الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طلوعِ فجر يوم النحر عند أبي حنيفة ومالك وأحمدَ.
* * *
10 - باب الخُطْبة يومَ النَّحر، ورَمْي أَيَّام التَّشريق والتَّوديع
(باب خطبة يوم النحر، ورمي أيام التشريق والتوديع)
مِنَ الصِّحَاحِ:
1929 -
عن أبي بَكْرة رضي الله عنه عنه قال: خَطَبنا رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ، قال:"إنَّ الزَّمانَ قَد اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السَّماواتِ والأَرْضَ، السَّنةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثةٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو القَعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بَيْنَ جُمَادَى وشَعْبانَ"، ثُمَّ قال:"أيُّ شَهْرٍ هذا؟ فقُلْنا: الله ورسُولُهُ أعْلَمُ، قال: "ألَيْسَ ذا الحِجَّةِ؟ " قلنا: بَلَى، قال: "فأَيُّ بَلَدٍ هذا؟ "، قُلْنا: الله ورسُولُهُ أعلم، قال: "أَلَيْسَ البَلْدَةَ؟ " قُلْنا: بَلَى، قال: "فأَيُّ يَوْمٍ هذا؟ "، قُلْنا: الله ورسُولُهُ أعلم، قال: "ألَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ "، قُلْنا: بَلَى، قال: "فإنَّ دِماءَكُمْ وَأَمْوالَكُمْ وأعْراضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرامٌ، كحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، وسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أعْمالِكُمْ، أَلا فلا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلَاّلاً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ، ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قالوا: نَعَمْ، قال:"اللهمَّ اشْهّدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سامِعٍ".
قوله: "الزمان قد استدارَ كهيئَتهِ يومَ خَلَقَ الله السماواتِ والأرضَ".
(الزمانُ): الدهرُ، (استدار)؛ أي: دارَ، (كهيئته)؛ أي: على الترتيب الذي خَلَقَ الله الدهرَ عليه.
اعلم أن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون بتحريمِ الأشهرِ الحُرُم، وهي رَجَبٌ
وذو القَعْدة وذو الحِجَّة والمُحَرَّم، ولا يقاتلون في هذه الأشهرِ، إلا أنهم إذا وقعَ لهم حربٌ شديدةٌ وضرورةٌ في قتال، بدَّلُوا الأشهرَ الحُرُمَ إلى غيرها، وأمروا مناديًا ليناديَ في القبائل: ألا إنا أَخَّرْنا رجَبًا إلى رمضان، عَنوا بذلك أنا لا نحاربُ في رجب، ونتركُ الحربَ بدلَه في رمضان، وأَخَّرْنا ذا الحِجَّةِ إلى المُحَرَّم، والمُحَرَّمَ إلى صَفَر، وصَفَرَ إلى الرَّبيع الأولِ.
وإذا أَخَّرْوا ذا الحِجَّة إلى شهرِ آخرَ أَخَّرُوا الحَجَّ من ذي الحِجَّةِ إلى شهرٍ آخرَ، وهكذا يؤخِّرون الحَجَّ من شهرٍ إلى شهرٍ حتى بلغَ دَوْرُ تأخيرِ ذي الحِجَّةِ على حسابهم إلى ذي الحِجَّة، فالسَّنَةُ التي حجَّ فيها رسول الله عليه السلام في حَجَّةِ الوداعِ هي السُّنَةُ التي وصلَ ذو الحجة إلى موضعِه، فقال رسول الله عليه السلام في خطبته في الحجِّ هذا الحديثَ، وقال:(ألا إن الزَّمانَ قد استدارَ كهيئته).
يعني: أمرَ الله أن يكون ذو الحجة في هذا الوقت، فاحفَظُوا جَعْلَ الحَجِّ في هذا الوقت، ولا تبدِّلُوا الشهرَ بالشهرِ كعادةِ أهلِ الجاهلية.
قوله: "ورجبُ مُضَرَ الذي بين جمادى وشعبان"، قال الخَطَّابي: أضافَ رجبًا إلى مضرَ؛ لأنهم يعظِّمونه تعظيمًا أشدَّ من سائر العرب، وإنما قال: الذي بين جمادى وشعبان ليبين أن رجبًا في الشرع هو الشهر الذي بين جُمَادى وشعبان؛ لا ما يؤخِّره العربُ إلى وقتٍ آخرَ، مثل أنْ سَمَّوا رمضانَ برجب، وسمَّوا شوالاً برمضان، يؤخِّرون بعضَ الشهورِ من موضعه إلى موضعٍ آخر.
قوله: "أليس البلدة"، (البلدةُ): اسم مكة.
"وأَعراضكُم"، (الأَعراض) جمع عِرْض - بكسر العين وسكون الراء - وهو الأوصاف التي يمدح ويذم الرجل بها.
يعني: حرم الله عليكم أن يغتاب بعضكم بعضًا، وأن يشتم ويذكر مسلم مسلمًا بسوء.
"وستلقون ربكم"؛ يعني: ستبعثون وتحضرون يوم القيامة.
"فيسألكم" عما فعلتم "ألا فلا ترجعوا بعدي ضُلَاّلًا يضربُ بعضُكم رقابَ بعض"؛ يعني: إذا فارقتُ الدنيا فاثبتوا بعدي على ما أنتم عليه من الإيمان والتقوى، ولا تظلموا أحدًا، ولا تتحاربوا مع المسلمين، ولا تأخذوا أموالهم بالباطل، فإن هذه الأفعال من الضلالة.
والمراد بـ (الضلالة): العدول عن الحق إلى الباطل.
"فليبلِّغ الشاهد الغائب"؛ يعني: فليبلِّغ مَنْ سمع كلامي وحضر لِي ما سمع مني إلى الغائبين، "فربَّ مُبَلَّغ" بفتح اللام؛ أي: فربَّ غائب إذا بلغه كلامي "أوعى" له؛ أي: يكون أشدُّ حفظًا لكلامي، ومداومة على قراءته ومراعاته ممَّن سمع كلامي.
وهذا تحريض على تعليم الناس أحاديث النبي عليه السلام وغيره من العلوم الشرعية، فإنه لولا التعليم والتعلم لانقطع العلم بين الناس.
* * *
1930 -
عن وَبَرَةَ قال: سَألْتُ ابن عُمَرَ: مَتَى أَرْمي الجمارَ؟، قال: إذا رمَى إمامُكَ فارْمِهْ، فأَعَدْتُ عَلَيْهِ المسألَةَ، فقال: كُنَّا نتَحَيَّنُ، فإذا زالَت الشَّمْسُ رَمَيْنا.
قوله: "إذا رمى إمامُكِ"؛ يعني: اقتدِ في الرَّمي بمَنْ هو أعلمُ منك بوقت الرمي، فإذا رمى الناس فارمِ أنت.
قوله: "نتَحَيَّنُ"؛ أي: نطلب الحين، وهو الوقت؛ أي: ننتظر دخول وقت الرمي.
"فإذا زالت الشمس رمينا"؛ يعني: رمينا جِمَارَ أيام التشريق بعد زوال الشمس.
1931 -
وعن سَالِم، عن ابن عُمر رضي الله عنهما: "أنَّهُ كانَ يَرْمي جَمْرَةَ الدُّنْيا بِسَبع حَصَياتٍ يُكَبرُ على إثْرِ كُلِّ حَصاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حتَّى يُسْهِلَ، فيقُومُ مُسْتَقْبلَ القِبْلَةِ طَويلًا، ثم يَدْعُو ويَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمي الوُسْطَى بِسَبع حَصَياتٍ يُكَبرُ كُلَّما رَمَى بحَصاةٍ، ثُمَّ يَأخُذُ بِذاتَ الشِّمالِ، فيُسْهِلُ، ويقُومُ مُسْتَقبلَ القِبْلة، ثُمَّ يَدْعُو، ويَرْفَعُ يَدَيْهِ، ويَقُومُ طَويلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذاتِ العَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الوادِي بِسَبْعِ حَصَياتٍ، يُكَبرُ عِنْدَ كُلِّ حَصاةٍ، ولا يَقِفُ عِنْدَها، ثُمَّ يَنْصَرفُ، فيقول: هكذا رَأَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَفْعَل.
قوله: "جَمْرَةَ الدنيا"، (الدُّنيا): تأنيث (الأدنى)، ومعناه: الأقرب؛ يعني: يرمي في الموضع الأول من المواضع الثلاثة.
"ثم يتقدم"؛ أي: ثم يذهب قليلًا من ذلك الموضع.
"حتى يُسْهِلَ"؛ أي: حتى يبلغ إلى موضعٍ سَهْلٍ لَينٍ، وبَيْنَ الموضع الذي رمى فيه وبَيْنَ هذا الموضع السهل قليل.
"ثم وقف ودعا طويلًا ثم يأخذُ بذاتِ الشِّمال"؛ أي: يذهب على جانب شمال الجمرة الوسطى حتى وصل إلى موضع سهل.
* * *
1932 -
وعن ابن عُمر رضي الله عنهما قال: اسْتَأْذَنَ العَبَّاسُ بن عَبْدِ المُطَّلِبِ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبيتَ بِمكَّةَ لَياليَ مِنًى مِنْ أجْلِ سِقايَتِهِ، فأَذِنَ لَهُ.
قوله: "استأذن العباس بن عبد المطلب رسول الله عليه السلام أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فأذن له"، يجوز لمن هو مشغول بإسقاء الماء من سِقاية العباس لأجل الناس أن يترك المبيت بمنى ليالي منى، ويبيت بمكة لشغل الإسقاء، وكذلك يجوز لرعاء الإبل، ولمن له ضرورة، وعذر شديد في ترك المبيت بمنى ليالي منى.
فإن ترك المبيت بمنى ليالي منى بغير عذر؛ لزمه في ليلة درهم، وفي ليلتين درهمان، وفي ثلاث ليال دم عند الشافعي، وقال مالك: يلزمه بكل ليلة دم، وقال أبو حنيفة: من ترك المبيت بمنى ليالي منى أثم ولا شيء عليه.
ويجوز لأصحابِ الأعذار أن يرموا جمرة العقبة يوم النحر، ويتركوا رمي اليوم الأول من أيام التشريق، ثم يرموا في اليوم الثاني من أيام التشريق رميَ يومِ الماضي ويوم الحاضر، يبتدئون بالرمي القضاء، ثم بالرمي الأداء.
* * *
1933 -
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما: أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم جاءَ إلى السِّقايَة، فاسْتَسْقَى، فقال العبَّاسُ: يا فَضْلُ، اذْهَبْ إلى أُمِّكَ، فائْتِ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بِشَرابٍ مَنْ عِنْدِها، فقال:"اسْقِني"، فقال: يا رسُولَ الله، إنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أيْدِيَهُمْ فِيهِ، فقال:"اسْقِني"، فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ وهُمْ يَسْقُونَ ويَعْمَلُونَ فيها، فقال:"اعْمَلُوا، فإنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صالِحٍ"، ثُمَّ قال:"لولا أنْ تُغْلَبُوا لنَزَلْتُ حتَّى أَضَعَ الحَبْلَ على هذه"، وأشَارَ إلى عاتِقِهِ.
قوله: "اسْقِني"؛ أي: اسْقِني من هذه السِّقاية.
قوله عليه السلام: "اسقني" بعد ما قال العباس: "إنهم يجعلون أيديهم فيه": دليلٌ على أن الماء الطاهر لا يصير نجسًا بجعل الناس أيديهم فيه، حتى تُتَيقَّن نجاسةُ يد واحد من الذين غمسوا أيديهم في الماء، فحينئذ ينجس إن كان الماء دون القلتين، فإن كان قلتين لا ينجس إلا بالتغيير.
قوله: "لولا أن تُغْلَبُوا لنزلْتُ حتى أضَعَ الحبلَ على هذه"؛ يعني: قصدت أن أنزل من دابتي، وأضع الحبل على عاتقي، وأستقي الماء من زمزم وأسقي الناس، إلا أني خشيتُ إن فعلتُ هذا أن يرغبَ في استقاء الماء خلقٌ كثير
حين علموا كثرة فضله وثوابه، وحينئذ لا يترك الناس هذا الفعل، بل أخرجوكم من هذا العمل، وفعلوا هذا الفعل بأنفسهم.
* * *
1934 -
وقال أَنَسٌ رضي الله عنه: إنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ والمَغْرِبَ والعِشاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بالمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إلى البَيْتِ، فطافَ به.
قول أنس: "إن النبي عليه السلام صلَّى الظهرَ والمغربَ والعِشاءَ ثم رَقَدَ رَقْدَةً بالمُحَصَّبِ، ثم ركب إلى البيتِ فطافَ به"، (رقد)؛ أي: نام، (المُحَصَّب) بتشديد الصاد وفتحها: موضع التَّحْصِيب، وهو الرمي، والمراد بـ (المُحَصَّب) ها هنا: موضع قريب إلى الأبطح، و (الأبطح): موضع قريب إلى مكة.
يعني: صلى رسول الله عليه السلام الظهر إلى العشاء في اليوم الآخر من أيام التشريق، ونام ساعة من الليلة التي بعد أيام التشريق، ثم ركب ومشى إلى مكة، فطاف طواف الوداع.
فعند ابن عمر رضي الله عنهما: نزول المُحَصَّب في هذه الليلة سُنَّةٌ.
وعند ابن عباس وعائشة رضي الله عنهم: ليس من السُّنة؛ أي: ليس من العبادات؛ لأن رسول الله عليه السلام نزل في هذا الموضع؛ لأنه أيسر من خروجه إلى مكة، لا لأن النزول في هذا الموضع عبادة.
* * *
1935 -
وسُئِلَ أنَسٌ رضي الله عنه عَنْ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ يَوْمَ التَرْوِيَةِ؟، قال: بمِنًى، قيل: فأَيْنَ صَلَّى العَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟، قال: بِالأَبْطَحِ، ثُمَّ قال: افْعَلْ كما يَفْعَلُ أُمَراؤُك.
قوله: "سئل أنس عن النبي عليه السلام؛ أَيْنَ صلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قال: بمِنًى، قيل: فأينَ صلَّى العصر يوم النَّفْرِ؟ قال: بالأَبطح"، قد قلنا شرح يوم التَّرْوِية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة.
يعني: السُّنة أن يجتمع الحَاجُّ في اليوم الثامن من ذي الحجة بمنى، ويصلون فيه الظهر إلى العشاء، ويبيتون فيها إلى غد، وهو يوم عرفة، ويذهبون غدًا إلى عرفة.
والمراد بـ (النَّفْرِ) ها هنا: اليوم الثالث من أيام التشريق، يسمى اليوم الأول من أيام التشريق يوم القَرِّ، واليوم الثاني يسمى النَّفْرِ الأول، واليوم الثالث: يسمى النَّفْرِ الثاني، وسمي اليومُ الثاني النَّفْرَ الأول؛ لأنه يجوز للحُجَّاج أن ينفروا؛ أي: يذهبوا من منى.
وكذلك اليوم الثالث من أيام التشريق يُسمَّى النَّفْرَ الثاني؛ لأن مَنْ لم ينفر في الثاني ينفر في اليوم الثالث، الحُجَّاج مخيَّرون فمن شاء نفر في اليوم الثاني، ومن شاء في الثالث، فمَنْ نفَّرَ في اليوم الثالث قبل غروب الشمس، سقط عنه مبيت ليلة النفر الثاني، وسقط عنه أيضًا رمي اليوم الثالث، وهو النفر الثاني ومَنْ لم ينفر في النفر الأول حتى غربت الشمس؛ لزمه أن يبيت ليلة النفر الثاني، وأن يرميَ اليوم الثالث.
قوله: "بالأَبْطَح"، أراد بـ (الأَبطح): المُحَصَّب، وقد ذكر قبيل هذا بحثه، وبين المُحَصَّب، والأبطح: مسافة قليلة، فمن شاء نزل بالمُحَصَّب، ومن شاء نزل بالأبطح.
قوله: "كما يفعل أمراؤك": أراد بـ (الأمراء): من اقتدى به الناس.
* * *
1936 -
قالت عائشةُ رضي الله عنها: نُزُولُ الأَبْطَح لَيْسَ بِسُنَّةٍ، إنَّما نزَلَهُ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لأنَّهُ كانَ أسْمَحَ لِخُروجِهِ إذا خَرَجَ.
قولها: "كان أَسْمَحَ لخروجه"؛ أي: كان أسهل لخروجه من منى إلى مكة لطواف الوداع.
* * *
1937 -
وقالت: أحْرَمْتُ مِنْ التَّنْعِيم بعُمْرَةٍ، فدَخَلْتُ، فَقَضَيْتُ عُمْرَتي، وانْتَظَرَني رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِالأَبْطَحِ حتَّى فَرَغْتُ، فَأَمَرَ النَّاسَ بالرَّحِيلِ، فَخَرَجَ، فَمَرَّ بالبَيْتِ، فطافَ بهِ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ خَرَجَ إلى المَدِينَةِ.
قول عائشة رضي الله عنها: "فدخلتُ مكةَ فقضيْتُ عمرتي"؛ أي: أتمَمْتُ عمرتي، وهذه العمرة هي العمرة التي خرجت منها بسبب حيصها، وقد ذكرناه بعد قصة حجة الوداع.
قولها: "فطاف"؛ أي: فطاف بالبيت طواف الوداع.
* * *
1938 -
عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: كانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ في كُلِّ وَجْهٍ، فقالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم:"لا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بالبَيْتِ"، إلَاّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الحائِضِ.
قوله: "كان الناسُ ينصرفونَ في كلِّ وجهٍ"؛ يعني: إذا فرغوا من الحجِّ يذهبون إلى أوطانهم، ولم يطوفوا طواف الوداع، فنهاهم رسول الله عليه السلام عن الذهاب حتى يكون آخر عهدهم بالبيت، حتى يطوفوا طواف الوداع في انشغالهم، ولا يجوز لهم المُكْثُ بعد طواف الوداع، فإن مَكَثَ بعد طواف
الوداع لشغلٍ غير شدِّ الرَّحل على الرَّاحلة، فليعِدْ طواف الوداع، وطوافُ الوداعِ واجبٌ في أصح القولين، فإن تركه لزمه دم.
قوله: "إلا أنه خُفِّفَ عن الحائض"؛ يعني: جُوِّزَ للحائض تركَ طواف الوداع.
* * *
1939 -
وقالت عائشةُ رضي الله عنها: حاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ، فقالتْ: ما أُراني إلَاّ حابستَكُمْ، فقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:"عَقْرَى، حَلْقَى، أطافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ "، قيل: نَعَمْ، قال:"فانْفِري".
قول صَفِيَّة رضي الله عنها: "ما أُرَاني إلا حابسَتَكُمْ"؛ أي: ما أظنُّ نفسي إلا أني قد مَنَعْتُ الناس عن الخروج إلى المدينة حتى أطْهُرَ وأطوف طواف الوداع، وإنما قالت هذا؛ لأنها ظنت أن طواف الوداع واجب عليها، فبيَّنَ رسول الله عليه السلام بعد هذا أنها إذا طافَتْ يوم النحر طواف الفرض جازَ لها أن تنفرَ - إذا حاضت - من غير طواف الوداع.
قوله لصفية: "عَقْرَى حَلْقَى": قال الخطابي: هكذا رُوي على وزن (فَعْلى) بفتح الفاء مقصور الألف، وحقه أن يكون منونًا ليكونَ مصدرًا؛ أي: عقرها الله عقرًا وحلقها حلقًا.
ومعنى (العَقْر): التجريح والقتل وقطعُ عَقِبِ الرجل، و (الحَلْق): إصَابة الوجَع في الحَلْقِ، أو ضرب شيء على الحَلْقِ.
بل جاء هذان اللفظان على الأصل، وهو (فَعلى) تأنيث (فَعْلان)، كـ (عطشى) تأنيث (عَطْشان)؛ أي: جعلها الله تعالى (عَقْرى)؛ أي: عاقرًا؛ أي: التي لا تلد، وجعلها الله (حَلْقى)؛ أي: صاحبة وَجع الحَلْق.
وعلى جميع الأحوال، هذا دعاء لا يُرَاد وقوعه، بل عادة العرب التكلم بمثل هذا على سبيل التلطف.
* * *
1940 -
عن عَمْرو بن الأَحْوَص قال: سَمِعْتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ في حَجَّةِ الوَداعِ: "أيُّ يَوْمٍ هذا؟ "، قَالُوا: يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ، قال:"فَإنَّ دِمَاكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُم حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا في بَلَدِكُمْ هذا، أَلا لا يَجْني جانٍ إلَاّ عَلَى نفسِهِ، أَلا لا يَجْني جانٍ عَلَى وَلَدِهِ، ولا مَوْلُودٌ عَلَى والِدِهِ، ألا وإنَّ الشَّيْطانَ قَدْ أَيسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هذا أبَدًا، ولَكِنْ سَتكُونُ لهُ طاعَةٌ فِيما تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَسَيَرْضَى بهِ"، صحيح.
قوله: "أيُّ يومٍ هذا؟ قالوا: يومُ الحجِّ الأكبر"، قال ابن عباس:(يوم الحج الأكبر): يوم عرفة، قوله:"موافق لهذا الحديث"؛ لأن هذه الخطبة كانت يوم عرفة، وسُمِّيَ يومُ عرفة يومَ الحج؛ لأنه مَنْ أدرك عرفة فقد أدرك معظم الحج.
وسمي بـ (الحج الأكبر)؛ لأن يوم الجمعة حج المساكين، فيوم الجمعة يوم الحج، ويوم عرفة يوم الحج، ولكن يوم عرفة حجٌ أكبر من يوم الجمعة.
وقيل: (الحج الأكبر): الذي حج فيه رسول الله عليه السلام؛ لأنه اجتمع فيه حج المسلمين، وعيد اليهود والنصارى والمشركين، ولم تجتمع قبله ولا بعده هذه الأشياء.
قوله: "فإن دمائكم" ذكر شرحه في (حجة الوداع) في (باب الإحرام).
قوله: "ألا لا يَجْنِي جانٍ
…
" إلى آخر الحديث، قد ذكر شرحه في الحديث الذي قبيل (باب الإيمان بالقدر).
* * *
1941 -
عن رافِع بن عَمْرو المُزَني قال: رأيتُ رسُول الله صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ بمِنًى حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى على بَغْلَةٍ شَهباءَ، وعليٌّ يُعَبرُ عنهُ، والنَّاسُ بينَ قائِمٍ وقاعِدٍ.
قوله: "على بَغْلَة شَهباء"؛ أي: راكبٌ على بغلة بيضاء.
"وعليٌّ يعبرُ عنه"؛ يعني: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يفسِّرُ كلامه؛ أي: يرفع صوته بما يسمع من كلام رسول الله عليه السلام؛ ليسمع الناس، فإن في الناس يومئذ كثرة لا يسمع بعضهم كلام رسول الله عليه السلام.
"والناس بين قَائمٍ وقَاعدٍ"؛ يعني: كان بعض الناس قائمًا، وبعضهم قاعدًا.
* * *
1942 -
عن أَبِي الزُّبَيْر، عن عائشة، وابن عبَّاسٍ رضي الله عنهم: أنَّ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ طَوافَ الزِّيارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ إلى اللَّيْلِ.
قولهما "أنَّ رسول الله عليه السلام أَخَّرَ طوافَ الزِّيارةِ يومَ النَّحْرِ إلى الليل"، طواف الزيارة، وطواف الإفاضة، وطواف الرُّكن كلها واحد.
واعلم أنَّ أول وقت طواف الإفاضة عند الشافعي: بعد نصف ليلة العيد، وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد: بعد طلوع الفجر يوم النحر، وأما آخره: فأي وقت طاف جاز سواء طاف في يوم النحر وفي أيام التشريق أو بعدَهَا.
* * *
1944 -
وعن عائشةَ رضي الله عنها، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إذا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ العَقَبَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَاّ النِّسَاءَ"، ضعيف منقطع.
قولها: "إذا رمى أحدُكُمْ جَمْرَةَ العقبةِ حَلَّ له كل شيء" ذكر بحث هذا في (باب الحلق).
* * *
1945 -
عن القاسم، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: أفاضَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إلى مِنًى، فَمَكَثَ بها لَياليَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يَرْمي الجَمْرَةَ إذا زالَتِ الشمسُ، كُلُّ جَمْرَةٍ بسبْعِ حَصَياتٍ، يُكَبرُ مَعَ كُلِّ حَصاةٍ، ويقِفُ عندَ الأُولَى والثانيةِ، فيُطيلُ القِيامَ، ويتضَرَّعُ، ويَرْمِي الثالِثَةَ، فلا يقِفُ عِنْدَها.
قولها: "أفاض النبي صلى الله عليه وسلم من آخر يومه"؛ أي: طافَ طوافَ الفرضِ في آخرِ يوم النَّحر.
* * *
1946 -
عن أَبِي البَدَّاح بن عاصِم بن عَدِيٍّ عن أبيه قال: رَخَّص رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِرِعاءَ الإِبلِ في البَيْتُوتَةِ أنْ يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُوا رمْيَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَيَرْمُوهُ في أَحَدِهِما.
قوله: "رخَّص رسول الله عليه السلام لِرِعاءِ الإبل في البَيْتُوتَةِ"؛ يعني: رخص لهم أن يتركوا المبيت بمنى في ليالي أيام التشريق؛ لأنهم مشغولون في رَعي الإبل وحفظها.
قوله: "أن يَرمُوا يومَ النَّحْرِ، ثم يجمعوا رميَ يَوْمَيْنِ بعدَ يومِ النَّحْرِ، فيرمُوه في أَحَدِهِما"؛ يعني: رخَّص لهم أن يرموا يومَ النَّحْرِ جمرة العقبة، ثم لم يرموا الأول من أيام التشريق، ثم يرموا في اليوم الثاني من أيام التشريق رَمْيَ يَومَيْنِ؛ رَمْيَ القضاء ورَمْيَ الأداء.