الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
8 - كِتَابُ فَضَائِلِ القُرْآنِ
[8]
كِتَابُ فَضَائِلِ القُرْآنِ
(كِتَابُ فَضَائِلِ القُرْآنِ)
قوله: "الفضائل": جمع فضيلة، وهي الشيء الذي يفضل به الرجل على غيره، يقال: لفلان فضيلةٌ؛ أي: خصلةٌ حميدةٌ وشرفٌ وفضلٌ على غيره.
يبينُ في هذا الباب فضلَ القرآن على سائر الكلام، وفضلَ تعليمه وتعلمه على تعليم وتعلم غيرِهِ من الكلام.
مِنَ الصِّحَاحِ:
1509 -
روى عُثمان: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَه".
قوله: "خيرُكُم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمه"؛ يعني: إذا كان خيرُ الكلامِ كلامَ الله، فكذلك خيرُ الناس بعد النبيين مَنْ تعلَّم ويعلِّمُ كلامَ الله.
روى هذا الحديث عثمانُ بن عفان رضي الله عنه.
* * *
1510 -
وقال: "أَيُّكُمْ يُحِبُّ أنْ يَغْدُوَ كُلَّ يومٍ إلى بُطْحانَ أَوْ العَقِيقِ، فَيَأْتِيَ بناقَتَيْنِ كَوْماوَيْنِ في غَيْرِ إثْمٍ ولا قَطْعِ رَحِمٍ؟ "، قالوا: يا رسُولَ الله!، كُلُّنا يُحِبُّ ذلك، قال: "فَلأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ إلى المَسْجدِ فَيَعْلَمَ أو يَقْرَأْ آيَتَيْنِ مِنْ
كِتابِ الله تعالى خَيْرٌ لهُ مِنْ ناقَتَيْنِ، وثَلاثٌ خَيْرٌ لهُ مِنْ ثَلاثٍ، وأَرْبَعٌ خَيْرٌ لهُ مِنْ أرْبَعٍ ومِنْ أَعْدادِهِنَّ مِنَ الإِبلِ".
قوله: "أَيُّكم يحبُّ أن يغدوَ كل يوم إلى بُطْحانَ والعقيق"، (بطحان) و (العقيق): موضعان قريبان من المدينة، والعقيقُ الذي هو هذا غيرُ العقيق الذي هو ميقاتُ أهل الشرق قريبٌ من ذات عرق.
"كَوْمَاوَين": تثنية: كَوْماء، وهي الناقةُ العظيمةُ السَّنام.
"في غيرِ إثمٍ ولا قطعِ رحمٍ"؛ يعني: يجد ناقتين عظيمتين من غير سرقةٍ، ولا غصبٍ، ولا إيذاءِ قريبٍ له.
قوله: "وثلاث خير من ثلاث"؛ يعني: وثلاثُ آياتٍ خيرٌ من ثلاث من الإبل، وأربعُ آيات خيرٌ من أربع من الإبل.
قوله: "ومن أعدادِهنَّ من الإبل"، (من الإبل) بدل من (أعدادهن) أو بيان له؛ أي: من أعداد من الإبل، وهذا يتعلَّقُ بقوله: اثنين، وبقوله: ثلاث، وبقوله: أربع آيات؛ يعني: آيتان خيرٌ من عدد كثير من الإبل، وثلاث آيات وأربع آيات خيرٌ من عدد كثير من الإبل؛ لأن قراءةَ القرآن تنفعُ الرجل في الدنيا والآخرة بأن يُحفَظَ ببركته من البلاء في الدنيا، ويُعطَى الجنة في الآخرة، وأما الإبل فمتعلقة بتمتُّع الدنيا، والآخرةُ خيرٌ وأبقى.
روى هذا الحديث: عقبةُ بن عامر.
* * *
1511 -
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إذا رَجَعَ إلى أَهْلِهِ أنْ يَجدَ فيهِ ثلاثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سمَانٍ؟ "، قلنا: نَعم، قال:"فثَلاثُ آياتٍ يَقْرَأُ بِهِنَّ أَحَدُكُمْ في صَلاتِهِ خَيْرٌ لهُ مِنْ ثَلاثِ خَلِفَاتٍ عِظامٍ سمَانٍ".
قوله: "أن يَجِدَ فيه"؛ أي: في طريقه.
"الخَلِفَات": جمع خَلِفة، وهي الناقة الحامل.
* * *
1512 -
وقال: "المَاهِرُ بالقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، والذي يَقْرِأُ القُرْآنَ ويَتَتَعْتَعُ فيهِ وهو عليهِ شاقٌّ لهُ أجْرانِ".
قوله: "الماهرُ بالقرآن مع السَّفَرَةِ الكرامِ البَرَرَة"، (الماهر): الحاذق، يحتمل أن يريد به: جودةَ الحفظ والمهارةَ في القرآن، ويحتمل أن يريد به: جودةَ اللفظ وإخراجَ كلِّ حرف من مخرجه.
(السَّفَرة): جمع سافر، وهو الكاتب والمصلح بين القوم؛ فإن كان من السِّفْر بمعنى: الكَتَبَةِ، يريد به: الملائكة الذين يكتبون أعمال العباد، وإن كان من السَّفْر الذي هو بمعنى: الإصلاح، يريد به: الملائكة الذين ينزلون بأمر الله فيما فيه مصلحةُ العباد، كحفظِهم عن الآفات، ودفعِهم عن المعاصي، وإلقاءِ الخير في قلوبهم.
(الكِرام): جمع كريم، و (البَرَرة): جمع بار، وهو المحسنُ.
يعني: من كان كاملًا في حفظ القرآن وقراءته فهو مع هؤلاء الملائكة: ومناسبة كونه مع هؤلاء الملائكة: أن هؤلاء الملائكة يكونون كاملين بحفظ الإنسان من الآفات بأمر الله وبحفظ أعمالهم من الخير والشر، فيكون بين الماهر بالقرآن وبين هؤلاء الملائكة مشابهةٌ في جودة الحفظ.
قوله: "والذي يقرأُ القرآنَ، ويَتَتَعْتَعُ فيه، وهو عليه شاقٌّ، فله أجران".
تَعْتَعَ لسانُهُ: إذا توقَّفَ على الكلمات وعثرَ لسانُهُ؛ أي: الذي لا يطيعه لسانه في القراءة له أجران؛ أجرُ القراءة وأجرُ تحمل المشقة.
فإن قيل: ذكر للمتعتع لسانه أجرين، ولم يذكر للماهر أجرين، فلزم من هذا أن يكون المتعتعُ أفضلَ من الماهر.
قلنا: لا يلزم هذا؛ لأن رسول الله عليه السلام ذكر لكلِّ واحد فضيلةً؛ ليكون تحريضًا له على القراءة، فذكر للمتعتع حصول أجرين، وذكر للماهر كونه مع السفرة، فكون الرجل مع السفرة لا ينقص من حصول أجرين.
روت هذا الحديث عائشة.
* * *
1513 -
وقال: "لا حَسَدَ إِلَّا في اثْنَتَيْنِ: رجُلٌ آتاهُ الله القُرْآنَ، فهو يَقُومُ بهِ آناءِ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ، ورجُلٌ آتاهُ الله مالًا فهو يُنْفِقُ منهُ آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ".
قوله: "لا حسدَ إلا على اثنين"، الحسد هنا بمعنى: الغبطة؛ لأن الحسدَ أن يتمنَّى الرجلُ زوالَ النعمة من أحد، وهذا لا يجوزُ في الشرع.
والغبطةُ: ألَّا يتمنَّى زوالَ النعمة من أحد، ولكن يتمنَّى أن يكون مثله، وهذا جائزٌ في الشرع؛ يعني: لا ينبغي للمسلم أن يكون مثلَ صاحبِ نعمةٍ في النعمة إلا أن تكونَ تلك النعمةُ تقرِّبه إلى الله، كتلاوة القرآن، والتصدق بالمال، وغيرهما من الخيرات.
روى هذا الحديث ابن عمر.
* * *
1514 -
وقال: "مثَلُ المُؤْمِن الَّذي يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ ريحُها طَيبٌ وطَعْمُها طَيبٌ، ومَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذي لا يَقْرَأُ القُرآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ لا رِيحَ لها وطَعْمُها حُلْوٌ، ومَثَلُ المُنافِقِ الَّذي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الحَنَظَلَةِ لَيْسَ لَها ريحٌ وطَعْمُها مُرٌّ،
وَمَثَلُ المُنافِقِ الَّذي يَقَرْأُ القُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحانَةِ ريحُها طَيَّبٌ وطَعْمُها مُرٌّ".
وفي روايةٍ: "المُؤْمِنُ الَّذي يَقْرأُ القُرْآنَ ويَعْمَلُ بهِ كالأُتْرُجَّة، والمُؤْمِنُ الَّذي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ ويَعْمَلُ بهِ كالتَّمْرَة".
قوله: "مثلُ المؤمِنِ الَّذي يقرأُ القرْآنَ
…
" إلى آخره؛ يعني: الأُتْرجَّةُ طعمها طيب وريحها طيب، فالمؤمنُ الذي يقرأ القرآن هكذا من حيثُ إن الإيمانَ في قلبه ثابتٌ طيب الباطن، ومن حيث إنـ[ـه] يقرأُ القرآن، ويستريحُ الناسُ بصوته، ويَجِدون الثوابَ بالاستماع إليه، ويتعلمون القرْآنَ منه = مثلُ رائحة الأترجة يستريح الناس برائحتها.
والمؤمنُ الذي لا يقرأُ القرآن طيبٌ باطنُهُ وذاتُهُ بالإيمان، ولكن لا يستريحُ الناسُ بقراءته القرآنَ، وهو كالتمرِ، طعمُهُ حلوٌ، وليس له رائحةٌ يستريحُ الناسُ بها من البُعدِ.
ومثل المنافق الذي لا يقرأُ القرآنَ كمثل الحنظلة؛ لأن باطنَهُ خبيثٌ بكتمانه الكفرَ، ولا يحصل من ظاهره خيرٌ لأحد.
والمنافقُ الذي يحصل منه راحةٌ إلى الناس باستماعهم القرآن منه كمثل رائحةِ الريحانةِ، ولكنَّ باطنَهُ خبيثٌ بكتمان الكفر، كطعم الريحانة.
روى هذا الحديث أبو موسى الأشعريُّ.
* * *
1515 -
وقال: "إنَّ الله تعالى يَرْفَعُ بهذا الكَتابِ أقْوامًا ويَضَعُ بهِ آخَرِين".
قوله: "إن الله يرفعُ بهذا الكتابِ أقوامًا ويضعُ به آخرين"؛ يعني: من آمنَ بالقرآن وعظَّم شأنَهُ وعمل به، يرفع الله درجته في الآخرة، ويرزقه عزة وشرفًا، ومن
لم يؤمن به أو لم يعمل به أو لم يعظِّم شأنَه، يذلُّه الله تعالى في الدنيا والآخرة.
روى هذا الحديث عمرُ بن الخطاب.
* * *
1516 -
وعن أبي سَعيد الخُدْري رضي الله عنه: أنَّ أُسَيد بن حُضَيرٍ بَيْنَما هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مربُوطٌ عِنْدَهُ إذْ جالَتْ الفَرَسُ، فسكَتَ فسَكَنَتْ، فقَرَأَ فجَالَتْ، فسَكَتَ فسَكَنَتْ، ثُمَّ قَرَأَ فجالَتْ، فلمَّا أصْبَحَ حَدَّثَ بهِ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: فَرَفَعْتُ رأْسي إلى السَّماءِ، فإذا مِثْلُ الظُّلةِ فيها أَمْثالُ المَصَابيحِ عَرَجَتْ في الجَوِّ حتَّى لا أَراها، قال:"تلكَ المَلائِكةُ دَنَتْ لِصَوتِكَ، ولَوْ قَرَأْتَ لأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إلَيْها لا تَتَوارَى مِنْهُم".
قوله: "إذ جَالت الفرسُ"، (جالت)؛ أي: تحرَّكت؛ يعني: رأت الفرسُ الملائكةَ الذين نزلوا واستمعوا إلى القرآن، فنفرت الفرسُ خوفًا.
"فسكت فسكنت" يحتمل أن يكون تحرُّكُ الفرس عند القراءة لدنوِّ الملائكة، وسكونُ الفرس عند سكوته عن القراءة لعروج الملائكة إلى الهواء حين ترك القارئ القراءة، فسكنت الفرسُ إذا بعدت الملائكة.
ويحتمل أن يكون تحركُ الفرس عند سماع القراءة؛ لوجدانها ذوقًا وراحة من سماع القراءة، فتتحرَّك لذلك الذوقِ، وإذا سكت القارئُ تسكن الفرس؛ لذهاب ذلك الذوق منها، كقوله تعالى:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21].
قوله: "فإذا مِثلُ الظُّلةِ فيها أمثالُ المصابيح"، (الظلة): ما يقي الرجلَ من الشمس مثل سحابٍ أو سقفٍ وغير ذلك، والمراد: مثل سحابة "فيها أمثالُ المصابيح"، وكانت تلك المصابيح ملائكة، يظهر نورُ كلِّ ملكٍ للقارئ مثل مصباح.
قوله: "ولو قرأت به
…
" إلى آخره؛ يعني: لو لم تسكتْ لَمَا ذهبت الملائكةُ، فإذا أصبحتَ ينظرُ الناس إلى الملائكةِ الذين جاؤوا لاستماعِ قراءتك.
"لا تَتوارَى"؛ أي: لا تستتِرُ من أبصار الناس، الضمير في "إليها" يعود إلى الظلة.
* * *
1517 -
عن البَرَاء رضي الله عنه قال: كانَ رجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الكَهْفِ وإلى جانِبهِ حِصانٌ مَرْبُوطٌ بشَطَنَيْنِ، فتَغَشَّتْه سَحابةٌ، فجَعَلَتْ تَدْنُو وتَدْنُو، وجَعَلَ فرَسُهُ تَنْفِر، فلمَّا أَصْبَحَ أتَى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فذَكَرَ ذلك لهُ فقال:"تِلكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بالقُرْآنِ".
قوله: "وإلى جانبه حصان"، (الحصان): الفرس الذكر.
"بشَطَنَينِ" بفتح الطاء؛ أي: بحبلين.
"فتغشَّته سحابةٌ"؛ أي: سترته؛ أي: وقفت فوق رأسه كقطعةِ سحابٍ.
"فجعلَتْ"؛ أي: فطفقت تلك السحابةُ "تدنو"؛ أي: تقرب من العلو إلى السفل؛ لسماع قراءة القرآن.
"السكينة" هنا يراد به: ملك الرحمة.
* * *
1518 -
عن أبي سَعيد بن المُعَلَّى رضي الله عنه قال: كُنْتُ أُصَلِّي، فدَعاني النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ أُجِبْه حتَّى صَلَّيْتُ، ثمَّ أتَيْتُ، فقال:"ما مَنَعَكَ أَنْ تَأتِيَني؟ "، فقلتُ: كُنْتُ أُصَلِّي، فقال:"أَلَمْ يَقُلِ الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} "، ثُمَّ قال:"أَلا أُعَلِّمُكَ أعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآنِ قَبْلَ أنْ أخْرُجَ مِنَ المسْجِدِ؟ "،
فأخَذَ بِيَدي، فلمَّا أَرَدْنا أنْ نَخْرُجَ قُلْتُ: يا رسُولَ الله!، إنَّكَ قُلتَ:"ألا أُعَلِّمُكَ أعْظَمَ سُوَرةٍ في القُرْآنِ"، قال:" {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هيَ السَّبْعُ المَثاني، والقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذي أُوتِيتُهُ".
قوله: "ألم يقل الله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} "، هذا دليلٌ على أن إجابةَ الرسولِ إذا دعا أحدًا في الصلاة لا تُبْطِلُ الصلاةَ، كما أنك تخاطب الرسولَ في الصلاة تقول: سلام عليك أيها النبي، ولا يجوز هذا مع غيره عليه السلام.
قوله: "أعظم سورة"، سمَّى الفاتحة أعظم سورة؛ لأن فيها ذكر حمد الله، وذكر رحمانيته ورحيميته، وذكر تفرُّدِهِ بالملك، وذكر عبادة العباد إياه، وذكر استعانتهم إياه، وذكر سؤال العباد منه، وهذه الأشياءُ عظيمةٌ عند الله تعالى، وليس فيها شيءٌ من قصص الأمم وذكر الكفار، وليس سورةٌ بهذه الصفة غيرَهَا.
قوله: "هي السبع المثاني"، سمَّاها السبع؛ لأنها سبع آيات، وسمَّاها المثاني؛ لأنها كررت في الصلاة في كلِّ ركعة مرة.
وقيل: (المثاني): جمع المَثْنَى، وهو بمعنى الثناء، كـ (المحمدة) بمعنى: الحمد، سميت المثاني على هذا القول؛ لِمَا فيها من الثناء على الله تعالى.
* * *
1519 -
وقال: "لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابرَ، إنَّ الشَّيْطانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ الَّذي يُقْرأُ فيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ".
قوله: "لا تجعلوا بيوتَكم مقابرَ"؛ يعني: لا تتركوا بيوتَكم خاليةً من تلاوة
القرآن، بل اقرؤوا في بيوتكم القرآنَ؛ فإن كلَّ بيت لا يُقرَأ فيه القرآن يشبه المقابرَ في عدم قراءة القرآن.
"إن الشيطانَ ينفِرُ من البيت الذي تُقرأ فيه سورةُ البقرة"، خصَّ سورة البقرة بفِرارِ الشيطان من البيت الذي تُقرَأ فيه؛ لطولها، وكثرة الأحكام الدينية، وكثرة أسماء الله تعالى العظيمة فيها.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
1520 -
وقال: "اقْرَأُوا القُرْآنَ، فإنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيامَةِ شَفِيعًا لِأصْحابهِ، اقْرأُوا الزَّهْراوَيْن: البَقَرَةَ وسُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فإنَّهُما تَأْتِيانِ يَوْمَ القِيامَةِ كأنَّهُما غَمامَتانِ أو غَيايَتانِ أو فِرْقانِ مِنْ طَيْرٍ صَوافَّ تُحاجَّانِ عَنْ أَصْحابهِما، اقْرأُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإنَّ أخْذَهَا بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا يَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ".
قوله: "اقرأوا الزهراوين"، (زهراوين): تثنية زهراء، والزهراء: تأنيث أزهر، والأزهرُ: المضيءُ شديد الضوء، سمَّى البقرة وآل عمران الزهراوين؛ لأنهما نوران، ولا شكَّ أن نورَ كلام الله أشدُّ وأكثرُ ضياء، وكلُّ سورة من سور القرآن زهراءُ؛ لما فيها من نورِ بيانِ الأحكام والمواعظ وغير ذلك من الفوائد، ولما فيها من شفاءِ الصدورِ وتنويرِ القلوب وتكثيرِ الأجر لقارئها.
قوله: "كأنَّهما غَمامتان أو غيايتان أو فِرْقانِ من طيرٍ صواف تحاجَّانِ عن أصحابهِما"، (الغمامة): السحابة. (الغياية): بياءين المنقوطة من تحتها بنقطتين، وهي ظلُّ السحاب.
(الفِرْق): جماعة من الطير.
(صوافَّ): جمع صافة، وهي الجماعة التي تقف على الصفِّ، وجماعة
الطير ترفع أجنحتها بعضها بجنب بعض.
(الطير): جمع طائر، وقد يُستعمَل الطير على الواحد.
و (أو) في (أو غيايتان أو فرقان) يحتمل أن تكون للشك من الراوي، ويحتمل أن تكون للتخيير في تشبيهِ هاتين السورتين بغمامتين أو غيايتين أو فِرقين؛ يعني: إن شئتَ شبههما بغمامتين، وإن شئتَ شبههما بغيايتين، وفِرقين من الطير، يجيئان فوق رأس قارئهما يوم القيامة تُظِلانه عن حرِّ الشمس يومئذ.
قوله: "تحاجَّان عن أصحابهما"؛ يعني: تدفعان الجحيم والزبانية والأعداء عن الذين قرؤوهما في الدنيا، وتشفعان لهم عند الله، وجعلُ صورتِهِما كالغمامتين يحتمل أن يكون لها عظمةٌ وخوفٌ في قلوب أعداء قارئهما.
قوله: "ولا يستطيعها البَطَلَةُ"، (البطلة): جمع باطل، والباطل: ضد الحق، والباطل: الكسلان، يحتمل أن يكون معناه: لا يقدر الكسلان أن يتعلمَ سورة البقرة لطولها، ويحتمل أن يكون معناه: أن أهل السحر والباطل لا يجدون التوفيقَ لتعلُّمها ودِرايتها.
روى هذا الحديث بُريدةُ.
* * *
1521 -
وقال: "يُؤْتى بالقُرْآنِ يومَ القِيامَةِ وأَهْلِهِ الذينَ كانُوا يَعْمَلُونَ بهِ تَقْدُمُهم سُورَةُ البَقَرَةِ وآلُ عِمْرانَ، كأنَّهما غَمامَتانِ أو ظُلَّتانِ سَوْداوانِ بَيْنَهُما شَرْقٌ، أو كأَنَّهُمَا فِرْقانِ مِنْ طَيْرٍ صَوافَّ تُحاجَّانِ عَنْ صاحِبهِما".
قوله: "يُؤتَى بالقرْآن يومَ القيامة وأهلِهِ الذين كانوا يعملونَ به"، هذا إعلامٌ بأنَّ من قرأ القرآن ولم يعملْ به - أعني: لا يحرِّمُ حرامَهُ، ولا يحلِّلُ حلاله، ولا يعتقد عظمته وحرمته - لم يكن القرآن شفيعًا له يوم القيامة، وليس له حظٌّ من تلاوته.
قوله: "تقدمُهُ سورةُ البقرة وآل عمران"؛ يعني: يجعل الله للقرآن صورةً تجيء يوم القيامة بحيث يَراه النَّاسُ؛ ليشفع لقارئه، كما يجعل الله لأعمالِ العباد خيرِها وشرها صورةً تُوضَعُ في الميزان بحيث يراه الناسُ، ويقبلُ المؤمنُ هذا بالإيمان؛ لأنه ليس للعقل إلى مثل هذا سبيلٌ.
وقوله: "تقدمه سورة البقرة" هذا يدلُّ على أنَّ هاتين السورتين أعظمُ من غيرهما؛ لأنهما أطولُ، والأحكام فيهما أكثرُ.
قوله: "كأنهما غمامتان أو ظُلَّتان سوداوان بينهما شرقٌ"، (الشرق) بسكون الراء: الضوءُ والانفراجُ؛ يعني: بينهما فاصلة من الضوء، يحتمل أن تكون هذه الفاصلةُ بينهما لتمييزِ إحدى السورتين من الأخرى، كما فُصِل بين السورتين في المصحف بالتسمية.
قيل: إنَّما جُعِلتا كالظُّلتين؛ لتكونَ أخوفَ وأشدَّ تعظيمًا في قلوب خصمائهما؛ لأنَّ الخوف في الظلةِ أكثرُ.
روى هذا الحديث نوَّاسُ بن سَمعان.
* * *
1522 -
وعن أُبيِّ بن كَعْبٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يا أَبا المُنْذِرِ!، أَتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِنْ كتابِ الله مَعَكَ أعْظَمُ؟ "، قُلتُ: الله ورسُولُه أعلَمُ، قال:"يا أَبا المُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيةٍ مِنْ كتابِ الله مَعَكَ أعْظَمُ؟ "، قُلتُ:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، قال: فَضَرَبَ بِيَدهِ في صَدْرِي وقال: "لِيَهْنِكَ العِلْمُ يا أَبا المُنْذِرِ".
ثم قال: "والذي نفس محمد بيده، إنَّ لهذِهِ الآيةِ لِسانًا وشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ المَلِكَ عِنْدَ ساقِ العَرْشِ".
قوله: "يا أبا المنذرِ! أتدري أيُّ آيةٍ من كتاب الله معك أعظمُ؟ "، (أبو المنذر): كنية أُبيَّ بن كعب.
كان أبيٌّ يعلمُ أيَّ آية أعظم حين سأله رسول الله عليه السلام عن ذلك، ولكن لم يجبه تعظيمًا لرسول الله عليه السلام، وتواضعًا عن نفسه؛ فإنه لو أجابه أولَ ما سأله، لكان إظهارًا لعلمه.
ويحتمل أنه سكت عن الجواب؛ لتوقُّعِ أنَّ رسول الله عليه السلام يخبره بآية أخرى أنها أعظم، أو يخبره بفائدة، فلمَّا كرَّر النبيُّ السؤالَ علم أن النبي عليه السلام يطالبه بالجواب، ويريدُ امتحانَ حفظه ودرايته فيما أخبره عليه السلام قبل هذا، فأجابه بأن أعظمَ الآيات آيةُ الكرسي؛ لأن فيها بيانَ أن لا إله إلَّا الله، وبيانَ كونه حيًا قيومًا، وأن لا تأخذه سنة ولا نوم، وأن ملك السماوات والأرض له، وبيانَ قهره وعظمته بحيثُ لا يقدر أحدٌ على الشفاعة إلَّا بأمره، وبيانَ أنه يعلمُ جميعَ الأشياء؛ ماضيها ومستقبلها، وبيانَ أنه لا يعلم الغيبَ أحدٌ غيرُه إلَّا هو إلَّا بتعليمه، وبيانَ أن كرسيَّه عظيم بحيث السماوات والأرض فيه كحلقة في مَفازة، وبيانَ أنه تعالى يحفظُ السماوات والأرض بحيث لا يصلُ إليه ثقل وتعب، وبيانَ أنه أعلى من كل شيء، وأعظم من كل شيء، وهذه الأشياء ليست موجودةً مجموعةً في آية سوى هذه الآية.
قوله: "فضربَ في صدري"؛ أي: ضربَ رسولُ الله عليه السلام يده على صدري من التلطُّف، "فقال: ليَهْنِكَ العلمُ"؛ أي: ليكن العلم هنيئًا مريئًا، هذا دعاءٌ له، وإخبارٌ بأنه عالم.
* * *
1523 -
عن أبي هُريرة رضي الله عنه أنّه قال: وَكَّلَني رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بحِفظِ زَكاةِ رمَضانَ، فَأتاني آتٍ، فجَعَلَ يَحْثو مَنَ الطَّعامِ، فأخَذْتُهُ فقلتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إلى
رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، قال: دَعْني، إنِّي مُحْتاجٌ، وعَلَيَّ عِيالٌ، ولي حاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قال: فَخَلَّيْتُ عنهُ، فأصْبَحْتُ فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"يا أبا هُرَيْرَةَ، ما فعلَ أسِيرُكَ البارِحَةَ؟ "، قلتُ: يا رسولَ الله!، شكا حاجةً شَدِيدَةً وعِيالاً، فرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، قال:"أما إنَّهُ سَيَعُودُ"، فَرَصَدْتُهُ، فجاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعامِ، فأَخَذْتُهُ، وقلت: لأَرْفَعنَّكَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قال: دَعْني، فإنِّي مُحْتاجٌ، وعليَّ عَيالٌ، ولا أَعُودُ، فرَحِمْتُهُ فخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، فأصْبَحْتُ فقالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"يا أبا هُرَيْرَةَ، ما فعلَ أَسِيرُكَ البارحةَ؟ "، قلتُ: يا رسُولَ الله، شَكا حاجَةً وعِيالاً، فرحِمتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، فقالَ:"أما إنَّهُ كَذَبَكَ، وسَيَعُودُ"، فرصَدْتُهُ، فجاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعامِ، فأَخَذْتُهُ فقلتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إلى رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخِرُ ثَلاثٍ مَرَّاتٍ، أنَّك تَزْعُمُ لا تعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ، قال: دَعني أُعَلِّمُكَ كَلماتٍ يَنْفَعُكَ الله بها: إذا أَوَيْتَ إلى فَراشِكَ، فاقرَأْ آيةَ الكُرْسي:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتَّى تَخْتِمَ الآيةَ، فإنَّكَ لا يَزالُ عَلَيْكَ مِنَ الله حَافِظٌ، ولا يَقْرَبُكَ شَيْطانٌ حتَّى تُصْبحَ، فَخَلَّيْتَ سَبيلَهُ، فأصْبَحْتُ، فقال لي رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"ما فعلَ أسِيرُكَ؟ "، قلتُ: زَعَمَ أنَّهُ يُعَلِّمُني كَلِماتٍ يَنْفَعُني الله بها، قال:"أما إنَّهُ صَدَقَكَ وهو كذوبٌ، أتَعْلَمُ مَنْ تخاطِبُ منذُ ثلاثِ ليالٍ؟ "، قال:"ذاكَ شيطانٌ".
قوله: "يحفظ زكاة رمضان"؛ يعني: جمع زكاة الفطر؛ ليفرقها رسولُ الله عليه السلام على الفقراء.
وهذا دليلٌ على جواز جمع الجماعة زكاةَ فطرِهم، ثم وكَّلوا أحدًا ليفرِّقها على الفقراء.
قوله: "فجعل"؛ أي: فطفِقَ "يحثو"؛ أي: ينثرُ ويأخذُ "من الطعام"؛ أي: من الزكاة التي كنتُ أحفظُها؛ يعني: يأخذ من تلك الزكاة، ويجعل في ذيلِهِ، أو في وعائِهِ.
قوله: "لأرفعنَّكَ إلى رسولِ الله عليه السلام"؛ يعني: لأذهبن بك إلى رسولِ الله عليه السلام؛ ليقطعَ يدك؛ لأنك سارق.
قوله: "فخليت عنه"؛ أي: تركته.
قوله: "أما أنه"؛ أي: اعلمْ أنه "سيعود".
قوله: "فرصدته"؛ أي: انتظرته.
قوله: "أمَا إنه صدَقَكَ وهو كَذوبٌ"؛ يعني: صدقك في هذا التعليم؛ فإنه من قرأ آية الكرسي يصيرُ محفوظًا من شرِّ الأشرار ببركتها، ولكنه كذَّابٌ في سائرِ أقواله وأفعاله؛ لأنه إبليس قلَّما يصدرُ منه صدقٌ.
وهذا الحديثُ يدلُّ على أن تعلمَ العلم جائزٌ ممن لم يعملْ بما يقول بشرط أن يَعلَمَ المتعلمُ كونَ ما يتعلَّمه حسنًا، وأمَّا إذا لم يعلم حسنَهُ وقبحَهُ، لا يجوز أن يتعلَّمَ إلَّا ممَّن عرفَ ديانته وصلاحه.
* * *
1524 -
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: بَيْنَما جِبْريل عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إذْ سَمِعَ نَقِيضًا مِنْ فَوْقِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فقال: هذا بابٌ مِنَ السَّمَاءِ فُتحَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إلَّا اليَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ إلى الأرضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إلَّا اليْومَ، فَسَلَّمَ فقال: أَبْشِرْ بنورَيْنِ أُوتِيتَهُما لَمْ يَؤْتَهُما نَبيٌّ قَبْلَكَ: فاتحة الكِتابِ وخَواتِيمَ سُورَةِ البقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إلاّ أُعْطِيتَهُ.
قوله: "سمعَ نَقِيضًا"؛ أي: سمع رسولُ الله عليه السلام صوتًا من قبل السماء، فرفع رسولُ الله عليه السلام رأسَهُ، فقال له جبريلُ: فُتِحَ الآن بابٌ من أبواب السماء، لم يُفتَحْ هذا البابُ قبل هذه الساعة
…
إلى آخر الحديث.
قوله: "وخواتيم سورةِ البقرةِ"؛ يعني: {آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285]
…
إلى آخر السورة.
قوله: "إلا أُعطِيتَهُ"؛ يعني: أعطيت ثوابَ ما تقرأ، أو أُعطِيت ما تسألُ من الله الكريم من حوائجك في الدنيا والآخرة.
* * *
1525 -
عن عبد الله رضي الله عنه قال: لمَّا أُسْرِيَ برسُولِ الله صلى الله عليه وسلم انْتُهِيَ بهِ إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، فأُعْطِيَ ثَلاثًا: الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وخَوَاتِيمَ سُورةِ البقَرَةِ، وغُفِرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بالله مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا المُقْحِمَاتُ.
قوله: "وغُفِرَ لمن لا يشركُ بالله من أمته شيئًا المُقحِماتُ": مفعول ثانٍ لـ (غفر) والمفعول الأول (لمن لا يشرك).
و (المُقحِمات): جمع مُقحِمة، وهي اسم فاعل من (أقحم): إذا أدخل شيئًا في موضعِ بالعُنفِ، و (أقحم): إذا أهلك، والمراد ها هنا بالمقحمات: الذنوب الكبائر التي تُدخِلُ صاحبَها النار؛ يعني: أعطى الله نبيَّه الشفاعةَ لأهل الكبائر.
* * *
1526 -
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الآيتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البقَرَةِ منْ قَرَأَ بِهِمَا في لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ".
قوله: "آيتانِ من آخرِ سورةِ البقرةِ مَنْ قرأ بهما في ليلةٍ كفتاه"، أراد بهاتين الآيتين:{آمَنَ الرَّسُولُ} [البقرة: 285]
…
إلى آخر السورة.
(كفتاه)؛ أي: دفعتا عن قارئهما شرَّ الإنس والجن، وهو من (كفى يكفي كفاية): إذا دفعَ عن أحد شيئًا، وأغناه.
روى هذا الحديث أبو مسعودٍ الأنصاريُّ.
* * *
1527 -
وقال: "مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آياتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ".
قوله: "مَنْ حفظَ عشرَ آياتٍ من أولِ سورةِ الكهفِ عُصِمَ من الدجَّالِ"؛ يعني: من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف وقرأها، حفظَهُ الله تعالى من فتنةِ الدجَّالِ ببركتها.
روى هذا الحديث أبو الدَّرداءِ.
* * *
1528 -
وقال: "أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ في لَيْلَةٍ ثُلُثَ القرآنِ؟ "، قالوا: وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ القُرْاَنِ؟، قال:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ".
قوله: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدلُ ثُلثَ القرآنِ"، (تعدل)؛ أي: تكون مثل "ثلث القرآن"؛ يعني: من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فكأنَّه قرأَ ثُلثَ القرآن، فيُعطَى ثوابَ من قرأ ثلث القرآن.
قال المفسِّرونَ في تفسير هذه السورة في معنى هذا الحديث: إنما قال رسولُ الله عليه السلام: " {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدلُ ثُلثَ القرآن"؛ لأن القرآن يشتمل على ثلاثة أشياء:
أحدها: توحيد الله وصفاته.
والثاني: تكليف العباد من الأمر والنهي وغيرهما من الأحكام.
والثالث: المواعظ والقصص التي يتَّعظُ بها.
و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أحدُ هذه الأقسامِ الثلاثة، فتكون ثلثَ القرآنِ.
روى هذا الحديث أبو سعيد الخُدريُّ.
* * *
1529 -
وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رجُلاً على سَرِيَّةٍ وكان يَقرَأُ لأِصْحَابهِ في صَلَاتِهِمْ، فيَخْتِمُ بـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذلكَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فقال:"سَلُوهُ، لأِيَّ شيءٍ يَصْنَعُ ذلك؟ "، فَسَأَلوهُ فقالَ: لأِنَّها صِفَةُ الرَّحْمنِ، وأَناَ أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَها، فقالَ النبي صلى الله عليه وسلم:"أَخْبرُوهُ أَنَّ الله يُحِبُّهُ".
قوله: "بعثَ رجلًا على سَريَّة"؛ أي: جعل رجلًا أميرَ الجيش.
"فكان يقرأ لأصحابه"؛ يعني: كان إمامًا لهم في الصلوات، فيقرأُ في جميعِ الصلوات:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .
* * *
1531 -
وعن عُقبة بن عامِر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألمْ تَرَ آياتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ".
قوله: "لم يُرَ مثلهُنَّ قطُّ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} "؛ يعني: لم تكنْ آياتُ سورةٍ كلُّهنَّ تعويذٌ للقارئ من شرِّ الأشرار غيرَ هاتين السُّورتين، ففي التعويذِ قال عليه السلام:"لم يُرَ مثلهن".
وسببُ نزول هاتين السورتين: أن غلامًا من اليهود كان يخدُمُ رسولَ الله عليه السلام، فقال له اليهود: أعطنا مُشاطَة محمد عليه السلام؛ لنسحرَ محمدًا؛ أي: الشعور التي نزلت من رأسه ولحيته بالمشط، وأعطنا بعضَ أسنانِ مشطه؛ لنسحرَ محمدًا عليه السلام بهما، فأعطاهم الغلامُ ما طلبوا منه، فسحر لبيدُ بن الأعصمِ اليهودي رسولَ الله عليه السلام بتلك المُشاطة وأسنان المشط، وتغيَّرَ رسول الله عليه السلام من ذلك، وظهر مرضٌ بحيث يذوبُ بدنُهُ وينتثرُ
شعرُ رأسه، ولا يدري سببَ مرضه، وانتهت حاله إلى أنه يظن شيئًا أنه فعلَهُ، ولم يفعلْهُ.
فبقيَ على هذه الحالة ثلاثةَ أيام، فكان يومًا نائمًا، فأتاه ملكان، فجلس أحدُهما عند رأسه، والآخرُ عند رجله، فقال الذي عند رجله للذي عند رأسه: ما بال الرجل؟ قال: طُبَّ. قال: وما طُبَّ؟ يعني: وأي شيء معنى طُبَّ؟ فقال: سُحِر؛ يعني: معنى طُبَّ سُحِر، قال: ومن سحَرهُ؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: فبم طَبَّه؟ قال: بمشط ومشاطة، قال: أين هو؟ قال: هو في جُفَّ طلعةٍ تحتَ راعوفةٍ في بئر ذَرْوانَ.
(في جُفَّ طَلْعةٍ)؛ أي: في قِشْرة طلعِ نخلةٍ.
(تحت راعوفة)؛ أي: تحت حجرِ الراعوفةِ الذي يكون في البئر، يقعدُ عليه الرجلُ؛ ليأخذ الماءَ من البئر.
وإنما قال الملكان هذا؛ ليعلمَ رسول الله عليه السلام ذلك، فعلم رسولُ الله عليه السلام؛ لأنَّ عينَهُ تنام وقلبُهُ لا ينام.
فلمَّا انتبهَ رسولُ الله عليه السلام، قال لعائشة: أما علمتِ أنَّ الله أخبرني بدائي، ثم بعثَ عليًا والزبير وعمار بن ياسر رضي الله عنهم، فنزحوا - أي: نزعوا - ماءَ تلك البئر، وماؤها كنُقاعةِ الحناء؛ يعني: كأنه أُلقِي فيها الحناء، فأخرجوا ذلك الجُفَّ، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان مشطه، وإذا وترٌ معقودةٌ فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر.
فجاء جبريلُ لرسولِ الله عليه السلام بالمعوذتين، فقال جبريلُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ على هذه العُقَدِ هاتين السُّورتين، فقرأهما رسولُ الله عليه السلام، فكلَّما قرأ آية انحلت عقدة، ويجدُ رسولُ الله عليه السلام خفةً، وعددُ آيات هاتين السورتين إحدى عشرة، فلمَّا ختمَ السورتين انحلت جميعُ العقد، فوجدَ رسولُ الله - عليه
السلام - صحةً تامة.
قيل: يا رسول الله! فلا نأخذُ لبيدَ بن الأعصمِ؟ فقال: أما أنا فقد شفاني الله، وأكرهُ أن أُثير - أي: أهيج - على الناسِ شَرًا.
* * *
1532 -
وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ إذا أَوَى إلى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَع كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فيهِمَا، فَقَرَأَ فيهِمَا:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا ما اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا على رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وما أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثلاثَ مَرَّاتٍ.
قوله: "إن رسولَ الله عليه السلام كانَ إذا أوَى إلى فراشِهِ كلَّ ليلةٍ جَمَعَ كَفَّيهِ، ثمَّ نفثَ فيهما، فقرأ فيهما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ثم يمسح بهما"
…
إلى آخره.
"أوى إلى فراشِهِ"؛ أي: دخل فراشَهُ.
قوله: "فقرأ فيهما: {هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} "، الفاء للتعقيب، وظاهرُ الحديث يدلُّ على أنه عليه السلام نفث في كفَّيه أولاً، ثم قرأ، هذا لم يقل به أحدٌ، وليس فيه فائدةٌ، ولعل هذا سهوٌ من الكاتب، أو من الراوي؛ لأن هذا الحديثَ في "صحيح البخاري" بالواو في قوله:"وقرأ فيهما".
وهذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ النفثَ بعد تلاوة القرآن أو التعويذَ على الأعضاء مستحبٌّ؛ لوصول بركة القرآن واسم الله إلى بشرة القارئ والمقروء عليه.
ومعنى النفث: إخراج الريح من الفم مع شيء من الرِّيقِ.
* * *
مِنَ الحِسَان:
1533 -
عن عبد الرَّحَمن بن عَوْفٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"ثَلاثٌ تَحْتَ العَرْشِ يَوْمَ القيامَةِ: القُرْآنُ يُحَاجُّ العِبَادَ لَهُ ظَهْرٌ وبَطْنٌ، والأَمَانَةُ، والرَّحِمُ تُنادِي: ألا مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ الله، وَمَنْ قَطَعَني قَطَعَهُ الله".
"يُحاجُّ العبادَ"؛ يعني: يخاصمُ من لم يعملْ به ولم يعظَّم قدرَهُ، ويعاونُ من عمل به وعظَّم قدرَهُ.
قوله: "له ظهرٌ وبطنٌ"، ذكرنا بحثَ هذا في (باب العلم) في قوله:"أُنزِلَ القرآنُ على سبعةِ أحرفٍ".
* * *
1534 -
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُقَالُ لِصاحِبِ القُرْآنِ: اقْرَأْ، وارْتَقِ، ورَتَّلْ كَما كُنْتَ تُرَتَّلُ في الدُّنْيَا، فإنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُها".
قوله: يُقالُ لصاحبِ القرآنِ: اقرأْ وارتقِ ورتِّلْ كما كنتَ ترتلُ في الدنيا، فإنَّ منزلَكَ عند آخرِ آيةٍ تقرأُها".
قال الخطابي: قد جاء في الأثر: أنَّ عددَ آيِ القرآن على قدرِ دَرَجِ الجنة، فيقال للقارئ: اقرأ وارتق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن؛ فمن استوفى قراءة جميع آي القرآن، استولى على أقصى درج الجنة، ومن قرأ جُزءًا منها كان رُقيُّه في الدرج على قدر ذلك، فيكونُ منتهى الثوابِ عند منتهى القراءة.
(رقى وارتقى): إذا صعد.
(رتَّل ترتيلاً): إذا قرأ قراءةً مبيَّنةً حرفًا حرفًا على التأني والسكون.
استولى؛ أي: غلب وقدر، أقصى؛ أي: أبعد.
روى هذا الحديث عبدُ الله بن عمرو.
* * *
1535 -
وقال: "إنَّ الذي لَيْسَ في جوفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنَ كالبَيْتِ الخرِبِ"، صحيح.
قوله: "إنَّ الذي ليسَ في جوفِهِ شيءٌ من القرآنِ كالبيتِ الخَرِبِ"؛ يعني: عمارةُ القلوب بالإيمان والقرآن وذكر الله، فمَنْ خلا قلبُهُ من هذه الأشياء، فقلبُهُ خرابٌ لا خيرَ فيه، كما أنَّ البيتَ الخربَ لا خيرَ فيه.
روى هذا الحديث ابن عباس.
* * *
1536 -
وقال: "يَقُولُ الرَّبُّ تعالَى: مَنْ شَغَلَهُ القُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ ما أُعْطِي السَّائِلِينَ، وفَضْلُ كَلَامِ الله تعالى على سائرِ الكَلامِ كَفَضْلِ الله على خَلْقِهِ"، غريب.
قوله: "مَنْ شَغلَهُ القرآنُ عن ذِكري ومَسألتي، أعطيتُهُ أفضلَ ما أُعطي السَّائلين"؛ يعني: من اشتغل بقراءة القرآن، ولم يفرغ إلى الذكر والدعاء، أعطاه الله مقصودَهُ ومرادَهُ أحسنَ وأكثرَ مما يعطي الذين يطلبون من الله حوائجَهُم؛ يعني: لا يظننَّ القارئُ أنه إذا لم يطلبْ من الله حوائجَهُ لا يعطيه، بل يعطيه أكملَ الإعطاء، فإنه مَنْ كان لله، كان الله له.
روى هذا الحديث أبو سعيدٍ.
* * *
1537 -
وقال: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ الله فَلَهُ بهِ حَسَنةٌ، والحَسَنَةُ بِعَشْرِ
أَمْثَالِها، لَا أَقُولُ آلم حَرْفٌ، ألِفٌ حَرْفٌ، ولَامٌ حَرْفٌ، ومِيمٌ حَرْفٌ"، غريب.
قوله: "مَنْ قرأَ حَرْفًا من كتابِ الله فلهُ بهِ حسنةٌ"؛ يعني: من قرأ حرفًا من القرآنِ، فقد عملَ حسنةَ، ومَنْ عمل حسنةً، فله عشرُ أمثالها، فمن تلفَّظَ بقوله:{الم} يُحصِّلُ بألِفٍ عشرَ حسنات، وبلامٍ عشرَ حسنات، وبميمٍ عشرَ حسنات، فيكون المجموع ثلاثينَ حسنة، وعلى هذا القياس جميعُ القرآن.
روى هذا الحديثَ ابن مسعودٍ.
* * *
1538 -
عن الحارِث، عن عليًّ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أَلا إنَّها سَتَكُونُ فِتْنَةٌ"، فقلتُ: ما المَخْرَجُ مِنْهَا يا رسولَ الله؟، قال:"كِتاب الله، فيهِ نَبَأُ ما قَبْلَكُمْ، وخَبَرُ ما بَعْدَكُمْ، وحُكْمُ ما بَيْنَكُمْ، هُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بالهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ الله، ومَنِ ابْتَغَى الهُدَى في غَيْرِهِ أَضَلَّهُ الله، وهُوَ حَبْلُ الله المَتِينُ، وهُوَ الذِّكْرُ الحَكِيمُ، وهُوَ الصِّراطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ الذي لا تَزِيغُ بهِ الأهواءُ، ولا تَلْتَبسُ بهِ الأَلْسِنَةُ، ولا تَشْبَعُ مِنهُ العلماءُ، ولا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَة الرَّدِّ، ولا تَنْقَضي عَجَائبُهُ، هُوَ الذي لم تَنْتَهِ الجِنُّ إذْ سَمِعْتُهُ حَتَّى قالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}، مَنْ قالَ بِهِ صَدَقَ، ومَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، ومَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، ومَنْ دَعَا إليْهِ هُدِيَ إلى صِراطٍ مستقيمٍ"، إسناده مجهولٌ.
قوله: "فما المخرج؟ "(المخرَج): الخروج؛ يعني: فما طريقُ الخروج والخلاص من تلك الفتنة؟
"فقال: كتاب الله"؛ أي: الطريقُ التمسُّكُ والعمل بالقرآن.
"فيه نبأُ ما قبلكم"؛ يعني: في القرآن خبرُ ما قبلكم من حكاياتِ وقصصِ الأمم الماضية والأنبياء وغيرها.
"وخبرُ ما بعدَكم"؛ أي: ما يكون بعدكم من ذكرِ الجنةِ والنارِ، وأحوالِ القبرِ والعَرَصَات، وخبرِ خروج دابة الأرض، وغيرها.
"وحكم ما بينكم": من الحلالِ والحرامِ، والكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، وغيرها.
"وهو الفصلُ"؛ أي: هو الفاصل القاطع بين الحقِّ والباطل.
"ليس بالهزل"؛ أي: ليس بالباطل، كما قال الله تعالى:{لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42].
"مَنْ تركَهُ من جبارٍ"؛ أي: من أعرضَ عن القرآن من التكبر، "قصمَهُ الله"؛ أي: كسره الله.
هذا إشارةٌ إلى أنَّ مَنْ ترك العملَ بآية أو بكلمة من القرآن، أو ترك قراءَتها من التكبر والإعراض، يكون كافرًا، ومن تركَهُ من العجز والضعف والكسل مع اعتقاد تعظيمِهِ، لا إثمَ عليه، كمَنْ تركَ العملَ بآية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ترك العمل بآية المُداينةِ؛ يعني: لا يكتب القَبالةَ عند إعطاء الدين، وآيةُ المداينة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
…
} [البقرة: 282] إلى آخر الآية.
قوله: "ومن ابتغى الهُدى في غيرِهِ أضلَّه الله"، (ابتغى)؛ أي: طلب؛ يعني: من طلب الصراط المستقيم في غير كلام الله وكلام رسوله فهو ضالٌّ، يجوزُ أن يكونَ قوله:(أضله الله تعالى) دعاءٌ على من طلب الهُدَى في غير القرآن، ويجوزُ أن يكون إخبارًا؛ يعني: ثبت الضلالة.
"وهو حبل الله المتين"، (الحبل): العهد والذمة، (المتين): القوي؛ يعني: القرآنُ كحبل بين الله وبين عباده، فمن تمسَّك بالقرآن أوصله إلى الله.
"وهو الذكر الحكيم"، (الذكر): ما يُتذكَّر به؛ أي: ما يتلفظ به.
(الحكيم): المُحكَم، وهو مفعول من (أحكم): إذا بالغ في إصلاح شيء وشدِّه؛ يعني: القرآن قوي ثابت لا يُنسَخُ إلى يوم القيامة، ولا يَقدِرُ جميعُ الخلق على أن يأتوا بآية مثله.
قوله: "لا تزيغُ به الأهواء"؛ أي: لا تميل به الأهواء؛ أي: بسببهِ أهلُ الأهواء؛ يعني: لا يصير بالقرآن أحدٌ مبتدعًا وضالاً، بل يصير الناس بالقرآن مهتدين، ومن صار مبتدعًا وضالاً إنما صار بتلك الصفةِ لعدمِ اتباعه القرآنَ، أو لعدمِ [أو] قصورِ فهمهِ معانيَ القرآن.
ويحتمل أن تكون الباء في (به) للتعدية، وحينئذ يكون تقديره: لا يزيغُهُ أهلُ الأهواء؛ يعني: لا يقدر أهل الأهواء على تبديله وتغييره.
و (الأهواء): البدع والضلالات.
قوله: "ولا تلتبسُ به الألسنةُ"، (التبس): معناه: اشتبه واختلط؛ يعني: لا تختلطُ الألسنة المختلفة بالقرآن؛ يعني: لا يدخلُ لكلِّ لسان من التركي والزنجي وغيرهما في القرآن، بل لا يقرأُ إلا على لسان العرب، ويقرأ جميعُ الناس على لسان العرب كما أنزل، ولا يجوزُ لأحدٍ تغييره عن هذا اللفظ.
وقيل: معناه: لا يتعسَّرُ على الألسنة، ولا تتحيَّرُ ألسنةُ المؤمنين بتلاوة القرآن، بل يتيسَّرُ ويسهلُ على ألسنتهم تلاوةُ القرآن، كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ
…
} [مريم: 97] إلى آخر الآية.
قوله: "ولا يَخلُقُ عن كثرةِ الردِّ"، خلَق يَخلُق: إذا بلي.
(كثرة الرد)؛ أي: كثرة التلاوة؛ يعني: لا يَبلى بكثرة القراءة، بل يصيرُ كلَّ مرة يقرأ به القارئ أكثرَ لذَّة وجدَّة.
قوله: "ولا تنقضي عجائبُهُ"؛ أي: ولا تنتهي معانيه العجيبة وفوائده الغزيرة؛ يعني: لا ينتهي أحدٌ إلى كُنْهِ معانيه.
قوله: "لم تنتَهِ الجنُّ إذا سمعته حتَّى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا} "
…
إلى آخره.
(لم تنته)؛ أي: لم تقف ولم تلبث بعدما سمعته إلا آمنوا به؛ لما رأوه من حُسنِ ألفاظه وكثرة معانيه؛ لأنهم عرفوا أن هذا الكلامَ لا يشبهُ كلامَ المخلوقين.
* * *
1539 -
وقال: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ وعَمِلَ بما فيهِ أُلْبسَ والِداهُ تاجًا يومَ القيامَةِ ضَوْؤُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ في بُيوتِ الدُّنْيَا لو كانَتْ فيكُمْ، فما ظَنُّكُمْ بالذي عَمِلَ بهذا؟! ".
قوله: "لو كانت فيكم"؛ يعني: لو كانت الشَّمسُ في بيت أحدِكم كيف يكونُ ضَوْءها؟ يكون ضوءُ ذلك التاج أكثرَ من ضوء الشمس لو كانتْ في بيت أحدكم.
قوله: "فما ظنُّكم بالذي عَمِلَ بهذا"؛ يعني: إذا لبس أبو القارئ العامل به وأمه ببركة القارئ العاملِ تاجًا صفته هكذا، فكيف يكون ثوابُ ذلك القارئ العامل؟ يعني: لا يخطرُ في خاطرِ أحدِكم كُنْهُ ثوابِ ذلك القارئ العامل.
روى هذا الحديث سُهيلُ بن معاذ الجُهَني، عن أبيه، عن النبي عليه السلام.
* * *
1540 -
وقال: "لو كانَ القُرآنُ في إهَابٍ ما مَسَّتْهُ النَّار".
قوله: "لو كان القرآنُ في إهابٍ ما مسَّتهُ النار".
(الإهاب): الجلد، قيل: هذا في عصر رسول الله عليه السلام، لو أُلقِي مصحفُ القرآنِ في عهده في النار لا تحرقه النار، وهذا معجزةٌ له كسائر معجزاته،
وقيل: معناه: من كان القرآنُ في قلبه لا تحرقُهُ نارُ جهنم، هكذا قال أحمد بن حنبل.
روى هذا الحديث عقبةُ بن عامر.
* * *
1541 -
وعن عليٍّ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فاسْتَظْهَرَهُ فَأَحَلَّ حلالَهُ وحَرَّمَ حَرَامَهُ أَدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ، وشَفَّعَهُ في عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلُّهُمْ قَدْ وَجَبَتْ لهُ النَّار"، غريب ضعيف.
قوله: "فاستظْهَرَهُ"، (استظهره): إذا حفظ القرآن، و (استظهر): إذا طلب المُظاهرة، وهي المَعونة، و (استظهر): إذا احتاط في الأمر وبالغ في حفظه وصلاحه، وهذه المعاني الثلاثة جائزةٌ في هذا الحديث؛ يعني: من حفظَ القرآن، وطلبَ القوة والمعاونة في الدين منه، واحتاطَ في حفظ حرمته واتباع أوامره ونواهيه.
قوله: "وشفَّعَهُ" بتشديد الفاء؛ أي: وقَبلَ شفاعته.
* * *
1543 -
وقال: "تَعَلَّمُوا القُرْآنَ واقْرَؤوهُ، فإنَّ مَثَلَ القُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَ فَقَرَأَ وقامَ بِهِ كمثَلِ جِرابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا تَفُوحُ رِيحُهُ بكُلِّ مَكانٍ، ومثَلُ مَنْ تَعَلَّمَهُ فَرَقَدَ وهو في جَوْفِهِ كمَثَلِ جِرابٍ أُوكئَ على مِسْكٍ".
قوله: "كمثل جِرابٍ مَحْشوٍّ مِسكًا تفوحُ ريحُهُ على كل مكانٍ"، (مَحْشو)؛ أي: مملوء. (يفوح)؛ أي: تظهر وتصلُ رائحته.
يعني: صدرُ القارئ كجِرابٍ، والقرآنُ في صدره كالمِسكِ في الجِراب،
فإن قراءته تصلُ البركة منه إلى بيته وإلى السامعين، ويحصلُ منه استراحةٌ وثوابٌ إلى حيث يصل إليه صوتُهُ، فهو كجرابٍ مملوءٍ من المسك؛ إذا فُتِحَ رأسُهُ تصلُ رائحة المسك إلى كلِّ مكان حوله.
قوله: "ومن تعلَّمه فرقَدَ"؛ يعني: ومن تعلم القرآنَ، ولم يقرأ، لم تصل بركته منه؛ لا إلى نفسه ولا إلى غيره، فيكون كجراب مشدود رأسه، وفيه مسك، لا تصل رائحةٌ منه إلى أحد.
قوله: "أُوكِئَ"؛ أي: شُدَّ رأسه.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
1544 -
وقال: "مَنْ قَرَأَ: {حم} المُؤْمِنْ إلى: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، وآيَةَ الكُرْسِيِّ حينَ يُصْبحُ حُفِظَ بِهِمَا حتَّى يُمْسِيَ، ومَنْ قَرَأَ بهُما حِينَ يُمسي حُفِظَ بِهِمَا حتَّى يُصْبح"، غريبٌ.
قوله: "حُفِظَ بهما"؛ أي: حفظ من الآفات ببركة آية الكرسي وأول {حم} المؤمن.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
1545 -
وقال: "إنَّ الله كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بِأَلْفَيْ عام، أَنْزَلَ فيهِ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ البَقَرَةِ، ولا تُقْرَآنِ في دارٍ ثَلاثَ لَيالٍ فَيَقْرَبُها الشَّيْطانُ"، غريبٌ.
قوله: "كتب كتابًا"؛ أي: أمر بكتبَةِ القرآنِ في اللوحِ المحفوظِ.
"قبلَ أن يخلقَ السماوات والأرض بألفي عامٍ".
قوله: "أنزلَ فيه آيتين"؛ أي: أنزل من جملة ذلك الكتاب - أي: القرآن - آيتين من آخر سورة البقرة، وهما: {آمَنَ الرَّسُولُ
…
} [البقرة: 285] إلى آخر السورة.
روى هذا الحديث النعمانُ بن بشير.
* * *
1546 -
وقال: "مَنْ قَرَأَ ثَلَاثَ آياتٍ مِنْ أَوَّلِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ"، صحيحٌ.
قوله: "عُصِم"؛ أي: حُفِظ.
روى هذا الحديث أبو الدَّرداء.
* * *
1547 -
وقال: "إنَّ لِكُلِّ شيءٍ قَلْبًا، وقَلْبُ القُرْآنِ يس، ومَنْ قَرَأَ يَس كَتَبَ الله لَهُ بِقِرَاءَتِها قِراءَةَ القُرْآنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ"، غريبٌ.
قوله: " {يس} قلب القرآن".
(قلب الشيء): خالصه؛ يعني: {يس} خالصُ القرآن، والمودعُ فيه المقصود من الاعتقاد، وإنما كان كذلك؛ لأن أحوالَ البعث والقيامة مذكورةٌ فيها مُستوفاة مُستقصاة بحيث لم يكنْ في سورة سواها مثل ما ذكر فيها، والاعتقاد بالبعث وأحوال القيامة هو أصلُ المقصود في الدين.
روى هذا الحديث أنس.
* * *
1548 -
وقال: "إنَّ الله تعالَى قَرَأَ طه ويس قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأَرْضَ بِألْفِ عامٍ، فلمَّا سَمِعَتِ المَلَائِكَةُ القُرْآنَ قالت: طُوبى لأِمَّةٍ يَنْزِلُ هذا عَلَيْهَا، وطُوبَى لأجوافٍ تَحْمِلُ هذا، وطُوبَى لأِلْسِنَةٍ تَتَكَلَّمُ بهذا".
قوله: "طوبى لأجواف تحمل هذا".
(طُوبى): أصله طيبى، من (طاب طيب)، فقُلِبت الياء واوًا؛ لسكونها وانضمام ما قبلها؛ يعني: الراحةُ والطيبُ حاصلٌ لهم.
وقيل: المراد بطوبى هنا: طوبى بالجنة، وهي شجرةٌ في الجنة في كلِّ بيت من بيوت الجنة منها غصنٌ؛ يعني: يحصل هذا الشجر والطيب لمن يحفظ القرآن ويقرأه.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
1549 -
وقال: "مَنْ قَرَأَ حم الدُّخانَ في لَيْلَةٍ أَصْبَحَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ سَبْعُونَ ألفَ مَلَكٍ"، غريب.
وقال: "من قَرأَ الدُّخَان في ليلةِ الجُمُعَةِ غُفِرَ له"، غريب.
قوله: "أصبحَ يستغفرُ له سبعونَ ألفَ ملكٍ"؛ يعني: يطلب المغفرة له سبعونَ ألفَ ملكٍ من حين قرأها إلى الصبح.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
1551 -
وعن العِرْباضِ بن سَارِية: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كانَ يَقْرَأُ المُسَبحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ، يقولُ:"إنَّ فِيهِنَّ آيةً خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ"، غريب.
قوله: "يقرأ المُسبحات"، (المسبحات): كلُّ سورةٍ أولُها (سبَّحَ) أو (يسبحُ) أو (سبحْ).
* * *
1552 -
وقال: "إنَّ سُورَةً في القُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حتَّى غُفِرَ لَهُ، وهيَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ".
قوله: "شفعت لرجل"، هذا يحتمل أن يكون قد مضى في القبر؛ يعني: كان رجل يقرأ سورة الملك، ويعظَّم قدرها، فلمَّا مات شَفِعت له حتَّى دُفعَ عنه عذابُ القبر، ويحتمل أن يكون الماضي هنا بمعنى المستقبل؛ أي: تشفعُ لمن قرأها.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
1553 -
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: ضَربَ بعضُ أصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم خِبَاءَهُ على قَبْرٍ وهو لا يَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فإذا فيهِ إنسانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} حتَّى خَتَمَها، فَأَتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخْبَرَهُ، فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"هِيَ المانِعَةُ، هِيَ المُنْجيَةُ، تُنْجيهِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ"، غريب.
قوله: "خِباءه"؛ أي: خيمته.
"وهو لا يحسِبُ"؛ أي: لا يظن.
"فإذا فيه إنسانٌ"، (إذا) هنا للمفاجأة؛ يعني: سمع ذلك الرجل من تحت ذلك الموضع صوتَ أحدٍ يقرأُ سورةَ الملك.
"فأتى النبيَّ"؛ أي: أتى صاحبُ الخيمة إلى النبي عليه السلام، فأخبره بما سمع.
"هي المانعةُ"؛ أي: هذه السورة تمنعُ العذاب من قارئها.
* * *
1555 -
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رسُول الله صلى الله عليه وسلم: {إِذَا زُلْزِلَتِ} تَعْدِلُ نِصْفَ القُرْآنِ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} تِعْدِلُ رُبْعَ القُرْآنِ".
قوله: " {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدلُ نصفَ القرآن، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدلُ ثلثَ القرآن، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ربعَ القرآن".
إنما قال: {إِذَا زُلْزِلَتِ} تعدل نصف القرآن؛ لأنه ذكر فيها أحوال الآخرة، وأحوالُ الآخرة نصفٌ بالنسبة إلى الدنيا.
وأما {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثلث القرآن فقد ذكرنا شرحه.
وأما {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ربع القرآن؛ فلأنها منسوخُ الحكمِ ثابتُ التلاوة، وهذا قسم من أقسام القرآن الأربعة:
أحدها: منسوخ الحكم ثابت التلاوة، كهذه السورة.
والثاني: منسوخ الحكم والتلاوة، قال ابن مسعود: كان سورة الأحزاب بقدر سورة النساء، فبتنا ليلةً، فلما أصبحنا وجدنا مصاحفنا قد ذهب منها معظم سورة الأحزاب، وذهب أيضًا عن خواطرنا بحيث لا ندري منها كلمة، فقصصنا ذلك لرسول الله عليه السلام، فقال عليه السلام:"رُفِعَت البارحةَ إلى السماء"، وبقي من تلك السورة ما نقرأه الآن.
فهذا وأشباهه منسوخُ الحكم والتلاوة.
والثالث: منسوخ التلاوة ثابت الحكم، كآية الرجم، قال عمر بن الخطاب: كُنَّا نقرأ: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة بما قضيا من اللذة نكالاً من الله
والله عزيز حكيم.
والمراد بالشيخ والشيخة: المحصن من الرجل والمرأة، فهذه الآية نُسِخت تلاوتها، ولكنَّ حكمَها ثابتٌ.
والرابع: ثابت التلاوة والحكم، كسائر القرآن، وليس في القرآن سورة كلُّها منسوخٌ ثابتُ التلاوة غير {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} .
* * *
1558 -
وعن أنسٍ رضي الله عنه، عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"مَنْ أرادَ أنْ ينامَ على فِراشِهِ، فنَامَ عَلَى يمينِهِ، ثُمَّ قَرَأَ مائَةَ مَرَّةٍ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فإذا كانَ يَوْمُ القيامَةِ يَقُولُ لَهُ الرَّبُّ: يا عَبْدِي!، ادْخُلْ، على يِمينِكَ الجَنَّةُ"، غريبٌ.
قوله: "ادخلْ على يمينك الجنةُ"؛ يعني: إذا أطعْتَ رسولي، واضطجعتَ على يمينك في فراشك، وقرأتَ السورة التي فيها صفاتي، فأنت اليومَ من أصحاب اليمين، فاذهب إلى جانب يمينك إلى الجنةِ.
* * *
1560 -
عن فَرْوَة بن نَوْفَلٍ، عن أبيه: أنَّهُ قالَ: يا رَسُولَ الله!، عَلِّمْني شَيْئًا أقولُهُ إذا أوَيْتُ إلى فِراشي، فقال:"اقْرَأْ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، فإنَّها بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ".
قوله: "اقرأ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}؛ فإنَّها براءةٌ من الشِّركِ"؛ يعني: أمر الله تعالى رسولَهُ في هذه السورة أن يجيبَ الكفار بأني لا أعبدُ ما تعبدون، فهذا براءةٌ من الشِّركِ، فمن قرأ هذه السورة عن اعتقاد صحيح، فقد بَرِئ من الشرك.
وهذا الحديث يدلُّ على أن الإنسان يستحبُّ له إذا نام أن يجدَّدَ إيمانه، كما يستحبُّ عند النزع، فإن التلفظَ بكلمتي الشهادة عند الموت ليس
بواجب، بل هو مستحبٌّ؛ لأن المؤمن مقرٌّ بقلبه بما أمر الله تعالى، والإيمانُ ثابتٌ في قلبه، فلو لم يتلفظ بكلمتي الشهادة عند الموت فلا بأسَ عليه، ولهذا لا نحكمُ بكفر من مات ولم نسمعْ منه كلمتي الشهادة عند النزع من المسلمين.
رواه فَرْوةُ بن نوفل بن معقل الأشجعيُّ.
* * *
1561 -
وقال عُقْبة بن عامِرٍ رضي الله عنه: بَيْنَا أنا أَسِيْرُ معَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بينَ الجُحْفَة والأَبْوَاءِ إذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ، فجعَلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يتَعَوَّذُ بـ:{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} ، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ، ويقول:"يا عُقبَةُ!، تَعَوَّذْ بهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بمثلِها".
قوله: "الجُحْفة والأبوَاءِ": هما اسما موضعين.
"غَشِينا"؛ أي: جاءنا.
"فجعل رسول الله عليه السلام"؛ أي: طفِقَ.
قوله: "فما تعوَّذ متعوِّذٌ بمثلها"؛ يعني: ليس مثل هاتين السورتين، بل هاتان السورتان أفضلُ التعاويذ.
* * *
1563 -
عن عُقْبة بن عامِرٍ قال: قُلْتُ: يا رسولُ الله!، أقرأُ سُورَةَ هُودٍ أو سورةَ يوسُف؟، قال:"لنْ تَقرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ عِنْدَ الله مِنْ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ".
قوله: "أقرأُ سورةَ هود"، الهمزة للمتكلم، وكان أصله: أأقرأ؟ الهمزة الأولى للاستفهام، فحُذِفت همزة الاستفهام للعلم بها.