المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

المخلوقات؛ أي: يخافونه ويحذرون مخالفتَه، وهو أهل أن يغفر لِمَنْ - المفاتيح في شرح المصابيح - جـ ٣

[مظهر الدين الزيداني]

فهرس الكتاب

- ‌7 - كِتابُ الصَّومِ

- ‌1 - باب

- ‌2 - باب رؤية الهِلال

- ‌فصل

- ‌3 - باب تَنْزيه الصَّوم

- ‌4 - باب صَوْم المُسافِر

- ‌5 - باب القَضَاء

- ‌6 - باب صِيَام التَّطوُّع

- ‌فصل

- ‌7 - باب لَيْلَةِ القَدْر

- ‌8 - باب الاعتِكاف

- ‌8 - كِتَابُ فَضَائِلِ القُرْآنِ

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌9 - كِتابُ الدَّعَوَاتِ

- ‌2 - باب ذِكْرِ الله عز وجل والتَّقرُّبِ إليهِ

- ‌3 - باب أَسْماءِ الله تعالى

- ‌4 - باب ثواب التَسبيح والتَحميد والتَهليل

- ‌5 - باب الاستِغفار والتَّوبة

- ‌فصل

- ‌6 - باب ما يقُول عند الصَّباح والمَسَاء والمَنام

- ‌7 - باب الدَّعَوَاتِ في الأَوْقاتِ

- ‌8 - باب الاستِعاذَة

- ‌9 - باب جامع الدُّعاءِ

- ‌10 - كِتَابُ المَنَاسِكِ

- ‌2 - باب الإِحْرام والتَّلْبية

- ‌3 - قِصَّةُ حجة الوداع

- ‌4 - باب دُخُول مَكَّةَ والطَّواف

- ‌5 - باب الوُقُوفِ بِعَرَفةَ

- ‌6 - باب الدَّفْع من عَرَفَةَ والمُزْدَلِفَة

- ‌7 - باب رَمْيِ الجِمَار

- ‌8 - باب الهَدْي

- ‌9 - باب الحلق

- ‌فصل

- ‌10 - باب الخُطْبة يومَ النَّحر، ورَمْي أَيَّام التَّشريق والتَّوديع

- ‌11 - باب ما يجتنبه المحرم

- ‌12 - باب المُحرِم يَجتنِب الصَّيد

- ‌13 - باب الإِحْصَار وفَوْت الحَجِّ

- ‌14 - باب حرَم مكَّة حرَسَها الله

- ‌15 - باب حرَم المَدينة على ساكنها الصلاةُ والسلام

- ‌11 - كِتابُ البُيُوعِ

- ‌1 - باب الكَسْب وطلَب الحَلال

- ‌2 - باب المُساهلةِ في المُعاملةِ

- ‌3 - باب الخِيَارِ

- ‌4 - باب الرِّبا

- ‌5 - باب المنهيِّ عنها من البيوع

- ‌فصل

- ‌6 - باب السَّلَمِ والرَّهنِ

- ‌7 - باب الاحتِكارِ

- ‌8 - باب الإفلاسِ والإنظارِ

- ‌9 - باب الشَّركةِ والوَكالةِ

- ‌10 - باب الغَصْبِ والعاريَةِ

- ‌11 - باب الشُّفْعَةِ

- ‌12 - باب المُساقاةِ والمُزارعةِ

- ‌13 - باب الإجارة

- ‌14 - باب إحياء المَوَاتِ والشّرْبِ

- ‌15 - باب العطايا

- ‌فصل

- ‌16 - باب اللُّقَطَة

- ‌17 - باب الفرائضِ

- ‌18 - باب الوصايا

الفصل: المخلوقات؛ أي: يخافونه ويحذرون مخالفتَه، وهو أهل أن يغفر لِمَنْ

المخلوقات؛ أي: يخافونه ويحذرون مخالفتَه، وهو أهل أن يغفر لِمَنْ خافه.

(الاتقاء): الحذر.

* * *

1691 -

ورُوي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن قالَ: أَستغفِرُ الله الذي لا إلهَ إلَّا هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ، وأتوبُ إليهِ؛ غُفِرَ لهُ وإنْ كانَ فَرَّ مِن الزَّحْفِ"، غريب.

قوله: "من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه".

(الحي) و (القيوم): منصوبان؛ لأنهما صفتان للفظة (الله)، وهو منصوب بانه مفعول (أستغفر)، ولا يجوز أن يكونا صفتين للضمير في (إلا هو)؛ لأن المضمَر لا يوصف.

قوله: "غفر له وإن كان فر من الزحف"، و (الزحف): اجتماع الجيش في وجه العدو، والمراد ها هنا بقوله:(وإن كان فر من الزحف) يعني: وإن كان فر من حرب الكفار، حيث لا يجوز الفرار بأن لا يزيد عددُ الكفار على مِثْلَي عددِ جيش المسلمين، والفرارُ من الكفار - حيث لا يجوز الفرار - من الكبائر.

وهذا الحديث يدلُّ على أن الكبائر تُغفر بالتوبة والاستغفار.

روى هذا الحديثَ أبو يَسَار مولى النبيَّ عليه السلام، واسمه زيد.

* * *

‌فصل

(فصل)

مِنّ الصَّحَاحِ:

1692 -

قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا قَضَى الله الخَلْقَ؛ كتبَ كِتابًا فهوَ عندَهُ

ص: 194

فَوْقَ عَرْشِه: إنَّ رَحْمتِي سَبقَتْ غَضَبي".

وفي روايةٍ: "غلَبَتْ غَضَبي".

قوله: "لما قضى الله الخلق"؛ أي: لمَّا قدر الله المخلوقات.

قوله: "كتب كتابًا"؛ يعني: كتب في اللوح المحفوظ: "إن رحمتي سبقت غضبي"، ومعنى (سبقت):[أكثر]؛ يعني: رحمتي أكثر من غضبي؛ يعني: ما أغفر من ذنوب المؤمنين أكثر ممَّا أعذِّبهم به.

روى هذا الحديثَ أبو هريرة.

* * *

1693 -

وقال: "إنَّ للهِ مائةَ رَحْمةٍ، أَنْزَلَ مِنها رحمةً واحدةً بينَ الجنِّ والإِنْسِ والبَهائِم والهَوامَّ، فَبها تتعَاطَفُونَ، وبها تتَراحمُونَ، وبها تَعطِفُ الوحشُ على وَلَدِها، وأخَّر تِسْعًا وتسعينَ رحمةً يَرحَمُ بها عِبادَهُ يومَ القِيامةِ".

وفي روايةٍ: "فإذا كانَ يومُ القِيامةِ أَكْمَلَها بهذهِ الرَّحمةِ".

قوله: "فبها يتعاطفون"؛ أي: يُوصل الرأفةَ والشفقةَ بعضُهم إلى بعض، (التعاطف) مثل التراحمُ؛ يعني: كل راحة ورحمة تصل من آدمي إلى آدمي أو من جِنٍّ إلى جن، أو من حيوان إلى آخر من جنسه أو غير جنسه، كلُّ ذلك نتيجة تلك الرحمة التي أنزلها الله بين خلقه.

قوله: "أكمَلَها بهذه الرَّحمة"؛ يعني: يضم الرحمة التي أنزلها في الدنيا إلى التسعة والتسعين من الرحمة التي أخَّرها حتى يصيرَ المجموعُ مئةَ رحمة، فيرحم بها عباده من الأنبياء والمؤمنين.

روى هذا الحديثَ سَلْمان الفارسيُّ.

ص: 195

1694 -

وقالَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "لو يَعلَمُ المؤمنُ ما عندَ الله من العُقوَبَةِ ما طَمِعَ بجنَّتهِ أَحدٌ، ولَو يَعلمُ الكافِرُ ما عندَ الله مِن الرحمةِ ما قَنِطَ مِن جَنَّتهِ أحدٌ".

قوله: "لو يعلمُ المؤمنُ ما عند الله من العقوبة ما طَمِعَ بجنَّته أحدٌ".

جاء هذا الحديث في بيان كثرة عقوبته ورحمته كي لا يغترَّ المؤمن برحمته فيأمَن من عذابه، فإنه لو أمن من عذابه يصير كافرًا، أو قال بعد هذا: (ولو يعلم الكافر

) إلى آخره: كي لا ييأس مؤمن من رحمته بكثرة ذنوبه، وكي لا يخاف كافرٌ من الإيمان بعد سنينَ كثيرةٍ كان في الكفر، فإنه يُغفر له ما فعل في الكفر في سنين كثيرة إذا دخل في الإسلام، وليس المراد منه: إن مات في الكفر يُغفر [له]، أو يُخرج من النار في وقت من الأوقات، بل لا يخرج من النار أبدًا وإن كانت رحمة الله كثيرة واسعة، بل لا ينال رحمتَه يومَ القيامة إلا المؤمنون.

روى هذا الحديثَ أبو هريرة.

* * *

1695 -

وقال: "الجنةُ أَقْربُ إلى أحدِكُم من شِرَاكِ نَعْلِه، والنَّارُ مثْلُ ذلكَ".

قوله: "الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك"؛ يعني: من عمل عملًا صالحًا تكون الجنة قريبةً منه، ومن عمل سوءًا تكون النار قريبةً منه.

روى هذا الحديثَ ابن مسعود.

* * *

1696 -

وقال: "قالَ رجلٌ لَمْ يَعملْ خَيْرًا قطُّ لأهلهِ، وفي روايةٍ: أَسَرفَ

ص: 196

رجلٌ على نْفسِه، فلمَّا حضَرَهُ المَوتُ أَوصَى بنيهِ: إذا ماتَ؛ فحَرَّقوهُ، ثم اذْرُوا نصْفَه في البرِّ، ونصفَهُ في البَحرِ، فَوَالله لئِن قَدَرَ الله عليهِ ليُعذِّبنهُ عَذابًا لا يُعذِّبُه أَحَدًا مِن العالَمينَ، فلمَّا ماتَ فعَلُوا ما أَمَرَهم، فأَمرَ الله البَحْرَ، فجمعَ ما فيهِ، وأَمرَ البرَّ، فجمَعَ ما فيهِ، ثم قالَ لهُ: لِمَ فعلتَ هذا؟ قال: مِن خَشْيَتِكَ يا ربِّ، وأنتَ أعلمُ! فغَفَرَ لهُ".

قوله: "ثم اذْرُوا نصفه"؛ أي: ثم فرِّقوا نصف رَماده؛ ذَرَا يَذْرو: إذا فرَّق البَذْر والتراب على وجه الأرض.

قوله: "لئن قدر الله عليه"، وهذا الرجل كان مبتدعًا؛ لأنه اعتقد بأن الله تعالى ليس بقادر على الجزئيات؛ أي: على الأشياء الحقيرة القليلة مثلِ جمع ما في وجه الأرض وما في وجه الماء من الأجزاء المحترقة لهذا الشخص وإحيائه على هذه الصفة.

قوله: "فغفر له"، وهذا يدل على أن غفران المبتدعين جائز، ولا يجوز القطع على تعذيب المبتدعين، بل هم في مشيئة الله إن شاء عذَّبهم وإن شاء غفر لهم، وكان سببَ مغفرةِ هذا الرجل خوفُه من الله تعالى وتعظيمُه لله وتحقيرُه للمذنب، وتحقيرُ المذنب نفسَه وتعظيمُ ربه وصفٌ يحبُّه الله، فلهذا غفر له.

روى هذا الحديثَ معاويةُ بن جُنْدُب.

* * *

1697 -

وقال عُمر بن الخَطَّاب رضي الله عنه: قَدِمَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ، فإذا امرأةٌ مِنَ السَّبْي قد تَحَلَّبَ ثَديُها تَسعَى، إذا وَجَدَتْ صبيًا في السَّبْي أخذَتْهُ، فأَلصَقَتْهُ ببَطْنِها، وأرضعَتْهُ، فقالَ لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"أترَوْنَ هذهِ طارِحَةً ولدَها في النارِ؟ "، قلنا: لا وهي تقدرُ على أنْ لا تَطْرَحَهُ، قال:"لَلَّهُ أرحمُ بعبادِهِ من هذه بولدِها".

ص: 197

قوله: "قد تحلَّب ثَدْيُها"؛ أي: تكثَّر لبن ثديها بحيث يجري اللبن من ثديها.

قوله: "إذا وجدت صبيًا في السَّبي أخذته وألصقتْهُ ببطنها"؛ يعني: من غاية رحمتها وشفَقَتها بولدها الغائب إذا وجدت صبيًا أجنبيًا أخذته وأرضعته.

قوله: "أترون هذه طارحةً وَلدَها"، (الطرح): الإسقاط؛ يعني: أتظنون وتعلَمون أن هذه المرأة تُلقي ولدها في النار مع شدة شفقتها وحنينها.

قولهم: "وهي تقدر على أن لا تطرحه"، الواو في (وهي) للحال؛ يعني: في حال اختيارها لا تُلقيه في النار.

* * *

1698 -

وقال: "لن يُنجيَ أَحَدًا منكم عملُه! "، قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ الله؟ قال: "ولا أنا، إلَّا أنْ يتغمَّدَنيَ الله منهُ بِرَحْمتِهِ، فسدِّدوا، وقارِبُوا، واغْدُوا ورُوحُوا، وشيئًا مِن الدُّلْجةِ، والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا".

قوله: "لن ينجي أحدًا منكم عملُه"؛ يعني: لن يتخلَّص أحدٌ منكم من النار بعمله، ولن يدخل الجنةَ بعمله إلا بفضلِ الله ورحمته.

اعلم أن اعتقادَ أهلِ السنة: أن الكسبَ ليس سببَ جلب الرزق، بل الرزق من الله تعالى، فَرُبَّ مُكْتسبٍ ومُبالغٍ في الكسب لا يحصُل له الرزقُ إذا لم يرزقه الله، وربَّ تاركٍ للكسب ومشتغل بالعبادة وغيرِها فيرزقه الله رزقًا حسنًا، ولكنَّ الناسَ مأمورون بالكسب لمعاونة بعضهم بعضًا، ولتكون أسبابُهم الدُّنيوية مُهيَّأة من الزراعة والعمارة والحِرَف وغيرها من غير أن يعتقدوا حصولَ الرزق من الكسب، بل بحصول الرزق من الله الكريم.

فكذلك الناسُ مأمورون بالأعمال الصالحة من غير أن يعتقدوا التخليصَ من الجحيم، ودخول جنة النعيم بأعمالهم، بل بفضل الله ورحمته، فإن جميعَ

ص: 198

طاعات الرجل لو قُوبلت بشَربة ماء سقاه الله إيَّاها في الدنيا لنقَصَ عملُه عنها، فإذا نقصَت طاعتُه عن شكر أقل ما رزقه الله في الدنيا، فكيف يدخل الجنة بعمله؟

قوله: "إلا أن يتغمدني الله"، (التغمُّد): الستر؛ يعني: إلا أن يُلْبسني الله لباسَ رحمتِه فأدخلَ الجنةَ برحمته.

"فسددوا"؛ أي: اجعلوا أعمالكم مستقيمةً على طريق الحق.

(التسديد): جعل الشيء مستقيمًا.

"وقاربوا"؛ أي: اطلبوا قربة الله بطاعته بقدْر ما تطيقون؛ يعني: لا تشددوا على أنفسكم بالمبالغة في الطَّاعات بأن لا تناموا ولا تستريحوا ولا تأكلوا، فإنَّ أحدكم لن يدخلَ الجنةَ بعمله، فإذا لم يكن دخولُه الجنة بعمله فَلِمَ يشدِّد على نفسه في الطاعات، بل يكون كمسافرٍ قصد سفرًا بعيدًا فإنه لو عَدَا عَدْوًا شديدًا لتعب وانقطع عن السفر ولم يبلغ المَقْصِد، بل طريقه أن يمشي في أوَّل النهار إلى ارتفاع الشمس، ثم يستريح إلى بعد العصر، ثم يمشي إلى الليل، ثم يستريح، ثم يمشي في آخر الليل، فإذا قطع المسافة على هذه الصفة يبلُغُ المقصدَ، فكذلك المؤمن فليعمل الفرائض والسنن وشيئًا من التطوعات ويستريح ساعة فساعة.

(المقاربة): طلب القربة من أحد، والدُّنو منه.

معنى (اغدوا): امشُوا في أول النهار.

"وروحوا"؛ أي: امشوا في آخر النهار.

"وشيء من الدُّلجة"؛ تقديره: وليكن في مشيكم شيءٌ من الدُّلجة؛ أي: ليقع بعض طاعتكم في الليل.

(الدُّلجة) - بضم الدال -: آخر الليل.

ص: 199

"القصدَ القصدَ تبلُغوا"؛ أي: الزموا القصد في العمل حتى تبلُغوا المنزل.

و (القصد): الوسط؛ أي: لا تفريط ولا إفراط في العمل؛ يعني: التفريط والإفراط مذمومان، وخيرُ الأمورِ أوساطُها.

روى هذا الحديثَ أبو هريرة.

* * *

1699 -

وقال: "لا يُدْخِلُ أَحدًا منكم عملُهُ الجنَّةَ، ولا يُجيرُه مِن النَّارِ، ولا أنا، إلا برحمةِ الله تعالى".

قوله: "ولا يجيره"؛ أي: لا يخلَّصه ولا يُنجيه.

روى هذا الحديثَ جابر.

* * *

1700 -

وقال: "إذا أَسلَمَ العبْدُ فحَسُنَ إسلامُهُ يُكفِّرُ الله عنهُ كلَّ سيئةٍ كانَ زلَفَها، وكانَ بَعْدُ القِصاصُ: الحسَنةُ بعَشْرِ أَمثالِها إلى سبعمائةِ ضعْفٍ، والسَّيئةُ بمِثْلِها إلا أنْ يَتَجاوَزَ الله عنها".

قوله: "فحسُنَ إسلامُه"؛ يعني: يكون الإسلام محبوبًا ومرضيًا له ظاهرًا وباطنًا، ولم يكن النفاق في قلبه، فإذا كان كذلك

"يكفِّر الله"؛ أي: يستر الله ويعفو "كلَّ سيئة" من الكفر والمعاصي والقتل وأكل أموال الناس بالباطل.

"كان زَلَّفها" - بتشديد اللام -؛ أي: قدَّمها على الإسلام؛ أي: ما فعله قبل الإسلام.

قوله: "وكان بعدُ القصاصُ" بضم الدال، (والقِصَاصُ) - بضم الصاد -

ص: 200

والتقدير: كان بعدَ الإسلامِ القصاصُ؛ يعني: قد غفر له ما فعل قبل الإسلام ولكن يطالب بعد الإسلام بما فعل من السيئات وما عليه من حقوق الآدميين.

قوله: "والحسنة بعشر أمثالها"؛ يعني: وكانت الحسنة بعد الإسلام بعشر أمثالها؛ بخلاف قبل الإسلام؛ فإنه إذا عمل حسنةً في الكُفر ثم أسلم يعطى بكلِّ حسنة ثواب حسنة واحدة.

* * *

1701 -

وقال: "إنَّ الله كتبَ الحسَناتِ والسِّيئاتِ، فمَنْ همَّ بحسنةٍ فلمْ يَعملْها كتَبها الله لهُ عندَه حسَنةً كاملةً، فإنْ همَّ بها فعمِلَها كتبَها الله لهُ عندَهُ عشرَ حسَناتٍ إلى سَبْعمائةِ ضعْفٍ إلى أَضعافٍ كثيرةٍ، ومَنْ همَّ بسِّيئةٍ فلم يعمَلْها كتبَها الله لهُ عندَه حسَنةً كاملةً، فإنْ هوَ همَّ بها فَعَمِلَهَا كتَبها الله له سيئةً واحدةً".

قوله: "إن الله كتب الحسنات والسيئات"؛ يعني: إن الله كتب في اللوح المحفوظ.

"فمن هَمَّ"؛ أي: قصد أن يعمل حسنة.

"فلم يعملها" لعذرٍ؛ مثل أن ينوي إعطاء صدقة فلم ييسر له ذلك لعدَم المال، أو لعدم الفقير، أو لعذرٍ آخرَ، كتب الله ذلك الهمَّ والقصدَ حسنة، وإن عملها كتب الله له عشر حسنات ويزيد إلى ما شاء الله.

"ومن همَّ أن يعمل سيئة فلم يعملها" خوفًا من الله، كتب تلك السيئة حسنة؛ لأن تركَ السيئةِ من خوف الله حسنةٌ، كان عَمِلَ تلك السيئةَ كتب له سيئة واحدة؛ بخلاف الحسنة؛ فإنه إذا عَمِلَ الحسنةَ كتَبَ له بكلِّ حسنة عشرَ حَسَنات إلى سبع مئة ضعف ويزيد، وإنما كان كذلك؛ لأنَّ رحمتَه أكثرُ من غضبه.

ص: 201

روى هذا الحديثَ ابن عباس.

* * *

مِنَ الحِسَان:

1702 -

وقال: "إنَّ مثَلَ الذي يعمَلُ السيئاتِ، ثمَّ يعمَلُ الحسَناتِ كمثَلِ رجُلٍ كانتْ عليهِ دِرْعٌ ضَيقةٌ قد خنقَتْهُ، ثم عمِلَ حسَنةً فانفكَّتْ حَلْقَةٌ، ثم عمِلَ أخرَى فانفكَّت حَلْقَةٌ أُخْرَى حتى تَخْرُجَ إلى الأَرضِ".

قوله: "إنَّ مَثَل الذي يعمل السيئاتِ ثم يعملُ الحسناتِ كمثَل رجلٍ كانت عليه دِرْعٌ ضيقة

" إلى آخره.

يعني: عمل السيئات يضيق صدرَ الرجل ورزقَه، ويحيره في أمره فلا ييسر له أموره ويسوِّد قلبه، ويبغِّضه في أعين أحبائه، وإذا عمل الحسناتِ تزيلُ حسناتُه سيئاتِه، كما قال الله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114].

فإذا زالت سيئاتُه انشرحَ صدرُه، وتوسَّع رزقُه، وطاب قلبُه، وتيسَّرَ له كلُّ أمرٍ، وصار محبوبًا في قلوب الناس، فهذا هو المراد من الحديث.

"خَنَقْته"؛ أي: عُصِرَ حَلْقُه وتَرقُوته من ضيق تلك الدِّرع.

"فانفكت"؛ أي: انحلَّت وتوسَّعت.

"حتى تخرج إلى الأرض"؛ أي: حتى يسقُطَ الدِّرع إلى الأرض ويخرج ذلك الرجل من ضيق تلك الدرع.

روى هذا الحديثَ عُقبةُ بن عامر.

* * *

1703 -

عن أبي الدَّرداءِ رضي الله عنه: أنه سمعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقُصُّ على المِنْبَرِ

ص: 202

وهو يقولُ: " {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} "، فقلتُ: وإنْ زَنىَ وإنْ سرَقَ يا رسولَ الله؟، فقالَ الثانيةَ:" {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} "، فقلتُ الثانيةَ: وإنْ زنى وإنْ سرَقَ؟ فقالَ الثالثةَ: " {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} "، فقلتُ الثالثةَ: وإنْ زَنىَ وإنْ سرَقَ يا رسولَ الله؟ قال: "وإنْ رَغِمَ أَنْفُ أبي الدَّرداء".

قوله: " {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} "، (مقام ربه)؛ أي: خاف من القيام بحضرة ربه يومَ القيامة؛ يعني: مَنْ يخاف الله في معصيته فتركها يعطِه الله بستانين في الجنة، وإن زنى وإن سرق في وقت وتاب لم يُبْطِلْ زناه وسرقتُه ثوابَ خوفِه من الله في معصية أخرى غيرِ تلك الزَّنْية والسَّرِقة.

* * *

1704 -

عن عامرٍ الرَّامِ أنه قال: بينا نحنُ عندَه - يَعني: عندَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أَقْبَلَ رجلٌ عليهِ كِساءٌ وفي يدِهِ شيءٌ قد التَفَّ عليهِ، فقال: يا رسولَ الله!، مَرَرْتُ بغَيْضَةِ شجَرٍ، فسمعتُ فيها أصواتَ فِراخِ طائرٍ، فأَخذتُهنَّ، فوَضعتُهنَّ في كِسَائي، فجاءَتْ أُمُّهنَّ، فاستدارَتْ على رأْسِي، فكشَفتُ لها عنهنَّ، فوَقَعَت عليهنَّ، فلفَفْتُهنَّ بكِسائي، فهُنَّ أُولاءِ معي، فقال:"ضَعْهنَّ"، فوضعتُهنَّ، وأَبَتْ أُمُّهنَّ إلَّا لُزومَهنَّ، فقالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم:"أتَعجَبُونَ لِرُحْمِ أُمِّ الأَفراخِ فِراخَها؟ فَوَالذي بعثَني بالحقِّ لَلَّهُ أرحمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أُمِّ الأَفْراخِ بفِراخِها، اِرْجِعْ بهِنَّ حتَّى تضَعَهنَّ مِن حَيْثُ أَخَذْتَهنَّ، وأُمُّهنَّ معهنَّ"، فرَجَعَ بهنَّ.

قوله: "بغَيضَةِ شجرٍ"، (الغيضة): الغابة وهي مجتَمع الأشجار.

والشجر: اسم الجنس يقع على القليل والكثير، وواحدها: شجرة.

"الفراخ" جمع فَرخ، وهو: ولد الطير.

"فاستدارت" بمعنى: دارت.

ص: 203