الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: "لن تقرأَ شيئًا أبلغَ عند الله من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} "؛ يعني: لن تقرأ سورة أبلغَ وأتمَّ في التعوُّذِ من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} .
* * *
1562 -
عن عبد الله بن خُبَيْب قال: خَرَجْنَا في لَيْلَةِ مَطَرٍ وظُلْمةٍ شديدة نَطْلُبُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَأدْركْنَاهُ، فَقالَ:"قُلْ"، قُلْتُ: ما أقولُ؟، قال:" {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُصْبحُ وحَينَ تُمْسِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ".
قوله: "تكفِيكَ من كلِّ شيء"؛ يعني: تدفعُ هذه السورة عنك شرَّ كل ذي شرٍّ.
روى هذا الحديث عبد الله بن حبيب الجُهَني المدني.
* * *
فصل
مِنَ الصِّحَاحِ:
(فصل)
1564 -
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تَعَاهَدُوا القُرآنَ، فَوَالذي نفسي بيدِهِ لهَو أَشَدُّ تَفَضِّيًا مِنَ الإِبلِ في عُقُلِها".
قوله: "تعاهدوا القرآن"؛ أي: داوموا على قراءته حتى لا تنسَوهُ.
قوله: "أشد تَفصِّيًا"؛ أي: فِراراً، (التفصِّي): الخروج من ضيقٍ.
"العُقُل": جمع عِقال، وهو ما يشد به أحد ركبتي البعير إلى الأخرى؛ يعني: لو لم يكن البعير مشدودًا لفرَّ، فكذلك القرآن لو لم يقرأه الرجل لفرَّ
من صدره ونسيه.
روى هذا الحديث أبو موسى.
* * *
1565 -
وقال: "اسْتَذْكِرُوا القُرآنَ، فإنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرَّجالِ مِنَ النَّعَمِ مِنْ عُقُلِها".
قوله: "استذكِرُوا القرآنَ"؛ أي: تذكروه وداوموا على ذكره وتلاوته.
"النعم" هنا: الإبل.
روى هذا الحديث ابن مسعودٍ.
* * *
1566 -
وقال: "مَثَلُ صاحبِ القُرآنِ كمثَلِ صاحِبِ الإِبلِ المُعَقَّلَةِ، إنْ عاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَها، وإنْ أَطْلَقَها ذَهَبَتْ".
قوله: "كمثَلِ صاحبِ الابلِ المُعقَّلةِ"، (المعقلة): المشدودة.
"إن عاهد عليها"؛ أي: داوم على حفظ تلك الإبل.
"أطلقها"؛ أي: خلاها.
روى هذا الحديث ابن عمرَ.
* * *
1567 -
وقال: "اقرَؤُوا القُرآنَ ما ائْتَلفتْ عليهِ قُلُوبُكُمْ، فإذا اخْتَلَفْتُمْ فقومُوا عنهُ".
قوله: "اقرؤوا القرآنَ ما ائتلفتْ قلوبُكم"؛ يعني: اقرؤوا القرآنَ ما دام لكم منه ذوقٌ، وخواطرُكم له مجموعةٌ، فإذا حصل لكم ملالةٌ وتفرقُ القلوبِ،
فاتركوه، فإنه أعظمُ من أن يقرأه أحدٌ من غير حضورِ القلبِ.
روى هذا الحديث جُندُبُ بن عبد الله.
* * *
1568 -
وسُئلَ أنسٌ رضي الله عنه: كيفَ كانتْ قِراءَةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؟، فقال: كانَتْ مَدًّا، ثم قرأ:{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، يمدُّ بـ {بِسْمِ اللَّهِ} ، ويَمُدُّ بـ {الرَّحْمَنِ} ، ويمُدُّ بـ {الرَّحِيمِ} .
قوله: "كانت مَدَّاء"(مَدَّاء): تأنيث أمد، و (أمدُّ) نعت المذكر، من (مدَّ)؛ يعني: كانت قراءته كثيرة المد.
"ثم قرأ"؛ يعني: قال قتادة: لما سُئِل أنسٌ عن قراءة رسولِ الله عليه السلام، فقال: كانت مداء، ثم قرأ أنس:" {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ومدَّ {بِسْمِ اللَّهِ}، ومدَّ {الرَّحْمَنِ}، ومدَّ {الرَّحِيمِ} "؛ ليعلمَ الحاضرون كيفيةَ قراءةِ رسول الله عليه السلام.
وأعلم أن للمدِّ حدًا، وحروفُ المد ثلاثة: الألف، والواو الساكنة التي قبلها ضمة، والياء الساكنة التي قبلها كسرة، فإذا كان واحد من هذه الحروف وبعدهما همزةٌ يمدُّ ذلك الحرف، وفي قدره اختلفَ القرَّاء؛ فبعضهم يمدُّ بقدر ألف، وبعضهم يمدُّ بقدر ألفين، وبعضهم يمدُّ بقدر ثلاث ألفات، وبعضهم يمدُّ بمقدار أربع ألفات، وبعضهم يمدُّ بقدر خمس ألفات.
وإن كان بعدها تشديدٌ يمدُّ بقدر أربع ألفات بالاتفاق.
وإن كان بعدها ساكن يمدُّ بقدر ألفين بالاتفاق.
مثال الهمز: {بِمَا أُنْزِلَ} و {قَالُوا آمَنَّا} {وَفِي آذَانِهِمْ} .
مثال التشديد: {أَتُحَاجُّونِّي} بمدِّ الألف؛ لتشديد الجيم، وبمد الواو؛ لتشديد النون.
مثال الساكن: {ص وَالْقُرْآنِ} تمدُّ الألف؛ لسكون الدال بعدها، وكذلك تمد الواوُ في {يَعْلَمُونَ} والياءُ في {نَسْتَعِينُ} عند الوقف على النون.
وإذا كان بعد حروف المدِّ حرفٌ غيرُ الهمز والمشدد وغير الساكن، لم يمدَّ حرفُ المد إلا بقدر خروجها من الفم، نحو:{إِيَّاكَ} لا تمدُّ الألف إلا بقدر خروجها من الفم؛ لأن ما بعدها كافٌ، وهي متحركة.
وكذلك: {يَعْلَمُونَ} و {نَسْتَعِينُ} عند الوصل؛ لأن النون متحركةٌ في الأصل، وكذلك جميع الأمثلة.
وإذا عرفت هذا فاعلم أنَّ مدَّهُ بسم الله الرحمن الرحيم لم يكن إلا بقدر خروج حرف المدِّ من الفم؛ لأنه ليس بعد الألف همزة ولا تشديد ولا ساكن.
و {الرَّحِيمِ} يمدُّ عند الوقف بقدر الألفين، وعند الوصل بقدر خروج الياء من الفم.
ونعني بقدر الألف: قدرَ مدِّ صوتِكِ إذا قلت: ياء، أو ثاء، وما أشبهَ ذلك.
* * *
1569 -
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أَذِنَ الله لِشيءٍ ما أَذِنَ لنبيٍّ يتغنَّى بالقُرآنِ".
1570 -
وقال: "ما أَذِنَ الله لِشيءٍ ما أذِنَ لنبيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بالقُرآنِ يَجْهَرُ به".
قوله: "وما أَذِنَ الله لشيء ما أَذِنَ لنبيٍّ يتغنَّى بالقرآن"؛ يعني: ما استمع إلى شيء كاستماعه إلى صوتِ نبيًّ قرأ الكتاب المنزَّلَ إليه بصوت رفيع.
والمراد بالقرآن هنا: جميع الكتب المنزلة.
(الأَذَن) بفتح الهمز والذال: الاستماع.
يعني: ما أحبَّ الله صوتًا مثلَ حبه صوتَ القرآن في ديننا، وصوت التوراة في دين موسى، وكذلك كلُّ كتاب منزل قبل نسخِ ذلك الكتاب.
وفي التغني في هذا الحديث وأشباهه أربعةُ أوجه:
أحدها: رفع الصوت.
والثاني: الاستغناء بالقرآن عن غيره؛ يعني: من قرأ القرآن صار غنيًا، ولا حاجةَ إلى كتاب آخر لم يكن مُستنبَطاً من القرآن أو موافقًا لأحكام القرآن.
والحديثُ مستنبطٌ من القرآن: لأن الله تعالى قال في حقِّ الرسول عليه السلام: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]، وقال تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7].
والوجه الثالث: التغني الذي هو عادةُ الرُّكبان، وهو ترديدُ الصوت وتلوينه بحيث لا يُخِلُّ بالمعنى، فاختار رسول الله عليه السلام أن يتركَ العربُ التغنيَ بالأشعار، ويعتادوا قراءة القرآن على الصفة التي كانوا يعتادونها في قراءة الأشعار.
والرابع: تحسين الصوت وتطييبه بالقراءة من غير ترديدِ الصوتِ.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
1571 -
وقال: "ليسَ مِنَّا مَنْ لمْ يتغَنَّ بالقُرآن".
قوله: "ليسَ مِنَّا من لم يتغنَّ بالقرآنِ"؛ يعني: ليس من متابعينا من لم يتغنَّ بالقرآن، وقد ذكرنا معنى التغني والأقوالَ الواردة فيها.
وقال الشافعي: لا بأسَ بالألحان وترديد الصوت بالقرآن، واختار سفيانُ ابن عُيينةَ: أن التغني هو الاستغناء بالقرآن عن غيره.
روى هذا الحديث أبو هريرة وسعدُ بن أبي وقَّاص.
* * *
1572 -
وقال عبد الله بن مَسْعودٍ رضي الله عنه: قالَ لي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو على المِنْبَرِ: "اقْرَأْ عليَّ"، قلتُ: أَقْرَأُ عليكَ وعليكَ أُنْزِلَ؟، قال:"إنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي"، فقرأْتُ سورةَ النِّساءَ حتَّى أتيتُ إلى هذه الآية:{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال: "حَسْبُكَ الآن"، فالتفتُّ إليه، فإذا عَيْنَاهُ تَذْرِفانِ.
قوله: "اقرأ عليَّ"؛ يعني: اقرأ حتى أستمع إليك، فإني أحب أن أسمعَ القرآنَ من غيري، وهذا دليلٌ على أن استماعَ القرآن سُنةٌ.
قوله: "حسبك الآن"؛ يعني: إذا وصلت إلى هذه الآية لا تقرأ شيئًا آخر، فإني مشغولٌ بالتفكُّر في هذه الآية وبالبكاء.
ولتتعلم الأمةُ استماعَ القرآن عن رسول الله، فإنه استمع مع (1) التدبر والتفكر في معناه بحيثُ جرت دموعه من تعظيمِ خطابِ الله تعالى.
قوله: " {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} "؛ يعني: فكيف حال الناس في يومٍ تحضرُ أمةُ كلِّ نبيٍّ، ويكون نبيهم شهيدًا بما فعلوا من قبولهم ذلك النبي، أو ردهم إياه؟ وكذلك يفعلُ بك يا محمد وبأمتك.
(1) في "ت" و"ق": "عن"، وفي "ش":"عند"، والصواب ما أثبت.
"تَذرِفان"؛ أي: تقطران الدمع.
* * *
1573 -
وعن أنَسٍ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأُبَيِّ بن كَعْبٍ: "إنَّ الله أَمَرَنِي أَنْ أقرأَ عليكَ القُرآنَ"، قال: الله سَمَّاني لكَ؟!، قال:"نعمْ"، قال: وقَدْ ذُكِرْتُ عندَ ربِّ العالَمِينَ؟!، قال:"نعمْ"، فذرفَتْ عَيْنَاهُ.
وفي روايةٍ: "أَمَرَني أنْ أقرأَ عليكَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} ".
قوله لأبيٍّ: "إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآنَ"؛ يعني: أن أقرأ حتى تسمعَهُ مني، وتعرفَ كيفيةَ قراءتي، وتصحيحَ الحروف، وتجويدَ اللفظ، ومن هذا جرى بين المقرئين سنةُ أن يقرأ الأستاذ أولاً حتَّى يسمعَ التلميذُ، ثم يقرأ التلميذُ.
قوله: "الله سماني؟! " تقدير الكلام: (أالله) بهمزتين؛ الأولى همزة الاستفهام، والثانية همزة (الله)، فقُلِبت الهمزة الثانية ألفًا، فصار (الله) بالمد، ويجوز (الله) بغير مدٍّ على أنه حُذِفت همزة الاستفهام؛ للعلم بها.
قوله: "فذرفت عيناه"؛ يعني: بكى أُبيٌّ من أجل أنه رأى نفسَه أحقرَ من أن يذكره ربُّ العالمين.
قوله: "أمرني ربي أن أقرأَ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} "، قيل: سببُ تخصيصِ قراءة هذه السورة من بين السور: أن في هذه السورة قصةَ أهل الكتاب، وأبيٌّ كان من علماء اليهود؛ ليعلمَ أبيٌّ حالَ أهل الكتاب، ويعلمَ خطابَ الله معهم.
* * *
1574 -
وقال ابن عُمر رضي الله عنهما: نَهَى رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أنْ يُسَافَرَ بالقُرآنِ إلى أرضِ العَدُوِّ.
وفي روايةٍ: قالَ: "لا تُسافِرُوا بالقُرآنِ، فإنِّي لا آمَنُ أَنْ ينالَهُ العَدُوُّ".
قوله: "أن ينالَهُ العدوُّ"؛ يعني: أن يصيب الكفارُ مصحفَ القرآن ويُحقِّروه، أو يحرقوه، أو يلقوه في مكان نجس.
* * *
مِنَ الحِسَان:
1575 -
عن أبي سَعيد الخُدْريِّ رضي الله عنه قال: جلَستُ في عِصابةٍ من ضُعفاءِ المُهاجرينَ، وإنَّ بعضَهُمْ لَيَسْتَتِرُ ببعضٍ مِنَ العُرْيِ، وقارِئٌ يَقْرأُ علينَا، إذْ جاءَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقامَ عَلَيْنَا، فلمَّا قامَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم سَكَتَ القارِئُ، فسلَّمَ، ثمَّ قال:"مَا كُنْتُم تَصْنَعُونَ؟ " قُلنا: كُنَّا نستَمِعُ إلى كِتابِ الله، فقال:"الحمدُ لله الذي جعلَ مِنْ أُمَّتي مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أَصْبرَ نفسِي مَعَهُمْ"، قال: فجلسَ وَسْطَنَا ليَعْدِلَ بنفسِهِ فينا، ثمَّ قال بيدِهِ هكذا، فتحلَّقُوا، وبرَزَتْ وُجُوهُهُمْ لهُ، فقال:"أبْشِرُوا يا مَعْشَرَ صعَالِيكِ المُهاجِرينَ بالنُّورِ التَّامُ يومَ القِيامَةِ، تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قبلَ أَغنِيَاءِ النَّاسِ بنصْفِ يومٍ، وذلكَ خمسُمائةِ سنَةٍ".
قوله: "إن بعضَهم ليستترُ ببعض من العُرْيِ": هؤلاء أهلُ الصفة ليس لهم من الثيابِ إلا قليلٌ؛ مَنْ كان ثوبُهُ أقلَّ من ثوب صاحبه يجلسُ خلف صاحبه حتى لا يراه أحدٌ.
قوله: "فقامَ علينا"؛ أي: قام رسولُ الله عليه السلام فوق رؤوسنا.
"بغتة"؛ يعني: كنا غافلين عن مجيئه، فإذا نظرنا، فإذا هو قائمٌ فوق رؤوسنا.
قوله: "فسلَّم"؛ يعني: فسلم رسولُ الله عليه السلام علينا.
"جعل من أمتي مَنْ أُمرتُ أن أصبرَ معهم"؛ يعني: الحمدُ لله الذي جعلَ من أمتي زُمْرةً صلحاء فقراء مُقرَّبين عند الله تعالى، ومن غاية قربهم إلى الله تعالى أمرني الله أن أصبرَ معهم - أي: أكون معهم، وأحبس نفسي معهم - بقوله تعالى:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} ، قال المفسرون: معناه: يتعلمون القرآن والأحكام منك يا محمد في أول النهار وآخره، {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}؛ يعني: يطلبون رضا الله، {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28]؛ يعني: لا تجاوزْ بصرَكَ عنهم إلى (1) الأغنياء.
نزلت هذه الآية في فقراء المهاجرينَ حين قال كفارُ قريش لرسول الله عليه السلام: أخرِج الفقراءَ من عندك حتى نجالسَكَ، ونؤمن بك، ففعل رسول الله عليه السلام ذلك حرصًا على إيمانهم، فنزلت هذه الآية، ونهاه عن ذلك.
قوله: "ليعدِلَ بنفسه فينا"؛ يعني: لنراه جميعًا، فإنه لو لم يجلسْ وسطنا، لرآه بعضُنا دون بعض.
قوله: "ثم قال بيده هكذا"؛ يعني: أشار إلى أن اجلسوا على الحلقة، فبهذا عُلِمَ كونُ جلوسِ الجماعة على الحلقة سُنةً.
قوله: "وبرزت وجوهُهم له"؛ أي: ظهرت وجوهُهم لرسول الله عليه السلام؛ يعني: جلسوا على الحلقة بحيث يَرى النبي عليه السلام وجهَ كلِّ واحد منهم.
"أبشروا" بفتح الهمزة وكسر الشين؛ أي: افرحوا.
"الصعاليك": جمع صعلوك، وهو الفقير.
(1) في جميع النسخ: "في"، والصواب ما أثبت.
"بالنور التام"؛ يعني: حظُّ الفقراء في القيامة أكثرُ من حظ الأغنياء؛ لأن الأغنياء وجدوا راحةً في الدنيا، واشتغلوا بتحصيل المال، والفقراءُ لم تحصل لهم راحةٌ في الدنيا، فزيدت حظوظهم التي فاتت عنهم في الدنيا مع حظوظهم الأخروية، فحصل لهم ضعْفَا ما حصل للأغنياء، وإنما دخل الفقراءُ الجنةَ قبل الأغنياء؛ لأن الأغنياءَ وُقِفوا في العَرَصَات للحساب، وسُئِلوا من أين حصَّلوا المال؟ وفي أي شيءٍ صرفوه؟ ولم يكنْ للفقراء مالٌ حتَّى يُوقَفوا ويُسأَلوا عنه.
يعني رسولُ الله عليه السلام بالفقراء: الفقراءَ الصابرين الصالحين، وبالأغنياء: الأغنياءَ الشاكرين المؤدِّين حقوقَ أموالهم.
* * *
1576 -
وقال: "زَينُوا القُرآنَ بأَصْوَاتِكُمْ".
قوله: "زينوا القرآنَ بأصواتكم"، قال الخطابي: قد جاء عن البراء بن عازبٍ عن رسول الله عليه السلام في هذا الحديث روايتان:
أحدهما: هذا.
والثانية: "زينوا أصواتَكم بالقرآنِ".
وقال: هذه الرواية أصحُّ؛ يعني: اشتَغِلوا بالقرآن؛ فإنَّ قراءةَ القرآن زينةٌ للصوت ولصاحبه.
وقالوا: تقدير: زينوا القرآنَ بأصواتكم: زينوا أصواتكم بالقرآن أَيضًا؛ فإن الأصوات وأصحاب الأصوات يتزيَّنون بالقرآن، ولا يتزيَّنُ القرآنُ بالأصوات.
* * *
1577 -
وقال: "مَا مِنْ امرِئٍ يقرأُ القُرْآنَ، ثُمَّ يَنْساهُ إلَّا لقيَ الله يومَ القيامَةِ أَجْذَمَ".
قوله: "ما من امرئ يقرأ القرآنَ ثمَّ ينساه إلا لقيَ الله يوم القيامة أجذمَ"، (الأجذم): مقطوع اليد.
قال ابن الأعرابي: معناه: لقيَ الله خاليَ اليدِ من الخير، وقيل: معناه: لقيَ الله مقطوعَ الحُجَّة؛ يعني: لا حجةَ له ولا عذرَ له في نسيان القرآن؛ يعني: ينكِّسُ رأسَهُ عند الله من الاستحياء عن استخجال نسيانِ كلامِهِ.
روى هذا الحديث سعدُ بن عُبادةَ.
* * *
1578 -
عن عبد الله بن عَمْرٍو: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "لَمْ يَفْقَهْ مَنْ قَرَأَ القُرآنَ في أقلَّ مِنْ ثَلاثٍ"، صحيح.
قوله: "لم يفقَهْ مَنْ قرأ القرآنَ في أقلَّ من ثلاثٍ"؛ يعني: لا يقدرُ الرجل أن يتفكَّرَ أو يتدبر في معنى القرآن لو ختم القرآن في ليلة أو ليلتين؛ لأنه يقرأ على العجلة والملالة، بل ينبغي أن لا يختمَ القرآنَ إلا في ثلاث ليال أو أكثر، حتى يقرأَ على التأني، ومن طيب النفس ونشاطها، ويتفرَّغَ للتدبر في معناه.
* * *
1579 -
وعن عُقْبة بن عامِرٍ، عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال:"الجاهِرُ بالقُرآنِ كالجاهرِ بالصَّدقةِ، والمُسِرُّ بالقُرآنِ كالمُسِرُّ بالصَّدقةِ"، غريب.
قوله: "الجاهِرُ بالقرآن كالجاهرِ بالصدقةِ، والمُسِرُّ بالقرآن كالمسرِّ بالصدقة"؛ يعني: كما أن الجهر والسر بالصدقة جائزان، فكذلك في القرآن، قال الله تعالى:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]
الحاصل: أن قراءةَ القرآن كصلاة النافلة، فكما أن إخفاءَ صلاة النافلة أفضلُ،
فكذلك إخفاءُ قراءة القرآن، وهذا في غيرِ الصلوات المفروضات، فإن الجهرَ في صلاة الصبح والركعة الأولى والثانية من المغرب والعشاء أَوْلَى اقتداءً برسول الله عليه السلام، ولو قرأ جماعة في مسجد سبعًا أو أكثر من القرآن جهرًا؛ ليعلمَ بعضُهم بعضًا اللحن والخطأ، وليستمعَ إليهم جماعةٌ لينالوا ثوابَ الاستماع، وليرغبَ جماعةٌ في تعلُّمِ القرآن، وليحصلَ للمستمعين ذوقُ أصوات القارئين، وذوقُ معاني القرآن وإظهار الدين، فإذا كان نيَّتهم هذه الأشياء، فالجهرُ أولى، كما أن الأذان في أيِّ موضع أعلى أفضل؛ لأن رسول الله عليه السلام قال لأبي بكر:"ارفعْ من صوتِكَ"، ولأنه قال عليه السلام:"زينوا أصواتَكم بالقرآنِ".
* * *
1581 -
عن يَعْلى بن مَمْلَك: أنَّه سألَ أُمَّ سلَمةَ عنْ قِراءَةِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فإذا هي تَنْعَتُ قِراءَةً مَفَسَّرةً حرفًا حرفًا.
قوله: "فإذا هي تَنْعَتُ"؛ أي: تصفُ، (نعت): إذا وصف.
"مُفسَّرة"؛ أي: مبينة؛ يعني: قالت: كان رسول الله عليه السلام يقرأ القرآنَ على التأني بحيث يمكنُ عدُّ حروفِ ما يقرأ.
* * *
1582 -
ورُوي أنّها قالت: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يُقطِّعُ قِراءَتَهُ يقولُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثمَّ يَقِفُ، ثمَّ يقولُ:{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثمَّ يقِفُ، والأوَّل أصحُّ.
قولها: "يقولُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ثم يقفُ": إنَّما كان رسول الله عليه السلام يقفُ على الآية؛ ليتبينَ للمستمعين رؤوسُ الآيِ، ولو لم يكنْ لهذه العلةِ لَمَا وقفَ على {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، ولا على {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؛ لأن