الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع: معارك الأسلوب والمضمون
الأسلوب والمضمون: بين الرافعي وسلامة موسى وطه حسين
…
الباب الأول: معارك الأسلوب والمضمون
الأسلوب والمضمون؛ بين الرافعي وسلامة موسى وطه حسين:
كانت معركة "المضمون" في الأدب من أبرز معارك الأدب بين معسكر المحافظين والمجددين، وقد تمثلت هذه المعركة في عدة مساجلات، بدأت بهذه المساجلة عام 1925 في الهلال عندما كتب سلامة موسى عن أديب الفقاقيع يقصد أدب مصطفى صادق الرافعي. وقد دخل الرافعي المعركة وأعلن وجهة نظر، ثم كتب طه مهاجما للرافعي ولكن الرافعي لم يلبث أن تحول عن أسلوبه التقليدي إلى أسلوب وسط فيه محاسن الأسلوب القديم مع العناية بالمضمون.
أدب الفقاقيع؛ سلامة موسى 1:
أدباء الصنعة يكتبون وكل همهم محصور في تأليف استعارة خلابة أو مجاز جميل أو كتابة بارعة أو غير ذلك من الفقاقيع، فإذا أراد أحدهم أن يؤلف كتابا أو يضع مقالة لم يعن أقل عناية بالموضوع الذي يكتب فيه، وإنما يعمد إلى الفقاقيع فيؤلف منها عبارات خلابة فيتوبل بها إنشاءه أو يرصها رصًا أو كثيرا ما يعجز أمثاله عن تأليف عبارة من إنشائهم الخاص.
وهكذا يعيش كتاب الصنعة هذه الأيام بما خلفه لهم الأقدمون يتداولون الصيغ القديمة في الأداء ويجترونها اجترارًا كما تجتر البهيمة طعامها طوال حياتهم أو يقضون وقتهم في العبث واللهو بتأليف السجعات والاستعارات والتشبيهات، ولست أنكر أن لهذه الأشياء جمالا، ولكنه جمال الفقاقيع والزبد الذي يذهب جفاء عندما تسطو عليه أشعة الشمس أو تهفوا به الريح.
كتاب الصنعة يكرهون الفلسفة والعلوم. وقد قالها أحدهم "المنفلوطي"
1 713 مجلد 33 من الهلال أبريل 1925.
وربما كان أقلهم صنعة "ما دخلت الفلسفة أيا كان نوعها على عمل من أعمال الفطرة إلا أفسدته".
وهذه نزعة خطيرة نطلب أن يعمد رجال الذهن في جميع البلاد العربية إلى وقفها بكل الوسائل. يجب أن نحبب تلاميذنا في الفلسفة والعلوم ونكرههم في فقاقيع الاستعارات والكتابات.
وهذا كاتب يضع كتابا على الحب والجمال "يقصد كتاب مصطفى صادق الرافعي. السحاب الأحمر" ويبدأ الفصل الأول منه بوصف فقاعة هي نضاب قلم مصنوع من زجاج ويحتوي على مداد أحمر ويباع بالقاهرة بنصف قرش فيكتب عن هذا النضاب عدة صفحات ويستوحي منه التأملات والخواطر في الحب والجمال. فهو كاتب صنعة لا يبالي إلا برنين ألفاظه وخلابة استعاراته وهذا لعمري هو اللهو واللعب. فإن للأدب غاية وغايته هي صلاح الناس وهديهم وكشف حقائق هذا الكون والتمتع بجمال هذه الحقائق.
2-
المذهب القديم والمذهب الجديد؛ سلامة موسى 1:
في مصر وسوريا طبقة من الأدباء لها عيون ممن خلف رؤوسها فإذا نظرت لم تر سوى الماضي ثم هي مع ذلك لا ترى كل الماضي وهي لو استطاعت أن تفعل ذلك لكان لها من ذلك بصيرة بالحاضر والمستقبل. وأجل لو كانت هذه الطبقة تنظر إلى الماضي خلال تلسكوب العلوم الحديثة لاستطاعت أن تقرأ لغة الطبيعة وتدرك أن روح العالم هي روح نشوء وتطور.
تقول هذه الطبقة: إن الأديب لا مندوحة له إذا أراد أن يكون أديبًا
1 الهلال يناير 1934.
حصيفًا أن يقلد العرب ويحتذي كتابهم في أساليبهم ومراميهم. ومن هذه الطبقة بل وفي رأسها نضع الأستاذ مصطفى صادق الرافعي والأستاذ الأمير شكيب أرسلان.
ومن المستطاع أن يحلل الإنسان هذه "الوطنية الأدبية" وأن يردها إلى أصولها في ذلك العقل الباطن الذي يخلط بين الدين والقومية والأدب العربي، فالخروج عن المألوف في الأدب العربي يوهم أفراد هذه الطبقة بالخروج على الدين والقومية العربية.
الصنعة دون الفن، وأن الفن هو الجوهر وهي الغرض. ونحن الآن بقوة ما ورثناه عن العرب كثيرًا ما نعنى بالصنعة ونهمل الفن فنتعلق بالقشور ونترك اللب.
الرافعي "1" يدافع عن المذهب القديم ويقول بأفضلية الأساليب العربية القديمة على أساليبنا الراهنة "2" هو أيضا يجيد الصنعة أيما إجادة ولكنه لا يعنى بالفن فإذا كتب اتسقت عباراته وانتظمت ألفاظه فأتى بالعجب ولكن الحقيقة "أي الجمال" لا تشغله في نظمه أو نثره "3" هو لا يكاد يؤمن بالعلم بل لا تجد له أثرًا في جميع كتاباته.
3-
دفاع 1 عن المذهب القديم في الأدب؛ الرافعي:
زعم الأستاذ المفكر سلامة موسى أن ما نقول به من اقتداء العرب في أساليبهم والارتياض بكلامهم والحرص على لغتهم وأن يكون الكاتب في هذه اللغة حسن البيان رشيق العرض رائع الخلابة يثبت في ألفاظه وينظر في أعطاف كلامه ويفتن في أساليبه، كل هذا وما إليه من مذهب قديم
1 الهلال جـ50 ص469 "فبراير 1924".
و"وطنية أدبية" ترجع العلة فيها إلى ذلك العقل الباطن الذي يخلط بين الدين والقومية والأدب العربي. ثم قال: إن أهل المذهب القديم يهملون العلم لأن العلوم تتعارض ومعتقدات العرب.
والظاهر أنه يعنى بالعرب المسلمين لا غيرهم.
فالمذهب القديم إذن هو أن تكون اللغة لا تزال لغة العرب في أصولها وفروعها وأن تكون هذه الأسفار القديمة التي تحويها لا تزال حية تنزل من كل زمن منزلة أمة من العرب العظماء، وأن يكون الدين العربي لا يزال هو كأنما نزل به الوحي أمس، لا يفتننا فيه علم ولا رأي، وأن يأتي الحرص على اللغة من جهة الحرص على الدين إذ لا يزال منها شيء كالأساس والبناء لا منفعة فيها معا إلا بقيامها معا.
العلة في الحقيقة لا ترجع إلى مذهب قديم أو جديد بل إلى الضعف في لغة والقوة في أخرى وأن صاحب المذهب الجديد.. آخذ بالحزم في واحدة وبالتضييع في الثانية وأكثر من الإقبال على شيء دون الآخر فتعلق به وأمضى أمره عليه وحسنت نيته فيه واستمكنت فصارت إلى نوع من المعصية للأدب الأجنبي وأهله.
فلما تعطل الزمن وأصبح الأدب صحفيًا، وآلت العربية وآدابها إلى لفيفة في أوراق مدرسية وانزوى ذلك العلم المستطيل واستحكمت المكاتب له كالقبور المملوءة بالتوابيت، وفشت العصبية بيننا للأجنبي. رجع الأمر على مقدار ذلك في صغر الشأن وضعف المنزلة واحتاج أهل هذا القليل من العربية إلى أن يعتبروه كلا بنفسه لا جزءًا من كله فكان لذلك مذهبًا. وكان مذهبا جديدًا.
فإنك واجد في أهل سنة 1923 "يقصد جبران خليل جبران" من يقول في هذه اللغة "لك مذهبك ولي مذهبي ولك لغتك ولي لغتي" فمتى كنت صاحب اللغة وواصفها ومنزل أصولها ومخرج فروعها وضابط قواعدها ومطلق شواذها. من سلم لك بهذا يسلم لك حق التصرف "كما يتصرف المالك في ملكه" وحتى يكون لك من هذا حق الإيجاد ومن الإيجاد ما تسميه أنت مذهبك ولغتك
…
لأهون عليك أن تولد ولادة جديدة فيكون لك عمر جديد تبتدئ فيه الأدب على حقه من قوة التحصيل وتستأنف دراسة اللغة بما يجعلك شيئا فيها -من أن تلد مذهبا جديدًا أو تبتدع لغة تسميها لغتك- فإنك عمر واحد بين ملايين من الأعمار في عصور متطاولة وأن ما تحدثه إلى خطأ لا يبقى على أنه صواب ولا ينفي أبدًا إلا كما ينفي العلة على أنها علة فلا يقاس عليها أمر الصحيح ولا يحكم بها فيمن لم يعتل.
إن أعادوا بالمذهب الجديد أن يكتب الكاتب في العربية منصرفا إلى المعنى تاركا اللغة وشأنها متعسفا فيها، آخذا ما يتفق كما يتفق وما يجري على قلمه يجري. إن أرادوا بهذا وأشباهه المذهب الأدبي الجديد قلنا لا ثم لا ثم لا؛ ثلاث مرات. ثم أي خير لأدبنا وعلومنا وكتبنا أن نحرص على الأصل الصحيح القوي الذي في أيدينا ونحتمل فيه ضعف الضعفاء ونصبر على مدافعتهم عن إفساده حتى ينشأ جيل أقوى من جيل وتخرج أمة خيرًا من أمة، أم ندع الإصلاح للفساد ونتراخى في القوة حتى تحول ضعفا.
إن هذه العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصحاته إلا من لا حفل به من زنديق يتجاهل أو جاهل يتزندق.
ثم إن فصاحة القرآن يجب أن تبقى مفهومة ولا يدنو الفهم منها إلا بالمران والمزاولة ودرس الأساليب الفصحى والاحتذاء عليها.
4-
الخصومة بين القديم والجديد في الأدب؛ طه حسين:
الحق أن ميدان هذه الخصومة أوسع من مجلة الهلال وأن أبطال هذه الخصومة أكثر من الأستاذين سلامة موسى ومصطفى الرافعي. إن مصدر هذه الخصومة إنما هي صحيفة الأدب في السياسة حول رسالة "أسلوب في العتب" ذهب فيها الرافعي مذهب المتكلفين من بعض الكتاب القدماء ثم إن المعركة تحولت إلى معارك ثلاث:
1-
بين طه حسين والرافعي: السياسة.
2-
بين السكاكيني وشكيب أرسلان: السياسة.
3-
بين الرافعي وسلامة موسى: الهلال.
للأستاذ الرافعي في فصله هذا آراء محتاجة إلى شيء من المناقشة. ومنها ما كان يحتاج إلى شيء من المراجعة قبل أن ينشر ويعلن إلى الناس، انظر إليه مثلا يزعم أن المذهب الجديد في الأدب ليس في حقيقة الأمر إلا نتيجة لضعف في اللغة والأدب العربي وقوة في اللغة والأدب الأجنبي. وأن الذين يزعمون أنهم من أنصار المذهب الجديد إنما هم قوم ضيعوا حظهم من لغة العرب وآدابهم وأخذوا بنصيب موفور في لغات الإفرنج وآدابهم.
نعتقد أن الأستاذ الرافعي يسرف في هذا الحكم. ولعل مصدر إسرافه في هذا الحكم، إن صحت نظريته أنه أخطأ فهم ما يكتب أنصار المذاهب
الغربية وهو إنما أخطأ الفهم؛ لأنه أخطأ الذوق، أو هو إنما أخطأ الذوق؛ لأنه أخطأ الفهم.
ولكن الأستاذ الرافعي معذور على كل حال فما كان له أن يحكم فيحسن الحكم دون أن يفهم ويذوق وهو قد يخطئه الفهم والذوق أحيانا فتخطئه الإصابة في الحكم.
ونظن أن للأستاذ الرافعي حظًا من الإنصاف وأنه يرى هنا أن بعض أنصار المذهب الجديد أو الذين يسمون أنصار المذهب الجديد قد أخذوا من اللغة العربية وآدابها بحظ لا بأس به وإن قوتهم في اللغة الأجنبية وآدابها لم تحملهم على أن يضيعوا حظهم في اللغة العربية وآدابها.
إذن فانتصار هؤلاء لمذهب جديد ليس ضعفا وليس اعتذارًا لأنفسهم وليس تعصبًا للأدب الأجنبي الذي تفوقوا فيه.
نسمح لأنفسنا بأن نزعم أن لنا في هذه اللغة التي نتكلمها ونتخذها أداة للفهم والإفهام حظًا يجعلها ملكا لنا ويجعل من الحق علينا أن نضيف إليها ونزيد فيها كلما دعت إلى ذلك الحاجة، أو قضت ضرورة الفهم والإفهام أو كلما دعا إليه الظرف الفني لا يقيدنا في ذلك إلا قواعد اللغة العامة التي تفسد اللغة إذا تجاوزناها.
ولولا هذا ولولا أن اللغة ملك لأبنائها يضيفون إليها، ويدخلون فيها لما نمت اللغة وعاشت، ولما استطاعت أن تفي بحاجات أهلها التي تتجدد وتتنوع.
والرافعي
…
يسرف في سوء الظن بأوربا وأمريكا وفي سوء الحكم
عليهما ولعل مصدر ذلك أنه لا يقرأ لغة أوربا وأمريكا ولا يفهمها ولا يذوقها فهو يخطئ في الحكم على أوربا وأمريكا.
والرافعي كغيره من أنصار المذهب القديم مشفق كل الإشفاق على القرآن الكريم وعلى الإسلام أن يصيبهما من المذهب الجديد شر أو ينالهما ضيم
…
نهون على الأستاذ ونهدئ من روعه فليس هناك ما يدعو إلى هذا الإشفاق.