المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌النزعة اليونانية بين زكي مبارك وطه حسين: - المعارك الأدبية

[أنور الجندي]

فهرس الكتاب

- ‌مدخل

- ‌أولا: معركة مفاهيم الثقافة

- ‌ثانيا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌ثالثا: معركة مفاهيم الأدب

- ‌الباب الأول: معارك الوحدة والتجزئة

- ‌معركة الوحدة العربية

- ‌مصر بين العربية والفرعونية:

- ‌معركة العروبة والمصرية:

- ‌الباب الثاني: معارك اللغة العربية

- ‌مدخل

- ‌تمصير اللغة العربية:

- ‌مجمع اللغة، ما هي مهمته

- ‌معركة الكتابة بالحروف اللاتينية:

- ‌الباب الثالث: معارك مفاهيم الثقافة

- ‌مدخل

- ‌ثقافة الشرق ثقافة الغرب:

- ‌معركة بين فيلكس فارس وإسماعيل أدهم:

- ‌لا يتنيون وسكسونيون: بين العقاد وطه حسين

- ‌النزعة اليونانية بين زكي مبارك وطه حسين:

- ‌كتابة السيرة" بين التاريخ والأسطورة:

- ‌كتابة التاريخ: بين رفيق العظم وطه حسين

- ‌معركة الترجمة: بين منصور فهمي وطه حسين

- ‌آداب الساندويتش: بين الزيات والمازني والعقاد

- ‌أدبنا: هل يمثلها؟ بين أحمد أمين وأمين الخولي

- ‌غاية الأدب: ما هي؟ بين زكي مبارك وسلامة موسى

- ‌متى يزدهر الأدب؟ معركة بين لطفي جمعة وزكي مبارك:

- ‌الأدب المكشوف: بين توفيق دياب وسلامة موسى

- ‌التراث الشرقي؛ يكفي أو لا يكفي؟: بين عبد الرحمن الرافعي وعباس محمود العقاد

- ‌ثقافة دار العلوم: بين أحمد أمين ومهدي علام

- ‌الباب الرابع: معارك الأسلوب والمضمون

- ‌الأسلوب والمضمون: بين الرافعي وسلامة موسى وطه حسين

- ‌أسلوب الكتابة: معركبة بين شكيب أرسلان وخليل سكاكيني

- ‌أساليب الكتابة؛ بين شكيب أرسلان ومحمد كرد علي:

- ‌الباب الخامس: معارك النقد

- ‌الفصل الأول: أسلوب طه حسين

- ‌الفصل الثاني: مقومات الأدب العربي

- ‌الفصل الثالث: مذهبان في الأدب:

- ‌الفصل الرابع: بين النقد الذاتي والموضوعي

- ‌الفصل الخامس: الأدب بين التجديد والانحراف

- ‌الفصل السادس: هل نقتبس أم نقلد

- ‌الفصل السابع: معركة فقدان الثقة

- ‌الفصل الثامن: الفن للفن والفن المجتمع

- ‌الباب السادس: معارك النقد حول الكتب

- ‌الفصل الأول: رسالة منصور فهيم الدكتوراه

- ‌الفصل الثاني: الخلافة وأصول الحكم

- ‌الفصل الثالث: معركة الشعر الجاهلي

- ‌مدخل

- ‌نماذج من حملات المعركة:

- ‌تجدد معركة الشعر الجاهلي:

- ‌الفصل الرابع: كتاب "النثر الفني

- ‌الفصل الخامس: كتاب "أوراق الورد

- ‌الفصل السادس: كتاب ثورة الأدب

- ‌الفصل السابع: "كتاب" مع المتنبي

- ‌الفصل الثامن: معركة مستقبل الثقافة

- ‌الباب السابع: المعارك بين المجددين والمحافظين

- ‌الفصل الأول: معارك الرافعي

- ‌الفصل الثاني: معركة فضل العرب على الحضارة

- ‌الفصل الثالث: الدين والمدينة

- ‌الفصل الرابع: التغريب

- ‌الفصل الخامس: حقوق المرأة

- ‌الفصل السادس: معركة حول التراث القديم

- ‌الفصل السابع: معركة الخلاف بين الدين والعلم

- ‌الفصل الثامن: جمال الدين الأفغاني ورينان

- ‌الفصل التاسع: خم النوم

- ‌الفصل العاشر: بين النقد والتقريط

- ‌الباب الثامن: معارك بين المحافظين حول اللغة

- ‌المعركة الأولى:

- ‌المعركة الثانية:

- ‌المعركة الثالثة:

- ‌الباب التاسع: معارك نقد الشعر

- ‌الفصل الأول: بين شوقي ونقاده

- ‌الفصل الثاني: بين عبد الرحمن شكري والمازني

- ‌الفصل الثالث: إمارة الشعر

- ‌الفصل الرابع: ديوان وحي الأربعين

- ‌الباب العاشر: معارك النقد بين المجددين

- ‌الفصل الأول: بين التغريب والتجديد

- ‌الفصل الثاني: معركة الكرامة

- ‌الفصل الثالث: معركة الصفاء بين الأدباء

- ‌الفصل الرابع: معارك النقد

- ‌الفصل الخامس: بين زكي مبارك وخصومه

- ‌الفصل السادس: مبارك ينقد كتابه

- ‌الفصل السابع: بين العقاد وخصومه

- ‌الفصل الثامن: بين سلامة موسى وخصومه

- ‌الفصل التاسع: بين المازني وخصومه

- ‌الفصل العاشر: معارك أدبية؛ بين الدكتورين هيكل وطه حسين

- ‌الفصل الحادي عشر: معركة لقمة العيش

- ‌الفصل الثاني عشر: بين شباب الأدب وشيوخه

- ‌محتويات الكتاب:

الفصل: ‌النزعة اليونانية بين زكي مبارك وطه حسين:

‌النزعة اليونانية بين زكي مبارك وطه حسين:

حمل الدكتور طه حسين لواء الدعوة إلى "النزعة اليونانية" وقال: إن الناس في الشرق والغرب وفي جميع الأجيال مدينون لثقافة اليونان. وقال فيما قال: "إن عقلية مصر عقلية يونانية". وقال عام 1925 في مقال بعنوان "بين الشرق والغرب": نعتقد ونظن أن غيرنا من مؤرخي الفلسفة المحدثين يعتقد أيضا أنه لم يكن للشرق في تكوين الفلسفة اليونانية والعقل اليوناني والسياسة اليونانية تأثيرًا يذكر وإنما كان تأثير الشرق في اليونان تأثيرًا عمليا ماديا ليس غير

"، وهو بهذا ينكر فضل الأثر المصري القديم ويجعل الثقافة العربية تابعة لثقافة اليونان متأثرة بها وقد أورد طه حسين هذا الرأي في كتابه "قادة الفكر" 1926 ثم عاد وردده في مقالاته بالهلال "مجلد 39" ثم توسع فيه في كتابه مستقبل الثقافة.

وقد لقي هذا الرأي معارضة من كثير من الكتاب أمثال شكيب أرسلان وزكي مبارك.

طه حسين بين الشرق والغرب:

مجلد 33 الهلال:

يجب أن نلاحظ أن العقل الإنساني ظهر في العصر القديم بمظهرين مختلفين أحدهما يوناني خالص هو الذي انتصر وهو الذي يسيطر على الحياة الإنسانية إلى اليوم وإلى آخر الدهر، والآخر شرقي انهزم مرات أمام المظهر اليوناني وهو الآن يلقي السلاح ويسلم للمظهر اليوناني تسليمًا تامًا.

بينما نجد العقل اليوناني يسلك في فهم الطبيعة وتفسيرها هذا المسلك الفلسفي الخصيب الذي نشأ عنه فلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس ثم فلسفة ديكارت وكانت وكونت وهيجل وسبنسر نجد العقل الشرقي يذهب مذهبا دينيا خالصا في فهم الطبيعة وتفسيرها فلم يستطع العقل الشرقي أن يظهر شخصية فلسفية قوية في فهم العالم وتفسيره وإنما خضع للكهان في عصوره الأولى وللديانات السماوية في عصوره الراقية.

ص: 137

وهناك شيء آخر نجده عند اليونان ولا نجده في الشرق، وهو هذا التطور السياسي الخصب الذي أحدث النظم السياسية المختلفة في المدن اليونانية من ملكية وجمهورية وأرستقراطية وديمقراطية معتدلة أو متطرفة والذي لا يزال أثره قويا في أوربا إلى اليوم، وإلى آخر الدهر والذي أخذ الشرق يتأثر في نظمه السياسية أيضا، وبينما كانت المدن اليونانية تخضع لهذا التطور الغريب الذي حقق حرية الأفراد والجماعات والذي انتصر حتى أصبح المثل الأعلى للحياة الحديثة في الشرق والغرب، وكان الشرق خاضعًا لنظام سياسي واحد لم يتغير ولم يتبدل هو نظام الملكية المطلقة المستبدة التي تفقد فيه الجماعات والأفراد كل حظ من الحرية.

2-

طه حسين: في العقل العربي الحديث 1:

الشيء الذي لا أشك فيه وما أظن أحدًا يشك فيه هو أن لونا من ألوان العقل قد ظهر في عصر من عصور التاريخ القديم في بلاد اليونان وتجاوز حدود هذه البلاد في بعض الأوقات حتى كان الإسكندر المقدوني فخرج بهذا العقل فاتحا للشرق القريب والبعيد، محاولا أن يقره فيه ويبسط سلطانه عليه، ونجح الإسكندر نجاحا عظيما في مهمته هذه بالقياس إلى الشرق القريب بنوع خاص وقد استطاع العقل اليوناني أن يستقر في هذا الشرق ويمازج نفوس أهله حتى يصبح جزءًا منها. ومنذ ذلك الوقت أصبح هذا العقل مقياس الحضارة في أي أمة من الأمم الشرقية القريبة كما أصبح مقياس الحضارة في الأمم الغربية نفسها، فالأمة متحضرة راقية إذا أخذت بتراث العقل اليوناني وشاركت فيه وأضافت إليه. والأمة غير متحضرة أو غير مشاركة في الحضارة الإنسانية الممتازة

1 الهلال. العدد الخاص عن الإسلام "مجلد 1939".

ص: 138

إذا أعرضت عن هذا التراث فلم تأخذ به ولم تلتفت إليه ولم تجعله أصلا من أصول حياتها المقومة لها. وما من شك في أن هذا العقل قد كان مقياسًا لحضارة الأمة العربية بعد أن هديت إلى الإسلام وقال التاريخ: إنها بلغت أرقى ما استطاعت أن تبلغ من الحضارة الراقية المزدهرة أيام بني العباس حين عرفت فلسفة اليونان وعلمهم وفنهم الرفيع وفنونهم التطبيقية أيضًا. وحين شاركت في هذا كله فنمته وأضافت إليه.

ثم قال التاريخ: إنها أخذت تخلص من هذا الجمود والهمود وتسترد حظها في الحياة والنشاط ونباهة الذكر في هذا العصر الحديث لأنها اتصلت بهذا التراث العقلي القديم الذي أهدته إلى أوروبا وأعرضت عنه وقتا ما.

سألت نفسي إذن عن نشأة العقل العربي الإسلامي الذي ملأ الأرض في بعض عصور التاريخ علما وأدبا وفلسفة وفنا فرأيت، وأظن أن المثقفين كلهم يرون كما رأيت. إن هذا العقل إنما نشأ ونما وأنتج حين اتصلت الأمة العربية بعد الفتح بالأمم الأجنبية الأخرى وحين أعطتها وأخذت منها. أعطتها دينا ولغة وأدبا؛ وأخذت منها علما وفلسفة وفنا وسياسة وإدارة وتدبيرًا. ونشأ عن هذا الأخذ والعطاء مزاج خاص، هو هذا العقل العربي الذي نراه فيما نقرأ من آثار أدبائنا وعلمائنا وفلاسفتنا.

مهما يكن من شيء فالعقل العربي الإسلامي إنما نما وأثمر وأنتج حين اتصل بالعقل اليواناني بل حين امتزج بل حين أساغه وتمثله وجعله مقوما لنفسه ومشخصا لحياته.

ص: 139

رد الدكتور زكي مبارك 1:

-1-

ساير الدكتور طه الباحثين الأوربيين في القول بأن الثقافة اليونانية هي مصدر الثقافة الإنسانية وأن الناس في الشرق والغرب وفي جميع الأجيال مدينون لثقافة اليونان.

والحق أن للدكتور عذرًا في هذه المسيارة فقد قرأ كتبا ترى هذا الرأي، ولو أنه تريث لعرف أن هنالك كتبًا أجدر من تلك الكتب بالتلخيص. وهي التي ترى أن المعارف اليونانية منقولة من المعارف المصرية، وأن فلاسفة اليونان لم يكونوا إلا تلاميذ لفلاسفة مصر القدماء.

وأنا لا أسوق هذه المؤاخذة تعصبا لبلادي، فاليونانيون أنفسهم يعترفون بأنهم تلاميذ المصريين وكانت زيارة مصر واجبة على كل يوناني يريد التفقه في أسرار الوجود، أستاذية مصر الفرعونية الوثنية ليست أسطورة من الأساطير بل هي حقيقة من الحقائق وإن أراد الدكتور طه أن يساجلني فأنا حاضر للسجال وقد سجل في كتابه مستقبل الثقافة: إن عقلية مصر عقلية يونانية وإنه لا بد من أن تعود مصر إلى احتضان فلسفة اليونان.

والواقع أن إيمان الدكتور طه حسين بهذا الرأي يرجع إلى تاريخ قديم ففي نوفمبر 1919 قدم ثروت باشا الدكتور طه حسين إلى الجمهور في قاعة المحاضرات بالجامعة المصرية فألقى المحاضرة الأولى وقال في هذه المحاضرة: "إنه

1 الرسالة 15 نوفمبر 1943.

ص: 140

عزم على إحياء التراث اليوناني لأنه يؤمن إيمانا جازما بأن مرجع الفكر في الشرق والغرب إلى القدماء من مفكري اليونان".

زعموا أن الدكتور يعترف بظهور الحضارة الشرقية القديمة التي لا تزال تبهرنا حتى الآن قبل أن تكون الحضارة اليونانية شيئا مذكورًا، وزعموا أن الدكتور لا ينكر أن الأمة اليونانية من غير شك تأثرت بالحضارات الشرقية المختلفة وأخذت عن الساميين في آسيا وعن المصريين في أفريقيا أشياء كثيرة مختلفة.

يقول الدكتور: "نعتقد ونظن أن غيرنا من مؤرخي الفلسفة المحدثين يعتقد أنه لم يكن للشرق في تكوين الفلسفة اليونانية والعقل اليوناني والسياسة اليونانية تأثير يذكر إنما كان تأثير الشرق في اليونان تأثيرًا ماديًا علميا ليس غير.

فقد أخذ اليونان الشرقيين أشياء كثيرة ولكنها عملية مادية، أخذوا عنهم شيئا من الموسيقى وتعلموا منهم فنونا عملية كالحساب والهندسة ولكنهم لم يأخذوا عنهم شيئا عقليا يذكر "ص46، 47" وإن قيادة الفكر اليوناني كان قوامها الشعر والفلسفة.

نقول: كيف عرف اليونان الفلسفة؟

هل عرف اليونان الفلسفة والشعر عفوا؟ أم أنهم نقلوها من الأمم التي استعمروها؟ فإنه لما ضاقت الأرض اليونانية بأهلها ذرعا لم يجد اليونان أمامهم إلا الهجرة أو الاستعمار فانتشروا في مختلف أقطارها كآسيا وأفريقيا وإيطاليا وصقلية وإسبانيا وفرنسا.

ولا أخال الدكتور يناقضنا إذا قلنا: إن جميع الأقطار العربية التي

ص: 141

استعمرها اليونان في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وصقلية في تلك العصور لم يكن بها حضارة أو مدنية. وإنما كان الجهل فيها طبقات بعضها فوق بعض.

ونريد أن نصل من هذا إلى حقيقة واضحة هي أن اليونان لم يأخذوا عن أهل هذه الأقطار الغربية شيئا من الحضارة أو المدنية.

والذي لا شك فيه أن العقل اليوناني ارتقى وتطور عندما عرف اليونان الهجرة والحروب والاستعمار، والحقيقة المرة التي يجب أن يعترف بها الدكتور هو أنه لو لم يكن الشرق وحضارته وفنونه لما ارتقى العقل اليوناني ولما انتقلت منارة الفكر من الشعر إلى الفلسفة.

قال الدكتور: إن اليونان لم يأخذوا عن الشرقيين إلا أشياء عملية مادية ليس غير، أخذوا عنهم شيئا من الموسيقى ونقلوا عنهم فنونا عملية كالحساب والهندسة.

أما نحن فنجاهر بأن الدكتور أخطأ في زعمه.

فما معنى أن اليونان أخذوا عن مصر فنًا عمليًا الموسيقا. أليست الموسيقا فنا من الفنون الجميلة.

ويقول الدكتور: فلئن كان البابليون قد رصدوا النجوم ووصلوا من ذلك إلى نتائج قيمة في علم الفلك فهم لم يضعوا علم الفلك وإنما هذا العلم يوناني لم ينشأ عن النتائج البابلية وإنما نشأ عن البحث اليوناني "ص47".

والحقيقة أن البابليين عرفوا علم الفلك قبل أن يعرف اليونان هذا العلم وماهيته. وعلم الفلك الذي توصل إليه البابليون هو الذي ندرسه اليوم في جوهره وأصوله.

ص: 142

ينكر الدكتور نبوغ الشرقي من الناحية الفلسفية إنكارًا باتا بكل ما في الكلمة من معنى، ولا أدري هل سبب هذا هو أن الدكتور غير ملم بالأصول الفلسفية الحقة أم هو ملم بها غير أنه لم يقو بعد على تحليل هذه الأصول تحليلا صحيحا وتفهمها فهما جيدًا.

ونظرة بسيطة إلى الشرق قبل أن يولد سقراط وأفلاطون، بل قبل أن يعرف شيء عن اليونان جميعها نجد فن التحنيط ولا أراني محتاجا إلى أن أقول لم حنط القدماء في مصر جثث موتاهم؟

فهل هناك شك أن هذه العقيدة التي كان يؤمن بها المصريون القدماء وهي خلود النفس نتيجة بحث فلسفي قيم. الحق أن الفلسفة ظهرت في مصر قبل ظهورها في بلاد اليونان بمئات السنين غير أن سوء الحظ الذي يصادفنا اليوم. هو الذي أخفى هذه الحقيقة.

-2-

تساءل زكي مبارك1: ما الموجب لإثارة هذه المشكلة؟ وأجاب:

الموجب هو إصرار الدكتور طه على القول بأن مرجع الفكر في الشرق والغرب إلى القدماء من مفكري اليونان وحرصه على إثبات هذا القول في الكتاب المقرر لمسابقة الأدب العربي، وكان قبل ذلك مقررا للمطالعة في المدارس الثانوية.

يضاف إلى هذا أن الدكتور طه. "جعل" القيمة الفعلية من حظ الغرب وجعل البوارق الخيالية من حظ الشرق وانتهى إلى النص بأن الغرب وطن الفلاسفة وأن الشرق وطن الأنبياء.

1 الرسالة 22 نوفمبر 1943.

ص: 143

ما حظ الدكتور طه في أن يقرر أن العقل الشرقي انهزم أمام العقل اليوناني مرات في التاريخ القديم وأنه ألقى السلاح في التاريخ الحديث.

ما الغرض من الإصرار على أن العقل الشرقي يذهب في فهم الطبيعة وتفسيرها مذهبًا دينيا قانعًا بدليل أنه خضع للكهان في عصوره الأولى، وخضع للديانات السماوية في صوره الراقية.

لا بد من نقض هذه الآراء قبل أن يفتتن بها التلاميذ لأنها مسجلة في كتاب رقم عليه اسم وزارة المعارف العمومية.

الكهان:

والظاهر أن الدكتور طه يتوهم أن الكهانة ظاهرة شرقية لا غربية وذلك توهم طريف لأن الدكتور طه نفسه يشهد بأن سقراط قد استلهم الكهان مع أنه في زعم الدكتور طه أول محرر للعقل الإنساني من أغلال الأضاليل، وأقول بعبارة صريحة أن الكهانة لم تصر مهنة مقدسة إلا في عهود الوثنية اليونانية فقد كانت لها معابد وكان لمعابدها سدنة وأمناء وكان المصير لكل معضلة فردية قومية رهينا برأي "الصوت المتنكر" في زوايا الظلام المنشور فوق معابد اليونان.

أما كهان الشرق فقد كان مركزهم في المجتمع أيسر وأخف، لأن الشرق سبق الغرب إلى استحياء العقل، وهل يستطيع مكابر أن ينكر فضل الشرق في السبق إلى رفع القواعد عن الحضارة الإنسانية.

تفرد الشرق بالأنبياء:

وأقول إن النبوات في الشرق دانت الإنسانية بديون يراها الحاضر وذكرها التاريخ.

ص: 144

إن الشرق لن يتخلى عن السيطرة الروحية وإن عجز عن السيطرة المدنية ولن يوهن من قوة الشرق أن يقرأ أبناؤه كلاما منقولا عن أحد الأجانب ولو كان الناقل طه حسين.

-3-

وقال الدكتور زكي مبارك1 تحت عنوان "نزعة تمجيد اليونان" إن العرب لا يزالون أقوياء يخشى شرهم، وذكرياتهم الأدبية والعلمية والتشريعية مقرونة بالإسلام وكل إحياء لذكريات العرب خليق بأن يثير الزهو والكبرياء في نفوس الأمم الإسلامية وهم يعرفون ما صنعت تلك الأمم في الأيام الخوالي، وأثار العرب ترجع في صميمها إلى التشريع وهو من المعاني الجافة التي لا يقبل عليها غير أهل الجد من كبار الباحثين، ولا كذلك أثار اليونان فإن معظمها يرجع في جوهره إلى الأدب الصريح الذي يهيج الأهواء ويثير الشهوات حتى ليمكن أن يقال أن جميع الشهوات واللذات الجنسية أخذها الأوربيون عن اليونان، ولذلك يمجد الغرب ذكريات اليونان ولا يمجد ذكريات العرب.

ويقول زكي مبارك2: يرى الدكتور طه أن الأدب الذي يحتل المركز الأول في الآداب القديمة هو الأدب اليوناني ثم يجيء الأدب العربي.

كتب مأمون حلمي عبد اللطيف يقول:

إذا كان كل هذا حق فمن هو الفيلسوف الأول الفرعوني الذي أثبت خلود النفس قبل أن تولد الأمة اليونانية، أم سقراط الذي جاء لنفس هذه النظرية قبل الميلاد بأقل من أربعة قرون.

1 الرسالة: مجلد 1931.

2 البلاغ: 11 نوفمبر 1932.

ص: 145

ويقول مبارك، إن من المجاملة المخدرة أن يعلن الدكتور طه أن الأدب العربي أقوى من الأدب الفارسي واللاتيني.

وإذا كان الأدب اليوناني في المكان الأول فإن الأدب العربي في المكان الأول أيضًا، الأدب اليوناني له المكان الأول من الناحية القصصية والتمثيلية وأنه في هذا الباب يمتاز امتيازًا صريحا لا يقبل الجدل ولا النزاع.

والأدب العربي له المكان الأول من الناحية الدينية، فإن البلاغة الدينية باب مهم من أبواب البلاغات في الأدب القديم والحديث، فقد شغل ثلاثمائة مليون في العالم شغلا موصولا بأروع أثر في البلاغة الدينية ممثلا في القرآن وعندنا أدب الصوفية.

أيستطيع باحث أن يزعم أن اليونان عندهم هذا الصفاء في الجوانب الروحية أما الأدب العربي فقد سكت عنه الأوربيون عامدين، لأنه يمثل الحضارة الإسلامية وهي حضارة كانت تبغي أوربا هدمها منذ أزمان، ولأنه من جهة ثانية مصبوغ في أكثر موضوعاته بصبغة الجد الرصين، وأوربا فتنت بما في الأدب اليوناني من نزق وطيش وخلاعة ومجون، بدليل أن أكبر شاعر شرقي راج أدبه في أوربا هو عمر بن الخيام لأنه شاعر اللذة والقلق والارتياب ويضاف إلى هذا أن يقظة أوربا الحديثة اتفق وجودها في أزمان كانت فيها الأمة العربية منحدرة إلى مهاوي الضعف والخمول فلم تستطع أن تقدم أدبها إلى العالم القديم تقديما حسنا بقدر ما كان له من روعة وجمال.

"رأي رشيد رضا":

وفيما يتصل بالنزعة اليونانية ما كتبه إبراهيم المصري في تفضيل الشعر

ص: 146

اليوناني على الشعر العربي وقد كتب رشيد رضا1 في الرد عليه. قال:

أما شعر الإغريق الذي يفضله المجدد إبراهيم المعري على الشعر العربي وينبغي على العرب نبذهم له وترك الاقتباس من معانيه كما اقتبسوا من فنون اليونان وفلسفتها فقد كنا نجهله قبل أن يترجم لنا سليمان أفندي البستاني "الإلياذة" وكنا نبيح لأنفسنا الحكم عليه، فلما أطلعنا على "الإلياذة" وهي أعلى شعر الإغريق ومفخرتهم التاريخية حكمنا بأن أجدادنا لم ينبذوا شعرهم وراء ظهورهم، إلا لأنهم وجدوه دون الشعر العربي في حكمه وسائر معانيه وأنه على ذلك محشو بالخرافات الوثنية التي طهر الله عقولهم ومخيلاتهم منها بالإسلام.

1 المنار جـ5 م 27 ص392 "إبريل 1926".

ص: 147