المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌1 - باب الكسب وطلب الحلال - المفاتيح في شرح المصابيح - جـ ٣

[مظهر الدين الزيداني]

فهرس الكتاب

- ‌7 - كِتابُ الصَّومِ

- ‌1 - باب

- ‌2 - باب رؤية الهِلال

- ‌فصل

- ‌3 - باب تَنْزيه الصَّوم

- ‌4 - باب صَوْم المُسافِر

- ‌5 - باب القَضَاء

- ‌6 - باب صِيَام التَّطوُّع

- ‌فصل

- ‌7 - باب لَيْلَةِ القَدْر

- ‌8 - باب الاعتِكاف

- ‌8 - كِتَابُ فَضَائِلِ القُرْآنِ

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌9 - كِتابُ الدَّعَوَاتِ

- ‌2 - باب ذِكْرِ الله عز وجل والتَّقرُّبِ إليهِ

- ‌3 - باب أَسْماءِ الله تعالى

- ‌4 - باب ثواب التَسبيح والتَحميد والتَهليل

- ‌5 - باب الاستِغفار والتَّوبة

- ‌فصل

- ‌6 - باب ما يقُول عند الصَّباح والمَسَاء والمَنام

- ‌7 - باب الدَّعَوَاتِ في الأَوْقاتِ

- ‌8 - باب الاستِعاذَة

- ‌9 - باب جامع الدُّعاءِ

- ‌10 - كِتَابُ المَنَاسِكِ

- ‌2 - باب الإِحْرام والتَّلْبية

- ‌3 - قِصَّةُ حجة الوداع

- ‌4 - باب دُخُول مَكَّةَ والطَّواف

- ‌5 - باب الوُقُوفِ بِعَرَفةَ

- ‌6 - باب الدَّفْع من عَرَفَةَ والمُزْدَلِفَة

- ‌7 - باب رَمْيِ الجِمَار

- ‌8 - باب الهَدْي

- ‌9 - باب الحلق

- ‌فصل

- ‌10 - باب الخُطْبة يومَ النَّحر، ورَمْي أَيَّام التَّشريق والتَّوديع

- ‌11 - باب ما يجتنبه المحرم

- ‌12 - باب المُحرِم يَجتنِب الصَّيد

- ‌13 - باب الإِحْصَار وفَوْت الحَجِّ

- ‌14 - باب حرَم مكَّة حرَسَها الله

- ‌15 - باب حرَم المَدينة على ساكنها الصلاةُ والسلام

- ‌11 - كِتابُ البُيُوعِ

- ‌1 - باب الكَسْب وطلَب الحَلال

- ‌2 - باب المُساهلةِ في المُعاملةِ

- ‌3 - باب الخِيَارِ

- ‌4 - باب الرِّبا

- ‌5 - باب المنهيِّ عنها من البيوع

- ‌فصل

- ‌6 - باب السَّلَمِ والرَّهنِ

- ‌7 - باب الاحتِكارِ

- ‌8 - باب الإفلاسِ والإنظارِ

- ‌9 - باب الشَّركةِ والوَكالةِ

- ‌10 - باب الغَصْبِ والعاريَةِ

- ‌11 - باب الشُّفْعَةِ

- ‌12 - باب المُساقاةِ والمُزارعةِ

- ‌13 - باب الإجارة

- ‌14 - باب إحياء المَوَاتِ والشّرْبِ

- ‌15 - باب العطايا

- ‌فصل

- ‌16 - باب اللُّقَطَة

- ‌17 - باب الفرائضِ

- ‌18 - باب الوصايا

الفصل: ‌1 - باب الكسب وطلب الحلال

[11]

كِتابُ البُيُوعِ

(كتاب البيوع)(1)

‌1 - باب الكَسْب وطلَب الحَلال

مِنَ الصِّحَاحِ:

2014 -

قال رسولُ الله - صلي الله عليه وسلم -: "ما أَكلَ أحدٌ طَعامًا قطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِيْهِ، وإنَّ نَبيَّ الله داودَ صلى الله عليه وسلم كانَ يَأْكلُ مِنْ عَمَلِ يَدِيْهِ".

قوله: "ما أكل أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكل من عمل يديه": هذا الحديث تحريضٌ على الكسب الحلال؛ فإن الكسبَ فيه فوائدُ كثيرةٌ:

إحداها: إيصال النفع إلى المكتسب بأخذ الأجرة إن كان العملُ لغيره، وبحصول الزيادة على رأس المال إن كان العملُ تجارة، فكذلك الزراعةُ وغرسُ الأشجار.

والثانية: إيصال النفع إلى الناس: بتهيئة أسبابهم من حَوك ثيابهم وخياطتها وغيرهما من الحِرف، وبحصول أقواتهم بأن يشتروا من الأقوات والثمار، وكذلك جميع الأشياء مما يحصل بسعي الناس.

(1) من هنا تبدأ النسخة الخطية والمرموز لها بـ "م"، وهي مجهولة المصدر.

ص: 383

والرابعة: أن النفسَ تنكسر بالكسب ويقلُّ طغيانُها ومرحُها.

وكلُّ واحدٍ من هذه الأشياء خصالٌ حميدةٌ في الشرع، ينال الرجلُ بها الدرجةَ الرفيعةَ.

وشرطُ المكتسب: أن يعتقدَ الرزقَ من الله الكريم، ونسبةُ الكسب إلى الرزق كنسبة الطعام إلى الشِّبَع؛ فإن الشبعَ لا يحصل من الطعام، بل من الله، فرُبَّ أَكلةٍ تُشبع الآكِلَ إذا قدَّر الله فيها الشبعَ، وربُّ أَكلةٍ لا تُشبع إذا لم يُقدِّر الله فيها الشبعَ، فكذلك رُبَّ مكتسبٍ يحصل له مالٌ إذا قدَّر الله له المال، ورُبَّ مكتسبٍ لا يحصل له المالُ إذا لم يقدَّر الله له المال.

قوله: "إن نبيَّ الله داود صلى الله عليه وسلم كان يأكل من عمل يديه"؛ يعني: يعمل الدِّرعَ ويبيعها ويأكل ثمنَها.

هذا الحديثُ لبيان فضيلة الكسب؛ يعني: الاكتسابُ من سُنَنِ الأنبياء، وسُنَنُ الأنبياء فيها سعادةُ الدنيا والآخرة.

فإن قال قائل: الكسبُ ليس بسُنَّةِ نبينا صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن منسوبًا إلى الكسب؟

قلنا: بل هو سُنَّةٌ؛ لأن تحريضَ الناس على الكسب صريحُ رضاه بالكسب، وكلُّ فعلٍ رَضيَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فهو سُنَّةٌ.

وأما قوله: لم يكن رسولُ الله منسوبًا إلى الكسب، فهذا عدمٌ، والعدمُ ليس بسُنَّةٍ؛ يعني: عدمُ اكتسابه لا يدل على أن عدمَ الكسبِ سُنَّةٌ.

ألا ترى أن النبيَّ - صلي الله عليه وسلم - لم يغسل ميتًا، ومع ذلك غسلُ الميت فرضٌ على الكفاية؟!

ولم يؤذِّن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك الأذانُ سُنَّةٌ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمرَ به.

ص: 384

روى هذا الحديثَ المقدامُ بن معدي كرب.

* * *

2015 -

وقال: "إنَّ الله طَيبٌ لا يقبلُ إلا طَيبًا، وإنَّ الله أَمَرَ المُؤمنينَ بما أَمَرَ به المُرْسَلينَ، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رَبِّ، يا ربِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وغُذِيَ بالحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجابُ لذلِكَ؟ ".

قوله: "إن الله طيب"؛ أي: طاهرٌ منزَّهٌ عن صفات الحدوث وعن الظلم، فإذا كان منزَّهًا عن الظلم لا يَقبَل صدقةً من مالٍ مغصوبٍ أو حرامٍ من جهةٍ أخرى، بل لا يَقبَل إلا الطيَّبَ، وهو الحلالُ.

قوله: "وإن الله أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المرسلين"؛ يعني: لا فرقَ بين الرُّسل وبين الأمم في طلب الحلال واجتناب الحرام، بل يجب على جميع الناس طلبُ الحلال واجتنابُ الحرام.

"ثم ذكر الرجلَ يطيل السفرَ أشعثَ أغبرَ يمدُّ يدَيه إلى السماء: يا ربِّ! يا ربِّ! ومَطعمُه حرامٌ، ومَشربُه حرامٌ، ومَلبسُه حرامٌ، وغُذي بالحرام؛ فأَنَّى يُستجاب لذلك؟! "، (يطيل السفر)؛ أي: يمشي من مكانٍ بعيدٍ إلى مكةَ لزيارة بيت الله، (أشعث): متفرَّق الرأس من عدم الغسل كعادة الحجاج، (الأغبر): الذي أصابه غُبارٌ في الطريق، (يمدُّ يدَيه)؛ أي: يرفع يدَيه إلى الله يسأله حوائجَه، قوله:(يا رب! يا رب!)؛ يعني: يقول ذاك الرجلُ عند الدعاء: يا ربِّ!

(ومَطعمُه حرام): الواو للحال؛ يعني: في حال كونه آكِلَ الطعامِ الحرامِ، قوله:(وغذي بالحرام)؛ أي: رُبي بالحرام، (فأنى يستجاب)؛

ص: 385

أي: مِن أين يُستجاب لذلك الدعاء؟! يعني: فلمَّا ذكرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فضيلةَ الكسب، وفساد أكل الحرام، وفضيلةَ أكل الحلال ذكرَ بعد ذلك الرجلَ الذي يطيل السفرَ؛ أي: ذكرَ حالَ الذي يطيل السفرَ في حال كون مَطعمِه حرامًا، وبيَّن أن دعاءَ من يكون طعامُه وشرابُه ولباسُه حرامًا قلَّ ما يُستجابُ له.

روى هذا الحديثَ أبو هريرة.

* * *

2016 -

وقال: "يَأْتِي على النَّاسِ زمانٌ لا يُبالي المَرءُ ما أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الحلالِ أَمْ مِنَ الحَرامِ".

قوله: "يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي المرءُ ما أَخَذَ منه؛ أَمِنَ الحلالِ أم مِنَ الحرام"، الضمير في (منه) ضمير شيءٍ غيرِ مذكورٍ هنا، والمراد: به المال.

وقد جاء هذا الحديث برواية أخرى، وفيه لفظ:"المال"؛ يعني: لا يبالي بما أخذ من المالِ أحلالٌ هو أم حرامٌ، بل ليس له التفاتٌ إلى الفرق بين الحلال والحرام.

روى هذا الحديثَ أبو هريرة.

* * *

2017 -

وقال "الحَلَالُ بَينٌ، والحَرَامُ بَينٌ، وَبَينَهُمَا أُمورٌ مُشتَبهَاتٌ لا يَعْلَمُهُنَّ كثيرٌ مِنَ الناسِ، فَمَنْ اتَّقى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضهِ، ومَن وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وقَعَ في الحَرامِ، كالرَّاعي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فيهِ، أَلَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وإنَّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ، أَلَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ".

ص: 386

قوله: "الحلال بين، والحرام بين، وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ"؛ يعني: بعضُ الأشياء ظاهرٌ كونُه حلالًا؛ مثل النبات والأشجار في الموات، ومثل ماء البحر والأنهار والعيون في الموات، ومثل ما عَلِمَ الرجلُ كونَه حلالًا، وبعضُ الأشياء ظاهرٌ كونُه حرامًا؛ كالخمر وأخذ مال أحدٍ بغير حقًّ وغير ذلك، وبعضُ الأشياء مُشبَّهٌ كونهُ حلالًا أو حرامًا.

ومعنى (اشتبه): خَفِيَ؛ أي: خَفِيَ عليه كونُه حلالًا أو حرامًا؛ مثل أن يأتيك من بعض ماله حلالٌ، وبعض ماله حرامٌ، وأعطاك شيئًا من ماله بعِوَضِ ما اشترى منك، أو بالصدقة أو الضيافة، وأنت لا تعلم أنه من ماله الذي هو حلالٌ أم من ماله الذي هو حرامٌ؛ فهذا هو مالُ الشُّبهة، هذا إذا كان مالُه الحلالُ متميزًا عن ماله الحرام، وأنتَ لا تعلم أن ما أعطاك هو مِن أيهما، أما إذا خُلِطَ الحرامُ بحيث لا يتميز أحدهما من الآخر صار جميعُ ذلك المخلوط حرامًا في حقِّ مَن يعرف كونَ ذلك المال مخلوطًا من الحلال والحرام، فإذا عرفتَ هذه القاعدةَ فاعرف أن الحرامَ واجبٌ اجتنابُه، والشُّبهةَ مكروهٌ أخذُها، ولكن ليس بحرامٍ.

واعلم أنَّا نحكم بحلال أموال جميع المسلمين والكفار لمُلَّاكهم، ولمَن أخذه مِن مُلَاّكهم بطِيب أنفسهم، إلَّا من تيقنَّا كونَ ماله حرامًا، مثل ثمن الخمر، والكلب، والخنزير وأجرة المُغنِّي غناءً حرامًا، وأجرة الزانية، وغير ذلك مما تيقنَّا بكونه حرامًا، فإنَّا نَحكم حينَئذٍ بكونه حرامًا، وما لا نعرف كونَه حرامًا، ولكن نعرف أن له مالًا حلالًا وحرامًا نَحكم بكونه ماله الشُّبهة، وما سوى ذلك فهو حلالٌ، ومالُ الكفَّار يجوز للمسلمين أخذُه إذا كانوا حربيين؛ أي: ليس بينهم وبين المسلمين ذِمَّةٌ وعهدٌ.

قوله: "فمَن اتَّقى الشُّبهاتِ استَبْرَأ لدِينِه وعِرْضه"، (اتقى)؛ أي: حَذِرَ

ص: 387

واجتَنَبَ، (استبرأ لدينه وعرضه)؛ أي: طلبَ الطهارةَ لدِينِه وعِرْضه، و (العِرض): يحتمل أن يكون بمعنى النفس هنا، ويحتمل أن يكون بمعنى الصفات؛ يعني: طهَّر دِينَه وبدنَه وصفاتِه من العقوبة، ومِن أن يشتمَه ويذمَّه أحدٌ لقلة المبالاة بالشُّبهات؛ فإنَّ مَن أكلَ الشُّبهاتِ يمكن أن يأكلَ مالًا حرامًا وهو لا يدري كونَه حرامًا، فيجب له العقوبةُ، ولا يكون معذورًا عند الله تعالى بأكل الحرام ولا يدري كونَه حرامًا، وكذلك ينسبه الناسُ إلى ترك التقوى وقلة المبالاة بطلب الحلال.

قوله: "ومَن وقع في الشُّبهاتِ وقعَ في الحرام"؛ يعني: مَن لم يجتنبِ الشُّبهاتِ يمكن أن يقعَ في الحرام بطريقَين:

أحدهما: أن يأكلَ حرامًا وهو يظنُّه حلالًا، والثاني: أن يقسوَ قلبُه بأكل الشُّبهاتِ، فإذا قسا قلبُه بأكل الشُّبهات يجترئ بأكل الحرام ولا يبالي.

"الحمى": الروضة التي أَمَر السلطانُ ألا يرعاها أحدٌ؛ ليرعاها مَن أراد السلطان.

"يوشك"؛ أي: يسرع ويَقرُب.

"أن يرتعَ فيه"؛ أي: يرعاه.

قوله: "ألا وإن لكل مَلِكٍ حِمًى"، (ألا) معناه: اعلم، يقال للواحد والأكثر، والمذكر والمؤنث، وبهذا اللفظ من غير تغيير؛ يعني: كلُّ مَلِكٍ من الملوك يحمي حِمًى؛ أي: يحفظُ روضةً، ويمنع الناسَ عن أن يرتعوه، فكذلك الله تعالى يحمي حِمًى، وينهى الناسَ عن أن يدخلوه ويَقْرَبوه، وهو المحَّرمات، فكما أن مَن دخلَ حِمَى المَلِك يستحقُّ أن يعذِّبَه ذلك المَلِكُ، فكذلك مَن فعلَ شيئًا مما حرَّمه الله استحقَّ أن يعذَّبَه الله، فإن شاء الله عذَّبه، وإن شاء غفرَ له.

قوله: "وإن في الجسد لَمُضغةً إذا صلحتْ صلحَ الجسدُ كلُّه، وإذا

ص: 388

فسدَتْ فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب"، (المُضغة): قطعة لحم، مَثَلُ القلب كمَثَلِ فتيلة السِّراج؛ فالفتيلة تحتاج إلى أربعة أشياء: النار، والدُّهن، ونظافة المِسْرَجة، وهي الظَّرف الذي فيه الدُّهن والفتيلة، والرابع عدم المزاحم، فلو لم يكن على الفتيلة نارٌ لم يكن لها نورٌ، ولو كانت عليها نارٌ ولم يكن لها دهُنٌ ينطفئ نورُها عن قريبٍ، ولو كان لها نارٌ ودهُنٌ، ولكن يكون ظَرفُها ملوثًا بالوسخ والدُّرْدِي لا يكون نورُها على الكمال، ولو كان ظرفُها نظيفًا ولكن يكون لها مزاحمٌ - ونعني بالمزاحم: الريح - فإن كانت الريحُ شديدةً تُطفئ نورَها، وإن لم تكن شديدةً لا تُطفئها، ولكن تحرِّكها ويفرَّق نورُها، فلا يكون نورُها كاملًا، فإذا اجتمعت هذه الأشياءُ فقد كملَ نورُها، ويُنوَّر البيتُ، ورأى الحاضرون ما في البيت، وميزوا بين ما فيه النفعُ والتلذُّذُ من الأطعمة والثياب وغير ذلك مما في البيت، وبين ما فيه الضرُّ والهلاكُ كالحية والعقرب، وكشوكٍ وسكِّينٍ وسيفٍ واقعٍ في البيت، فيتمتَّعوا بما فيه النفعُ، واحترزوا عما فيه الضرُّ والهلاكُ، وإن لم يكن السِّراجُ لَمَا ميَّزوا بين النافع والضارَّ، فربما يضعُوا أقدامَهم على حيةٍ أو عقربٍ أو شوكٍ، فيهلكوا أو أصابهم مضرَّة ذلك.

فالقلبُ مِثْلُ الفتيلة، والصدرُ مِثْلُ المِسْرَجةِ، والإيمانُ مِثْلُ النارِ. والإتيانُ بالأوامر مِثْلُ الدُّهنِ، وحبُّ الدنيا وأكلُ الحرام والبغضُ والحسدُ والعداوةُ، وغير ذلك من المناهي مثلُ وسخِ المِسرَجة، والاعتقاداتُ الفاسدةُ مِثْلُ الريحِ، فإن كان الاعتقادُ شِرْكًا، أو تحريمَ حلالٍ، أو تحليلَ حرامٍ، أو إنكارَ واجبٍ يُطفِئ نورَ الإيمان بالكلية.

وإن كان الاعتقادُ بدعةً لا يُطفِئ نورَ الإيمان بالكلية، ولكن يَنقصُ نورَها، فإذا اجتمع للقلب نارُ الإيمان، ودُهنُ الإتيان بالأوامر، ونظافةُ مِسْرَجة الصدر عما لا يليق، وعدمُ مزاحم ريح الاعتقادات الفاسدة؛ فقد كملَ نورُ القلب،

ص: 389

وظهرَ للرجل بنور القلب حقيقةُ الأشياء، فيفرِّق الأعمالَ النافعةَ من الضارَّةِ، والمُنجِيةَ من المُهلِكةِ، فيعمل المُنجِيةَ والنافعةَ، ويَدَعُ المُهلِكةَ والمُضرَّةَ؛ فهذا صلاحُ الجسدِ، وهذا الصلاحُ نتيجةُ صلاحِ القلب. وإن فسدَ القلبُ بأن ينعدمَ شيءٌ من هذه الأشياء يسودُّ القلبُ، ويُظلم بيتُ الصدر، فلا يعرف الرجلُ المُنجِيَ من المُهلِكِ، ويتخبَّط في الأعمال، فربما يكون جميعُ أعماله قبيحًا، أو أكثرُها قبيحًا؛ وهذا فسادُ الجسدِ، وهو نتيجةُ فسادِ القلب.

روى هذا الحديثَ نُعمان بن بَشير.

* * *

2018 -

وقال: "ثَمَنُ الكلبِ خَبيثٌ، ومَهْرُ البَغِيِّ خَبيثٌ، وكَسْبُ الحَجَّامِ خَبيثٌ".

قوله: "ثمنُ الكلبِ خبيثٌ"؛ أي حرامٌ؛ لأنه لا يجوز بيعُ الكلب، ولا ضمانَ على مُتلِفِه، وقال أبو حنيفة: يجوز بيعُه، ويَضمنُه مُتِلفُه، وقال مالك: لا يجوز بيعُه، ولكن يَضمنُه مُتِلفُه.

قوله: "ومَهْرُ البَغيِّ حرامٌ"، (البغي): الزانية، و (مَهرُها): ما يعطيها الزاني ليزنيَ بها، وهو حرامٌ بالإجماع، وجماعةٌ من العوام يقولون: ذلك حلالٌ، حتى يقولون: أفضلُ مالٍ ينفقُه الرجلُ في سبيل الحجِّ مَهْرُ البَغِيِّ، وهذا كفرٌ؛ لأن مَن اعتقدَ تحليلَ شيءٍ هو مُحرَّمٌ بالإجماع فقد كفرَ.

قوله: "كَسْبُ الحجَّامِ خبيثٌ"، (الخبيث) ها هنا بمعنى: المكروه؛ لأن رسولَ الله - صلي الله عليه وسلم - أتى أبا طَيبةَ ليحجمَه، وأعطاه الأجرةَ، ولو كان كسبُه حرامًا لم يُعطِه رسولُ الله - صلي الله عليه وسلم - الأجرةَ؛ لأنه لا يجوز له صلى الله عليه وسلم أن يُعطيَ شيئًا حرامًا، أو يأمرَ أحدًا بكسبٍ حرامٍ.

ص: 390

وقال أهل الظاهر: هو حرامٌ؛ لأن ظاهرَ الخبيثِ الحرامُ أو النجسُ؛ ليس على هذا القول أحدٌ من الأئمة الأربعة.

روى هذا الحديثَ أبو هريرة.

* * *

2019 -

وعن أبي مَسْعُود الأَنْصاري رضي الله عنه: أَنَّ رسُولَ الله - صلي الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وحُلْوَانِ الكَاهِنِ.

قوله: "نهى عن ثمن الدم"(1)، اعلم أن الدمَ حرامٌ أكلُه وبيعُه بالإجماع.

قوله: "وحُلوان الكاهن"؛ أي: أجرة الكاهن، (الكاهن): مَن يُخبر عن شيءٍ غائبٍ، أو عن شيءٍ سيحدث، أو عن طالعِ أحدٍ بالسَّعد والنَّحس، والدولة والمحنة، وكلُّ ذلك حرامٌ؛ لأن كلَّ ذلك إخبارٌ عن الغيب، ولا يعلم الغيبَ إلا الله أو مَن يُخبره الله عن شيءٍ غائبٍ، كما أَخْبَرَ أنبياءَ الله عن الأشياء الغائبة بأن أخبرَهم الله، وإلى هذا أشار الله تعالى بقوله:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27]، {فَلَا يُظْهِرُ}؛ أي: فلا يُطلِع على الغيب أحدًا إلا مَن شاء الله مِن رُسلِه، فإنه أطلعَهم على بعض علوم الغيب؛ ليكونَ لهم معجزةً.

وإذا ثبت تحريمُ الكهانة تكون أجرتُه حرامًا، ومَن اعتقد كونَ الكهانة حقًّا فقد كفر؛ لأنه خالَفَ قولَ الله تعالى واعتقدَ شريكًا لله في علم الغيب، ومِن العوام والمنجِّمين مَن يزعم أن معرفةَ النُّحوسة والسعادة، والفقر والغناء، وغير ذلك يُعرَف بالنجوم؛ لأنه جعلَ الله لكل نجمٍ خاصيَّةً في طلوعه وغروبه، فبعضُ

(1) كذا في جميع النسخ، والحديث إنما هو في النهي عن ثمن الكلب.

ص: 391

النجومِ يدلُّ طلوعُه على كثرة المال للإنسان، وبعُضها يدلُّ على الفقر والمرض، وغير ذلك من الأحوال.

ويقولون: هذا مثل للأدوية والنبات، فإثه خَلَقَ في كل أدويةٍ ونباتٍ نفعًا أو ضرًّا، فبعضُها يَقتل، وبعضُها يُمرض، وبعضُها يَشفي، وغير ذلك من أنواع النفع والضُّرِّ.

فنقول: هذا القياسُ خطأ؛ لأن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أمرَ بالمداواة بالأدوية وبعض النبات، وداوَى نفسَه وأهلَه، وبيَّن خاصيةَ بعض النبات والأدوية.

فعَلِمْنا بفعله وقوله - صلي الله عليه وسلم - جوازَ المداواة وخاصيةَ بعض النبات، وأما معرفةُ الأشياء بالنجوم فلم يَرِدْ مِن الشارع في ذلك رخصةٌ، بل وردَ النهيُ والزجرُ عن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:"مَن أتى عرَّافًا، فسأله عن شيءٍ لم يُقبَل له صلاةٌ أربعين ليلةً"، وبقوله:"مَن اقتبسَ علمًا من النجوم اقتبسَ شُعبةً من السِّحر"، وبقوله:"مَن أتى كاهنًا، فصدَّقه بما يقول فقد بَرِئ مما أنزَل الله على محمد صلى الله عليه وسلم".

وهذه الأحاديثُ من (باب الكهانة)، وكم مِثلُ هذه الأحاديث ورد في الزجر عن الكهانة وعن إتيان الكاهن، يأتي شرحها في (باب الكهانة) إن شاء الله عز وجل.

واعلم أنه يجوز تعلُّمُ علمِ النجوم بَقْدرِ ما يُعرَف به الأوقات.

وروى هذا الحديثَ - أعني: حديث النهي عن ثمن الدم - أبو مسعود الأنصاري.

* * *

2020 -

وعن أبي جُحَيْفَةَ: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وثَمَنِ الكَلْبِ، وكَسْبِ البَغِيِّ، ولَعَنَ آكِلَ الرِّبا، ومُوكِلَه، والواشِمةَ، والمُسْتَوْشِمةَ، والمُصَوِّرَ.

ص: 392

قوله: "ولعن آكِلَ الرِّبا ومُوكِلَه"، فـ (الآكِل): هو الذي يُعطي المالَ ويأخذ زيادةً على ما أَعطَى، و (المُوكِل): هو الذي يُعطي الزيادةَ، ويأتي بحث الربا.

قوله: "والواشمة والمُستوشِمة"، (الواشمة): المرأة التي تَشِمُ الوَشْمَ على يد امرأةٍ، و (المُستوشِمة): المرأة التي تطلب أن يُجعَل على يدها وشمٌ، وكذلك حكمُ الرجال.

والوَشْم: أن تغرزَ امرأةٌ إبرةً على يدها أو يد غيرها حتى يخرجَ منها دمٌ، ثم تلقي على تلك الجراحة شيئًا من دخان الشحم حتى يسودَّ، أو من ماءٍ معصورٍ من الخضراوات حتى تخضرَّ، وهذا الفعلُ حرامٌ؛ لأنه تغييرُ خلقِ الله، ولأن هذا مِن فعلِ الفُسَّاق والجُهَّال.

قوله: "والمُصوِّر": الذي يصنع صورَ الحيوانات، ويأتي بحثُه في موضعه إن شاء الله تعالى.

* * *

2021 -

عن جابرٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ عامَ الفَتْحِ وهو بمَكَّةَ: "إنَّ الله ورسُولَهُ حَرَّمَ بَيع الخَمْرِ والمَيْتَةِ والخِنْزِيرِ والأصنامِ"، فقيل: يا رَسُولَ الله!، أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ، فإنَّهُ يُطْلَى بها السُّفُنُ ويُدْهَنُ بها الجُلُودُ ويَسْتَصْبحُ بها النَّاسُ؟، فقال:"لا، هو حَرامٌ"، ثُمَّ قالَ عِنْدَ ذلِكَ:"قاتلَ الله اليَهُودَ، إنَّ الله لمَّا حَرَّمَ شُحُومَها جَمَلوها ثُمَّ باعوها فَأَكَلُوا ثَمنَها".

2022 -

عن عمرَ رضي الله عنه: أنَّ رسُولَ الله - صلي الله عليه وسلم - قال: "قاتَلَ الله اليَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا".

قوله: "والأصنام"، وهي جمع: صَنَم، وهو ما يعبده الكفَّار من حَجَرٍ وغيره.

ص: 393

قال الخطابي: كما لا يجوز بيعُ الصنم لا يجوز بيعُ كلِّ شيءٍ مصوَّرٍ إذا كانت صورتُه مقصودةً، والشيءُ الذي فيه الصورةُ تبعًا للصورة، أما إذا كان المقصودُ ذلك الشيءَ الذي فيه لا الصورةَ يجوز بيعُه، مثل: آنيةٍ أو بابٍ أو بيتٍ فيها صورةُ حيوان، والمُحرَّم إنما هو تصويرُ صورة الحيوان، أما تصويرُ صورةِ غير الحيوان فلا بأسَ به (1).

قوله: "أرأيتَ شحومَ الميتة"؛ يعني: ما حكمُ شحومٍ تُذابُ ويُطلَى بها السُّفُنُ ويُصلَح بها الجلودُ لتصيرَ لينةً، ويَستصبح بها الناسُ، هل يجوز أم لا؟

فقال صلى الله عليه وسلم: "لا".

واعلم أنه مَن اشترى شحومَ الميتة لهذه الأشياء لا يجوز البتةَ، وإن كان له دابةٌ ميتةٌ، أو ألقى أحدٌ دابةً ميتةً فأخذ شحمَها وأذابَه وطَلَى أسفلَ سفينته أو جانبًا منها لا يَصِلُ إلى بدن الذي يركب تلك السفينةَ، ولا إلى ثيابه؛ يجوز، ويجوز الاستصباحُ بالدُّهن النَّجِس، ولا يجوز بيعُه.

قوله: "قاتَلَ الله اليهودَ! إن الله لمَّا حرَّم شحومَها أَجمَلُوها ثم باعوها، فأكلوا ثمنَها"، (القتل): اللعن، والقتل: هو القتل المعروف، وكلا المعنيَينِ محتملٌ هنا.

الضمير في (شحومها) يعود إلى غير المذكور هنا، والمراد منه: البقر والغنم، كما في قوله تعالى:{وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146]،

(1) قلت: في كلام الشارح رحمه الله غموض؛ لأنه نمل كلام الخطابي بالمعنى، قال الخطابي في "أعلام الحديث" (2/ 588):"ويدخل في النهي عنه - أي عن بيع الصور - كلُّ صورة مصورة في رَقٍّ أو قرطاسٍ أو نحوهما مما يكون المقصود منه الصورة وكان الظرف تبعًا له، فأما الصور المصورة في الأواني والقِصَاع فإنها تبعٌ لتلك الظروف بمنزلة الصور المصورة على جُدُر البيوت وفي السقوف وفي الأنماط والستور؛ فالبيع فيها لا يفسد"

ص: 394

الضمير في {عَلَيْهِمْ} : لليهود، وفي {شُحُومَهُمَا}: للبقر والغنم.

والضمير في (شحومها) في الحديث: ضمير للبقر، وضمير (الغنم) كل واحدٍ منها على الحِدَةِ؛ لأنه لو أراد كلاهما لقال: شحومهما، كما في القرآن.

والبقر والغنم: اسم الجنس، واسم الجنس يجوز تأنيثُه؛ لأنه في المعنى جمعٌ، والجمعُ مؤنثٌ. والضمير في (أجملوه) و (باعوه): ضمير الشحم، لا ضمير الشحوم، وإن كان المذكورُ في الحديث هو الشحومَ لا الشحمَ.

ويجوز في مثل هذا الموضع أن يذكَّر الجمعُ ثم يذكَّر بعد ذلك ضميرُ فردٍ من ذلك الجمع، فإن الشحمَ فردٌ من الشحوم، فذكَّر ضميرَ الشحم بعد ذكر الشحوم، ومعنى (أجملوه): أذابوه؛ يعني: كانت اليهودُ يُذيبون الشحمَ ويقولون: إذا أُذيبَ الشحمُ قد يُزال عنه اسمُ الشحم، وصار اسمه وَدَكًا، وإنما حُرِّمَ علينا الشحمُ لا الوَدَكُ، فيجوز لنا بيعُ الوَدَك وأكلُه، فبيَّن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فسادَ هذا التأويل، بل إذا حُرِّمَ عليهم الشحمُ فلا يحلُّ بأن يتبدَّل اسمُه.

* * *

2023 -

وعن جابرٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ والسِّنَّوْرِ.

قوله: "نهى عن ثمن الكلب والسِّنَّور": مضى بحث بيع الكلب، وأما بيعُ السِّنَّور؛ فكَرِهَ أبو هريرة وجابر وطاوس ومجاهد لظاهر هذا الحديث، ولم يَكْرَه غيرُهم، وما نُقل عن أحدٍ تحريمُ بيعِه.

قال الخطابي: ورد النهي عن بيع السِّنَّور لمعنيين:

أحدهما: أنه حيوانٌ وحشيٌ لو رُبطَ لا يُنتفَع به؛ لأن انتفاعَه أخذُ الفأرة، ولو رُبطَ لا يمكنه أخذُ الفارة، فلا يُنتفَع به، ولو لم يُربَط ربما ينفر، فيضيع مالُ

ص: 395

الرجل الذي صرفَه في ثمنه.

والمعنى الثاني: أنه لو لم يُنْهَ عن بيعه لَتَبَايَعَ الناسُ عليه، فيشتريه مَن له ثمنُه، فينتفع به، ويُحرَم من انتفاعه الفقراءُ الذين ليس لهم مالٌ يشترونه، فنهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن بيعه؛ لئلا يتملَّكَه الناسُ، فيحُرَم بعضُ الناس عن انتفاعه، بل نهاهم لينتفعوا به كلُّهم، فينتقل السِّنَّور من بيتٍ إلى بيتٍ، ويأخذ الفأرةَ؛ كيلا يتأذى الناس بكثرة الفأرة، وهذا النهي ليس نهيًا يمنع انعقادَ بيعه، بل نهيٌ لمصلحة الناس.

* * *

2024 -

عن أنسٍ رضي الله عنه قال: حَجَمَ أَبُو طَيْبَةَ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ له بصاعٍ من تَمرٍ، وأَمَرَ أهلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عنهُ مِنْ خَرَاجِهِ.

قوله: "وأمرَ أهلَه أن يخفِّفوا عنه من خَرَاجه"؛ يعني بـ (أهله): ساداته، وساداته قد وضعوا عليه خراجًا؛ يعني: قالوا له: أَعِطنا كلَّ شهرٍ كذا من المال، والباقي من كسبك لك، فلما حجمَ رسولَ الله - صلي الله عليه وسلم - فأمر ساداته أن ينقصوا من ذلك الخراج شيئًا.

* * *

مِنَ الحِسَانِ:

2025 -

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَطْيَبَ ما أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبكُمْ، وإنَّ أَوْلَادَكُمْ مِنْ كَسْبكُمْ".

وفي رواية: "إِنَّ أَطْيَبَ ما أَكَلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبهِ، وإنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبهِ".

قوله: "وإن أطيبَ ما أكلتُم مِن كسبكم، وإن أولادَكم مِن كسبكم":

ص: 396

(أطيب)، أفعل التفضيل من: الطيب، وهو الحلال، وهو أحسنُ الحلالات ما تكسبون بأيديكم. و (أولادكم من كسبكم)؛ يعني: حصل لكم الأولادُ بواسطة تزوُّجِكم، وإن كان أولادُكم من جملة أكسابكم فيجوز لكم أن تأكلوا من كسَب أولادِكم؛ لأن كسبَ أولادِكم ككسبكم، وإنما يجوز للآباء الأكلُ من مال الأولاد إذا كانوا محتاجين، وليس لهم مالٌ، وإذا كان كذلك يجب نفقتُهم وكسوتُهم على أولادهم، فيجوز لهم الأكلُ من مال أولادهم برضاهم وغير رضاهم، وفي حضورهم وغيبتهم، وإذا لم يكونوا محتاجين فلا يجوز لهم الأكلُ من مال أولادهم إلا بطِيب أنفسهم.

* * *

2026 -

وعن عبدِ الله بن مسعودٍ رضي الله عنه، عن رسول الله - صلي الله عليه وسلم - أنَّه قال:"لا يَكْسِبُ عَبْدٌ مالًا حَرَامًا، فَيَتَصَدَّقَ مِنهَ فيُقْبَلَ مِنْهُ ولا يَنْفِقُ مِنْهُ فَيُبَارَكَ له فيهِ، ولا يَتْرُكُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إلَّا كانَ زادَهُ إلى النَّارِ، إنَّ الله لا يَمْحُو السَّيئَ بالسَّيئِ ولكن يَمْحُو السَّيّئَ بِالحَسَنِ، إنَّ الخَبيثَ لا يمحوُ الخَبيثَ".

قوله: "إن الله لا يمحو السيئَ"؛ يعني: التصدُّقُ بالمالِ الحرامِ سيئةٌ، فلا يُزيل الله سيئةَ العمل بهذه السيئة؛ أعني: التصدُّقَ بالمال الحرام.

* * *

2027 -

وقال: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ لحمٌ نَبَتَ مِنَ السُّحْتِ، وكُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنَ السُّحْتِ كانَتِ النَّارُ أوْلَى بِهِ".

قوله: "لا يدخل الجنةَ لحمٌ نبتَ من السُّحت"، (السُّحت): الحرام؛ يعني: لا يدخل الجنةَ مَن أكلَ الحرامَ، وغُذي بالحرام، حتى يُحرَق بالنار اللحمُ الذي نبتَ بالحرام، فإذا طُهِّرَ بالنار من الحرام يدخل الجنةَ، هذا ليس بقطعيٍّ؛ يعني: دخوله

ص: 397

النار، بل ربما يكون له حسنةٌ تُدفَع حسنتُه إلى الذي أكلَ مالَه، فتتبرأ ذِمتُه عن المظلمة، وربما يُرضي الله تعالى خصمَه بكرمه ورحمته، حتى لا يحتاج إلى دخول النار، وحينَئذٍ يكون تأويلُ هذا الحديث: أنه قال صلى الله عليه وسلم للزجر والتهديد.

روى هذا الحديثَ جابر.

* * *

2028 -

عن الحسنِ بن عليٍّ رضي الله عنهما أنَّه قال: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "دَعْ مَا يَرِيبُكَ إلى مالا يَرِيبُكَ، فإن الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وإنَّ الكَذِبَ رِيبَةٌ".

قوله: "دَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَرِيبُك"، (أراب يُريب) و (راب يَرِيب): إذا أَوقعَ أحدًا في الشك، ولفظة (إلى) متعلقة بفعل محذوف؛ أي: اترك ما شككتَ فيه، واذهب إلى ما لا شك فيه؛ يعني: خُذْ ما أيقنتَه حسنًا وحلالًا، واتركْ ما شككت في كونه حسنًا أم قبيحًا، وفي كونه حلالًا أم حرامًا.

قوله: "فإن الصدقَ طمانينةٌ، وإن الكذبَ ريبةٌ"، (الطمأنينة): السكون، و (الرِّيبة): الشك والتهمة؛ يعني: إذا سمعتَ صدقًا يسكن قلبُك بذلك، وإذا سمعتَ كذبًا لا يستقرُّ ذلك الكلام في قلبك؛ يعني: خُذْ من الأفعال والأقوال والأموال ما اطمأنَّ قلبُك بكونه حقًّا، ودَعْ ما شككتَ في كونه حقًّا أم باطلًا.

* * *

2029 -

عن وَابصَةَ بن مَعبدٍ رضي الله عنه: أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا وَابصَةُ! جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ البرِّ والإِثْمِ"؟، قلتُ: نَعَمْ، قال: فَجَمَعَ أَصابعَهُ فَضَرَبَ بها صَدْرَهُ وقال: "اِسْتَفْتِ نفسَكَ واَسْتَفتِ قَلْبَكَ، ثلاثًا، البرُّ ما اَطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ نفسُك واَطْمَأَنَّ إلَيْهِ قلبُك، والإثْمُ ما حاكَ في النَّفْسِ وتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ وإنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ".

ص: 398

قوله: "فجمع أصابعَه فضرب بها صدرَه"، الضميران يعودان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أشار إلى صدره وقال: يا وابصةُ! فما سَكَنَ قلبُك على أنه حقٌّ فخُذْ؛ فإن في سكون القلب علامةَ كونِ ذلك الشيء حقًّا، وما شككت في كونه حقًّا أم باطلًا فاتركْه، "وإن أفتاك الناس"؛ أي: وإن قال لك الناس: إنه حقٌّ فلا تأخذْ بقولهم، فإن بعضَ الناس يُوقِع بعضًا في الغلط وفي أكل الشُّبهة وفي أكل الحرام.

مثال هذا: أن المفتي يفتي بأن كلَّ مالٍ لم يُتيقَّن كونُه حرامًا جازَ لك أكلُه، فإن ترى رجلًا له مالٌ حلالٌ وحرامٌ فلا تأكلْ من ماله شيئًا، وإن أفتاك المفتي؛ من خوف أن تأكلَ الحرامَ؛ لأن الفتوى غيرُ التقوى، فإن الفتوى: الحكم على ظاهر الأشياء، والتقوى: الاحتياط في الأمور بأن يجتنبَ الرجلُ من الشُّبهاتِ، أو يعدل عنها إلى ما يَتيقَّن كونَه حلالًا.

قوله: "استفتِ"؛ أي: اطلبِ الفتوى.

قوله: "حاكَ"؛ أي: تردَّد، من (حاكَ يَحِيكُ): إذا تردَّد شيء في القلب، ولم يستقرَّ القلب عليه.

* * *

2030 -

عن عَطِيَّة السَّعْدِيِّ رضي الله عنه أنّه قال، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:"لا يَبْلُغُ العَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حتَّى يَدَعَ ما لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ بَأْسٌ".

قوله: "حتى يَدَعَ ما لا بأسَ به حذرًا لِمَا به بأسٌ"؛ يعني: حتى يتركَ ما ليس به إثمٌ؛ من خوف أن يقع فيما فيه إثمٌ، فإن المتقي يترك بعضَ الحلالات من خوف أن يقع في الشُّبهة، ويتركُ الشُّبهةَ من خوف أن يقع في الحرام، ويتركُ التكلُّم ببعض المباحات من خوف أن يتكلم بفحشٍ أو كذبٍ، ويترك روايةَ

ص: 399

حديثٍ لا يعرف راويه، أو يعرفه ولكن لا يعتمد على روايته؛ من خوف أن يكونَ ذلك الحديثُ موضوعًا.

روى هدا الحديثَ عطية السَّعدي.

* * *

2031 -

عن أنسٍ رضي الله عنه قال: لَعَنَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في الخَمْرِ عَشْرةً: عَاصِرَهَا، ومُعْتَصِرَهَا، وشَارِبَها، وحَامِلَهَا، والمَحْمُولَة إِلَيْهِ، وسَاقِيَهَا، وبَائِعَهَا، وآكِلَ ثَمَنِهَا، والمُشْتَرِيَ لها، والمُشْتَرَاةَ لَهُ.

قوله: "ومُعتصِرها"؛ أي: الذي يطلب عصرَها.

"والمحمولة إليه"؛ أي: الذي يحمل أحدٌ الخمرَ لأجله.

"والمشتري لها، والمشترَى له"؛ أي: الذي يشتري الخمرَ بالوكالة لأحدٍ، والذي اشتراها الوكيلُ له؛ أي: المُوكِّل.

* * *

2032 -

عن ابن عمرَ رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَعَنَ الله الخَمْرَ، وشَارِبَهَا، وسَاقِيَهَا، وبَائِعَهَا، ومُبْتَاعَهَا، وعَاصِرَهَا، ومُعْتَصِرَها، وحَامِلَهَا، والمَحْمُولَة إلَيْهِ".

قوله: "ومبتاعَها"؛ أي: مشتريَها.

* * *

2033 -

وعن مُحَيصَةَ رضي الله عنه: أنَّه اِسْتَأْذَنَ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم في إِجَارَةِ الحَجَّامِ فَنَهَاهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْتَأْذِنُهُ حَتَّى قال:"اِعْلِفْهُ ناضحَكَ وأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ".

ص: 400

قوله: "استأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجَّام": ذكرنا بحث كسب الحجَّام.

قوله: "اعلِفْه ناضحك"، (الناضح): الجَمَل الذي يُستقَى به الماء؛ يعني: اصرِفْ ما تكسب بالحجامة في علف دوابك ونفقة عبيدك وإمائك، فإن فيه كراهيةً؛ لأنه حصل باستعمال النجاسة، وهو التلوُّث بالدم، ويُقاس على هذا أكلُ حرافة يتلوَّث صاحبُها بالنجاسة مثل: الدَّباغين، والكنَّاسين وغيرهم.

روى هذا الحديثَ المُحيصة.

* * *

2035 -

وعن أبي أُمامة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَبيعُوا القَيْنَاتِ ولا تَشْتَرُوهُنَّ ولا تُعَلِّمُوهُنَّ، وثَمَنُهُنَّ حرامٌ، وفي مِثلِ هذا أُنْزِلَتْ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} ". (ضعيف).

قوله: "لا تبيعوا القَيْنَاتِ"، (القينات) جمع: قَيْنَة، وهي الجارية المغنِّية، وسبب النهي: أن الغناءَ حرامٌ؛ لأنها مُهيجةٌ لميل الزِّنا في الطباع، وخاصة إذا كانت بصوت النساء، وإذا كان الغناءُ سببَ الوقوع في الزنا يكون حرامًا.

قوله: "ولا تعلِّموهن"؛ أي: ولا تعلِّموهن هذه الصنعةَ.

قوله: "وفي هذا أُنزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} "، قال مكحول: مَن اشترى جاريةً ضرَّابةً ليمسكَها لغنائها وضربها مقيمًا حتى يموتَ لم أُصلِّ عليه؛ لأن الله تعالى يقول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6].

أراد مكحول بقوله: ضرَّابة؛ أي: تضرب الطنبورَ وغيرَه من آلة الملاهي.

قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} ؛ أي: وبعض الناس

ص: 401