الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس: هل نقتبس أم نقلد
؟
بين منصور فهمي وطه حسين:
قال زكي عبد القادر معلقًا على حديث الدكتور طه من التعليم الجامعي1 في مصر ومقارنته بفرنسا "أما الزج2 بفرنسا وغيرها من البلاد الغربية حين يكون الكلام خاصا بمصر فكم كنت أود لو أعفانا منه الدكتور طه فإن مصر لن تكون كفرنسا وفرنسا لن تكون كمصر. والأسلوب الذي تتناول به فرنسا مشاكلها لا ينبغي أن يكون هو الأسلوب الذي تتناول به مصر مشاكلها. فإن لنا مشاكلنا الخاصة، لنا حاجتنا وبيئتنا وشعبنا وتاريخنا ونهرنا وصحراؤنا، ولنا أخيرًا عقولنا وثقفاتنا فلنعالج مشاكلنا على الأسلوب الذي نراه إلى أدنى تحقيق مصالحنا.
فرد طه حسين عليه 3 وقال:
إنما أكتب اليوم لأني أرى في تفكيرنا الاجتماعي والتعليمي شيئا من العوج وأود أن نلتفت إليه ونعنى بتقويمه، فمن أشد الأشياء خطرا أن نفكر في شئوننا الاجتماعية والثقافية تفكيرا معوجا، ثم نقيم على هذا التفكير نتائج ذات خرط ثم نتخذ هذه النتائج أصولا للإصلاح الاجتماعي والثقافي.
ولأضرب لذلك مثلا قريبا جدًا فالأستاذ زكي عبد القادر يريدني على ألا أذكر فرنسا ونظمها التعليمية لأن فرنسا ليست مصر ولأن ظروف فرنسا
1 الأهرام 3 يونيه 1939 "إسراف" طه حسين.
2 الأهرام 5 يونيه 1939 زكي عبد القادر.
3 الأهرام 7 يونيه 1939 "تقويم" لطه حسين.
ليست ظروف مصر، وهذا كلام يستقيم في ظاهره كل الاستقامة ولكنه لا يثبت للتحقيق، فإذا كان من الحق ألا نذكر فرنسا وألمانيا وإنجلترا.
فقد يكون من الحق ألا نفكر في التعليم الإلزامي ولا في التعليم الجامعي الحديث، ولو أننا أردنا أن نلاحظ ظروفنا الخاصة وألا نلاحظ غير هذه الظروف فقد كان حقا علينا أن نكتفي بما كان عندنا من ألوان التعليم قبل أن ننظم الصلات بيننا وبين أوربا بتعليم الكتاتيب وتعليم الأزهر الشريف فقد عشنا قرونا على هذا اللون من ألوان التعليم حتى كون شخصيتنا أو كون جزءا عظيما من هذه الشخصية. ولكننا منذ أوائل القرن الماضي نظرنا إلى أوربا واتخذناها مثلا نحتذيه ونقلده، فاستعرنا منها فكرة التعليم الإلزامي ومجانيته وفكرة التعليم الجامعي العالي.
أترى إلينا ننظر إلى أوربا نظرا متصلا ونقلدها تقليدًا مستمرًا وننكر في الوقت نفسه النظر إلى أوربا والانتفاع بما خضعت له من التجارب وما اختلف عليها من الحظوظ.
منصور فهمي 1:
أكاد أرجع أكثر الخصومات في الرأي حول مشاكلنا الاجتماعية إلى علة واحدة، تلك هي "الرغبة في تقليد الغربيين أو كراهية هذا التقليد".
أقرأ لزميلي الدكتور طه حسين مقالا حديثًا من مقالاته في جريدة الأهرام فأجد ما يأتي "لكننا منذ أوائل القرن الماضي نظرنا إلى أوربا واتخذناها مثلا نحتذيه ونقلده، فاستعرنا منها فكرة التعليم الإلزامي ومجانيته وفكرة التعليم الجامعي العالي، أترى إلينا ننظر إلى أوربا نظرا متصلا
1 الأهرام 25 يونيه 1939.
ونقلدها تقليدا مستمرا وننكر في الوقت نفسه النظر إلى أوربا والانتفاع بما خضعت له من التجارب ولما اختلف عليها من الحظوظ".
وطالما قرأت لغيره من ذوي الرأي وسمعت منهم حين يتحدثون في اتخاذ طرائق الغربيين أو تجنبها، ما يخالف رأي الأستاذ الصديق ويغايره، وعندئذ يتردد إلى خاطري سؤال فأقول في نفسي: أيهما يا ترى أهدى إلى الحق وأدنى إلى سبيله؟ أذلك الذي يجد أن حياتنا الاجتماعية تظل في عوج واضطراب ما دمنا لا نحتذي أثر الغرب ونقدم على اصطناع مثله في صراحة وعزم؟ أم ذلك الذي يرى أن أمتنا ليست كأمم الغرب في كل شيء، وأن اتخاذ أكثر من نظم الغربيين لا يجدي في رقينا وإسعادنا، وقد يعود علينا بالشقوة والخسران؟
وفي الحق أنني طالما عجزت عن الجواب على هذا السؤال، وتولتني منه حيرة من هذه الحيرات التي تتجمع فيها النفس لتستعين بالله عساه يقرها إلى رأي ويسكنها إلى مذهب تجد عنده راحة اليقين وتتخلص به من ألم الحيرة.
كدت أشعر أحيانا بدافع إلى الميل لرأي زميلي طه فهؤلاء ذوو الشأن فينا يتأثرون بالغربيين في غير هوادة ولا مبالاة، فأوربا إمام في التعليم وأوربا إمام في أكثر مسائل التشريع، وأوربا إمام في أكثر مظاهر الأخلاق والنظم وقد يجرنا القادة إلى اتباع أوربا فيما هو أبعد الأمور عن طباعنا، فهل من المستطاع حقا بعد ذلك أن يسهل علينا الرجعة والنكوص؟
سبحانك اللهم، أي السبيلين لنا فيه هدى وتوفيق؟
على أنني بعد هذا الجذب الذي يراد به تقريبي إلى ما يقولون. أعود فأستمع من أعماق القلب صوتا مدويا يشق سبيله إلى عقلي الحائر فأقول إلى
نفسي "سبحانك اللهم فليست بيئتي التي أعيش بها ولها وفيها هي بيئة الغرب. فهذه سماؤها غير سماء الغرب وهذه تربتها غير تربته وهذا موقعها في ملكوت الله غير موقعه. وهذه لغتنا غير لغته وما ورثناه من عادات ومحن وظروف وصروف غير ما ورث الغرب. فتكون مكنوناتنا، ومميزاتنا غر مميزاته وظورفنا وصروفنا غير ظروفه وصروفه، ثم يراد بنا على أن نكون كالغربيين ويحاول داعية صريح، أن يقنعنا بأن نتخذ من الغرب إماما نأتم به في كليات ما يسير عليه الغرب وفي جزئياته؟
عفوك اللهم وهداك، إن نفسي وعقلي مازالا راغبين في سبيلها، بل إن النفس لتدعوني أن أحتفظ بالخصائص التي أراد الله أن يميز بها أمة أنا من بينها وأن أتمسك بميراث انحدار إلى بلدي من قرون. وأن أستوحي به تاريخي وأن أستلهم ما يلهمني به جو بلادي وما تلهمني به تلك الأرواح الخفية الحائمة في سماواته".
عند سكون نفسي إلى هذه النزعة أعود فأهمهم في شدة وحماسة: لسنا من الغرب في شيء. وإنها لكبيرة أن ننتهج في كل شيء سبيل الغربيين فللتقليد حدود فما هي يا ترى حدوده؟ ".