الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: بين النقد الذاتي والموضوعي
بين أحمد أمين وطه حسين 1:
هذه معركة داخل جبهت المدرسة الحديثة، بين رجلين عرفا بالسير في الطريق الواحد، كان أحمد أمين قاضيا واختاره طه حسين ليعمل أستاذا في كلية الآداب بعد أن دافع عنه في لجنة الإسلام" يختص كل منهما بجانب منه ثم مضى أحمد أمين فأتم الدراسة وتوقف طه العبادي وعلى الرغم من هذه الصداقة والارتباط في اتجاهات الفكر والثقافة والجامعة فإن أحمد أمين حين عرض للنقد الأدبي لم يتراجع عن أن يعلن رأيه صريحا في موقف الأدباء الذين برزوا بعد وقد جرى في هذا الشأن سجال بين أحمد أمين وطه حسن أصر فيه أحمد أمين على رأيه في أن كتاب هذه الفترة كانوا متحمسين مندفعين أول الأمر حتى إذا تحققت لهم الشهرة والمكانة عادوا إلى شيء كثيرا من الاعتدال وهذه هي المعركة.
هذه معركة: 1- أحمد أمين:
"حدث في تاريخ مصر الحديث أن جماعة تسلحوا بالشجاعة فأظهروا آراءهم في صراحة تامة ولم يبالوا الرأي العام سواء في ذلك بحوثهم أو نقدهم، وكانت هذه البذرة الأولى للشجاعة الأدبية في مصر فألفوا كتبا عبروا فيها عن آرائهم في جلاء ووضوح، وكتبوا مقالات تعبر عما يختلج في نفوسهم وإن لم تكن على هوى الجمهور، ونقدوا أدب الأدباء وإن بلغوا القمة في نظر الناس، فكان صراع بين القديم والحديث وبين التفكير الحر والتقاليد وبين الأدب الناشئ والأدب الموروث. ولكن هذا الصراع انتهى بغلبة الجامدين. ونال الأحرار من العسف والعنت فوق ما ظنوا.
وشعر القائمون بهذه الحركة الجديدة أنهم أصيبوا في سمعتهم ثم رأوا أن
1 الرسالة أول يونيه 1936.
أتباعهم تخلوا عنهم في وقت الضيق، ومن عطف عليهم فعطف أفلاطوني، عطف يتبخر، وكان الرأي العام قويا مسلحا فتغلب وانتقم وأصبحت له السلطة التامة، وانهزم أمامه فريق المفكرين الصرحاء هزيمة منكرة. ولم تكن له أمثلة كثيرة في تاريخه القريب فاضطر إلى التسليم، وتعود المجاراة بدل المقاومة، والمداراة مكان الصراحة. فلم يعد هناك معسكران ولم يعد صراع وإنما هو معسكر واحد ولا قتال، وتعلم الجيل اللاحق مع الجيل السابق فاختط خطته ونهج منهجه وأخذ الدرس عن أخيه الأكبر ففضل السلامة. وبذلك اختنق النقد الأدبي في مهده وأصبح الأدب مدرسة واحدة يختلف أفرادها اختلافا طفيفا، في العرض لا في الجوهر. ولا أمل في عودة النقد الصريح إلا ببذرة جديدة وروح جديد على شرط أن تكون البذرة صلبة تتحمل حوادث الدهر وعوادي الأيام.
ويتصل بهذا أن الأدباء عندنا صنفان: صنف نضج وتكون واستوى على عرش الأدب، وهؤلاء هم القادة، وهم أفراد معدودون تسالموا وتهادنوا وحرمنا ما بينهم من خصومة أدبية وعلمية، وصنف ناشئ في طور التكوين وهو يخشى أن يتعرض لمن استوى على العرش فيبطش به بطشة جبارة تقضي عليه، فلما جامل الكبراء بعضهم بعضا، وخاف الناشئون من الكبراء ضاع النقد بين هؤلاء وهؤلاء".
2-
طه حسين 1:
فأنت ترى أن جماعة النقاد الذين كانت إليهم قيادة الرأي الأدبي أو قيادة الحياة العقلية منذ حين قد اصطنعوا الشجاعة أول أمرهم. وآثروا الصراحة
1 الرسالة 8 يونيه 1936.
أو كانت الصراحة لهم خلقا، فكتبوا كما كانوا يرون، وأخذوا بحظوظهم الطبيعية من الحرية، فلم يحفلوا بالجمهور ولم يخافوا الرأي العام. ولم يحسبوا لمقاومة المحافظين حسابا. ونشأ عن شجاعتهم تلك وعن صراحتهم هذه أن بعثوا في الحياة العقلية نشاطا لم تألفه مصر، فكان الصراع العنيف بين القديم والجديد، وكان الخصام الشديد بين الحرية والرجعية.
وكذلك ترى بعد ذلك أن هؤلاء الكتاب قد أوذوا في مناصبهم وفي أنفسهم وفي سمعتهم وفي أرزاقهم فلم يثبتوا للأذى، ولم يمضوا في المقاومة، ولم يعنهم أتباعهم وأولياؤهم على الثبات، وإنما عطفوا عليهم عطفا أفلاطونيا، فلانوا ودانوا وجاروا وداروا، وآثروا العافية ومضوا مع الجمهور إلى حيث أراد الجمهور. ونشأ الجيل الجديد فاقتدى بإخوته الكبار وسار سيرتهم وأصبح النقد مصانعة ومتابعة وأصبح الأدب تملقا وتقليدًا.
وهذا أيها الأخ العزيز هو الذي أخالفك فيه أشد الخلاف وأنكره عليك أعظم الإنكار يدفعني إلى ذلك أمران: أحدهما أن رأيك بعيد كل البعد عن أن يصور الحق. والثاني أن رأيك يمسني وأؤكد لك أنه يحفظني كل الإحفاظ ويؤذيني كل الإيذاء. ولعله يحفظني ويؤذيني أكثر مما أحفظني وآذاني كل ما لقيت من ألوان المشقة والإعنات.
فهل من الحق أن هؤلاء الكتاب الذين نشير إليهم قد أدركهم الضعف والوهن فمالئوا الجمهور وصانعوا السلطان، وآثروا العافية في أنفسهم وأموالهم ومناصبهم؟ ومتى كان هذا، أحين عصفت العواصف بمصر فأفسدت أمرها السياسي والعقلي وألغت نظامها الحر وفرضت عليها نظاما آخر مصنوعا ألغيت فيه كرامة الأفراد والجماعات.
تعال أيها الأخ العزيز نبحث معا عن هؤلاء الكتاب أين كانوا في ذلك الوقت؟ وماذا صنعوا؟ وإلى أي حد جاروا وداروا وآثروا العافية؟ لست في حاجة أن أسميهم فأنت تعرفهم كما يعرفهم الناس جميعا. لم يكن لأكثرهم منصب من المناصب، فلما عصفت العاصفة أقصيت عن هذا المنصب فأدركت الزملاء ووقفت معهم حيث كانوا يقفون، ومضينا جميعا إلى حيث كان يحب أن نمضي واحتملنا جميعا ما كان ينبغي أن نحتمل من الأثقال. فكنا أيها الأخ العزيز ألسنة الساسة وسيوف القادة والسفراء بينهم وبين الشعب، وكنا سياطا في أيدي الشعب يمزق بها جلود الظالمين تمزيقا.
وكنتم تعجبون منا بذلك وتحمدونه لنا وتؤيدوننا فيه، وكنتم تقومون على الشاطئ وتروننا ونحن نغالب الأمواج ونقاوم العواصف نظهر عليها حينا وتظهر علينا أحيانا فكان بعض الناس يصفق لنا إذا خلا إلى نفسه لا إذا رآه الناس ويعطف علينا إذا لم يحس السلطان منه هذا العطف ولست أزعم أني قد استأثرت بهذا الفضل فقد كان نصيبي منه أقل من نصيب كثير من الزملاء. لم أدخل السجن وقد دخله منهم من دخله.
أترى أن مواقفنا تلك كانت مواقف المنهزمين؟ إننا شغلنا عن النقد الأدبي بأنفسنا وأموالنا وإيثارنا للعافية ومجاراتنا للسلطان.
والغريب أن أريك هذا في إخوانك الكتاب يظهر أنه قد أعجبك حتى ألهاك عن حقائق ما كان ينبغي أن تلهو عنها. فهؤلاء الكتاب المنهزمون في رأيك لم تشغلهم هذه السياسة العنيفة المنكرة عن الأدب ولا عن النقد.
وإنك لتعلم أنهم جميعا كانوا يخاصمون في السياسة وجه النهار، ثم يفرغون
لأدبهم آخر، وكلهم قد أنتج في الأدب أثناء المحنة وفي الأدب الخاص الذي لا يتصل بالسياسة ولا يمت إليها بسبب، ومن منهم اتخذ السجن وسيلة إلى هذا الإنتاج.
وبعد فليس السبيل على الذين أدوا واجبهم الأدبي كما استطاعوا وما زالوا يؤدونه كما يستطيعون، وإنما السبيل على الذين يتاح لهم الهدوء ويستمتعون بالبال الرضي والحياة المستقيمة المطمئنة ثم لا ينقدون لأنهم لا يقرءون، أولا ينقدون لأنهم يقرءون ويشفقون إن أعلنوا آراءهم أن يتنكر لهم الناس وأن يسلقهم أصحاب الكتب بألسنة حداد.
3-
أحمد أمين:
شرحت وجهة نظري في بعض وجوه العيب في النقد العربي من ناحيتهم العامة. فإن1 أراد أخي طه أن يحورها من عمومها إلى شخصياتها وينقل المسألة من النقد الأدبي إلى النقد السياسي ويجعل الأمر يدور حول أنا وأنت ونقدت ولم تنقد، وكتبت ولم تكتب، وبئست ونعمت، وشقيت وسعدت لم أجاره في ذلك، ووقفت حيث أنا إلا أن يعود إلى أساس النظرية ويقرع حجة بحجة وبرهانا ببرهان فإني إذن أساجله القول حتى ينجلي الحق ويظهر الصواب.
2-
إني أقارن2 بين النقد من نحو عشرين عاما والنقد الآن فأجده ليس خاضعا لسنة النشوء والارتقاء. بل لسنة التدهور والانحطاط حتى وصل إلى حالة من العجز يرثى لها.
1 الرسالة 15 يونيه 1936.
2 الرسالة أول نوفمبر 1936.
فقد كان الكتاب إذا ظهر هبت الصحف والمجلات لعرضه ونقده فاللغوي ينقد نقدًا لغويا والمؤرخ ينقده نقدا تاريخيا والأديب ينقده نقدًا أدبيا وتثور معركة حامية بين أنصار الكتاب وأعداء الكتاب.
ولست أنسى ما كان يقوم به الأستاذ إبراهيم اليازجي في نقده لمجاني والأدب وأقرب الموارد كما لست أنسى ما نقد به كتاب التمدن الإسلامي وكان شوقي أو حافظ يقول القصيدة فيقوم ناقد معترض يبين معايبها، ومادح مقرظ يبين محاسنها ومن هذا وذاك يستفيد الأديب ويرقى الأدب.
وكان يؤلف الكتاب الذي مثل كتاب الإسلام وأصول الحكم فتنشب معارك حامية وينقسم المفكرون إلى معسكرين.
تعال فانظر معي الآن إلى ما وصلنا إليه. لقد كثرت الكتب يخرجها المؤلفون وأصبح الإنتاج الأدبي أضعاف ما كان. ولكن من الغريب أن تحدث هذه الظاهرة وهي رقي الأدب وانحطاط النقد.
ولكن ما هي علامات هذه الظاهرة في الأدب العربي؟
أهمها أن النقد الصريح الصحيح يحتاج إلى شجاعة أدبية قوية من الناقد ورحابة صدر من المنقود وقد حدث في تاريخ مصر الحديث أن جماعة تسلحوا بالشجاعة الأدبية في مصر فألفوا كتبا عبروا فيها أن آرائهم في جلاء ووضوح وكتبوا مقالات تعبر عما يختلج في نفوسهم وإن لم تكن على هوى الجمهور، ونقدوا أدب الأدباء وإن بلغوا القمة في نظر الناس فكان صراع بين القديم والحديث وبين التفكير الحر والتقاليد ولكن هذا الصراع انتهى بهزيمة هذه الطليعة من المعسكرين وتعرضوا للخطر في
1 الرسالة 15 نوفمبر 1943.
مناصبهم وأرزاقهم. ونالوا من العسف والعتب ما ليس في طاقتهم. وهذا يحدث مثله في كل أمة من الأمم الأوروبية ولكن كان هناك فرق كبير بيننا وبينهم. ذلك أن أصحاب الرأي الجديد في البلاد الراقية إذا أوذوا في العصر الحديث رأينا من مقلديهم وأتباعهم في الرأي من يمدونهم بالمال والمعونة.
أما في مصر فقد شعر القائمون بهذه الحركة الجديدة أنهم أصيبوا في سمعتهم وفي منصبهم وفي مالهم ثم رأوا أن أتباعهم تخلوا عنهم في أوقات الضيق ومن عطف عليهم منهم فعطف أفلاطوني، عطف يتبخر، عطف لا يمكن أن يتحول إلى مال أو مجهود.
وكان الرأي العام قويا مسلحا فتغلب وانتقم وأصبحت له السلطة التامة. وانهزم أمامه فريق المعسكرين الصرحاء هزيمة منكرة. ولم تعد له أمثلة كثيرة في تاريخه القريب فاضطر إلى التسليم بل وفي بعض الأحيان رجع عن رأيه إلى آرائهم، وعن منهجه إلى منهجهم وتعود المجاراة بدل المقاومة، والمداراة مكان الصراحة فلم يعد هناك معسكران ولم يعد صراع. وإنما هو واحد ولا قتال.
وتعلم الجيل اللاحق من الجيل السابق فاختط خطته ونهج منهجه وأخذ الدرس عن أخيه الأكبر ففضل السلامة وبذلك اختنق النقد الأدبي في مهده وأصبح الأدب مدرسة واحدة يختلف أفرادها اختلافا طفيفا في العرض لا في الجوهر لا مدارس متعددة تتناحر وتتعاون وتتعادى وتتصادق.
ولا أمل في عودة النقد الصريح إلا ببذرة جديدة وروح جديد.
ولعل من أسباب ضعف النقد "السياسة" قاتلها الله فقد تدخلت فنصرت
الجمهور على القادة، وعاونت الرأي العام على المفكرين وما كان الجمهور والرأي العام ينتصران هذا النصر لو وقفت السياسة على الحياد ولو فعلت لكانت الحرب سجالا ولظل المعسكران في قتال.
ثم إن السياسة دخلت في الأدب ولونت الأدب بلونه السياسي ولم يستطع الناس التفرقة بين موازين الأدب وموازين السياسة فأفسد ذلك الأدب والنقد معا.