الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولَوْلَا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ ما خَرَجْتُ".
قوله: "على الحَزْوَرَةِ"، (الحَزْوَرة) بفتح الحاء المهملة والزاي المعجمة وإسكانها وبفتح الواو بعدها راء مهملة: اسم سوق بمكة.
ذكر في "الغيث" أن الشافعي قال: إن الناس يشددون الحديبية والحزورة، وهما مخففان؛ يعني: لا تشديد في هذين اللفظين.
* * *
15 - باب حرَم المَدينة على ساكنها الصلاةُ والسلام
(باب حرم المدينة)
مِنَ الصِّحَاحِ:
1990 -
عن علي رضي الله عنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "المَدِينَةُ حَرامٌ ما بَيْنَ عَيْرٍ إلى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فيها حَدَثًا أو آوى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلَائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولا عَدْلٌ، ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةٌ، يَسْعَى بها أدْناهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فعلَيْهِ لعْنَةُ الله والمَلَائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلَ مِنْهُ صَرْفٌ ولا عَدْلٌ، ومَنْ والَى قَوْمًا بغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلَائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولا عَدْلٌ".
وفي روايةٍ: "وَمَنْ اَدَّعَى إلى غَيْرَ أبيهِ، أوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولا عَدْلٌ".
قوله: "المدينة حَرام ما بين عَيْرٍ إلى ثَوْرٍ، فمن أحدث فيها حَدَثًا أو آوى مُحْدِثًا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبَلُ منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ"،
(عَيْرٌ وثَوْرٌ): جبلان بالمدينة كل واحد منهما على طرف من المدينة.
يعني: حرمت من عير إلى ثور أن لا يقتل ما بينهما من الصيد، وأن لا يقطع من الشجر، وهذا التحريم يوجب الإثم لمن قتل صيدًا أو قطع شجرًا، ولكن لا جزاء عليه عند مالك والشافعي في قوله الجديد.
وفي القديم: تسلب ثياب القاتل، أو قاطع الشجر، ثم السلب لمن سلبه؛ أي: أخذ ثيابه، وقيل: لبيت المال، وقيل: يفرق على مساكين المدينة، يستوي مجاور المسجد وغيرهم.
وعند أبي حنيفة: لا يحرم حرم المدينة، بل هو كسائر الأراضي.
قوله: "فمن أحدث فيها حدثًا"؛ أي: من فعل في المدينة فعلًا جديدًا؛ أي: بدعة سيئة.
"أو آوى محدثًا"؛ معنى (آوى): هَيَّأ مسكنًا لأحد، وأنزله مسكنًا، والمراد بـ (آوى) هنا: قوَّى وأعان.
(محدثًا): يُروى بكسر الدال وفتحها، فالكسر معناه: واضع بدعة والفتح معناه: الفعل الذي وُضع جديدًا؛ أي: فعل البدعة.
يعني: من فعل في المدينة بدعة أو أعان واضع بدعة، أو قوى وأظهر بدعة وضعها أحد، فعليه لعنة الله، وإنما حدث بهذا الحديث، وبين لحوق لعنة الله عليه؛ لأن الموضع إذا كان شريفًا يكون إثم الذنوب فيه أكثر من إثم ذنب في موضع غير شريف.
قوله: "لا يقبل منه صَرْفٌ ولا عَدْل"، (الصَّرْفُ): النافلة، و (العَدْل): الفريضة، والمراد منه: نفي الكمال، وقيل:(الصرف): التوبة، و (العَدْل): الفداء.
يعني: لا تقبل منه التوبة والفداء بعد الموت، وأما قبل الموت تقبل التوبة والفداء، ويريد بالفداء: جزاء الصيد والشجر، أو التصدق والإعتاق؛ ليحصل له الثواب، فيدفع بالحسنة السيئة.
قوله: "ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم"، (الذمة): الأمان؛ يعني: أمان واحد من المسلمين كأمان كلهم، (يسعى بها أدناهم)؛ أي: يسعى بذمة المسلمين (أدناهم)؛ أي: أقل المسلمين في القدر والمنصب وهو العبد.
يعني: إذا جاء واحد أو عدد قليل من دار الحرب إلى دار الإسلام من غير أمان ولا رسالة، يجوز قتلهم وأخذ أموالهم، فإن أعطاهم الأمان واحد من المسلمين، وإن كان عبدًا، يجب على جميع المسلمين قَبول أَمانه، ويحرم قتل ذلك الكافر وأخذ ماله، سواء كان ذلك العبد مأذونًا من جهة المولى في الجهاد، أو لم يكن عند الشافعي ومالك.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز أمان العبد، إذ لم يكن مأذون في الجهاد، وشرط الأمان أن يكون الذي يعطي الأمان من المسلمين بالغًا عاقلًا، وأن يكون العدد الذي يعطيهم الأمان من الكفار قليلًا بحيث لا يلحق المسلمين منهم ضرر بعذر الأمان.
أما الجمع الكثير من الكفار: لا يجوز أمانهم إلا للسلطان أو نائبه.
قوله: "فمن أَخْفَرَ مسلمًا"، (الإخْفَار): نقض العهد؛ يعني: إذا أعطى مسلم كافرًا الأمان، فمن نقض أمان ذلك المسلم، وقتل ذلك الكافر، وأخذ ماله "فعليه لعنة الله"؛ لأن إبطال أمان المسلم إبطال حكم الله ورسوله، وإبطال حكم الله ورسوله يوجب اللعنة.
قوله: "ومن والى قومًا بغير إذن مواليه"، (الموالاة): جَرَيان المحبة والمودَّة بين اثنين، والمراد بـ (الموالاة) ها هنا: أن يقول عتيق لغير معتقه: أنت
مولاي ولك ولايتي ويضم نفسه إليه، ويكون معه، هذا الفعل حرام؛ لأن قطع الولاء من المعتق، ونقله إلى غير المعتق، كنقل النسب إلى أجنبي، مثل أن يقول ابن زيد: أنا ابن عمرو، مع علمه بأنه ابن زيد، فكما أن أخذَ مال أحد، وإعطاءه غير مالكه محرم، فكذلك نقل الولاء والنسب إلى من ليس له الولاء والنسب محرم، بل هذا أشد تحريمًا.
فإذا عرفت هذا فاعرف أن قوله: "بغير إذن مواليه" يوهم أن الموالاة بإذن مولاه تجوز، وليس الحكم كذلك، بل لا تجوز الموالاة بإذنه وغير إذنه أصلًا؛ لأنه لو جاز نقل الولاء عن المولى بإذنه؛ لجاز للمولى أن يبيع الولاء أو يهبه، ولا يجوز هذا أصلًا؛ لأن الولاء حق الشرع كالنسب.
وإنما قال عليه السلام: "بغير إذن مولاه" لأنه إذا استأذن مولاه في موالاة غيره لم يأذن له.
قوله: "من ادعى إلى غير أبيه"؛ أي: من انتسب إلى غير أبيه، كما يقول ابن زيد: أنا ابن عمرو.
قوله: "أو تولَّى غير مواليه": هذا مثل قوله: "من والى قومًا"، وقد ذُكر.
* * *
1991 -
عن سَعْدٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي أُحَرِّمُ ما بَيْنَ لابَتَيِ المَدِينَةِ أنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا، أو يُقْتَلُ صَيْدُها"، وقال:"لا يَدَعُها أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْها إلَاّ أَبْدَلَ الله فيها مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، ولا يَثْبُتُ أَحَدٌ على لأُوَائِها وَجَهْدِهَا إلَاّ كُنْتُ لهُ شفيعًا أو شَهيدًا يومَ القِيامَةِ".
قوله: "أُحرِّم" الهمزة للمتكلم.
"ما بين لابتي المدينة"، (لابتي) أصله: لابتين، فسقطت نونه للإضافة، وهو
تثنية لابة، وهي موضع فيه حجارة صغار سود، وأراد بـ (لابتي المدينة): طرفيها.
"أن تقطع عضاهها"، (العضَاه): جمع عضه بفتح العين وكسرها كل شجر له شوك، وتحريم قتل الصيد، وقطع الشجر والنبات في مكة والمدينة؛ ليكون لساكنيها بهما ألفة وأنس، وتفرج بالنظر إلى الصيود والأشجار والنبات.
قوله: "لا يدعها"؛ أي: لا يترك المدينة "أحدٌ رغبةً عنها"، أَي: يميل عن المدينة ويفارقها، وينتقل إلى بلد آخر، رغبَ عن الشيء: إذا أعرض عنه، ورغب في الشيء: إذا مال إليه ورضي به.
قوله: "إلا أَبدل الله فيها"؛ أي: خلف (1) الله في المدينة بدل الذي انتقل منها إلى غيرها، أو وُفِّق لأحد أن ينتقل من بلد آخر إلى المدينة.
"من هو خير منه"؛ أي: من هو خير من الذي ترك المدينة، وهذا بيان فضل المدينة وفضل ساكنها.
قوله: "ولا يثبتُ أحدٌ على لأوَائِها"؛ أي: مشقتها من قلة القوت، وشدة الحرارة، وعدم الأطعمة اللذيذة.
"وجَهْدِهَا"؛ أي: مكروهها.
"إلا كنتُ له شفيعًا أو شهيدًا" شكَّ الراوي أنه عليه السلام قال: شفيعًا أو قال: شهيدًا.
ومعنى قوله: (شهيدًا): أنه عليه السلام يشهد لذلك الصَّابر على لأواء المدينة أنه مؤمن مخلِصٌ محب لرسول الله عليه السلام؛ لأنه وافقه في توطن المدينة، وجعل المدينة معمورة؛ لأن المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أضافها إلى نفسه بقوله مرارًا:"مدينتنا".
(1) في "ت" و"ق": "خلق".
ومَنْ جعل مدينة أحد وداره معمورة؛ فقد أحبه، فتوطُّن المدينة من محبة رسول الله عليه السلام، وقال عليه السلام:"من أحبني كان معي في الجنة".
* * *
1993 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانَ النَّاسُ إذا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرَةِ جَاؤُوا بهِ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فإذا أَخَذَهُ قال: "اللهمَّ بارِكْ لنا في ثَمَرِنَا، وبارِكْ لنا في مَدِينَتِنَا، وبارِكْ لَنَا في صَاعِنَا، وبارِكْ لَنَا في مُدِّنا، اللهمَّ إنَّ إبراهيمَ صلوات الله عليه عَبْدُكَ وخَلِيلُكَ ونبَيُّكَ، وإنَّي عَبْدُكَ ونبَيُّكَ، وإنَّه دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وإنِّي أَدْعُوكَ للمَدِينَةِ بِمِثْلِ ما دعاكَ لِمَكَّةَ، ومِثْلِهِ مَعَهُ"، قال: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ لهُ، فَيُعْطِيهِ ذلكَ الثَّمَرَ.
قوله: "ثم يدعو أصغرَ وَليدٍ له فيعطيهِ ذلك الثَّمر"، و (الوليد) بمعنى الولد؛ يعني: إذا فرغ من الدعاء يدعو أصغر طفل من أهل بيته ويعطيه ذلك الثمر؛ ليفرح ذلك الطفل بذلك الثمر، فإن فرح الأطفال بالثمر الجديد أشدُّ من فرح الكبار.
البركة: كثرة الخير.
قوله: "باركْ لنا"؛ أي: أكثر خيرنا في المدينة من صدور الطاعة والقيام بأمر الله تعالى من الجهاد وغيره، وكَثِّرْ خيرَ ثمارنا ومدينتنا وصاعنا.
* * *
1994 -
وعن أبي سَعيدٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال:"إنَّ إبراهيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَجَعَلَهَا حَرامًا، وإنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ حَرامًا ما بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا أنْ لا يُهَرَاقَ فيها دَمٌ، ولا يُحْمَلَ فِيها سِلاحٌ لِقِتالٍ، ولا تُخْبَطَ فيها شَجَرَةٌ إلَاّ لِعَلْفٍ".
قوله: "حرام ما بين مَأزِمَيْها" تثنية (مَأْزِم)، وهو الموضع الضيق من الجبلين، المراد بـ (مأزميها): جانبا المدينة.
قوله: "أن لا يُهْرَاق" بسكون الهاء؛ أي: لا يسفكُ فيها دم حرام؛ يعني: لا يحارب فيها، فإن قيل: سفك الدم الحرام محرم في جميع المواضع، فأي فائدة في تخصيص المدينة؟ قلنا: سفك الدم الحرام والمحاربة محرم في جميع المواضع، وفي سكَّة المدينة أشد تحريمًا؛ لأن الموضع إذا كان شريفًا يكون الذنب فيه أكثر إثمًا، والطاعة فيه أكثر ثوابًا.
والغرض من هذا الحديث: بيان تغليظ إثم الذنوب في المدينة.
قوله: "ولا تُخْبَطَ"؛ أي: ولا يضرب شجر؛ لتتساقط الأوراق، (الخَبْطُ): ضرب الشجر لتتساقط أوراقه.
* * *
1995 -
ورُوي أنَّ سعدًا وَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أو يَخْبطُهُ، فَسَلَبَهُ، فَجَاءَهُ أَهْلُ العَبْدِ، فَكَلَّمُوهُ أنْ يَرُدَّ ما أَخَذَ مِنْ غُلامِهِمْ، فقال: مَعَاذَ الله أنْ أَرُدَّ شَيْئًا نفَّلَنِيهِ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "نَفَّلَنيه" بتشديد الفاء؛ أي: أعطانيه، (التنفيل): إعطاء النفل - بفتح الفاء - وهو الغنيمة، يعني بقوله (نفَّلنيه): أمر رسول الله عليه السلام بسلب ثياب من قطع شجرًا، أو قتل صيدًا في حرم المدينة، فإذا أخذت ثياب عبدكم بأمر رسول الله عليه السلام لا أردها عليكم.
* * *
1996 -
وقالت عائشة رضي الله عنها: لَمَّا قَدِمَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ وُعِكَ أبو بَكْرٍ وبلالٌ، فجِئْتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فقال: "اللهمَّ حَببْ إلَيْنَا المَدينَةَ كَحُبنا مَكَّةَ أوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْها لَنَا، وبارِكْ لنا في صاعِها ومُدِّها، واَنْقُلْ
حُمَّاهَا، فاجْعَلْها بالجُحْفَةِ".
قولها: "وُعِكَ أبو بكر"، وُعِكَ وحُمَّ كلاهما على بناء المجهول، معناه: أخذتْهُ الحُمَّى.
قوله: "اللهم حَببْ إلينا المدينة كحُبنا مكةَ أو أشد": هذا يدل على أن مَنْ كره بلدًا لا يوافقه هواه، وكذلك من كره طعامًا لا يوافقه ذلك الطعام، وكذلك لو لم يكرهه ولكن لا يألف به بعدُ لا يوافقه ذلك الطعام أيضًا.
ألا ترى أن الغالب من حال الغرباء أن لا يوافقهم هواء البلدان الغريبة، فإن مَنْ كان من بلدٍ حار يفسد مزاجه في بلد بارد، وكذلك بالعكس، وكذلك لو كان بين بلدين تفاوت يسير في الحرارة أو البرودة يتغير مزاج الرجل بانتقال أحدهما إلى الآخر.
فدعا رسول الله عليه السلام أن يحبب الله إليهم المدينة؛ ليحصل لهم بها ألفة؛ ليوافقهم هواها، وتطمئن قلوبهم بتوطنها، كي لا تلتفت قلوبهم إلى مكة، فإن التفات القلوب تشويش الصدور، ومع تشويش الصدور لا يصفو للرجل العيش.
قوله: "وصحِّحها"؛ أي: وصحح هواء المدينة لنا، واجعل نزولنا فيها سببًا للصحة والعافية.
"وانقل حُمَّاها فاجعلها بالجُحْفَة" وإنما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بنقل حمى المدينة إلى الجحفة؛ لأن الجحفة في ذلك الوقت كانت اليهود تسكنها.
* * *
1998 -
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُفْتَحُ اليَمَنُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ، فَيَتَّحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أطاعَهُمْ، والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لو كانُوا يَعْلَمُونَ، ويُفْتَحُ الشَّامُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ، فَيتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أطَاعَهُمْ، والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ
لو كانُوا يَعْلَمُونَ، ويُفْتَحُ العِراقُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ فَيتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمنْ أطاعَهُمْ، والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لو كَانُوا يَعْلَمُونَ".
قوله: "يُفتحُ اليمن فيأتي قوم يُبسُّونَ فيتحمَّلون بأهليهم": بَسَّ يَبُسُّ بفتح العين في الماضي وضمها في الغابر، وأَبَسَّ يُبسُّ: إذا سار سيرًا شديدًا، وقيل: ساق الدابة سوقًا سهلًا.
أخبر رسول الله عليه السلام في أول زمان الهجرة إلى المدينة بأن ستفتح اليمن فيرتحل قوم من اليمن إلى المدينة، حتى يكثر أهل المدينة.
"والمدينة خير لهم" من غيرها، وكذلك الشام والعراق تفتح فيأتي منهما قوم إلى المدينة، وأراد بالعراق الكوفة إلى أول أرض خراسان.
روى هذا الحديث: سفيان بن أبي زهير، وأنس بن عياض كلاهما عن رسول الله عليه السلام.
* * *
1999 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ القُرَى، يَقُولُونَ: يَثْربَ، وهيَ المَدِينَةُ، تَنْفِي النَّاسَ كما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيد".
قوله: "تأكل القُرَى"، (القرى): جمع قرية، يعني: أمرني ربي أن أنزل المدينة، والمدينة تأكل جميع المدائن والبلدان؛ يعني: أهل المدينة تخرب كل بلد لم يسلم أهله، وتجعل أهل كل بلد مطيعين لله، منقادين للدين.
وقيل: معناه: يأخذ أهل المدينة أموال أهل كل بلد من الكفار على سبيل القهر والغلبة.
قوله: "تنفي الناس"؛ يعني: تخرج كل مَن لا يليق بتوطن المدينة من الكفار وأهل الكتاب، وقد ظهر هذا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإنه أخرج
من أرض الحجاز كل كافر من الذميين وغيرهم.
وقيل: المراد: أن المدينة تهلك من قصدها بالأذية، ولهذا لا يمكن للدجال دخولها.
روى هذا الحديث: أبو هريرة.
* * *
2003 -
وقال صلى الله عليه وسلم: "على أنْقَابِ المَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ، لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، ولا الدَّجَّالُ".
قوله: "على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال"، (الأنْقَابُ): جمع نَقْبٍ، وهو الطريق بين الجبلين، يعني: وكَّل الله تعالى ملائكة على طرائق المدينة؛ ليدفعوا عنها الدجال والطاعون، وهو الوَبَاء.
روى هذا الحديث: أبو هريرة.
* * *
2000 -
وقال: "إنَّ الله تَعَالَى سَمَّى المَدِينَةَ طَابَةَ".
"سمى المدينة طيبة": لعل المدينة سميت طيبة لطيبها (1) بحضور رسول الله عليه السلام وأصحابه والتابعين، وتطهيرهم إياها من خبث الكفار، وتطهيرها من الطاعون والدجال وغير ذلك من الفتن.
روى هذا الحديث: جابر بن سمرة.
* * *
(1) في "ش": "لتطيبها".
2001 -
وقال: "إنَّمَا المَدِينَةُ كالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَها، وتَنْصَعُ طَيبُهَا".
قوله: "وتَنْصَعُ طَيبَها"، (نَصَعَ) بفتح الصاد في الماضي والغابر: إذا صار الشيء خَالصًا، (التنصيع): التخليص والتَطييب.
يعني: تجعلُ المدينةُ الصالحَ طاهرًا من الذنوب والأخلاق المذمومة؛ يعني: صلحاؤها يكونون على غاية الصلاح.
روى هذا الحديث سمرة بن جندب
* * *
2002 -
وقال: "لا تقومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِي المَدِينَةُ شِرَارَها كما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ".
قوله: "لا تقوم السَّاعة حتى تَنفي المدينةُ شرارَها"؛ يعني: يأتي زمان قبل القيامة يكونون فيه أهل المدينة كلهم مسلمين صلحاء، ولعلها صارت بهذه الصفة في زمن خلافة عمر، فإنه أخرج منها أهل الكتاب (1)، وأظهر العدل والاحتساب، واستقام الإسلام.
روى هذا الحديث: أبو هريرة.
* * *
2004 -
وقال: "ليسَ مِنْ بَلَدٍ إلّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ، إلَاّ مَكَّةَ والمَدِينَةَ، لَيْسَ نَقْبٌ مِنْ أَنْقَابها إلَاّ عَلَيْهِ المَلائِكَةُ صافِّينَ يَحْرُسُونهَا، فَيَنْزلُ السَّبْخَةَ، فَتَرْجُفُ المَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ، فَيَخْرُجُ إلَيْهِ كُلُّ كافِرٍ ومُنافِقٍ".
(1) في "ش": "الكفر".
قوله: "سيطؤها"؛ أي: سيدخلها، و (الوَطْءُ): ضرب شيء بالقدم، ويستعمل في المشي.
قوله: "يحرسونها"؛ أي: يحفظونها.
قوله: "فينزل السَّبخَةَ" بكسر الباء: اسم موضع قريب من المدينة؛ يعني: يريد الدَّجَال أن يدخل المدينة، فتمنعه الملائكة فينزل السَّبخَةَ.
"فترجفُ المدينةُ بأهلِهَا"؛ أي: تحرِّكُهُم؛ أي: يُلقي مَيْلُ الدَّجَال في قلب من ليس بمؤمن خَالصًا، فيخرج من المدينة إلى الدَّجَال، ويؤمن به.
روى هذا الحديث: أنس رضي الله عنه.
* * *
2005 -
وقال: "لا يَكِيدُ أهْلَ المَدِينَةِ أَحَدٌ إلَّا انْمَاعَ كلما يَنْمَاعُ المِلْحُ في المَاءِ".
قوله: "لا يَكيدُ أهلَ المدينة أحدٌ إلا انمَاعَ"، (لا يكيد)؛ أي: لا يَمْكُرُ بهم، ولا يقصدهم بالأذى، (انمَاعَ)؛ أي: ذَابَ كما يذوب (الملح في الماء)، يعني: يهلك كما يهلك الملح في الماء.
روى هذا الحديث: أبو هريرة رضي الله عنه.
* * *
2006 -
وعن أنَسٍ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ - صلي الله عليه وسلم - كانَ إذا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إلى جُدُرَاتِ المَدِينَةِ أَوْضَعَ راحِلَتَهُ، وإنْ كانَ على دابَّةٍ حَرَّكها، مِنْ حُبها.
قوله: "نظر إلى جُدُرَاتِ المدينة"، (الجُدُرَاتُ): جمع جُدُر، وهو جمع جِدَار.
"أَوْضَعَ"؛ أي: ركض، وهو لازم ومتعد، وهو ها هنا متعد، و"الرَّاحلة": تستعمل فيما يحمل الرَّحل من الإبل، و"الدابة" تستعمل في الفرس والبغل والحمار.
يعني: إذا كان على جَملٍ أسرعها، وإذا كان على فرس أيضًا أسرعها (1)؛ ليكون وصوله إلى المدينة قريبًا؛ من غاية حُبه إيَّاها.
أظهر رسول الله عليه السلام حبَّ المدينة؛ ليوقِعَ عظمة المدينة وحرمتها قلوبِ في الناس؛ ليعظموها ويحفظوا حرمتها.
ويحتمل أن يكون حبها لِحُبِّ أهلها من الأزواج والأولاد والصحابة.
* * *
2007 -
وقال أنس رضي الله عنه: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم طَلَعَ لهُ أُحُدٌ، فقال:"هذا جَبَلٌ يُحِبنا وَنُحِبُّهُ!، اللهمَّ إنَّ إبراهيمَ عليه السلام حرَّمَ مَكَّةَ، وإنَّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ ما بَيْنَ لَابَتَيْهَا".
قوله: "طَلَعَ له أُحُدٌ فقال: هذا جَبَل يحبنا ونحبُّه" قال الخطابي: يريد أهلَ أُحُدٍ من الشهداء والأحياء (2) حواليه؛ أي: هم يحبُّونا ونحبُّهم.
وقال محيي السنة: يريد نفس أُحُد، فإنه لا بُعْدَ ولا عَجَبَ أن يحبَّ الجَمَادُ الناسَ، فإنَّ الأرض إذا عمل إنسانٌ عليها عملًا صالحًا، تحبُّ تلك البقعة ذلك الرجل الصالح، وإذا عمل سيئة تبغضه، كما قال تعالى في آل فرعون إذ
(1) في "ش": "يعني: إذا كان على جمل أو فرس أو بغل أو غيرها أسرعها".
(2)
في "ت": "والأخيار".
أغرقوا: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29]؛ أي: لم يعملوا خيرًا حتى تحبَّهم الأرض والسماء، وتبكيان عليهم عند هلاكهم، بل فرحتا بموتهم.
* * *
مِنَ الحِسَان:
2009 -
رُوي: أنَّ سعدَ بن أبي وَقَّاصٍ أَخَذَ رَجُلًا يَصِيدُ في حَرَمِ المَدِينَةِ، فَسَلَبَهُ ثِيَابَهُ، فَجَاءَ مَواليهِ، فَكَلَّمُوهُ فيهِ، فقال: إنَّ رسُولَ الله - صلي الله عليه وسلم - حَرَّمَ هذا الحَرَمَ، وقال:"مَنْ أَخَذَ أَحَدًا يَصِيدُ فيهِ فَلْيَسْلُبْهُ"، فلا أَرُدُّ عَلَيْكُمْ طُعْمَةً أَطْعَمَنيها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ولكِنْ إنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُ إلَيْكُمْ ثَمَنَهُ"
ويُروى: "مَنْ قَطَعَ مِنْهُ شَيْئًا فَلِمَنْ أَخَذَهُ سَلَبَهُ".
قوله: "إن شئتُمْ دفعْتُ إليكم ثمنَهُ"، دفع الثمن إليهم تبرع منه عليهم؛ لأن السَّلب لو لم يكن جائزًا لما فعله سعد مع عِظَمِ شأنه، ولو كان جائزًا لا يلزمه أن يردَّ ما أخذ؛ وإذًا لم يلزمه قيمته أيضًا، وهذا غرامة ألزمها رسول الله - صلي الله عليه وسلم - على من قتل صيدًا أو قطع شجرًا، كما أوجب جزاء الصيد على من قتل صيدًا في حرم مكة، وكما أوجب بقرة أو شاة على من قطع شجرًا في الحرم، كما ذُكِر.
* * *
2010 -
وروى الزُّبَير، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنَّ صَيدَ وَجٍّ وعِضاهَهُ حِرْمٌ مُحَرَّمٌ لِلَّه. ووجٌّ ذكروا أنَّها من ناحية الطَّائف.
قوله: "إن صَيْدَ وَجٍّ وعِضَاهَهُ حِرْمٌ"(الحِرْمُ) والحَرَامُ بمعنى المُحرَّم.
قال الخطابي: لا أعلم سببَ تحريم وَجًّ، فلعلَّه عليه السلام حَرَّمها؛ ليصير حمى للمسلمين؛ أي: مرعى لأفراس الغزاة، لا يرعاها غيرهم.
وسبب تحريم صيد ذلك الموضع، وقطع أشجاره: ليكون لمَنْ سكنه من الغزاة، ولمَنْ مَرَّ به وسكن هناك أيامًا بفَرَحٍ وأُنْسٍ؛ فإن الإنسان يطمئن قلبه بمَسْكَنٍ فيه صيود وأشجار.
وهل يبقى تحريمه أبدًا، أو صار مباحًا بعدما انقرض الزمان الذي عَيَّنَهُ رسول الله عليه السلام لتحريم وَجٍّ إن عين زمانًا، أو بعدما انقرض أولئك الغزاة إن عين جماعة؟ ففيه خلاف.
قال الخطابي: ويحتمل أن يكون ذلك التحريم إنما كان في وقت معلوم، وفي مدة محصورة، ثم نُسخ، فعاد: الأمرُ إلى الإباحة كسائرِ بلادِ الحِلِّ، هذا لفظ الخطابي.
ثم قال محيي السنة بعد هذا: وفي هذا المعنى: (النَّقيع) بالنون، وهي حمى حماه رسول الله عليه السلام لإبل الصدقة، ونِعَم الجزية، فيجوز الاصطياد؛ لأن المقصود منه منع عامة الناس من رعيه، لا منعهم عن قتل الصيد.
فلو أتلف شيئًا من شجره؟
قال صاحب "التلخيص": عليه غرم ما أتلف كحشيش الحرم، ولا يجوز بيع النَّقيع، ولا بيع شيء من أشجاره كالموقوف.
* * *
2013 -
وعن جَرِيْر بن عبد الله رضي الله عنه، عن النبيِّ - صلي الله عليه وسلم - قال:"إِنَّ الله تعالَى أَوْحَى إليَّ: أَيَّ هؤُلاءِ الثَّلاثَةِ نَزَلْتَ فَهيَ دَارُ هِجْرَتِكَ: المَدِينَة، أو البَحْرَيْن، أو قِنَّسْرِين".
قوله: "أو قِنَّسْرِين"، وهذا بلد بالشام (1).
(1) هنا تنتهي النسخة الخطية للمكتبة التيمورية، والمرموز لها بـ "ت".
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وجاء في آخر المجلد الأول من النسخة الخطية لمكتبة دار الكتب المصرية ما نصه:
"تم شرح عبادات كتاب المصابيح في شهر الله المعظم رمضان سنة سبع وخمسين وست مئة"، ثم جاء بعدها:"تم المجلد الأول من المفاتيح في شهر شوال على يدي أفقر عباد الله محمد بن عيسى سنة خمس وستين وألف، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين".