاني: معارك اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌تمصير اللغة العربية:

- ‌مجمع اللغة، ما هي مهمته

- ‌معركة الكتابة بالحروف اللاتينية:

- ‌الباب الثالث: معارك مفاهيم الثقافة

- ‌مدخل

- ‌ثقافة الشرق ثقافة الغرب:

- ‌معركة بين فيلكس فارس وإسماعيل أدهم:

- ‌لا يتنيون وسكسونيون: بين العقاد وطه حسين

- ‌النزعة اليونانية بين زكي مبارك وطه حسين:

- ‌كتابة السيرة" بين التاريخ والأسطورة:

- ‌كتابة التاريخ: بين رفيق العظم وطه حسين

- ‌معركة الترجمة: بين منصور فهمي وطه حسين

- ‌آداب الساندويتش: بين الزيات والمازني والعقاد

- ‌أدبنا: هل يمثلها؟ بين أحمد أمين وأمين الخولي

- ‌غاية الأدب: ما هي؟ بين زكي مبارك وسلامة موسى

- ‌متى يزدهر الأدب؟ معركة بين لطفي جمعة وزكي مبارك:

- ‌الأدب المكشوف: بين توفيق دياب وسلامة موسى

- ‌التراث الشرقي؛ يكفي أو لا يكفي؟: بين عبد الرحمن الرافعي وعباس محمود العقاد

- ‌ثقافة دار العلوم: بين أحمد أمين ومهدي علام

- ‌الباب الرابع: معارك الأسلوب والمضمون

- ‌الأسلوب والمضمون: بين الرافعي وسلامة موسى وطه حسين

- ‌أسلوب الكتابة: معركبة بين شكيب أرسلان وخليل سكاكيني

- ‌أساليب الكتابة؛ بين شكيب أرسلان ومحمد كرد علي:

- ‌الباب الخامس: معارك النقد

- ‌الفصل الأول: أسلوب طه حسين

- ‌الفصل الثاني: مقومات الأدب العربي

- ‌الفصل الثالث: مذهبان في الأدب:

- ‌الفصل الرابع: بين النقد الذاتي والموضوعي

- ‌الفصل الخامس: الأدب بين التجديد والانحراف

- ‌الفصل السادس: هل نقتبس أم نقلد

- ‌الفصل السابع: معركة فقدان الثقة

- ‌الفصل الثامن: الفن للفن والفن المجتمع

- ‌الباب السادس: معارك النقد حول الكتب

- ‌الفصل الأول: رسالة منصور فهيم الدكتوراه

- ‌الفصل الثاني: الخلافة وأصول الحكم

- ‌الفصل الثالث: معركة الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌نماذج من حملات المعركة:

- ‌تجدد معركة الشعر الجاهلي:

- ‌الفصل الرابع: كتاب "النثر الفني

- ‌الفصل الخامس: كتاب "أوراق الورد

- ‌الفصل السادس: كتاب ثورة الأدب

- ‌الفصل السابع: "كتاب" مع المتنبي

- ‌الفصل الثامن: معركة مستقبل الثقافة

- ‌الباب السابع: المعارك بين المجددين والمحافظين

- ‌الفصل الأول: معارك الرافعي

- ‌الفصل الثاني: معركة فضل العرب على الحضارة

- ‌الفصل الثالث: الدين والمدينة

- ‌الفصل الرابع: التغريب

- ‌الفصل الخامس: حقوق المرأة

- ‌الفصل السادس: معركة حول التراث القديم

- ‌الفصل السابع: معركة الخلاف بين الدين والعلم

- ‌الفصل الثامن: جمال الدين الأفغاني ورينان

- ‌الفصل التاسع: خم النوم

- ‌الفصل العاشر: بين النقد والتقريط

- ‌الباب الثامن: معارك بين المحافظين حول اللغة

- ‌المعركة الأولى:

- ‌المعركة الثانية:

- ‌المعركة الثالثة:

- ‌الباب التاسع: معارك نقد الشعر

- ‌الفصل الأول: بين شوقي ونقاده

- ‌الفصل الثاني: بين عبد الرحمن شكري والمازني

- ‌الفصل الثالث: إمارة الشعر

- ‌الفصل الرابع: ديوان وحي الأربعين

- ‌الباب العاشر: معارك النقد بين المجددين

- ‌الفصل الأول: بين التغريب والتجديد

- ‌الفصل الثاني: معركة الكرامة

- ‌الفصل الثالث: معركة الصفاء بين الأدباء

- ‌الفصل الرابع: معارك النقد

- ‌الفصل الخامس: بين زكي مبارك وخصومه

- ‌الفصل السادس: مبارك ينقد كتابه

- ‌الفصل السابع: بين العقاد وخصومه

- ‌الفصل الثامن: بين سلامة موسى وخصومه

- ‌الفصل التاسع: بين المازني وخصومه

- ‌الفصل العاشر: معارك أدبية؛ بين الدكتورين هيكل وطه حسين

- ‌الفصل الحادي عشر: معركة لقمة العيش

- ‌الفصل الثاني عشر: بين شباب الأدب وشيوخه

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌الفصل الثالث: مذهبان في الأدب:

‌الفصل الثالث: مذهبان في الأدب:

ترجع المعركة بين الرافعي والعقاد إلى أيام الكتابة في مجلة "البيان" 1911، 1912، ثم امتدت خلال حياة الرافعي حتى توفي 1937 على النحو الذي تكشف عنه وقائع المعارك كما أوردناها، ثم بدأت المعركة بين أنصار الرافعي وأنصار العقاد بعد وفاته، اشترك فيها من جانب الرافعي الأساتذة: سعيد العريان ومحمود شاكر، ومن جانب العقاد: سيد قطب، وحسم المعركة الأستاذ الغمراوي.

معركة بين أنصار الرافعي وأنصار العقاد:

واستمرت المعركة ثمانية شهور من "25 أبريل إلى 14 نوفمبر 1928".

وقد صور سعيد العريان موقف الرافعي من الحياة الفكرية في عصره فقال: "إنه هو الذي ألب على نفسه هذه العداوات حيا وميتا".

"لقد كان ناقدًا عنيفًا حديد اللسان لا يعرف المداراة ولا يصطنع الأدب في نضال خصومه، وكان فيه غيرة واعتداد بالنفس، وكان فيه حرص على اللغة من جهة الحرص على الدين؛ إذ لا يزال منها شيء قائم كالإحساس.

والبناء لا منفعة بقيامهما إنها منفعتهما معا وكان يؤمن بأنك لن تجد ذا خلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدت لها مثلها في اللغة1".

1 الرسالة أبريل 1938.

ص: 264

ولقد جرد أنصار العقاد "الرافعي" من النفس والإنسانية والعقيدة الأدبية وقال محمد أحمد الغمراوي: "لو غير صاحب تلك المقالات خطر له في الرافعي مثل هذا الرأي المسرف من أنه ليس للرافعي إنسانية ولا طبع ولا نفس ولا ذوق ولا ذهن ولا حياة إلى آخر ما شاءت له بغضاؤه أن ينفي عن الرافعي، لو غيره خطر له هذا في الرافعي لوقف من هذا الخاطر موقف المتهم على أقل تقدير، إذ غير معقول أن يبلغ الرافعي رحمه الله ما بلغ من حسن السمعة وبعد الصيت في عالم الأدب العربي ثم لا يكون له من كل تلك الصفات حظ يفسر ما نال من صيت حسن وتقدير كبير"، وهذه هي فصول المعركة:

بين الرافعي والعقاد:

1-

سيد قطب:

قرأت كل ما كتبه الأستاذ سعيد العريان عن مصطفى الرافعي، قرأته تحت تأثير عامل نفسي خاص، ذلك أنه كان لي رأي في المرحوم صادق الرافعي، لعل فيه شيئا من القسوة، ولما كنت على ثقة أن هذا الرأي لم يتدخل في تكوينه عندي أي عامل خارجي وإنما كان نتيجة لعدم التجاوب بين آثاره الأدبية وبيني، فقد كنت في حاجة لأن أسمع من أصدقاء الرافعي ما عساه يخفف شدة هذا الحكم، ويكشف لي عن بعض حياة الرجل الذي اشتركت في تكوين أدبه، فلعل فيها تفسيرًا وتبريرًا لما كنت أراه فيه مما يستدعي قسوة الحكم وشدة النفور.

والقصة بين الرافعي وبين أنني قرأت له أول ما قرأت كتابه: "حديث القمر" فأحسست بالبغضاء له، أجل بالبغضاء، فهي أصدق كلمة تعبر عن ذلك الإحساس الذي خالجني إذ ذاك، ولم تكن ثارت بين العقاد وبيني إذ ذاك خصومة، ولم أكن سمعت شيئا عنه من العقاد أو سواه، مما قد يكون

ص: 265

سببا في هذه البغضاء. ولو خالجني هذا الشعور بعد خصومته للعقاد لوجدت بعض التفسير، فأنا لا أنكر أنني شديد الغيرة على هذا الرجل. شديد التعصب له، وذلك ينتجه فهم صحيح لأدبه واقتناع عميق بفطرته، لا يؤثر فيه أن تجف العلاقات الشخصية بيني وبينه في بعض الأحيان،

ولقد كنت أكره نفسي بعد ذلك على مطالعة الرافعي فتزداد كراهية لهذا اللون من الأدب، دون أن أجد التعليل، ذلك أنني كنت إلى هذا الوقت أديبا يتذوق فحسب، لا ناقدًا يستطيع التعليل ويصبر على التحليل، والرجل قد مات فما تحسن القسوة عليه، ولكن لا يصح أن يكون الموت معطلا للنقد، ولهذا سأتحدث عنه كما لو كان حيا؛ لأن الذي يعنيني هو إنتاجه الأدبي.

كنت أشك في "إنسانية هذا الرجل، قبل أن أشك في قيمة أدبه، وكنت أزعم لبعض إخواني أنه خواء من "النفس" وأن ذلك سبب كراهيتي له، ولو أني لم أره مرة واحدة ولم أجلس إليه.

ولذلك كان همي أن أبحث فيما كتب الأستاذ العريان عن حياته لا عن أدبه، وكان يهمني أن أعثر في ثنايا هذه الحياة على نفس وعلى إنسانية.

ولهذا اعتبطت، إن لم أقل دهشت، حينما رأيت الأستاذ سعيدا يذكر للرافعي "حبا" وحدثنا عن مظاهر هذا الحب وخطواته، ذلك أن خيالي المنبعث من قراءتي للرافعي لم يكن يطوع لي أن ألمح إمكان وجود هذه العاطفة في حياته؛ فالحب يتطلب قلبا، وكنت أزعم أن ليس للرجل قلب والحب يقتضي إنسانية وكنت أفتقدها فيه.

ولقد ظللت هكذا حتى استطعت أن أكون ناقدا، لا يكتفي بالتذوق والاستحسان أو الاستهجان ولكن يعلل ما يحس ويحلله فماذا كانت النتيجة؟

لقد عدلت حكمي قليلا، وخفت حدته، ولم أعد أستشعر البغض والكراهية للرجل وأدبه. ولكن بقي الأساس سليما.

ص: 266

كنت أنكر عليه الإنسانية فأصبحت أنكر عليه الطبع، وكنت لا أجد عنده "الأدب الفني" فأصبحت لا أجد عنده "الأدب النفسي" الرافعي أديب معجب، في أدبه طلاوة وقوة، ولكنه بعد أدب الذهن لا أدب الطبع فيه اللمحات الذهنية الخاطفة، واللفتات العقلية القوية التي تلوح للكثيرين أدبا مغريا عميقا لذيذا، ولكن الذي ينقصها أنه ليس وراءها ذخيرة نفسية ولا طبيعية حية.

لم تكن تعني الرجل في أدبه الحقيقة الأزلية البسيطة بقدر ما يعنيه أن يصور الحقيقة الوقتية محكمة النسج رائعة المظهر، تشبع الذهن ويستطيبها ولكنها لا تلمس القلب أو يستسيغها.

وكثيرا ما يختلط أدب الذهن وأدب الطبع إذا كان مع ذكاء وقوة وما من شك أن الرافعي كان ذكيا قوي الذهن ولكنه كان مغلفا من ناحية الطبع والأريحية.

وبعد فما كان يمكن أن يتفق العقاد والرافعي في شيء فلكل منهما نهج لا يلتقي مع الآخر في شيء.

العقاد أديب الطبع القوي والفطرة السليمة والرافعي أديب الذهن الوضاء والذكاء اللماع. والعقاد متفتح النفس ريان القلب والرافعي مغلق من هذه الناحية متفتح العقل وحده للفتات والومضات.

والطاقة العامة لكل منهما في ناحيته متفاوتة بعد ذلك؛ فطاقة العقاد النفسية أقوى من طاقة الرافعي الذهنية وعالم العقاد والحياة في نظره أشمل وأرحب بكثير من العالم الذي يعيش فيه الرافعي ويبصر الدنيا على ضوئه.

وفيما كتبه الأستاذ سعيد عن العقاد كثير من الجهل بطبيعة العقاد ودوافعه في الحياة وعوامل الكتابة في نفسه والأستاذ معذور في هذا لأنه لم يختلط بالعقاد أولا. ولأن نفسه لم تتفتح لأدب العقاد فتفهمه ثانيا. ولقد كان يعيش

ص: 267

في بيئة الرافعي وجوه ويلوح لي من كتابته أن ذلك يلائم جوه الخاص ويناسب بيئته الروحية. وأول ما يخطئ في اعتقاده أن طعن العقاد على الرافعي من ناحيته الوطنية في رده على نقد وحي الأربعين كان حيلة أملتها البراعة السياسية فإذا اتهم العقاد الرافعي بأن نقده لوحي الأربعين منشؤه ضغينة شخصية وإيحاء سياسي كما فعل فإنما هو معتقد هذا في صميم نفسه وما يعنيه ما ينال الرافعي من الناحية السياسية قدر ما يعنيه كشفه من الناحية النفسية.

كتب الرافعي عن وحي الأربعين كلاما يعترف الأستاذ ببواعثه الأصلية والعقاد يعرف هذا ويعتقد في صفات الرجل النفسية وفي نصيبه من الطبع السليم والفهم المتفتح أشد مما أعتقد أنا ودواعيه لذلك الاعتقاد كثيرة ومفهومة. فإذا كتب يصور الرافعي كما هو في خيال العقاد وكما هو في الحقيقة فليس الذنب ذنب العقاد في قسوته فإنما هو يصور حقيقة أو على الأقل ما يعتقده أنه حقيقة.

"رأيه في لقب أمير الشعراء":

رأيي أن هذا اللقب غير لائق بالعقاد لأن المسافة بينه وبين شعراء العربية في هذا العصر أوسع من المسافة بين السوقة والأمراء، قد يكون هناك من يتقاربون مع العقاد. ولكن ليس هناك شعراء في لغة العرب يتقاربون مع العقاد، الفرق هائل جدا وأكبر مما يتصوره الأكثرون بين طاقة هذا الشعر والطاقات الأخرى.

2-

محمود محمد شاكر:

يعلم الأستاذ قطب أني إذا أحببت لا أغلو، ولا أتجاوز حد الحب الذي يصل القلب بالقلب فهذا أخلق الحب أن يخلو من سوء العصبية وفساد الهوى،

ص: 268

فلا يجدني أرفع الرافعي عن الخطأ، ولا أجله عن الضعف ولا أنزهه عما هو من عمل كل إنسان حي ناطق يأمل ويشتهي.

ولقد عرفنا الرافعي زمنا -طال أو قصر- فأحببناه ومنحناه من أنفسنا ومنحنا من ذات نفسه، ورضيناه أبا وأخا وصديقا وأستاذًا ومؤدبا فلم نجد إلا حسن الظن به في كل أبوته وإخائه وصداقته وأستاذيته، ولقد مات الرافعي الكاتب الأديب وهو على عهدنا به إنسانا نحبه ولا ننزهه، ثم جاء الأستاذ سيد قطب بحسن أدبه يقول في الرجل غير ما عهدناه، يؤول كلامه ويأخذ منه ويدع ويتفلسف ويحلل ويزعم القدرة على التولج في طويات القلوب وغيب النفوس فيكشف أسرارها ويميل اللثام عما استودعت من خبيئاتها، ثم هو في ذلك لا يتورع ولا يحتاط، ولا يرعى زمام الموت ولا يوجب حق الحي.

هذا الذي ترك الدنيا بالأمس وحيدًا، وخلف من ورائه صغارًا وكبارًا من أبنائه وحفدته وأصحابه واللائذين به، ثم يراهم والدمع يأخذهم بين الذكرى المؤلمة والألم البالغ، ولو فعل لعرف كيف أخطأ ومن أين أساء ولوجده لزاما عليه أن يقدر عاطفة الحي إن لم يعظم حرمة الموت.

جعل1 الأستاذ يستثير دفائن الإحن والأحقاد التي كانت بين الرافعي والعقاد ليتخذ منها دليله الذي يفزع إليه في أحكامه على الرافعي، لا بل على قلب الرافعي ونفسه وإيمانه بعمله وعقيدته فيه، ثم لم يرض بذلك حتى نفح منها من روح الحياة ما جعلها مما يكتب الأطياء عن الأطياء للإيلام والإثارة لا للجرح والتعديل والنقد. وكأن الفتوة عادت جذعة بين الرافعي نفسه وبين العقاد وإلا فما الذي رمى في صدر الأستاذ بهذه الغضبة الجائحة من أجل العقاد!

1 الرسالة 9 مايو 1938.

ص: 269

حقيقة لا بد من تقريرها عن الرافعي والعقاد:

ذلك أن الرافعي رحمه الله لو كان يرى العقاد ليس بشيء البتة وأن أدبه كله ساقط ذاهب السقوط، وأن مما كان يكتب ليغيظ به العقاد من جراء العداوة التي ضربت بينهما لما حمل الرافعي عناء الكتابة في نقد العقاد وتزييف أدبه وإبطال أصل الشعر في شعره.

ولو كان العقاد يرى في الرافعي بعض رأيه الذي كتب لما تكلف الرد على الرافعي ولا التعرض له. فالرافعي والعاقد أديبان قد أحكما أصول صناعتهما كل في ناحيته وغرضه وافينا الليالي والأيام والسنين في ممارسة ما هو فيه وإليه، وكلاهما يعلم عن عمل صاحبه مثل ما يعلم عنه ولا يظن بأحدهما أنه يجهل قيمة الآخر. فلما كانت العداوة بأسبابها بينهما بدأت قوة تعارض قوة ورأي يصارع رأيا وكان في كليهما طبيعة من العنف والمرام والحدة، ولمع العقاد بإرسال العبارة حين يغضب على هينها صريحة لا صنعة فيها، وأغرى الرافعي بالسخرية والمبالغة في تصوير ما نصب لسخره وتهكمه على طريقة من الفن، فمن ثم ظهرت العداوة بينهما في النقد وفي أذيالها أذى كثير وغباره ملأه القواذع والقوارض من اللفظ.

وعلى جنباته صور ينشئها أحدهما لصاحبه للكيد والغيظ والحفيظة ولا يرد بها إلا ذلك.

وخليق بنا وبآدابنا أن نطوي الآن سيئة رجلين قد تفارط أحدهما في غيب الله وبقي الآخر.

الكلمة الأولى أنها تدور رحاها عن نفي الإنسانية عن ذلك الإنسان رحمة الله عليه وخلوه من النفس، وفقدانه الطبع، وفقره إلى الأدب النفسي وما إلى ذلك من لفظ ضل عنه معناه وتهافت عليه حده.

ص: 270

وإن كان -رحمة الله عليه- ذكيا قوي الذهن، ولكنه كان مغلقا من نتحية الطبع والأريحية، وأن أدبه كان أدب الذهن لا أدب الطبع فيه اللمحات الذهنية الخاطفة واللقطات العقلية القوية، ولكن الذي ينقصها أنه ليس وراءها ذخيرة نفسية ولا طبيعية حية.

في القبول والإنكار، ولكني نقدت ما فيها من نقص الحيوية واستغلاق الطبع وأتيت على هذا بالأمثلة التي تثبت موت هذه الطريقة وعجزها عن مسايرة الحياة وهذا هو مناط الحكم.

أما قول أحدهم بأني رفعت صاحبي ولم يقل هو في صاحبه بعض ما قلت فلكأننا في معرض مفاخرة على طريقة القدماء لا يهم فيها الواقع والصدق وإنما يهم الفخر والنخع.

5-

علي الطنطاوي 1:

إنما المناظر والناقد من أتقن وسائل النقد واستكمل أدواته. وسبيل الأستاذ قطب إذا أراد نقد الرافعي رضي الله عنه أن يدرس كتبه كلها ويحكم عليه حكما عاما ويبحث في أسلوبه وفي ألوان أدبه ويشرح مزاياه وعيوبه لا أن يأخذ كلمة من هنا وبيتا من هنا.

لقد تعلمت وعلمت تلاميذي أن النقد يستند إلى دعامتين: دعامة في اللغة وعلومها يعرف بها خطأ الكلام من صوابه، ودعامة من الذوق يعرف بها جماله من قبحه. أي أن النقد علم حين يدور على الخطأ والصواب وفن حين يبحث في الجمال. أما فن النقد فلا يمكن الجدال فيه لأن أداته الذوق، والذوق شيء شخصي ومداره على الجمال، والجمال لا ينبع من قاعدة ولا يعرف له مقياس.

1 الرسالة 13 يونيه 1938.

ص: 271

6-

إسماعيل مظهر:

تاريخ1 الصراع الأدبي في مصر وتاريخ الصراع السياسي يتلخصان في معارك تقوم بين أشخاص، ولقد أدركت هذه الظاهرة النقد أيضا؛ فتاريخ النقد في مصر عبارة عن موازنة بين كاتبين أو شاعرين يحاول الناقد أن يعلي أحدهما على الآخر.

أما مذاهب الأدب ومذاهب النقد فهذه لا قيمة لها في نظر الأديب، ولا في تقدير الناقد.

أفهم أن يقوم الصراع الأدبي بين مذهبين يمثلهما كتاب أو شعراء يعتنقون في الأدب مذهبا محدود المرامي بين الغايات، وأفهم أن يقوم النقد على فكرة منطقية يقتنع الناقد بصلاحيتها وحقها في البقاء فيمضي في نقد الكاتب أو الشاعر انتصارا لتلك الفكرة، وأفهم فوق هذا كله أن يقتتل كاتبان ولكن انتصار المذهبين يعتنق كل كاتب مذهبا منهما والغلبة للأصلح بين المذهبين.

وما أبرئ نفسي فإن عدم قدرتي على فهم هذه الأشياء قوة لم أشهدها في نفسي إلا منذ عهد قريب، وما بعثها إلا ذلك الصراع الذي قام على صفحات الرسالة بين أنصار صديقي الأستاذ العقاد وصديقي المرحوم الأستاذ الرافعي، صديقان مات أحدهما وأدعو الله أن يمد في عمر الآخر. سكت أحدهما وطواه الزمن، وصمت الآخر على ما كان بينه وبين الأديب الراحل تجلة للموت ودفعا لحزازات ما أجدر الموت أن يكون ماحيا لآثارها وذكرياتها.

صمت صاحب الحق وتكلم غيره احتسابا، وحاشايا أن أقول هنا: لوجه الله؛ لأن الله لا يأمر أن تنبش الحزازات وتحتفر الضغائن.

1 الرسالة 13 يونيه 1938.

ص: 272

7-

سيد قطب "رد على إسماعيل مظهر":

إن الذي لا يفهم ولا يستطيع أن يفهمه يوما من الأيام أن يكون رجل كالأستاذ إسماعيل مظهر أو أقل منه درجات، يقرأ ما كتبناه ثم لا يتبين منه أننا ننقد مذهبا معينا في الأدب ونعتنق مذهبا بينا منه كذلك وأن الكاتب الذي ننتصر له يمثل مذهب بيننا يدعو إليه منذ خمس وعشرين سنة وما يزال يشرحه ويقرره ويعود إليه في نثره وشعره وأنا من أخلص تلاميذ مدرسة هذا الكاتب لطريقته وأشد الناس فهما لها واقتناعا بها ونسجا على منوالها.

ويتحدث الأستاذ عن الشذوذ ونصرة كاتب على كاتب فإن شاء أن يعرف الشذوذ حقا فنحن محدثوه عنه.

إنه يا سيدي في تقديم هذه السوأة الأدبية الخلقية الإنسانية المسماة "على السفود" في تقديمها ذاته. وفي طريقة تقديمها، وفي نشرها، دون تأذ ولا تألم. ولا خشية على آداب الحديث في الأمة ولا آداب الطريق، ودعك من آداب النقد ودون رحمة بأسماع الناس وأبصارهم وآنافهم.

وإذا شاء الأستاذ أن يعرف نوع هذا الشذوذ فليعلم أن هذه "السوأة" التي كشف عنها من قدمتها للناس لم يستطع أشد تلاميذ الرافعي إخلاصا أن يبلعها. ولقد حاول أن ينحيها في خفة عن أعين النظارة وهو يزن حسنات الرافعي، ويدغم وزن سيئاته، حتى لا تهبط هذه السوأة بالكفة إلى الحضيض لو هي لامست الميزان.

قال الأستاذ سعيد العريان إنه قرأ "على السفود" فعابه على الرافعي وأنزله

ص: 273

غير ما كان ينزله من نفسه وإذا قال الأستاذ سعيد مثل وهو يدغم الكلام ويدحرجه ليبعد بهذه السوأة عن الأنظار فالذين لم يصابوا بداء العدالة التاريخية يستطيعون أن يعرفوا مقدار شنعها.

ولولا أنني أكرم أسماع القراء وآدابهم وإنسانيتهم من التدهور أو التأذي والتأنف لنقف لهم شيئا من "على السفود" الذي لا يعتبر تقديمه ونشره شذوذا ولا مناصرة لأديب على أديب، وإنما يعتبر نصرة لمذهب بين على مذهب بين في الآداب والآراء.

8-

إسماعيل مظهر:

إن1 انفعال سيد قطب فيما كتب لم يكن ليعجل لعقله محلا من الأثر في صوغ المعاني التي أرادها فأخذ يرمي الجمل والكلم ذات اليمين وذات الشمال شأن الثائر؛ لا شأن الناقد ثم خانته ثورته وخذله انفعاله فاستيقظ عقله الباطن استيقاظة الحقيقة فرجع إلى قوله "أنا" كأنما طبيعته لم تقو على احتمال تلك الثورة ولم تستطع مقاومة ذلك الانفعال فتبدت في ثوب ذي ألوان.

إذن2 فالأديب سيد قطب أشد الناس فهما لأدب الأستاذ العقاد وليس ذلك فقط فهو أيضا أشد الناس اقتناعا بطريقته، وليس هذا ولا ذاك فقط بل هو فوق هذا وفوق ذاك أقدر الناس على النسج على منوال الأستاذ العقاد وأن يكون الأديب سيد قطب أديب طبعة ثانية فهو باعترافه أديب غير أنه عبارة عن نسخة من أديب آخر، أديب شخصيته صورة من شخصية أديب آخر،

1 الرسالة 27 يونيه 1938.

2 الرسالة نفس العدد.

ص: 274

وأدبه لوحة من أدب شخص آخر، أديب أسلوبه كالطبعة التي يتركها في الرمل قدم أديب آخر. أديب نفسيته وطبعه وذاتيته كالصورة الموهومة التي تلتقطها الصورة الضوئية وتطبعها على الورق المعروف، ولكنها صورة وهمية.

هذه الصورة الوهمية قد أفرغ عليها صفات وحلاها بفضائل، لا أنكر أنه نسبها إلى العقاد لتكون نسبتها إليه منصرفة بالتبعية إلى الطبيعة الثانية من الأستاذ العقاد وتلك الطبعة هي الأديب سيد قطب.

9-

سيد قطب:

"عرض1 بعض جمل من كتاب على السفود ورد عليها فيما يتعلق بحديث العقاد عن رأي شو بنهور في الجمال".

قال في مقدمتها: "سيعرف الناس كيف يكون الإنسان سيئ الفهم -يقصد الرافعي- قاصر الاطلاع، ثم يناقش العلماء النيري البصيرة المطلعين -يقصد العقاد- ولا يكلف نفسه الاطلاع على أصل المسائل التي يناقش فيها، ويجد من الجرأة في نفسه أن يقول لم يطلع على هذا الموضوع ولكنه يجزم بأنه كيت وكيت أما الذي اطلع فهو جاهل.

"ثم ينقل كلام الرافعي في العقاد"2.

"على مثل تلك الطريقة من الغباوة سوء الفهم وقبح الاجتراء والغرور والحماقة، نجد كل ما يولده العقاد أو أكثره ثم يزين له لؤم نفسه وعمى بصيرته أنه هو وحده الذي يهدي إلى سرائر الأشياء ويلهم حقائق المعاني.

1 الرسالة 27 يونيه 1938.

2 الرسالة 27 يونيه 1938.

ص: 275

ثم يقول قطب: "ولولا أننا نسمو بآدابنا وآداب المجتمع لرددنا هذه الكلمات إلى من يستحقها بعد هذا البيان من الرجلين.

رأي سعيد العريان في كتاب "على السفود":

"الحق الذي أعتقده أن هذا الكتاب -على ما فيه- نموذجا في النقد يدل على نفاذ الفكر ودقة النظر وسعة الإحاطة وقوة البصر بالعربية وأساليبها.

ولكن فيه مع ذلك شيئا خلقيا بأن يطمس كل ما فيه من معالم الجمال فلا يبدو منه إلا أذم الصور وأقبح الألوان. بما فيه من هجر القول ومر الهجاء.

وإننا لنريد للناقدين في العربية أن يكونوا أصح أدبا وأعف لسانا من ذاك وإنها لخسارة أن ترى التمثال الفني البديع مغمورا في الوحل فلا تصل إليه إلا أن تخوض له الحمأة المنتنة وإنها الخسارة على العربية أن ترى هذا الفن البديع في النقد يكتنفه هذا الكلام النازل من هجر القول ومر الهجاء. "الرسالة 27 يونيه 1938".

10-

علي الطنطاوي:

ما هكذا1 يكون النقد ولا هكذا تكون المناقشة.

إني سقت رأيا إن كان خطأ عدت إلى الصواب الذي تكشفه لي فيه، وإن كان صوابا وجب أن تعود أنت إليه فتبين خطأه من صوابه.

وعد عن هذا الأسلوب، أسلوب التعريض والسخرية، واعلم أني إن

1 الرسالة 27 يونيه 1938.

ص: 276

حططت عليك ساخرا ومعرضا لم أدعك حتى تلتصق بالأرض، وأنا من أقدر الناس على ذلك، ولكن ذلك شيء يأباه الخلق الكريم وتأباه الرسالة. ولقد كانت لي في هذا الميدان جولات، صرعت فيها كثيرًا من الكتاب المدعين المستكبرين، ثم أقلعت عنها واستغفرت الله.

قال لصاحب الرسالة:

لماذا تنشر الرسالة هذه المقالات للأستاذ قطب؟ الحقيقة والحقيقة لا ظل لها في هذه المقالات. أم من أجل الأستاذ العقاد؟

وفيها من الإيذاء للعقاد مثل ما فيها من المس بالرافعي أم بغضا بالرافعي وصاحب الرسالة صديقه الحميم، وهو شريكه في التلبس بجريمة البلاغة والحرص على البيان المشرق الذي يسوء هؤلاء المجددين، أم لماذا؟ إننا لم نفد من هذه المقالات إلا فائدة واحدة، هي أننا عرفنا أن الجديد إن كان كما يصوره سيد قطب فهو أهون شيء وأبعد عن الحق، وأنا راضون لقديمنا مطمئون إلى "رجعيتنا".

"كلمة الرسالة":

وقالت الرسالة: إن من مبادئها أن تكون صورة صادقة لأدب العصر فلا تسجل مذهبا دون مذهب ولا تتوخى أسلوبا دون أسلوب. ومعارك النقد ظاهرة مألوفة عفت الرسالة عنها حينا ثم رأت أن تسجل هذه المعركة؛ لأن أدب الرافعي وأدب العقاد يمثلان وجهتي الثقافة في أقطار العروبة ومن حسن القول أن يتكلم الناظر في الأدب بلسان الأدب وأن يعتقد أن أدب الرجل شيء آخر غير شخصه فلا ينبغي أن يدخل الناقد في حسابه الحياة والموت، ولا الصداقة والعداوة.

ص: 277

11-

سعيد العريان 1:

لقد كانت بين الرافعي والعقاد عداوة وشحناء سارت مسير المثل بين أدباء الجيل فهل كان من الحتم تبعًا لذلك أن يكون سعيد العريان وسيد قطب عدوين؛ لأن أولهما يؤرخ للرافعي والثاني يجري في غبار العقاد.

ولكن سيد قطب يرشح ليكون في غد شيئا له في الأدب خطر ومقدار.

وما يرى نفسه بالغا هذه المنزلة إلا أن يجري على نهج صاحبه ويتأثر بخطاه. فكان أول سعيه إلى غايته أن احتقب كنانته وخرج إلى الطريق يرمي الناس باليمين والشمال، لا يعنيه أن يصيب ولا من يصيب، ولو كان أحرص الناس عليه وأرأفهم به.

لقد ظل المرحوم الرافعي دائبا على تجديد الآداب العربية سبعة وثلاثين سنة، يتردد اسمه في المحافل والنوادي ومجامع الأدب فليس بين قراء العربية أحد لا يعرفه. وسيد قطب واحد من قرائها الأخصائيين في اللغة كما قد يعرف القراء، ولكنه مع ذلك لم يشرع قلمه ليجرد الرافعي من النفس ومن الإنسانية ومن العقيدة وليزيف أدبه ويكشف عيبه إلى حين غيبه التراب وآن أوان ذكراه.

هذه هي عربيتنا نحن أنصار المذهب القديم فبأي عربية فهمها الناقد المجدد الأخصائي في اللغة وفي أساليب البيان.

12-

سيد قطب "الرد على إسماعيل مظهر":

أنت يا سيدي2 لم تفهم الكلام ومن هنا كان تفسيرك للجملة التي أقول

1 رسالة 4 يوليه 1938.

ص: 278

فيها: "وإننا من أخلص تلاميذ مدرسة هذا الكاتب لطريقته، وأكثر الناس فهما لها واقتناعا بها ونسجا على منوالها".

ففهمتَ منها أن الذي يقول ذلك يكون "طبعة ثانية" للعقاد وهنا كلام نقوله للناس وكلام نقوله لك:

إن الإخلاص لطريقة في الأدب والاقتناع بمذهب خاص والنسج على منوال مدرسة معينة لا يعني تقليد شخص معين، فقد ينشأ إمام وينشئ له مدرسة ويكون لهذه المدرسة تلاميذ، ثم يكون لكل تلميذ من هؤلاء طابعه الشخصي ومميزاته الذاتية. ولا سيما إذا كانت هذه المدرسة هي مدرسة العقاد التي تقوم على أساسها الدعوة إلى أدب "الشخصية" وتنكر التقليد وتشتط في إنكاره.

أما كلمتنا لك فنحن نسلم أننا "طبعة ثانية" من العقاد فماذا تكون أنت؟ إننا نقول لك: كن أنت -إن استطعت- طبعة ثانية من العقاد أو أي فنان سواء، أو كن على حد تعبيرك المؤدب الطبعة التي تتركها في الرمل قدم العقاد تكن خيرًا مما أنت الآن عشرات المرات.

إنك تحقد على العقاد حقدًا دفينا لا سبب له إذ ليس بينكما منافسة، لا منافسة على أدب ولا موهبة فنية، وإنك لهذا ترحب بشتائم الرافعي له وتطبعها وتروج لها وتسميها علوا عن الشخصيات.

13-

محمد أحمد الغمراوي:

مسألة1 القديم والجديد عمرها لا يزيد على ثلاثين عاما أثارها من الناس

1 الرسالة يوليه 1938.

ص: 279

نفر تثقفوا ثقافة غربية من غير أن يكون لأحدهم من الثقافة الإسلامية نصيب مذكور، والغرب والشرق على طرفي نقيض، لا يلتقيان، كما يقول ريارد كيلنج إن كان من الممكن أن يلتقيا في العلم الذي هو معجزة الغرب والذي هو جزء من الإسلام الذي يدين به الشرق. لكن الذين أثاروا مسألة القديم والجديد لم يكونوا يعرفون. ولعل أنصارهم لا يزالون يجهلون أن العلم الذي يظهر به الغرب هو في الإسلام جزء من الدين، وأن المدنية الغربية ليس فيها ما يستحق أن يطلب ويؤخذ إلا ذلك العلم الطبيعي الذي اهتدى إليه الغرب بالعقل والتجربة والذي يمثل فطرة الله التي فطر عليها الأشياء. أما فطرة الله التي فطر الناس عليها فتلك يمثلها الإسلام عن يقين. فكأن الغرب والشرق قد اقتسما علم الفطرة؛ علمها الغرب في الماديات بالعلم والتجربة، وعلمها الشرق في الروحانيات والاجتماعيات بالدين والوحي فكان الشرق مخطئا حين لا يأخذ بعلم الغرب وكان الغرب ضالا حين يخالف الإسلام.

علم الغرب الطبيعي ودين الشرق الإسلامي، هذا هو سبيل التمدن الصحيح لمن يريد أن يكون مجددا مصلحا؛ يجدد للشرق شبابه ومجده من غير أن يعرضه لشر ما يهدد الغرب من أخطار.

لكن دعاة التجديد الذين جاءا بعدهما "بعد جمال الدين ومحمد عبده" ولم يكن لهما مثل علمهما ضلوا سبيل الدعوة. وصدقوا الغرب في ظنه الذي ظن بالإسلام من أنه كان سبب تأخر الشرق. ولما لم يطيقوا أن يهاجموا الإسلام مواجهة فيدعو الناس صراحة إلى نبذه، إلى مهاجمته مداورة بدعوة الناس إلى قبول كل ما عليه الغرب إن كانوا يريدون أن يكون لهم ما للغربيين من قوة وحياة. وزعموا للناس أن المدنية الغربية كل لا يتجزأ فإما أن تؤخذ

ص: 280

كلها أو تترك كلها، إما أن تؤخذ باجتماعياتها وأدبياتها وعلمياتها، وأما ألا يؤخذ فيها شيء.

ونجحت حركة اللالتفاف التي قام بها دعاة الغرب ضد سلطان الإسلام في نفوس من أصغى إليهم من الناس، حين ألجئوهم إلى أن أصابتهم فتنة ذلك التجديد كمن أحاط به العدو لا بد له من الموت أو التسليم.

ومن هنا كان ما أصاب أولئك المجددون من نجاح، وما يهدد الإسلام في بلاده وفي نفوس أهله من خطر، ومن هنا أيضا هب لدرء هذا الخطر فريق من المجاهدين المحتسبين الذين آتاهم الله فقها في الدين وقوة في الجنان وبسطة في البيان وفي طليعة هؤلاء كان الرافعي رحمة الله عليه.

فالمسألة بين القديم والجديد كما يسمونها ليست مسألة اختيار بين أدب وأدب وطريقة وطريقة ولكنها في صميمها مسألة اختيار بين دين ودين.

فالذين يسمون أنفسهم أنصار التجديد يؤمنون بالغرب كله، ويريدون أن يحملوا الناس على دينهم هذا.

وكل خلاف بين أنصار القديم وأنصار الجديد منشؤه هذا ومرده إلى هذا. هؤلاء مثلا، يريدون متابعة الغرب في السفور والاختلاط، وأولئك يرون السفور والاختلاط مفسدة ثم أنصار الجديد يضيقون ذرعا بالقيود الأخلاقية التي قيد الدين بها الناس فيما يعملون ويقولون، يريدون أن يتحللوا منها فيزعموا للناس أن هذه الأخلاق وقيودها إن هي إلا عرف وتقاليد، وإن التقيد بالعرف والتقاليد في الفن والأدب يعوق الفن ويحول دون ترقي الأدب فيجب إذن إطلاق الفن وتحرير الأدب من تلك القيود ومن هنا نشأ خلاف

ص: 281

آخر بين الفريقين، نقل العراك بينهما من ميدان الاجتماع إلى ميدان الأدب فأنصار الجديد يدعون إلى الفن العادي والأدب المكشوف ويدعون للفن والأدب حرية في القول والعقل.

واتسع الخلاف وتشعب بين الفريقين بمضي أنصار الدين الجديد في توهية السد الإسلامي الذي يجدونه قائما في وجوههم أينما يلتفتوا فيزعمون للناس من طرف خفي أن القرآن من صنع عبقري لا من صنع الله، وأنه آية فنية، لكن آية فنية إنسانية لا معجزة إلهية. وإذن فينبغي أن يخضع له كل عمل إنساني من النقد والفحص والبحث العلمي فيما يزعمون ويهب لدرء هذا الإفك العظيم كل كريم ويقاتلونهم على إعجاز القرآن وحرمته وتقديسه ويدعونهم إلى خطة إنصاف ليس من إنصاف بعده.

إن من أشد من يؤسف له أن يفترق قوة أولى القوة في الشرق هكذا فرقتين إحداهما تهدم والأخرى تدفعها عن الهدم فيشغل الفريقان جميعا عن التجديد والبناء وعدوهما واقف لهما بالمرصاد.

14-

سيد قطب: "في الرد على سعيد العريان":

"لعل القسوة ليست في الحكم الذي أصدرته ولكنها في وضع الرافعي مقابلا العقاد والجميع بينها في عنوان، فمن هنا بدأ مطالبة الرافعي بأدب الطبع وأدب النفس؛ لأن المقابل له فياض بهذا النوع، مبرز فيه، بل هو ميزته ورمز فنه، وقد كان من جراء مطالبة الرافعي بهذا اللون الرفيع من الفن الأدبي ظهور خوائه وإنكار أدبه، فهذه هي القسوة ومتى أعفينا الرافعي من أدب النفس والطبع فقد نجده بعد ذلك شيئا من التعبير، وفي الأخذ بطريقة خاصة في هذا التعبير".

ص: 282

لقد قرأت كل ما كتبه الرافعي في هذا الباب "الغزل" فإذا هو خواء مقفر من كل عاطفة وإحساس فإذا أنا عرضته فإنما أعرض قطعة من صحاري النفوس ليس فيها ندى ولا حياة -ولن يضير القراء معي- إذا أنا صبرت على قطع هذا القفار الموحش المتشابه الأرجاء.

والثاني: وقد اخترته أن أعرض غزل العقاد فأشكف عن هذا العالم الحي المائج المضطرب بشتى الانفعالات والاتجاهات.

إن العقاد والرافعي مختلفان متناقضان، ولقد شاءت الظروف أن يكون العنوان بين العقاد والرافعي، فتوجد رابطة بين اسمي هذين الرجلين لا وجود لها في أدبهما ولا اتجاههما ولا في شيء مما يصح فيه التشابه والارتباط.

والواقع؛ لقد كان هذا الجمع بينهما ظلم لكليهما، فأما العقاد فمظلوم -ولا شك- أن يقرن اسمه إلى اسم الرافعي، وبينهما هذه الهوة السحيقة الفاصلة، والهوة إلى تفصل بين الصورة الفنية ترمز إلى معنى وتكاد تجيش بالحياة وتهمس بالنطق والتعبير وبين النقوش التي نراها على أبواب المساجد ونوافذها خطوط متعرجة أو مستقيمة ودوائر ومثلثات ومربعات كلها من عمل المسطرة والبركار، ولا شيء وراءها غير المهارة في اللعب والتزويق.

15-

محمد أحمد الغمراوي:

1-

العقاد: أديب الطبع القوي الفطرة السليمة والرافعي أديب الذهن والوضاء والذكاء اللماع والعقاد متفتح النفس ريان القلب. والرافعي مغلق هذه الناحية متفتح العقل وحده للفتات والومضات.

2-

كنت أنكر عليه الإنسانية فأصبحت أنكر عليه الطبع، وكنت لا أجد عند الأدب النفسي فأصبحت لا أجد عنده الأدب النفسي.

ص: 283

هكذا حكم سيد قطب بين الأديبين الكبيرين، والحكم لا يعطي للعقاد شيئا من الفتح العقلي ولو للفتات والومضات. فقد سوى بين الاثنين تسوية تكاد تكون تامة أو بالأحرى جعل المزايا الأدبية قسمة بينهما عن سواء تقريبا. أخرج العقاد من دائرة الذهن والعقل كما أخرج الرافعي من دائرة النفس والقلب، وخص أحدهما بما نفى عن الآخر. فإذا شك أنصار العقاد في أن هذا مفهوم حكم صاحبهم على صاحبه ومنطوقه فليقرءوا مقدمة الحكم إذا شاءوا:

"وبعد فما كان يمكن أن يتفق العقاد والرافعي في شيء، فلكل منهما نهج لا يلتقي مع الآخر في شيء" إذ لو كان العقاد يشرك الرافعي في أدب الذهن لاتفق الاثنان في شيء. والتقى الأديبان على شيء. أما وهما لا يتفقان ولا يلتقيان في شيء في حكم هذا الحكم المجدد فما أثبته للرافعي من أدب الذهن الوضاء والذكاء اللماع لا بد أن يكون نفاه عن العقاد إن كان يعرف ما المنطق وما التفكير، ليس عن ذلك محيص.

والرافعي كذلك مظلوم -ولا شك- أن يقرن اسمه إلى اسم العقاد فيطالبه النقاد حينئذ بالحياة والحركة والعمق، أو يطالبونه برأي معين في مسائل الحياة الكبرى وفي نواحي الإحساس والشعور. والرجل في عالم آخر غير هذا كله؛ عالم الأخشاب المنقوشة والشرفات المزركشة.

"لقد أخذ يردد نغمه العوام في الموتى والأحياء ويعتمد على شعور هؤلاء العوام في تقدير موقفي وأنا أتحدث عن العقاد الحي. وموقفهم وهم ينافحونه عن الرافعي الذي مات.

"فأنا في دفاعي عن العقاد أمجد وأشرف من دفاعهم عن الرافعي، فماذا يكلفهم الدفاع عن الرافعي؟ إنه لا يكلفهم شيئا، بل على العكس يكسبهم

ص: 284

حسن الأحدوثة لدفاعهم عن رجل ميت، ويكسبهم سمعة الدفاع عن الدين، ويكسبهم محبة الأسلوبيين والعاجزين عن التحليق في الأجواء الفنية العالية.

أما الدفاع عن العقاد فيكلفني التعرض لغضب الكثيرين من ذوي النفوذ. لأن العقاد رجل لم يبق له قول الحق صديقا وكثير ممن يظهرون صداقته يكونون له غير ذلك لأنهم ينفسون عليه شموخه واعتداده بنفسه وتعاليه على الضرورات.

16-

سعيد العريان:

الجديد والقديم حديث طويل في تاريخ الرافعي فهو قد وقف نفسه على الدفاع عن الدين والحفاظ على لغة القرآن. ذلك مذهب درج عليه وأعانته عليه نشأته وتدينه، فهو إنما يحرص على اللغة من جهة الحرص على الدين. إذ لا يزال منهما شيء قائم كالأساس والبناء، لا منفعة فيهما معا إلا بقيامهما معا".

فما نعرفه ناقدًا عنيفا إلا حين يتناول الجديد والقديم وإذا نحن تدبرنا ما أسلفناه من تلخيص رأيه في الجديد والقديم ومن مقدار حماسته في الذود عن الدين والعربية عرفنا لماذا يؤثر الرافعي ذلك الأسلوب العنيف في مهاجمة خصومه والطعن عليهم إذ هو لا يعتبر حينئذ إلا شيئا واحدا هو الدفاع عن الدين وتراث السلف مؤمنا بأنك "لن تجد ذا دخلة خبيثة لهذا الدين إلا وجدت له مثلها في اللغة".

وقد تعجب أشد العجب أن ترى الرافعي ينسى حين يجرد قلمه للنقد كل اعتبار مما يقوم به الصلات بين الناس ولكنه هو يعتذر من ذلك بقوله إنما تعمل على إسقاط فكرة خطرة، إذا هي قامت اليوم بفلان الذي نعرفه فقد

ص: 285

تكون غدا فيمن لا نعرفه، ونحن نرد على هذا وعلى هذا برد سواء لا جهلنا من نجهله بلطف منه ولا معرفتنا من نعرفه تبالغ فيه. فإن كان في أسلوبنا من الشدة والعنف أو القول المؤلم أو التهكم فما ذلك أردنا ولكنا كالذي يصف الرجل الضال ليمنع المهتدي أن يضل، فما به زجر الأول بل عظة الثاني.

7-

محمد أحمد الغمراوي 1:

جرى الناس على رد التفاصيل في الأدب إلى أصلين: اللفظ والمعنى، وبدءوا في ذلك وأعادوا وأسرفوا في الاختلاف بينهم. أي هذين الأصلين يقدم على الآخر في تقديم أديب على أديب واختلافهم في هذا شيء عجيب. فإن اللفظ والمعنى ركنان متلازمان لا ينبغي التقصير في أدبهما للأديب المكتمل.

إن امتلاك ناصية اللغة أمر لا بد منه لكل أديب يريد أن يبلغ في الأدب مرتبة الخلود وليس معنى هذا أن امتلاك ناحية اللغة وحدة كاف للخلود. فليس في الأدب مكانة لخلود المعنى الخسيس في اللفظ الأنيق.

وإذا تساءل متساءل: أي الأديبين أدل على امتلاك لناصية اللغة واقتدار على التفنن والتصرف في التعبير بها أدب الرافعي أم أدب العقاد؟ كان الجواب الذي يسرع إلى الإنسان في غير تكلف ولا تحيز؛ أدب الرافعي؛ كان أملك لناصية اللغة من شك أو أكثر افتنانا فيها وتصرفا بها. ولا نظن أن العقاديين يمارون في هذا فأكبر ما ادعاه العقاد مفتونهم به هو الأسلوب الفخم والتعبير الجيد غير بعيدين عن شعر العقاد.

بقيت ناحية المعنى ولم تر أحدا ظلم في معانيه مثل ما ظلم الرافعي ومعاني الرافعي يكثر من بينها الطريق كثرة تدعو إلى العجب، كثرة لا تظن أحدا من المحدثين يفضله فيها أو يزحمه.

1 الرسالة 15 أغسطس سنة 1938.

ص: 286

ثم قال: فالمسألة في الأدب ليست مسألة لفظ ومعنى فقط ولكنها في صميمها مسألة روح. فريق يريد أن يجعل روح الأدب روحا شهوانيًا بحتا وفريق يريد أن يحيا الحياة الفاضلة في حدودها الواسعة. إن أدب الفريق الأول هو ما يسمونه بالأدب الجديد ويمثله العقاد. وأدب الفريق الثاني هو ما يسمونه بالأدب القديم ويمثله الرافعي.

الرافعي يتفوق على العقاد في التعبير وفي الخيال وكلاهما يحتفل بالمعنى أكبر احتفال، غير أن الرافعي عنده نور يهدي به ليس عند العقاد، فكان لذلك أقل من العقاد عابا وأكثر صوابا.

إنما الخلاف الأساسي بينهما في الروح. هما من حيث الروح مختلفان كل الاختلاف وعندك الحكم بين الروحين معيار صدق لا يخطئ هو معيار الدين ومعيار الخلق الفاضل، وإذا قيمت الأديبين بأحد هذين المعيارين لم يبق عندك شك في أيهما أولى بالإكبار وأصلح للبقاء.

ص: 287