الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السادس: مبارك ينقد كتابه
الأخلاق عند الغزالي:
لعل هذه هي المرة الأولى التي ينقد فيها كاتب أحد مؤلفاته ويعارض ما جاء فيها من آراء. كان الدكتور زكي مبارك قد كتب كتابه "الأخلاق عند الغزالي" كأطروحة للدكتوراه من الجامعة المصرية عام 1924 وحاول أن يحدث به صيحة حين عارض آراء هذا الفيلسوف الكبير وعندما نوقش في جلسة علنية قامت ضجة بين علماء الأزهر الشريف وفي مقدمتهم الشيخ عبد المجيد اللبان، يقول زكي مبارك "وانتقلت الثورة من الجمهور إلى أساتذة الجامعة من غير لجنة الامتحان وأسر حلمي عيسى في أذن منصور فهمي أن الدكتور طه حسين يريد أن يوجه إلى زكي مبارك ثلاثة أسئلة، وكانت معركة لم أنتصر فيها إلا بأعجوبة، ثم انتقلت المعركة إلى جريدة المقطم حيث صور زكي مبارك بصورة الثائر على التقاليد الدينية ونصحه منصور فهمي وطه حسين بالسكوت عما أثاره امتحانه من جدال وعاد زكي مبارك فنقض آراءه عن الغزالي في رسالة تقدم بها للدكتوراه للجامعة المصرية أيضًا عام 1947 عن الإسلامي وقد عاب زكي مبارك كتابه حين نقده بعد ثلاثة وعشرين عاما ووصفه بأنه دعوة صريحة إلى التشكيك في أصول الأخلاق الموروثة عن القدماء وأن الغزالي لم يعن إلا بالفضائل السلبية ولم يشرح الفضائل الإيجابية، وعاب المؤلف على رجال الدين أن ينسحبوا من الميدان السياسي في الأوقات التي يعرض فيها الجهاد وأن الغزالي لم يؤد واجبه في التحريض على مقاومة الحملات الصليبية مع أنه حجة الإسلام، وهذا هو نقده لكتابه:
شاع منذ أعوام أن كتاب "الأخلاق عند الغزالي" من تأليف الدكتور منصور فهمي وهي إشاعة تشرفني وترفع من قدري، فأنا تلميذ هذا المفكر الجليل، ولو قضيت العمر في الثناء عليه لما وفيته بعض حقه من تعليمي وتثقيفي.
ولكن كتاب "الأخلاق عند الغزالي" كتابي لا كتابه بشهادة ما فيه من غطرسة واستعلاء وأستاذنا الدكتور منصور فهمي آية في التواضع المقبول:
ألم يرفض جماعة من علماء العراق مصافحتي بحجة أني آذيت الغزالي؟ ألم يقل جماعة من علماء مصر بأني وجهت أقوال الغزالي إلى غير ما كان يريد؟
ألم يقترح الأستاذ جاد المولى بك أن ينص في محضر الامتحان أن اللجنة غير مسئولة عما في الكتاب من آراء؟
قدم هذا الكتاب لنيل الدكتوراه في الفلسفة من الجامعة المصرية سنة 1924 وكانت لجنة الامتحان مؤلفة من منصور فهمي وأحمد ضيف ومحمد جاد المولى وعبد الوهاب النجار وأحمد عبده خير الدين.
ويظهر أن المؤلف كان يعاني ثورة روحية وعقلية عند تأليف هذا الكتاب فقد صاحب الغزالي في مؤلفاته نحو خمس سنين، فأسره الغزالي على نحو ما يصنع بمن يواجهون ثورة الوهاج.
ورأى المؤلف أن تأليف كتاب في "الأخلاق عن الغزالي" لا يتيسر إلا بعد النجاة من أسر الغزالي فجمع قواه وكسر باب الأسر ليتنسم روح الحرية الفكرية وليلقي الغزالي لقاء الند للند إن كان للغزالي أنداد.
وفي مدى ثلاث سنين استطاع ذلك الشاب أن يكتب رسالة للدكتوراه في الفلسفة عن "الأخلاق عند الغزالي"، وهي رسالة شرقت وغربت بحق أو بغير حق، واهتم الدكتور "سنوك هوجريته" فنشر في الثناء عليها بحثا باللغة الهولندية كان طليعة التنويه بالمؤلف في بيئات المستشرقين.
وفي اليوم التالي نوقش فيه المؤلف بجلسة علنية في الجامعة المصرية كان بين الحاضرين جماعة من أساتذة الأزهر الشريف على رأسهم الأستاذ الجليل
عبد المجيد اللبان شيخنا وشيخ أشياخنا وصاحب الفضل على كثير من العلماء، وقد طاب للشيخ اللبان في ذلك اليوم أن يعترض من وقت إلى وقت بأسلوب يحرج الممتحن ويحرج لجنة الامتحان.
لخص مقدم الكتاب معركة الامتحان بأسلوب صورني فيه بصورة الثائر على التقاليد الدينية فانبرى لمجادلتي على صفحات المقطم عالمان جليلان أحدهما الشيخ أحمد مكي، والشيخ يوسف الدجوي فلم أرد عليهما؛ لأن الدكتور طه والدكتور منصور نصحاني بالسكوت عما أثار امتحاني من جدال، وهي نصيحة سجلها الدكتور طه في جريدة السياسة وهو ينقد كتاب مدامع العشاق في أوائل عام 1925.
واستطاع كتاب الأخلاق عند الغزالي أن يقاوم هجمات الناقدين عددا من السنين إلى أن تعرض له ناقد لا يرحم المؤلف، وإن كان يحمل اسم المؤلف، ففي اليوم الرابع من أبريل 1937 وقف طالب يؤدي امتحان الدكتوراه في جلسة علنية بالجامعة المصرية، وكان أكبر همه أن ينتقض آراء الطالب الذي وقف هذه الوقفة في الخامس عشر من شهر مايو 1924 فماذا صنع؟ أثبت في كتاب "التصوف الإسلامي" أنه ظلم الغزالي في كتاب الأخلاق عند الغزالي والحكم على النفس من مظاهر القدرة على مغالبة الأهواء.
وقال زكي مبارك: وهذا كتاب ألفته في أوقات كنت فيها ثائر القلب والعقل على فهم القدماء للأخلاق، وهي ثورة لم أنج من شرها إلى اليوم، وقد أسايرها وتسايرني إلى آخر أيامي، وكيف يهدأ من يروعه أن يرى في رجال الدين من يعرفون خريطة الحياة الأخروية ويجهلون خريطة الحياة الدنيوية.
والواقع أن كتاب "الأخلاق عند الغزالي" لم يكن إلا دعوة صريحة إلى التشكيك في أصول الأخلاق الموروثة عن القدماء.
يقسم المؤلف الفضائل إلى قسمين: فضائل سلبية وفضائل إيجابية ثم يقرر أن "الغزالي" وجه اهتمامه إلى الفضائل السلبية ولم يعن بشرح الفضائل الإيجابية كالشجاعة والإقدام والحرص وما إلى ذلك مما يحمل المرء على حفظ ما يملك والسعي لنيل ما لا يجد، فإنه لا يكفي أن يسلم الرجل من الآفات النفسية بل يجب أن يزود بكل مقومات الحياة، والخير للمرء أن يوصم برزائل القوة من أن يتحلى بفضائل الضعف فإن الضعف شر كله ولكن أكثر الناس لا يفقهون.
عاب المؤلف على رجال الدين أن ينسحبوا من الميدان السياسي في الأوقات التي يفرض فيها الجهاد فطوق الغزالي بطوق من حديد حين سجل أنه لم يؤد واجبه في التحريض على مقاومة الحملات الصليبية، مع أنه حجة الإسلام ومع أن صوته كان مسموعا في أكثر الأقطار العربية.
أنكر المؤلف على الغزالي أن يتعلق بأهداب الآداب السلبية التي دعا إليها الإنجيل، ثم قال: قد رجعت عن بعض الآراء المدونة في هذا الكتاب حين ألفت كتاب "التصوف الإسلامي" وبين الكتابين أعوام تنقل فيها عقلي من أفق إلى أفق، أما أسلوب الكتاب فيغلب عليه الحذر والتهيب، وقد يصل إلى الرمز والإيماء لأن الموقف كان يعاني رقابة عنيفة، هي رقابة اللجنة المكلفة بالنظر في صلاحيته لامتحان الدكتوراه.
وبعد فقد راضتني الأيام بعد الجموح وانضممت كارها إلى العصابة التي تقول بأن الرياء سيد الأخلاق.