الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقيل: بل عارية، ولمالكه أن يرجع فيه، فإن لم يرجع فيه حتى مات يعود إلى ورثته، ولا يجوز للمدفوع إليه بعد موت الدافع استعماله، وهذا القول هو الأظهر.
* * *
2227 -
وعن جابرٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"العُمْرى جائزةٌ لأهلِها، والرُّقبى جائزةٌ لأهلِها".
قوله: "العمرى جائزة لأهلها"؛ يعني: العمرى جائزة لمن جعلت له العمرى، وتصير ملكًا له كما ذكرنا، وكذا الرُّقبى.
* * *
فصل
مِنَ الصِّحَاحِ:
(فصل)
(من الصحاح):
2228 -
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنه قال: قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عُرِضَ عليهِ ريحانٌ فلا يردَّه، فإنه خفيفُ المَحْمَلِ طيَّبُ الرِّيحِ".
"من عرض عليه ريحان، فلا يرده، فإنه خفيف المحمل، طيب الريح"؛ يعني: إذا أعطاكم أحدٌ شيئًا خفيف المنَّة فاقبلوه ولا تردُّوه، كيلا يتأذى المعطي، فإن في قبوله مَطْيبةٌ لقلبه، وليس عليكم به منةٌ؛ لأنه شيءٌ حقير.
قوله: "خفيف المحمل"؛ أي: قليل المنة.
وفي الحديث إشارة إلى حفظ قلوب الناس بقبول هداياهم، وأيضًا إشارة
إلى استحباب استعمال الطَّيب.
* * *
2230 -
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "العائدُ في هِبَتِه كالكلبِ يعودُ في قَيْئِهِ، ليسَ لنا مَثَلُ السَّوْءِ".
قوله: "ليس لنا مثل السوء"؛ يعني: لا يجوز لأمتي أن تهب شيئًا ثم ترجعَ فيه، فيكون مَثَلُه كمَثَل كلبٍ يقيء ثم يأكله، وهذا مثلُ سوء، ولا يختر أحدٌ مَثَلَ السوء لنفسه.
* * *
2231 -
عن النُّعمانِ بن بشيرٍ: أنَّ أباهُ أتَى بهِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نَحَلْتُ ابني هذا غُلامًا، فقال:"أَكُلَّ وَلَدِك نحلْتَ مثلَه؟ " قال: لا، قال:"فارجِعْه". ورُوِيَ أنَّه قال: "أَيَسُرُّكَ أنْ يكونوا إليك في البرِّ سواءً؟ " قال: بلى، قال:"فلا إذًا". ويُروى أنه قال: "فاتَّقوا الله واعدِلُوا بينَ أولادِكم". ويُروى أنه قال: "لا أَشهدُ على جَوْرٍ".
قوله: "أكلَّ ولدك نحلت مثله، قال: لا، قال: فارجعه"، نحلت؛ أي: أعطيت.
قوله: "فارْجِعْه"؛ أي: اسْتَرِدَّ الغلامَ الذي أعطيت هذا؛ لأنك لو أعطيت بعض أولادك ولم تعط الباقين؛ لوقع في خواطرهم لك بغضٌ، ووقع بين أولادك بغضٌ وعداوة، وما هو سبب حصول العداوة والبغض لا يجوز، وهذا منه صلى الله عليه وسلم إرشادٌ وتنبيهٌ على ما هو أَوْلى وأقرب للتقوى.
أما لو فعل أحدٌ هذا؛ يعني: أعطى بعض أولاده شيئًا دون الباقين، فقد صحَّت العطية، ولم يكن له إثم، وبهذا قال أكثر العلماء؛ لأنه يجوز للرجل أن يهب في صحته جميع ماله من أجنبيٍّ، فإذا صح من الأجنبي يصحُّ من الولد.
ولأن أبا بكر رضي الله عنه أعطى عائشة عشرين وسقًا من التمر دون سائر أولاده، وفضَّل عمر رضي الله عنه ابنه عاصمًا بإعطاء شيءٍ دون سائر أولاده.
وقال طاوسٌ وداودُ وأحمدُ وإسحاقُ بن راهويه: لا يجوز تفضيل بعض أولاده على بعض، ولو فعل لم يَصِرْ ذلك الموهوبُ ملكَ ذلك الولد، بل يجب عليه التسوية بينهم، إلا أن طاوسًا وداود يقولان: يجب التسوية بين أولاده الذكور والإناث.
وقال أحمد وإسحاق: يعطي أولاده للذكر مثلُ حظِّ الأنثيين.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا أشهد على جور" عند مَن لا يجوَّزُ التفضيلَ بين الأولاد معناه: الظلم، وعند مَن يجوَّز معناه: الميل من بعض ولده إلى بعضٍ في الإعطاء، ومَن يجوِّز يكره.
* * *
مِنَ الحِسَانِ:
2232 -
قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ لواهبٍ أنْ يرجعَ فيما وَهَبَ إلا الوالدَ مِن ولدِهِ".
قوله: "لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب إلا الوالد من ولده"؛ يعني: لا يجوز لمن وهب شيئًا أن يسترده إلا الوالد، فإنه يجوز له أن يسترد ما وهب من ولده؛ لأن مال ولده كمال نفسه، واسترداده ما وهب من ولد نوعُ سياسةٍ وتأديبٍ للابن، فإنه ربما يرى من الولد شيئًا غيرَ مرضيًّ، فيحتاج إلى تأديبه بمثل هذا، وربما يصير محتاجًا إلى ما وَهَب، واستردادُ ما وَهَب وصَرْفُه إلى نفسه أولى مِن أكل مال ولده، وفي معنى الوالد جميع الأصول كالأم والأجداد والجدات، وبهذا قال الشافعي ومالك.
وقال أبو حنيفة: إن وهب الرجل شيئًا من ولده، أو من ذي رحمٍ مَحْرمٍ
له، لا يجوز الرجوع، وإن وهب من أجنبي جاز له الرجوع إذا لم يأخذ منه عوضًا، وهذا عكس مذهب الشافعي.
روى هذا الحديث ابن عباس.
* * *
2234 -
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه: أنَّ أعرابيًا أهدَى لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم بَكْرَةً، فعَوَّضهُ منها ستَّ بَكْراتٍ فتَسَخَّطَ، فبلغَ ذلكَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فحمِدَ الله وأَثنَى عليه ثمَّ قال:"إنَّ فلانًا أَهْدى إليَّ ناقةً، فعوَّضْتُه منها ستَّ بَكْراتٍ فظَلَّ ساخِطًا! لقد هَمَمْتُ أنْ لا أَقبلَ هديةً إلا مِن قُرَشيٍّ، أو أنصاريٍّ، أو ثَقَفيٍّ، أو دَوْسيٍّ".
قوله: "ست بكرات"، (البَكْرات): جمع بَكْرة، وهي الشابةُ من الإبل.
قوله: "لقد هممت أن لا أقبل هدية إلا من قرشي"؛ يعني: لقد قصدت أن لا أقبل الهدية إلا من قومٍ في طباعهم كرمٌ لا يمنُّون (1) بما أعطوا، ولا يتوقَّعون عوضًا، بل يَعُدُّون ما أَعطوه منةً وفضلاً مِن قابل عطيتهم على أنفسهم.
* * *
2235 -
عن جابرٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"من أُعطيَ عطاءً فوَجَدَ فليَجْزِ بِهِ، ومَنْ لم يَجِدْ فليُثْنِ، فإن مَنْ أَثنَى فقد شكرَ، ومَن كَتَمَ فقد كَفَرَ، ومَن تَحَلَّى بما لم يُعْطَ كانَ كَلابسِ ثَوْبَيْ زُورٍ".
قوله: "مَن أُعطي عطاء"؛ يعني: مَن أَحسن إليه أحدٌ إحسانًا من مالٍ أو فعلٍ أو قولٍ حسن، فليكن عارفًا حقَّه على نفسه، فإن وجد مالًا فليُحْسِن إليه بالمال، أو ليقابل فعله وقوله الحسن بمثله، فإن عجز عن مقابلته بالمال والفعل
(1) في جميع النسخ: "يمنعون".
"فليثن عليه"؛ أي: فليَدْعُ له بخير، وليشكر له، ولا يجوز له كتمانُ نعمته، فإنَّ مَن لم يشكر الناس لم يشكر الله.
قوله: "فقد كفر"؛ أي: فقد ترك أداء حقه، وهو من كفران النعمة، لا من الكفر الذي هو نقيض الإيمان.
قوله: "مَن تحلَّى"؛ أي: مَن تَزيَّنَ.
"بما لم يعطَ" بفتح الطاء.
"كلابس ثوبي زور" قصة هذا: أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن لي ضرةً، فهل عليَّ جُناحٌ أن أتشبَّع بما لم يعطني زوجي؟ فأجابها رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث.
معنى (تشبَّع): أظهر الشِّبَعَ، وليس فيه الشبعُ، والمراد به: إظهار ما لم يعطها زوجها.
قوله: (كلابس ثوبي زور)؛ أي كان كمَن كذب كذبتين، أو أظهر شيئين كاذبين؛ أحد الكذبين تكلُّمها بقولها: أعطاني زوجي، والثاني: إظهارها أنَّ زوجي كان يحبني حبًا أشدَّ من حبه ضرتي؛ لأن هذا المعنى في ضمن قولها: أعطاني زوجي، موجود.
قال الخطابي: كان في العرب رجلٌ يلبس ثوبين كثياب المعاريف؛ ليظنه الناس أنه رجل معروفٌ محترم؛ لأن المعاريف لا يكذبون، فلما رآه الناس على هذه الهيئة يعتمدون على قوله وشهادته، وهو في نفسه كان رجلًا كذابًا يشهد بشهادة الزور، ويقبل الناسُ شهادته لأجل تشبُّه نفسه بالصادقين، فكان ثوباه سببَ زوره، فسمَّي ذينك الثوبين ثوبي زور، فشبه هذه المرأة بذلك الرجل.
* * *
2236 -
وقال: "مَنْ صُنِعَ إليه مَعْروفٌ فقال لفاعِلِه: جزاكَ الله خيرًا، فقد أبلغَ في الثناءِ".
قوله: "فقد أبلغ في الثناء"؛ يعني: فقد بالغ في أداء شكره.
روت هذا الحديث أسماء بنت أبي بكر.
* * *
2237 -
وقال: "مَنْ لم يَشْكرِ النَّاسَ لم يشكرِ الله".
قوله: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" هذا تحريضٌ على معرفة حقوق الناس؛ لأن المعطي اثنان: أحدهما: الرجل الذي أعطاك، والثاني: هو الله تعالى؛ لأن الله تعالى قدَّر إيصالَ الأرزاق إلى العباد بالأسباب والوسائط: يرزق بعضَهم بواسطة حرفة، وبعضهم بواسطة تجارة، وبعضهم بواسطة زراعة، وبعضهم بواسطة تصدُّقٍ عليه وإعطاءِ الزكاة والسؤال، وغير ذلك.
فالمعطي في الظاهر هو الذي أعطاك شيئًا، وفي الحقيقة هو الله، فإذا كان المعطي لعطائك اثنين، فلو تركت شكر مَن أعطاك في الظاهر كره الله عدم أداء شكر ذلك الرجل منك، فلا يقبل الله شكرك إياه، أو لا يقبل كمال شكرك إياه؛ لأنك خالفت أمره بتركك شكرَ مَن أمرك بشكره.
روى هذا الحديث أبو هريرة.
* * *
2238 -
وعن أنسٍ رضي الله عنه قال: لمَّا قدِمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ أتاهُ المهاجرونَ فقالوا: يا رسولَ الله! ما رأيْنا قومًا أبذَلَ مِن كثيرٍ، ولا أحسنَ مواساةً مِن قليلٍ، مِن قومٍ نزلْنا بينَ أَظْهُرِهم، لقد كَفَوْنا المؤنةَ وأشرَكُونا في
المَهْنَإ، حتى لقدْ خِفْنا أنْ يَذْهَبُوا بالأجرِ كلِّه، فقال:"لا، ما دَعَوْتُم الله لهم، وأَثنَيتُم عليهم"، صحيح.
قوله: "لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ": المهنأ: كلُّ ما يأتيك من المال من غير تعب؛ يعني: أشركونا في ثمار نخيلهم، ودفعوا عنا مؤنة السقي والإصلاح، سقوا النخيل وأصلحوها بأنفسهم، وأعطونا نصف التمر.
قولهم: "حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله"؛ يعني: خشينا أن يعطيهم الله تعالى ما حصل لنا من أجر الهجرة من مكة إلى المدينة، ومن أجر عباداتنا كلها، من كثرة إحسانهم إلينا.
قوله: "لا، ما دعوتم الله لهم"؛ يعني: لا يكون أجركم كله لهم ما دمتم تدعون لهم بالخير، فإن دعاءكم لهم عوضٌ عما دفعوا إليكم من المال.
* * *
2239 -
وعن عائشةَ رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تَهادَوْا فإنَّ الهدِيَّةَ تَذهبُ بالضَّغائنِ".
2240 -
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، عن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:"تَهادَوا فإن الهديةَ تُذهِبُ وَحَرَ الصَّدرِ، ولا تحقِرَنَّ جارةٌ لجارتِها ولو بشقَّ فِرْسَنِ شاةٍ".
قوله: "تهادوا"؛ أي: ليعط بعضكم بعضًا الهدية، فإن الهدية تحصل في قلب المدفوع إليه محبةَ الدافع، وتزيل عن قلبه بغضه وعداوته.
"الضغائن": جمع ضغينة، وهي الحقد الشديد.
قوله: "وحر الصدر"؛ أي: الغل والحقد.
قوله: "لا تحقرن جارة لجارتها، ولو بشقِّ فِرْسِنِ شاةٍ"، (الفِرْسِن): ظِلْفُ
الشاة؛ يعني: لتُعْطِ كلُّ جارة جارتَها نصيبًا مما عندها من الطعام، وإن كان شيئًا قليلًا.
* * *
2241 -
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثٌ لا تُردُّ: الوَسائدُ، والدُّهنُ، واللَّبن"، غريب. قيل: أرادَ بالدُّهنِ: الطِّيبَ.
قوله: "ثلاث لا تُردُّ: الوسائد والدهن واللبن"؛ يعني: إذا أعطاكم أحدٌ وسادة لتجلسوا عليها أو تتكئوا عليها فاقبلوها، وكذلك إذا أعطاكم أحد طيبًا أو لبنًا فاقبلوه؛ لأن المنة فيهن قليل، ولأنكم لو لم تقبلوا هذه الأشياء يتأذى المعطي منكم، ويحصل بينكم بغض وعداوة.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ويُثيب عليها؛ أي: يعطي عوضها.
أما قبول هديته؛ فلتطيبَ قلوب المسلمين، وأما دفعُ عوضها إليهم، فكيلا يكون لأحد عليه منةٌ ونعمة.
* * *
2242 -
عن أبي عثمانَ النَّهديِّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أُعطِيَ أحدُكم الرَّيْحانَ فلا يرُدَّه، فإنه خرجَ مِن الجنةِ"، مرسَلٌ.
قوله: "إذا أعطي أحدكم الريحان فلا يردَّه، فإنه خرج من الجنة"، (الريحان): كلُّ نبتٍ له رائحة طيبة.
"خرج من الجنة"؛ يعني: أصل الطيب في الجنة، وخلق الله الطيب في الدنيا ليتذكر العباد بطيب الدنيا طيبَ الآخرة، ويرغبوا في الجنة، ويزيدوا في الأعمال الصالحة؛ ليصلوا بها إلى الجنة، وليس المراد أن ريحان الدنيا