الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودعوةُ المُسافِرِ، ودعوةُ المَظْلُومِ".
قوله: "ثلاثُ دعواتٍ مُستجاباتٍ لا شكَّ فيهنَّ: دعوةُ الوالد، ودعوةُ المسافر، ودعوةُ المظلوم".
قبولُ دعوة الوالد والمسافر لما ذكرناه من أنه يخرج الدعاءُ عن التضرع.
ولفظ الحديث في كتاب أبي عيسى الترمذي: "دعوة الوالد على ولده"؛ يعني: دعاء الشرِّ، وإنما يكون قبول هذا الدعاء إذا صدر عن الولد عقوقٌ؛ أي: مخالفة أمر الوالد فيما يجب على الولد طاعته، فإذا خالفه الولد، يكون الوالدُ مظلومًا، فيستجابُ دعاؤه، كما ذكرنا في المظلوم، وتقاسُ على الوالد الوالدةُ.
وقيل: بل دعاءُ الوالدِ أسرعُ إجابةً من دعاء الوالدة؛ لأن الوالدةَ لها رحمةٌ وشفقةٌ بالولد، لا تريد قبول دعائها.
وأما المسافر فيحتمل أن يكون دعاؤه بخير لمن يطعمه طعامًا، ويخدمه، فيدعو له، فيُقبل دعاؤه؛ لأن الغالبَ من حال المسافر: أن يكون مُحتاجًا، ومُضطرًا إلى طعام، فإذا أطعمه أحدٌ، يكون دعاءُ المسافر له عن الصدق وخلوص النية، فتسرعُ إجابته، ويحتمل أن يكون دعاؤه بشرًّ لمن يؤذيه، ويمنع حقَّه من الطعام والماء عند الاضطرار، فيُقبل دعاؤه؛ لأنه مضطرٌ منكسرُ القلب.
روى هذا الحديث أبو هريرةَ.
* * *
2 - باب ذِكْرِ الله عز وجل والتَّقرُّبِ إليهِ
(باب ذكر الله عز وجل والتقرُّب إليه)
مضى شرحُ هذا في الحديث الأول في (كتاب العلم).
1617 -
وقال: "سَبَقَ المُفَرِّدونَ"، قالوا: وَمَا المُفَرِّدونَ يا رسولَ الله؟، قال:"الذَّاكِرُونَ الله كثيرًا والذَّاكِرَاتُ".
قوله: "سبقَ المُفرِّدونَ": بَيَّنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بأنهم الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات، وكان حقيقةُ التفريد في اللغة: جعلَ الرجلِ نفسَهُ فردًا ممتازًا بذكر الله عمَّن لا يذكرُ الله، أو جعلَ ربه فردًا بالذكر، وترك ذكر من سواه.
روى هذا الحديث أبو هريرةَ.
* * *
1618 -
وقال: "مَثَلُ الذي يَذكُرُ رَبَّه والذي لا يذكرُ مثَلُ الحيِّ والميتِ".
قوله: "مثلُ الذي يذكرُ ربَّه والذي لا يذكرُ مثلُ الحيِّ والميتِ"؛ يعني: الحي تحصلُ منه طاعة، والميت لا تحصلُ منه طاعة، فالذاكرُ ربَّه هو الحيُّ على الحقيقة؛ لأن الحيَّ من له تلذُّذٌ وحياة، والتلذذ والحياة الحقيقي هو ذكرُ الله تعالى وطاعتُهُ؛ لأنَّ الذكرَ يُحيي القلوبَ، ويوجِبُ له الجنةَ، ولقاءَ الله ورضاه، وهذه الأشياءُ هي الحياةُ الحقيقية، ومن خلا من الذكرِ، فهو ميتٌ؛ لأنه خالٍ عمَّا يُحيي قلبَه، وعما يوجب له الحياة الأبدية، وهو ذكرُ الله وطاعته.
روى هذا الحديث أبو موسى.
* * *
1619 -
وقال: "يقولُ الله تعالى: أنا عندَ ظَنَّ عَبْدِي بي، وأنا معَه إذا ذَكَرَني، فإنْ ذَكَرَني في نْفسِهِ ذَكَرْتُهُ في نْفسِي، وإنْ ذَكَرَني في ملأٍ ذَكَرْتُهُ في ملأٍ خير منهم".
قوله حكاية عن الله أنه قال: "أنا عند ظن عبدي بي"، هذا يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون معناه: أني مطلعٌ على قلب عبدي، وأعلمُ أن فيه ذكري، ومَحبتي، وتعظيمَ أمري، ورضاه بقضائي وقدري، أو يكون في قلبه خلافُ هذه الأشياء، فإذا علم العبد أني مطلعٌ على قلبه، فليكنْ في قلبه ما أُحبُّه وأُثيبُهُ عليه جدًا، ولا يغفلُ عني، فيحرم من رضائي وثوابي.
والاحتمال الثاني: أن يكون معناه: أني أعطي العبدَ ما يظن بي، فإن اعتقدني كريمًا، أكرمت عليه، وإن اعتقدني غفورًا غفرت له، وإن اعتقدني رحيمًا رحمته.
و (الظن) هنا بمعنى: اليقين والاعتقاد، لا بمعنى: الشكِّ.
قوله: "وأنا معهُ إذا ذكرني"؛ أي: أنا عالمٌ به، ولا يَخفَى عليَّ شيءٌ.
"فإن ذكرني في نفسِهِ"؛ أي: في السرِّ.
"ذكرته في نفسي"؛ أي: أوجبت له، وأثبتُّ له الثوابَ بحيث لا يعلمُ أحدٌ من الملائكة.
"وإن ذكرني في ملأ"؛ أي: بينَ جماعةٍ. و (الملأ): الجماعة الأشراف.
"ذكرته في ملأ"؛ أي: بين الملائكة.
"خير منهم"؛ أي: الملائكة خير من الجماعة التي ذكرني بينهم.
واختلف في أن الملائكة خير من البشر أم لا؟ وما عليه المعتبرون من الأئمة، وهذا هو المختارُ: أن خواصَّ البشر - أعني: الأنبياءَ - خيرٌ من خواصِّ الملائكة، وأما عوامُّ البشر ليسوا خيرًا لا من خواصِّ الملائكة، ولا من عوامهم.
روى هذا الحديثَ أبو هريرةَ.
* * *
1620 -
وقال: "مَنْ جاءَ بالحسَنةِ فلهُ عَشْرُ أمْثالِهَا وأَزِيدُ، ومَنْ جاءَ بالسَيئةِ فجَزاءُ سيئةٍ مثلُها أو أَغفِرُ، ومَنْ تَقَرَّبَ شِبرًا منِّي تَقَرَّبْتُ منه ذِرَاعًا، ومَنْ تَقَرَّب منِّي ذِراعًا تقرَّبْتُ منهُ باعًا، ومَنْ أَتاني يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، ومَنْ لَقِيَنِي بقُرابِ الأَرضِ خَطيئةً لا يُشْرِكُ بي شيئًا لَقِيتُهُ بمِثلِها مغفرةً".
قوله: "أو أَغْفِرُ"؛ يعني: إن شئتُ جازيتُ المسيءَ لا أجازيه بكلِّ شيء إلا جزاء سيئة فقط، وإن شئت أغفر له تلك السيئةَ؛ فإني غفورٌ رحيم.
قوله: "ومن تقرَّبَ مني شِبرًا، تقرَّبت منه ذِراعًا
…
" إلى آخره.
(التقرُّب): طلب القُربةِ، وطلبُ قُربةِ العبد من الله يكون بالطاعة، فمن كانت طاعتُهُ وصفاءُ قلبه أكثرَ، كانت قربته من الله أكثر.
يعني بهذه الألفاظ المذكورة في هذا الحديث: أن ثوابي أكثرُ من طاعة العبد، وتوفيقي إياه أكثرُ من سعيه؛ يعني: فإن فعلَ خيرًا قليلاً، جازيته به ثوابًا كثيرًا، وإن طلب مني التوفيقَ والاستعانةَ على الطاعة أعطيتُهُ أضعافَ ما طلب.
(المشي): الذهاب المعهود.
و (الهرولة): الذهاب مع الإسراع؛ يعني: العَدْو.
"ومَنْ لقيني"؛ أي: جاءني يومَ القيامة.
"بقُرابِ الأرضِ"؛ أي: بمِلء الأرضِ.
لا يجوزُ لأحد أن يغترَّ بهذا الحديث ويقول: إذا قال الله تعالى: "مَنْ لقيني بقُرابِ الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئًا، لقيتُهُ بمثلها مغفرة"، فأُكْثِرُ الخطيئةَ حتى يكثِرَ الله مغفرته، وإنما قال الله بهذا؛ كي لا ييأسَ المذنبون من رحمته، ولا شك أن الله له مغفرةٌ وعقوبةٌ، ومغفرتُهُ أكثرُ، ويغفرُ كثيرًا من [ذنوب] المذنبين، وإن كانت ذنوبهم كثيرة، ويُعذَّب كثيرًا من المذنبين
بذنوبهم، ولا يعلم أحدٌ أنه من الذين يغفرُ الله من ذنوبهم، أو من الذين يعذبهم الله بذنوبهم، فإذا كان الأمر كذلك فليرجُ الرجل مغفرةَ الله، وليخَفْ عقابَهُ، والله أعلم.
روى هذا الحديث أبو ذرٍّ.
* * *
1621 -
وقال: "إنَّ الله تعالى قال: مَنْ عَادَى لِيْ وَلِيًّا فقد آذَنْتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افتَرَضْتُ عليهِ، وما يَزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتى أُحِبَّهُ، فإذا أَحببْتُهُ، كنتُ سَمْعَهُ الذي يَسمعُ به، وبصَرَهُ الذي يُبصِرُ به، ويدَه النبي يَبطِشُ بها، ورجلَه التي يمشي بها، وإنْ سألني لأُعطِيَنَّهُ، ولئنْ استَعاذَ بي لأُعيذَنَّهُ، وما تردَّدتُ في شيءٍ أنا فاعَلُهُ تَرَدَّدِي عن نفْسِ المُؤمنِ، يَكْرَهُ المَوتَ، وأنا أَكْرَهُ مَسَاءَتَه، ولا بُدَّ له مِنه".
قوله عليه السلام حكايةً عن الله تعالى: أنه قال: "مَنْ عادَى لي وليًا، فقد آذنته بالحربِ"؛ يعني: من أغضب وآذى واحدًا من أوليائي.
"فقد آذنته"؛ أي: أعلمته بأني سأحاربه؛ أي: سأقهره وأعذبه.
و (أولياء الله): هم المطيعون له، وليس المراد بالوليِّ هنا: الولي المعهود بين المشايخ، بل كلُّ مُتَّقٍ داخلٌ في هذا الحديث؛ لقوله تعالى:{وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19].
قوله: "وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إليَّ مما افترضتُ عليه"؛ أي: بأداء ما فرضتُ عليه؛ يعني: أداءُ الفرائض أفضلُ من أداء السنن والنوافل؛ لأن أداءَ الفرائض طاعةُ الله والإتيان بأوامره، وترك أداء الفرائض عصيانُ الله، ولا شكَّ أن الإتيانَ بأوامر الله واجتنابَ عصيانِهِ أحبُّ إليه من أداء النوافل الذي
لم يأمر به الله، ولم يعصِ أحدٌ الله بترك النوافل، بل فعل النوافل موجبٌ للثواب، وتركُهُ غيرُ موجبٍ للعقابِ.
قوله: "وما يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه".
مثال المؤدي للفرائض والنوافل جميعًا كمن عليه دينٌ لأحد، فإذا أدَّى دينه موفرًا كاملًا عن غير مطلٍ يحبُّه، ولو أدَّى دينه، وزادَ عليه شيئًا من ماله غيرَ ما وجب عليه، لا شكَّ أن آخذَ الدين أشدُّ حبًا له بأخذ الدين والشيءِ الزائد من أخذ الدين، فكذلك مَنْ أدَّى فرائضَ الله تعالى يحبُّه الله، ومن أدَّى الفرائضَ والنوافلَ يزيدُ حبُّ الله له، فبقدرِ ما زاد من النوافل يزيدُ حبُّ الله له، حتى صار عبدًا مخلصًا مرضيًا لله تعالى، فإذا صار مرضيًا محبوبًا لله، يكون الله سمعَهُ الذي يسمع به
…
إلى آخر الكلمات.
سُئِلَ الشيخُ أبو عثمان الحِيْرِيُّ عن هذه الكلمات فقال: معناه: كنتُ أسرعَ إلى قضاء حوائجه من سمعِهِ في الاستماع، وبصرِهِ في النظر، ويدِهِ في اللمس، ورجلِهِ في المشي.
وقال الخطَّابيُّ: معناه: توفيقه في الأعمال التي باشرها بهذه الأعضاء؛ يعني: يتيسَّرُ عليه فيها سبيلُ ما يحبُّه ويعصمه عن موافقة ما يكره من استماعٍ إلى اللغوِ بسمعه، ونظرٍ إلى ما نهى الله عنه ببصرِهِ، وبطشٍ بما لا يحلُّ بيده، وسعي في الباطل.
حاصل كلام الخطابي: أن معناه: أني أوفِّقه حتى لا يسمعَ إلا ما أحبه، ولا يبصر إلا ما أحبه، ولا يستعمل يديه ورجليه إلا فيما أحبه.
قوله: "وما تردَّدتُ في شيء أنا فاعله تردُّدي عن نفسِ المؤمنِ".
(تردَّد الرجل): إذا تحيَّرَ بين الفعلين؛ لعدم علمه بأنَّ الأصح فعلُ هذا أم هذا، وهذه من صفة الخلق، وأما الخالق منزهٌ عن التردُّدِ بهذا المعنى.
وذكر في "شرح السنة": [أنه] له وجهان:
أحدهما: أن معناه: أني أرسلتُ إلى المؤمن ما يقرَّبهُ إلى الهلاك من المرض والجوع والعطش والسقوط من العلو إلى السفل البعيد، ثم حفظته وشفَيْتُه من الأمراض، ودفعتُ عنه الجوعَ والعطشَ، ففعلتُ به هذا مرةً بعدَ أخرى، ولم أهلكه حتى يبلغ أجله، ومن قَرُبَ أن يفعل فعلًا، ثم تركه، يقال:(بدا له تردُّدٌ)، فكذلك إذا أرسل الله إلى المؤمن ما يقرِّبه إلى الهلاك، ثم حفظه عن الهلاك، فكأنه قرب أن يهلكه ولم يهلكه، فهذا يشبهه فعلُ المتردَّد، ولكن ليس في حق الله تعالى بأنه عالم بما كان وما يكون، وبما فعل وبما يفعل، ولا يخفى عليه شيء.
والوجه الثاني: أن يكون (التردد) بمعنى: الترديد، وهو جعلُ أحدٍ مترددًا بين أمرين، ومعناه هنا في هذا الوجه: أني ما ردَّدتُ الملائكةَ الذين يقبضون أرواحَ الناس ويهلكونهم في شيء ترديدًا مثلَ ترددي إيَّاهم في قبض أرواح المؤمنين؛ يعني أقول لهم: اقبضوا روح فلان، ثم أقولُ لهم: أخِّروه، كما جاء أنه تعالى بعثَ ملك الموت إلى موسى عليهما السلام، وأمره بقبضِ روحِهِ، فلما جاء ملكُ الموت وقال له: أجب ربك؛ يعني: أطعني حتى أقبض روحَكَ، فلطمه موسى، وفَقَأَ عينَهُ، فرجع ملك الموت إلى ربه وقال: يا رب! أرسلتني إلى من لا يريدُ الموتَ، فلطمني، وفقأ عيني، فردَّ الله إليه عينه فقال له: اذهبْ إلى موسى، وقل له: إن كنتَ تريدُ الحياةَ، فضعْ يدَك على متن ثورٍ، فما وارت يدك من شعره، فاإنك تعيشُ بها سنة، فقال موسى عليه السلام: ثم مَه؟ أيُّ: أي شيء يكون بعد ذلك؟ فقال: الموت؛ يعني: تموت بعد ذلك، فقال: الآنَ من قريب؛ يعني: فإذا كان عاقبتي الموت، فأمتني عن قريب.
قوله: "يكره الموتَ وأنا أكرهُ مساءتَهُ"، (المساءة): الأحزان، والمراد بها
ها هنا: شدة الموت، وليس المراد بها: نفس الموت؛ لأن الموت يوصل المؤمن إلى رحمة الله تعالى ولقائه، فكيف يكره الله للعبد الموت الذي يوصله إلى رحمته؟! يعني: يكره المؤمنُ الموتَ، وأنا أكره له أيضًا شدةَ الموت، فأؤخِّر موته؛ يعني: لا أهلكه بما يلحقه أولًا من أسباب الموت من المرض والسقوط وغير ذلك، ولا بما يلحقه ثانيًا وثالثًا، بل أشفيه من الأمراض، وأحفظه من الهلاك، حتى يَكمُلَ له ما كُتِبَ من العمر.
وفي بعض الروايات بعد قوله: (وأنا أكره مساءته): "ولا بدَّ له منه"؛ يعني: وبعد تأخيرِ عمره ونجاته من الأمراض والمهلكات، لا بدَّ له من الموت، ولا يخلصُ منه، فإني قدَّرت لكلَّ نفسٍ الموتَ.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
1622 -
وقال: "إنَّ للهِ ملائكةً يَطُوفونَ في الطُّرُقِ يلتمِسُونَ أهلَ الذِّكرِ، فإذا وَجَدُوا قَومًا يذكرونَ الله تَنَادَوا: هَلُمُّوا إلى حاجَتِكُمْ، قال: فَيَحُفُّونَهم بِأَجنِحَتِهم إلى السَّماء الدُّنيا، فإذا تَفَرَّقُوا عَرجُوا إلى السَّماءِ، قال: فيَسْألُهم الله وهو أَعلَمُ بهم: مِنْ أينَ جئتُم؟، فيقولونَ: جِئْنَا مِنْ عِندِ عِبادِكَ في الأَرضِ، قال: فيسألُهم ربُّهم وهو أَعْلَمُ بهم: ما يقولُ عبادي؟، قالوا: يُسَبحونَكَ، ويُكَبرُونَكَ، ويَحمدُونَكَ، ويُهَلِّلُونَكَ، ويُمَجِّدُونَكَ، قال: فيقول: هل رَأَوْنِي؟ قال: فيقولونَ: لا والله ما رَأَوْك، قال: فيقولُ: كيفَ لو رَأَوْنِي؟، قال: يقولونَ: لو رَأَوْكَ كانوا أَشَدَّ لكَ عِبادةً، وأشدَّ لكَ تَمْجيدًا، وأكثرَ لكَ تَسْبيحًا، قال: فيقولُ: فما يسأَلوني، قالوا: يَسألونَك الجنَّةَ، قال: وهل رَأَوْهَا؟، قال: فيقولونَ: لا والله يا ربِّ ما رَأَوْها، قال: يقولُ: فكيفَ لو رَأَوْهَا؟ قال: يقولونَ: لو أنَّهم رَأَوْها كانوا أشدَّ عليها حِرْصًا، وأشدَّ لها طَلَبًا، وأعظمَ فيها
رغبةً، قال: فيقولُ: فَمِمَّ يتَعَوَّذونَ؟، قال: يقولونَ: من النَّار، قال: فهل رَأَوْها؟ قال: يقولونَ: لا والله يا ربِّ ما رَأَوْها، قال: يقولُ: فكيفَ لو رَأَوْها؟، قال: يقولونَ: لو رَأَوْها كانوا أَشَدَّ منها فِرارًا وأشدَّ لها مخافةً، قالوا: ويَستغفِرُونَكَ، قال: فيقولُ: فأُشْهِدُكم أَنِّي قد غفَرتُ لهم، وأَعطيتُهم ما سَأَلوا، وأَجَرْتُهم مما استَجارُوا، قال: يقولُ مَلَكٌ مِنَ الملائكةِ: ربِّ فيهم فُلانٌ ليسَ مِنْهُم، إنَّما جاءَ لحَاجَةٍ".
وفي روايةٍ: "يقولونَ: ربِّ فيهم عبدٌ خطَّاءٌ، إنَّما مَرَّ فجلَسَ معَهم، قال: فيقولُ: ولهُ غفَرتُ، هُم القَومُ لا يَشْقَى بهِمْ جَلِيسُهُم".
قوله: "يلتمسون أهلَ الذكر"؛ يعني: يطلبون من يذكر الله من بني آدم؛ ليزورُوهم، ويدعوا لهم، ويستمعوا إلى ذكرهم.
"تنادَوا"؛ أي: ينادي بعضُ تلك الملائكة بعضًا، ويقولون:(هلموا)؛ أي: تعالوا "إلى حاجتكم"؛ أي: إلى ما تطلبون من استماعِ الذكرِ، فإنا قد وجدنا جماعةً من أهل الذكر.
قوله: "هلموا" هذا اللفظُ يجوز أن يُجعَل في التثنية والجمع والمذكر والمؤنث (هَلُمَّ): بفتح الميم على لفظ الواحد، ويجوز أن يُصرَّفَ كـ (مُدَّ)، وهو أمرُ حاضرٍ من (المدِّ).
قوله عليه السلام: "فيحفونهم بأجنحتهم"، (الحُفوف): الاجتماعُ والاشتمال حول الشيء.
(الأجنحة): جمع جناح، والباء للتعدية؛ يعني: يديرون أجنحتهم حولَ جماعةِ الذاكرين.
قوله: "إلى السماء"؛ يعني: يقف بعضُهم فوقَ بعض إلى السماء الدنيا.
"فإذا تفرقوا"؛ يعني: فإذا تفرَّقَ الذاكرون.
"التمجيد": ذكرُ (لا حول ولا قوة إلا بالله)، وأصلُ لُغته: ذكرُ الله بالعظمة.
"وأجرتهم": هذا اللفظُ من (أجار يُجير إجارة): إذا أمَّنَ أحدًا ممَّا يخافُ، و (الاستجارة): طلب الأمان.
قوله: "ليس منهم"؛ يعني: كان فيهم رجلٌ ليس من الذاكرين، بل كان يمرُّ لشُغلٍ، فجلس بينهم، يريد ذلك الملك بهذا اللفظ: أنه لا يستحقُّ المغفرةَ؛ لأنه ليس من الذاكرين.
قوله تعالى: "وله غفرت"؛ يعني: غفرت لهذا العبد أيضًا ببركة الذاكرين.
"فإنهم قوم لا يَشقَى بهم جليسُهم"؛ أي: لا يُحرَم جليسُهم من الثواب، بل من جلس معهم يجدُ ببركتهم الثوابَ.
وفي هذا ترغيبٌ للعباد في مجالسةِ الصلحاءِ؛ لينالوا نصيبًا من بركتهم وثوابهم.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
1623 -
عن حَنْظَلة الأُسَيديِّ قال: انطلقتُ أنا وأبو بكْرٍ حتَّى دخلْنَا على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، قلتُ: نافَقَ حَنْظَلةُ!، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"مَا ذَاكَ؟ "، قلتُ: نكُونُ عندَكَ تُذَكِّرنا بالنارِ والجنةِ كأنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فإذا خرجْنا عافَسْنا الأزْوَاجَ والأولادَ والضَّيْعَاتِ نَسِيْنا كثيرًا، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفْسي بيدِهِ، لو تَدُومونَ على ما تَكُونُونَ عندي وفي الذِّكرِ؛ لَصَافَحَتْكُمْ الملائكةُ على فُرُشِكُم
وفي طُرقِكُم، ولكن! يا حنظلةُ ساعةً وساعةً" ثلاثَ مرَّاتٍ.
قوله: "نافق حنظلة"؛ أي: صار منافقًا.
و (المنافق): من يظهرُ الإسلامَ، وفي قلبه شيء آخر.
قوله عليه السلام: "وما ذاك؟ "؛ أي: وأي شيء قولك؟ يعني: لأي سبب تقول: نافق حنظلة؟
قوله: "كأنا رأيَ عين"، (رأي عين): مصدرٌ أُقيم مقام أسماء الفاعلين، والمصدر يقام مقام اسم الفاعل والمفعول والواحد والتثنية والجمع؛ أي: كأنا رائين الجنة والنار وأهوال القبر والقيامة بالعين.
قوله: "عافسنا الأزواجَ والأولادَ"؛ أي: خالطناهم.
يعني: إذا كنتُ عندكَ كنتُ على غاية الحضور والخوف من الله وصفاء القلب، وإذا خرجت من عندك أكون على غير حضور، وهذا الفعل كفعل المنافقين.
(الضَّيْعاتُ): الأراضي والبساتين، والحِرَفُ أيضًا.
قوله: "لو تدومونَ على ما تكونون عندي وفي الذِّكرِ"؛ يعني: لو كنتم في غيبتي مثل ما كنتُم عندي من صفاء القلب والدوام على الذكرِ والخوفِ من الله تعالى، "لصافحتكم الملائكة"؛ يعني: لزارتكم الملائكة، ولعله عليه السلام أراد بمصافحة الملائكة إياهم علانية؛ لأن الملائكةَ يصافحون أهلَ الذكر.
قوله: "ساعة وساعة"؛ يعني: لا يكون الرجل منافقًا بأن يكون في وقتٍ على غاية الحضور وصفاء القلب وفي الذكر، وفي وقتٍ لا يكون بهذه الصفة، بل لا بأسَ في وقت بأن يكون ساعة في الذكر، وساعة في الاستراحة والنوم
والزراعة ومعاشرة النساء والأولاد، وغير ذلك من المُباحاتِ.
* * *
مِنَ الحِسَان:
1624 -
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُنَبئُكم بخيرِ أعمالِكم، وأَزكَاها عندَ مَلِيكِكُم، وأَرْفَعِها في دَرجاتِكُم، وخيرٍ لَكُم مِن إنفاقِ الذَّهبِ والوَرِقِ، وخيرٍ لكم مِن أن تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فتضْرِبُوا أعناقَهُم ويَضْرِبُوا أعناقَكُم؟ "، قالوا: بلى، قالَ:"ذِكْرُ الله".
قوله: "وأزكاها"؛ أي: أطهرها وأتمها.
"المليك": الملك، والمراد به ها هنا: هو الله تعالى.
قوله: "من أن تلقوا عدوكم"؛ يعني: من الجهاد مع الكفار.
روى هذا الحديث أبو الدَّرداءِ.
* * *
1625 -
وعن عبد الله بن بُسْرٍ قال: جاءَ أعرابيٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فقالَ: أيُّ النَّاسِ خيرٌ؟، فقال:"طُوبَى لمَنْ طالَ عمرُه وحَسُنَ عَمَلُه"، قال: يا رسولَ الله، أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟، قال:"أنْ تُفَارِقَ الدُّنيا ولِسانُكَ رطْبٌ مِن ذكرِ الله".
قوله عليه السلام في جواب الأعرابي: "طُوبى لمن طالَ عمرُهُ وحَسُنَ عملُهُ"؛ يعني: خير الناس من طال عمره وحسن عمله.
قوله: "ولسانُكَ رطْبٌ من ذكر الله"؛ أي: ولسانك متحرِّكٌ بذكر الله.
و (رطب اللسان): عبارة عن جريان اللسان بالكلام، و (جف اللسان):
عبارة عن السكوت.
* * *
1626 -
وقال: "إذا مَرَرْتُم برياضِ الجنَّةِ فارتَعُوا"، قالوا: وما رياضُ الجنةِ؟، قال:"حِلَقُ الذكرِ".
قوله: "إذا مررتُمْ برياضِ الجنةِ فارتعوا
…
" إلى آخره.
(الحَلَق) بفتح الحاء واللام: جمع حَلَقَة.
يعني: إذا مررتم بجماعةٍ يذكرون الله، فاذكروا الله أنتم أيضًا موافقةً لهم، فإنهم في رياضِ الجنة، وأيُّ خصلةٍ توصلُ العبد إلى الجنة، فهي روضةٌ من رياض الجنة.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
1627 -
وقال: "مَنِ اضطَجعَ مَضْجَعَاً لم يَذْكُرِ الله فيه؛ كانَ عليهِ تِرَةً يومَ القيامَةِ، ومَنْ قَعَدَ مَقْعدًا لم يَذْكرِ الله فيه كانَ عليه تِرَةً يومَ القيامَةِ".
قوله: "ومن اضطجعَ مضجعًا لم يذكرِ الله فيه كانَ عليه تِرَةً يومَ القيامة"، (الترة): النقصان، من وتر يتر وَتْرًا وتِرة: إذا نقص، والمراد بها ها هنا، وفي الحديث الذي بعده: التَّبعة، وهي الماخذة بجُرْم، وحقيقة هذا: أن شكر الله على نعمه واجبٌ، والمضطجعُ والمجلسُ أيضًا عليه من نِعمِ الله تعالى؛ لقوله تعالى مِنَّة على العباد:{أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ: 6] وقال أيضًا: {هُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا} [الملك: 15]؛ أي: لينة بحيثُ يمكنكم الاستقرارُ والترددُ والزراعةُ فيها، فإذا كان الزمان والمكان لله تعالى، فمن استوفى حظَّه من مكان
بأن جلسَ فيه واضطجعَ، يجبُ عليه قضاء شكره على الحقيقة بأن يذكر الله ويصلِّي على نبيه فيه، وهذا كمن جلس في دار واحد، وجبَ عليه الاستحلالُ والأجرةُ.
والوجوب الذي قلناه هنا من وجوب شكر الله هو بمعنى الحَقِّيَّة، لا بمعنى الوجوب الذي لو تركه العبد يكون عاصيًا.
روى هذا الحديث والذي بعده أبو هريرةَ.
* * *
1630 -
وقال: "كُلُّ كلامِ ابن آدمَ عليه لا لَهُ إلَاّ أَمْرًا بمعروفٍ، أو نهيًا عن مُنْكَرٍ، أو ذِكرًا للهِ"، غريب.
قوله: "كلُّ كلامِ ابن آدم عليه لا لهُ"؛ يعني: كل كلام ابن آدم يكون وَبالاً عليه، ويُؤاخذُ به يوم القيامة.
(لا له)؛ يعني: ليس له نفعٌ.
"إلا أمرًا بمعروف أو نهيًا عن منكر أو ذكرًا لله"، والمراد بذكر الله هنا: ليس التسبيح والتهليل وما أشبه ذلك من الكلمات فقط، بل ما فيه رضا الله من كلامٍ، كتلاوة القرآن، والصلاة على النبي عليه السلام، والدعاء للمؤمنين، وما أشبه ذلك.
وقد يكون بعض الكلام لا عليه ولا له؛ لأن الكلام ثلاثة أقسام: ما هو شرٌّ، وما هو خيرٌ، وما هو مباحٌ؛ لا شرٌّ ولا خيرٌ، كما يقول أحد لأحد: تعال، أو قم، أو ما أكلتَ؟ أو ما صنعتَ؟ وما أشبه ذلك، ففي الشرِّ إثمٌ، وفي الخير أجرٌ، وفي المباح عفوٌ؛ لا إثمٌ فيه ولا أجر.
روت هذا الحديث أمُّ حبيبة.
* * *
1631 -
وقال: "لا تُكْثِرُوا الكلامَ لغيرِ ذِكْرِ الله، فإن كَثْرَةَ الكلامِ بغيرِ ذكرِ الله قَسْوةٌ للقَلْبِ، وإن أَبْعَدَ الناسِ مِنَ الله القلْبُ القاسي".
قوله: "فإن كثرةَ الكلامِ بغير ذكر الله قسوةٌ للقلب"، (القسوة): شدة القلب، وشدة القلب: عبارة عن عدم قَبولِ ذكر الله والخوف والرجاء وغير ذلك من الخصال الحميدة.
يعني: كثرة: الكلام فيما ليس له فيه رضا الله تعالى تجعلُ القلب قاسيًا على الشرح الذي ذكرناه في قسوة القلب، لا شك أنه يكون بعيدًا من نظر الله؛ فإنَّ الله ينظرُ بنظر الرحمة إلى قلبٍ فيه الخصالُ المرضيةُ لله تعالى.
قوله: "وإن أبعدَ الناس من الله تعالى القلبُ القاسي": هذا الكلامُ يحتاج إلى إضمارٍ وتقديرٍ، فتقديره: إن أبعدَ قلوبِ الناسِ من الله القلبُ القاسي، فحُذِف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مقامه، ويجوز أن يكون تقديره: وإن أبعد الناس من الله من له القلب القاسي.
روى هذا الحديث ابن عمرَ.
* * *
1632 -
عن ثَوْبان قال: لما نزلتْ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} كُنَّا مَعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في بعضِ أَسْفَارِهِ، فقالَ بعضُ أصحابهِ: لو علمنَا أيُّ المالِ خيرٌ فَنتَّخِذَهُ؟، فقال:"أَفْضَلُه لسانٌ ذَاكِرٌ، وقلبٌ شاكِرٌ، وزوجةٌ مؤمِنَةٌ تُعِينُهُ على إيمانِهِ".
قوله: "أفضلُهُ لسانٌ ذاكرٌ
…
" إلى آخره.